البُحتري، ذلك الصائغ العبقري، لم تعرِف العربُ قبله مُوسيقى كتلك الموسيقى التي يَعزف
بها شعره في أناقةٍ من الأسلوب وفي أعراسٍ من اللَّفظ، وقد الْتَأمَ كِلاهما على المعنى
الشريف الذكي، فكان هذا الشِّعر الخالد، الذي تَوارثْناه عن الأجيال. أمَّا القصة في
شِعر
البحتري فهي فن باذِخٍ رفيع، تَسَلَّلُ إلى شِعره على غير قصدٍ منه، فهو يروي لك الواقعة
دُون أن يقصِدَ رِوايتها، وكأنه يُسلِّيك بقصته، أو كأنه يعلمُ أنك تعرِف القصة فهو
يُعلِّقُ عليها.
أَسيتُ لأخوالي «ربيعة» إذ عفَتْ
مَصايِفُها منها وأقْوَتْ رُبوعُها
بِكُرهِي أنْ باتَتْ خَلاءً دِيارُها
وَوحشًا مَغانيها وشتَّى جَميعُها
تَذمُّ الفتاةُ الرُّودُ شِيمةَ بَعلِها
إذا باتَ دُونَ الثأرِ وهو ضَجيعُها
حمِيَّةُ شعبٍ جاهِلِيٌّ وعِزَّةٌ
كُلَيبِيَّةٌ أعيا الرِّجالَ خُضوعُها
وفرسانِ هيجاءٍ تَجيشُ صُدورُها
بأحقادِها حتى تضيقَ دُروعُها
تُقتِّل من وِتر أعزَّ نفوسِها
عليها بأيدٍ ما تكادُ تُطيعُها
إذا احترَبَتْ يومًا ففاضت دماؤها
تذكَّرتِ القُربى ففاضتْ دُموعُها
شَواجِرُ أرماحٍ تُقطِّعُ بينهُم
شواجِرَ أرحامٍ مَلومٍ قُطوعُها
وكنتَ — أمين الله — مَولى حياتِها
ومَولاك (فتح) يومَ ذاكَ شَفيعُها
لَعمري، لقد شرَّفتَهُ بِصنيعَةٍ
إليهم ونُعمى ظلَّ فيهم يُشيعُها
تألَّفَهُم مِن بَعدِ ما شَرَدتْ بِهِمْ
حَفائظُ أخلاقٍ بَطيءٍ رُجوعُها
فأبصَرَ غاوِيها المَحجَّةَ فاهتدى
وأقْصَرَ غَالِيها ودانَى شُسُوعُها
وأمضى قَضاء بَينها فتحاجَزَتْ
ومَخفُوضُها راضٍ بِهِ ورَفِيعُها
فقد رُكِّزَتْ سُمرُ الرماح، وأُغمِدَتْ
رِقاقُ الظِّبا مَجلوُّها وصَنيعُها
فقرَّتْ قلوبٌ كان جَمًّا وَجيبُها
ونامَتْ عُيونٌ كان نَزرًا هُجوعُها
رَبطْتَ بِصُلحِ القوم نَافِرَ جأشِها
فقرَّتْ حَشاها واطمأنَّتْ ضُلوعُها
أليستْ هذه هي قصَّة الحرب؛ الثأر منذ بدء الخليقة؟ تناولها الشاعر العِملاق في سردٍ
فني
رائع، وفي نظراتٍ إنسانية لمَّاحةٍ فذكر الزَّوجة أن باتَ زَوجها دُون أن ينالَ ثأرًا،
وذكر
صِلاتِ القُربى والرَّحِم والرِّماح تقطعُها بأيدٍ ما تكاد تُطيعها، تَسيل الدماء ثمَّ
تذكُر القُربى فتنثالُ الدموع. يعرِض لهذا جميعًا في تمهيدٍ فني لهذا الفضل السابِغ الذي
أضفاه المَلِك حتى أقرَّ المُضطرِب، وعقدَ الصُّلح، وتنتهي القصة بنهاية مُشرِّفة سعيدة.
وللبُحتري قصيدة تُصوِّر قِصة كاملة.
وأنا لن أُقدِّم لهذه القصيدة، وإنما سأرويها، وهي من أشهر قصائد البُحتري:
مَحَلٌّ على القاطول أخلَقَ دائرُهْ
وعادتْ صُروفُ الدهرِ جيشًا تُغاوِرُهْ
ورُبَّ زمانٍ ناعم — ثَمَّ — عَهدُهُ
ترقُّ حواشِيه ويُورِقُ ناضِرُهْ
تَغيَّرَ حُسنُ «الجعفري» وأُنسُهُ
وقُوِّضَ بادي «الجعفري» وحاضِرُهْ
تَحمَّلَ عنه ساكنوه فُجاءةً
فعادتْ سَواءً دُورُه ومَقابِرُهْ
إذا نحن زُرناهُ أجدَّ لنا الأَسى
وقد كان قَبلَ اليومِ يُبهَجُ زائِرُهُ
ولم أنسَ وحشَ القصر إذ رِيعَ سِربُهُ
وإذ ذُعِرتْ أطلاؤهُ وجَآذِرُهْ
وإذ صِيحَ فيه بالرحيل فهُتِّكتْ
على عجلٍ أستارُهُ وستائِرُهُ
كأنْ لم تَبِتْ فيه الخِلافَةُ طَلْقةً
بَشاشَتُها، والمُلكُ يُشرِقُ زِاهِرُهْ
ولم تجمِع الدنيا إليه بهاءَها
وبَهجتَها والعَيش غضٌّ مَكاسِرُهْ
فأين الحِجابُ الصَّعبُ حتى تمنَّعتْ
بِهيبتِها أبوابُه ومَقاصِرُهُ
وأينَ عميدُ الناسِ في كلِّ نوبةٍ
تنوب، وناهِي الدَّهر فيهم وآمِرُهْ؟
تخفَّي له مُغتالُه تحتَ غِرَّةٍ
وأولى لمن يَغتالُه لو يُجاهِرُهْ
ولو كان سَيفي ساعةَ الفتكِ في يدي
درى الفاتِكُ العَجلانُ كيف أُساوِرُهْ
فلا مُلِّيَ الباقي تُراثَ الذي مَضى
ولا حمَلتْ ذاك الدعاءَ مَنابِرُه
لنِعمَ الدَّمُ المَسفوحُ ليلةَ «جعفرٍ»
هرقتُمْ، وجُنحُ الليلِ سُودٌ دَياجِرُهْ
أكانَ وليُّ العهد أضمَرَ غدرةً؟
فمِن عَجبٍ أن وُلِّيَ العهدَ غادِرُهْ!
أترى القصة تحتاج إلى تعليق؟ ألا ترى معي فيها التمهيد والعقدة والنهاية؟ وللبُحتري
بعد
ذلك قصص قصيرة منها الفَرَس الذي أهداه له المُتوكِّل، فأرسل يقول له:
وقصته مع ذلك المُسافر الذي لم يستطع توديعه: