الفصل العاشر
عدت إلى مصر واليأس يملأ قلبي، إن السفر لم يغير شيئًا بالنسبة لابنتي، والطبيب الإيطالي أعلن في نهاية الأمر، وبينما كنت أحارب الموت في ابنتي لدرجة يتألم معها كل من حولي لحالي وحالها، أتت صديقتي حرم رشدي باشا ذات يوم مهللة مستبشرة، وقالت لي: لقد حضر من فرنسا طبيب أخصائي في أمراض الأمعاء وهو «الدكتور هويس»، وسوف أحضره معي ليرى بثنة، وأنا متفائلة بقدومه خيرًا.
وشكرتها، ولكنني كنت في الحقيقة غير مبالية بما تقول بعد أن استولى اليأس عليَّ تمامًا، وجاءت في اليوم التالي ومعها الطبيب الذي فحص ابنتي، ثم قال لي: إن مرض هذه الطفلة ناشئ أغلبه من الجوع، وسوف تموت من الضعف إذا داومتم على اتباع الحمية معها؛ لأن لكل شيء حدًّا.
ولا أستطيع أن أنسى منظرها في هذه اللحظة وهي تتطلع إلى الطبيب بابتسامة شاحبة هزيلة.
وسألني الطبيب عن تلك الأمراض التي اعترتها من يوم ولادتها. ولما عرف بأمر الحمى التي كانت تعتريها، قال: لا شك في أن الملاريا هي التي تسبب كل هذه المضاعفات. ووصف لها العلاج اللازم للملاريا، وأمر بتغذيتها، وقد نجحت طريقته وصرت ألجأ إلى اتباعها كلما اقتضى الحال.
بقيت كذلك مع ابنتي حتى بلغت السادسة من عمرها. وانقطعت عن كل شيء طوال هذه المدة تفرغًا لعلاجها ومحاربة الموت فيها. فانفضت بعض صديقاتي من حولي وغضب بعضهن الآخر لانقطاعي عنهن. وكن ينادينني «أم بثنة» رغم أنني رزقت بولدي «محمد» بعد ولادتها بسنتين ونصف سنة.
كذلك فقد كنت أرى زوجي يمتعض أحيانًا لانشغالي عنه بابنتي التي كنت مجنونة بها، وكان يخيل إليَّ أنها إذا ماتت فإنني لا بد أن أموت معها حزنًا عليها، وتعلقت بي الطفلة وأحبتني لدرجة إنها كانت لا تحتمل البعد عني دقائق، حتى كان يضرب بحبنا المثل في البيت، ومن شدة حبها لي، لم تكن تخالف لي أمرًا في شيء، وكثيرًا ما كنت أقسو عليها في اتباع الحمية بسبب مرضها مدة أشهر، وكثيرًا ما كنت أتناول طعامي وهي تنظر إليَّ دون أن تجرؤ على أن تطلب مني شيئًا من الطعام؛ لأنها كانت تفهم أن ذلك في صالحها، وكانت إذا عرضت عليها إحدى المربيات شيئًا مما تحب في غيابي، رفضته وفاء لوعدها لي. وإذا رأتني أعطي شقيقها قطعة من الحلوى، تبسمت وهي تنظر إلينا ثم تقول لي: «ماما … أعطني أنا أيضًا نصيبي من الحلوى»، ثم تمد إليَّ فمها وتقبلني. وكانت هذه القبلة عندها بمنزلة الحلوى.
وكان من في البيت يلومونني على عدم تجنب الأكل أمامها ويعتبرون ذلك قسوة مني، إلا إنني ما كنت أفعل ذلك إلا لأربي فيها قوة الإرادة والأمانة وكبح جماح النفس. وأظنني نجحت في ذلك كله، إلا في إرغامها على تعاطي الدواء؛ لأنها سئمت كثرة تعاطيه.
وأذكر أنني كنت أتوسل إليها يومًا أن تتناول جرعة من زيت الخروع، وسرت وراءها من غرفة لأخرى والملعقة في يدي، وفي النهاية هربت مني إلى غرفة شقيقها، وتقدم هو لكي يساعدني في إقناعها بوجوب تناول الشربة، ولما لم يفلح هو أيضًا، قال لها بلطف: «انظري يا أبلة بثنة كيف يمكنني أن أشرب الشربة دون امتعاض.» وظننته يمزح، فقربت الملعقة من فمه، وكم كانت دهشتي؛ إذ شربها دون تردد لتحذو أخته حذوه. فأكبرت فيه روح التضحية وهو أصغر منها سنًّا … ومع ذلك فإنها لم تشرب الشربة!
ولقد ربيت ابنتي وابني عن طريق الإقناع، فلم أنهرهما أبدًا وأستعمل الغلظة معهما حتى ولو وقع من أحدهما خطأ يستوجب ذلك؛ بل كنت أحاول إقناعه بخطئه في لطف حتى يقتنع ويشعر بشيء من الخجل فلا يأتيه ثانية من نفسه، وبذلك أمكنني أن أبث فيهما روح تقدير المسئولية وتحملها بأهداب الأمانة والصدق، وقد شبا على هذه الصفات وتطبعا بهذه الفضائل، وشجعني ذلك على المضي في هذه الطريقة التربوية الصحيحة التي لا تتطلب من الأم إلا قليلًا من الصبر والتفرغ لأقدس الواجبات.
بعد أن تحسنت صحة ابنتي واطمأننت عليها وعلى أخيها. وبدآ حياتهما الدراسية، أخذت أعود إلى حياتي الأولى من مخالطة صديقاتي، وبخاصة بعد وفاة صديقتي مدام رشدي باشا التي كنت أعتمد عليها في كثير من أموري والتي كانت تملأ الفراغ الذي أحدثه ابتعادي عن الناس لانشغالي بابنتي، وقد اضطررت إزاء ذلك أن أعتمد على نفسي، وألا أنتظر من أحد أي معونة.
وفي هذه الأثناء، حضرت من أوروبا آنسة فاضلة تدعى «مدموازيل مارجريت كليمان» وقد مرت بمصر في طوافها حول العالم منتدبة من نادي السياحة لمؤسسة كازنيجي، وقد أرسلها إليَّ صديقنا المرحوم علي بك بهجت؛ حيث أرادت أن تتعرف بسيدات مصريات، فقمت بواجبي نحوها ودعوتها ذات ليلة إلى الأوبرا الخديوية، وبينما كانت تحدثني عن جولاتها والخطب التي كانت تلقيها في مختلف البلاد، سألتني عما إذا كانت سيداتنا يتلقين محاضرات أو يحضرنها، فلم يمكنني إلا مصارحتها بالحقيقة وهي أن شيئًا من ذلك لم يحدث بعد، وسألتها أن تلقي علينا محاضرة عن المرأة الشرقية والغربية في مسألة الحجاب، فقبلت على أن تكون المحاضرة تحت رئاسة إحدى السيدات الكبيرات سنًّا ومقامًا؛ لأن سني إذ ذاك لم تكن تسمح بذلك.
فوعدتها بالبحث غير آملة في إقناع والدتنا بترؤس بهذه الحفلة، ولكن ساعدني الحظ في تلك الليلة نفسها، إذ قابلت وأنا خارجة من مقصورتي «الأميرة عين الحياة أحمد»، وكنت أحبها وتحبني، فتقدمت إليها وعرضت عليها المشروع ورجوتها أن تقبل رئاسة الاجتماع، فقبلت من غير تردد وأخذت على عاتقي إيجاد القاعة المناسبة وإعداد تذاكر الدعوة وتوزيعها بأسرع ما يمكن، وعندما عدت إلى المنزل عرضت الأمر على زوجي فاستصوب أن يكون الاجتماع في إدارة «الجريدة» أو بإحدى صالات الجامعة التي كانت في منزل خيري باشا «الجامعة الأمريكية الآن»، وقد فضلت الأخيرة وطلبناها من المرحوم علوي باشا وتحدد للاجتماع يوم الجمعة ١٥ يناير ١٩٠٩ لتكون الجامعة خالية من المعلمين والطلبة، وكانت الجامعة إذ ذاك تحت رئاسة سمو الأمير أحمد فؤاد «الملك فؤاد فيما بعد»، وكانت هذه أول محاضرة ألقيت على جمع من السيدات في الجامعة المصرية، وقد لقيت نجاحًا وتقديرًا شجعاني على أن أطلب من «الآنسة كليمان» أن تعود إلينا بعد ذلك لتلقي سلسلة محاضرات مفيدة على سيداتنا، وبخاصة بعد أن رتب سمو الأمير محاضرات خاصة للسيدات في أيام الجمع.
وقد تكون هذه مناسبة طيبة للحديث عن إنشاء الجامعة الأهلية … ففي سنة ١٩٠٥ نشرت الصحف مقالات ومناظرات لكثير من المفكرين عن أيهما أنفع للقطر المصري في الحالة التي كان عليها … الكتاتيب أم مدرسة كلية عالية … وقد اشترك في هذه المناقشات كثيرون من أصحاب الفكر والأقلام. أما الخطوة الأولى الأساسية والعملية فقد بدأها مصطفى بك كامل الغمراوي الذي رأى حاجة البلاد إلى المحصول العلمي ووجوب توفيره في مصر توفيرًا للجهود والإنفاق على طلاب العلم في أوروبا.
ففكر في إنشاء جامعة تضم كليات مختلفة مثل جامعات أوروبا، وفكر في الدعوة لمشروع الجامعة والتبرع لها؛ حيث نشر نداء في الصحف المحلية العربية والإفرنجية داعيًا لهذه الفكرة في ٣٠ سبتمبر ١٩٠٦، وقد بادر المرحوم أحمد شفيق باشا فاكتتب بخمسمائة جنيه.
وكان الخديوي عباس راضيًا عن هذا المشروع، ما شجع على عقد أول اجتماع لمناقشته في دار سعد زغلول باشا وكيلًا، وقاسم بك أمين سكرتيرًا، وحسن باشا سعيد أمينًا للصندوق، وعضوية مصطفى بك كامل الغمراوي ومحمد بك عثمان أباظة ومحمد بك راسم وحسن بك جمجوم وحسن باشا السيوفي وغيرهم. وكان المعتمد البريطاني اللورد كرومر يحارب كل ما من شأنه تقدم البلاد، فنادى بأن تعميم التعليم الابتدائي أهم من ذلك، وأن الأمة أحوج إليه من التعليم الجامعي، بل إنه ذهب في محاربة المشروع إلى حد تعيين سعد زغلول باشا وزيرًا للمعارف بقصد إبعاده عن الاشتغال بأمر الجامعة.
وقد قام قاسم بك أمين بمجهودات عظيمة لنجاح المشروع؛ حيث قابل الخديوي وعرض عليه أن يتولى رعاية المشروع فقبل الخديوي، وانتهى الأمر بتعيين الأمير أحمد فؤاد رئيسًا لمجلس الجامعة عام ١٩٠٧، ومن أعضائها محمد علوي باشا وعبد الخالق ثروت باشا وإسماعيل صدقي باشا ويعقوب أرتين باشا وإسماعيل حسنين باشا ومرقص فهمي بك وعلي بهجت بك والسير جاستون ماسبيرو. وهكذا خرجت الجامعة المصرية إلى عالم الوجود.
وكان في مقدمة المتبرعين لهذا المشروع: الأميرة فاطمة كريمة الخديوي إسماعيل التي تبرعت بستة أفدنة ووقفت ستمائة فدان ليصرف من إيرادها على شئون الجامعة بالإضافة إلى جواهر قيمتها ثمانية عشر ألف جنيه، وتخليدًا لفضلها كتب على مدخل كلية الآداب تلك العبارة التي ما زالت موجودة حتى الآن وهي: هذه من آثار حضرة صاحبة السمو الأمير فاطمة إسماعيل.
وهناك أيضًا الأمير يوسف كمال، وأحمد بك الشريف، وحسن باشا زايد وهو من سراة المنوفية. وقد أوقف عزبة سراوة ومساحتها ستون فدانًا على الجامعة، ومن أجل ذلك انتقل مجلس إدارة الجامعة المصرية برئاسة الأمير أحمد فؤاد إلى قصر حسن باشا زايد لتقديم الشكر له رسميًّا في ١٥ أبريل ١٩٠٨، وألقى خطبة بهذه المناسبة، ورد الأمير فؤاد على خطبة حسن باشا زايد بكلمة تقدير.
وقد افتتحت الجامعة المصرية يوم ٢١ ديسمبر سنة ١٩٠٨ في احتفال عظيم تصدره الخديوي إسماعيل، وكان في استقباله رئيس الجامعة الأمير أحمد فؤاد وأعضاء مجلس الجامعة ورئيس مجلس الوزراء والوزراء وعلية القوم. وألقى الأمير فؤاد كلمة في هذه المناسبة الوطنية السارة. وبارك الخديوي باكورة النهضة العلمية التي أذنت بفتح باب التعليم العالي أمام أبنائنا وبناتنا.
والحقيقة أن هذا اليوم كان يومًا مشهودًا في تاريخ مصر؛ لأن افتتاح الجامعة تحقق بعد حرب لا هوادة فيها بين اللورد كرومر من ناحية وبين المفكرين وأولي الأمر من ناحية أخرى، ويعد ذلك انتصارًا لإرادة الأمة على إرادة المستعمر الذي كان يحاول بكافة الوسائل وضع العراقيل أمام تقدم العلم في بلادنا. ويعمل على تخلف أولادنا عن ركب العلم والمعرفة.
وجدير بالذكر أن السيدة ملك حفني ناصف التي اشتهرت باسم «باحثة البادية»، والتي كانت تكتفي من قبل بإعلان آرائها في الجرائد فقط، قامت بإلقاء سلسلة محاضرات مفيدة في الجامعة وفي صالة «الجريدة» التي كان يرأس تحريرها أحمد لطفي السيد بك.
كانت زيارة «الآنسة كليمان» هي بداية توثق الصلة بيني وبين الأميرة عين الحياة أحمد، وأذكر أن الأميرة كانت قد تأخرت عن موعد حضورها ذلك اليوم، فتأخر بدء المحاضرة عشر دقائق، ولما لم تحضر، بدأت المحاضرة حديثها، وكنت قد أجلست بعض قريباتي في مقاعد الصف الأول الذي كان محجوزًا للأميرة، ثم لم تلبث أن أقبلت الأميرة، ورأتها قريباتي فأخلين لها المقاعد، ولما رأت السيدات الحاضرات ذلك، قمن جميعًا مثلنا، وهنا سكتت المحاضرة عن الحديث وقامت هي الأخرى معتقدة أن هذه هي تقاليدنا، فأسفت الأميرة؛ لأنها سببت كل هذا الانزعاج واعتذرت للآنسة المحاضرة عن تأخيرها، وهنا رجوت الآنسة كليمان أن تبدأ محاضرتها من جديد.
ولقد كان هذا الحادث موضع انتقاد بعض السيدات الأجنبيات؛ لأن المحاضر عندهن لا يجوز أن يقاطع حديثه أو يقف مهما كان مركز القادم، ولكن العذر أن هذه كانت أول محاضرة تلقى على سيداتنا، وهن لم يتعودن مثل هذه الاجتماعات.
وبعد مضي أيام من محاضرة الآنسة كليمان وصلتني دعوة للشاي من الأميرة عين الحياة أحمد للتعارف بين الليدي كرومر الجديدة والسيدات اللاتي ساعدن في إنشاء مستوصف الليدي كرومر الأولى، ولكنني اعتذرت لأنني لم أشترك في تلك المساعدة، وكانت والدتي هي التي فعلت ذلك.
وبعد فترة قصيرة أرسلت الأميرة تطلبني لمقابلتها معتذرة بمرضها، فبادرت بتلبية الدعوة وقابلتني في فراشها، وبادرتني قائلة: «لقد فهمت حقيقة المشاعر التي منعتك من حضور الحفلة التي أقامتها الليدي كرومر. والحقيقة أنني أشعر بالخجل من عدم قيامنا نحن المصريات بمشروع جليل كهذا، وكان الواجب علينا أن نكون سباقات في هذا الميدان، ولذلك فكرت في تأسيس مستوصف تكتتب لإنشائه الأميرات والسيدات المصريات فنكون قد أدينا خدمة للوطن والإنسانية.»
فأثنيت على هذه الفكرة، ثم سمحت لنفسي أن أقترح على الأميرة تأسيس مدرسة لتعليم البنت ما يلزمها من واجبات الأمومة مثل العناية بصحة الطفل وتربيته وترتيب المنزل؛ لأن الداء لا بد أن يعالج من أصله، والمستوصفات وإن كانت تأتي بفائدة عظيمة إلا أنها فائدة وقتية، وما دامت الأم جاهلة، فلا يرجى من العلاج الوقتي شيء يذكر، بل يجب استئصال الداء من أساسه … ووعدت الأميرة باشتراكي معها قلبيًّا وعلميًّا في تحقيق هذا الغرض، إذا وعدتني بأنها ستفكر في إنشاء مدرسة كهذه لتربية أمهات المستقبل حتى يمكننا تحقيق الغاية المنشودة من «المبرة»، فوعدتني بذلك.
ولما كان هذا المشروع يحتاج إلى مصروفات طائلة واستعدادات هائلة، فقد قالت: إنه لا مانع من أن نقوم من الآن بتحقيق هذا المشروع، ثم أضافت قائلة: إن لي غاية أبعد من ذلك، وهي تنمية روح التعاون والتعاضد بين الأميرات والسيدات المصريات، وأن يكون هذا العمل مبنيًّا على أساس العاطفة الإنسانية القومية.
وبعد أسبوع، دعيت للاجتماع الأول في الدار التي كانت تسكنها بشارع الدواوين، فوجدت عددًا كبيرًا من الأميرات وكرائم السيدات المصريات. وبعد أن تناولنا الشاي وتعارفنا تشكلت لجنة من الأميرة نازلي حليم رئيسة، والأميرة عين الحياة أحمد أمينة للصندوق، ومدام فوكيه وإحدى الأميرات سكرتيرتين، وبعض الأعضاء من باقي السيدات، واكتتبت كل واحدة منا بمبلغ لا يقل عن خمسين جنيهًا. وأخبرتنا الأميرة أن سمو الأميرة والدة الخديوي ستتبرع بمبلغ كبير وبمئة وعشرين جنيهًا سنويًّا، وأن الخديوي عباس حلمي الثاني وقريتنه سيشتركان في هذه المبرة. ثم وزعت علينا طوابع عليها رسم امرأة تضم إليها طفلة فقيرة من فئة القرش صاغ لنبيعها ونضيف حصيلتها على التبرعات لتكون رأس مال الجمعية، كما قررت توزيع بعض هذه الطوابع على المديريات والمحافظات والمراكز والوزارات للمساعدة في رأس مال الجمعية، وتم توريد الحصيلة للأميرة عين الحياة.
ثم حدث أن سافرت الأميرة بعد ذلك في فصل الصيف للاستشفاء في أوروبا، وكان قد اعتراها المرض الذي قضى على حياتها الغالية ولم تكن قد جاوزت إذ ذاك الخمسين من عمرها، فكان لوفاتها حزن عميق في نفسي؛ لأني كنت أحبها وأقدرها لفرط ذكائها ورقة حاشيتها وطيبة قلبها ووداعة نفسها.
وفي ذات ليلة رأيتها في منامي وقد دخلت عليَّ وأنا في غرفة دراستي مدة طفولتي في بيت والدي مرتدية ثيابًا سوداء وخلفها كريمتها الأميرة كاظمة تحمل على يديها وسادة صغيرة فوقها كتاب مقفل، فتقدمت لتحيتها، وبعد أن ردت عليَّ التحية، التفتت إلى كريمتها وأخذت منها الوسادة وما عليها وسلمتها إليَّ صامتة.
ولما كنت أعتقد في الأحلام، فقد فسرت هذا بأنها تعهد إليَّ بتحقيق مشروعها وتأتمنني عليه … فقررت في نفسي أن أبذل كل جهدي من أجل تنفيذ رغبتها وفاء لها، وكانت الأميرات بعد وفاتها قد أظهرن فتورًا نحو تحقيق هذا المشروع، وبخاصة عندما طلبن من نجلها الأمير كمال الدين حسين المبالغ التي كانت لديها من حصيلة التبرعات وبيع الطوابع، فطلب منهن إثبات ذلك، ولما لم يكن لديهن أي مستند، فقد داخلهن اليأس … ولكني قلت لهن: إنه لا بد من استرداد هذه المبالغ، وإنني لا أشك في أنها قد أثبتتها في الأوراق التي تركتها، وكان هذا يتطلب وجود مندوبة تتردد على الدائرة وتبحث مع الكتاب والموظفين في الدفاتر، وقد اخترت لذلك صديقة فرنسية لها دراية بإمساك الدفاتر ومعروفة بالأمانة والصدق، وقبلت القيام بهذه المأمورية بلا مقابل إكرامًا لخاطري، واستطاعت أن تثبت لنا الحق في ثلاثة آلاف من الجنيهات، دفعها لنا الأمير دون تردد. وأمكننا بذلك إنجاز المشروع باستئجار منزل صغير في شارع البراموني، مجهز بكل اللوازم التي يتطلبها المستوصف. ولا يزال المستوصف موجودًا إلى الآن يقوم بأجل الخدمات الإنسانية، وهو المعروف باسم «مبرة محمد علي».
وقد أقمنا فيما بعد عدة حفلات بهدف جمع مبالغ جديدة لدعم المبرة، وقد ساعد دخل هذه الليالي الشرقية على نمو رأس مال الجمعية، فأبديت للجنة اقتراحي بشأن إنشاء مدرسة لتربية أمهات المستقبل. وقصصت عليهن ما دار بيني وبين المرحومة الأميرة عين الحياة عند قيامها بتنفيذ مشروع المبرة. فأيدت وجهة نظري معظم الأميرات والسيدات، واعتمدت اللجنة مبلغًا لشراء منزل لهذا الغرض. ووفقت إلى منزل كبير بشبرا مساحة فدان … وهو مبني على طراز القصور القديمة ويفي بالغرض ولا يتطلب إلا بعض التعديلات والترميمات. وقد اشتريناه بمبلغ ٢٢٠٠ جنيه، وكلفنا المرحوم المهندس محمود باشا فهمي بترميمه، وقمنا من جانبنا بإعداد ما يلزمه لاستكمال أثاثات المدرسة.
ولا يسعني إلا أن أذكر الهمة العظيمة التي كانت تبذلها الأميرات والسيدات المصريات أعضاء هذه الجمعية للقيام بواجبهن الإنساني، وكان لي شرف رئاسة اللجنة العاملة فيها، وكانت الأعضاء يحضرن كل جلسة تعقد أسبوعيًّا ويعتنين بصحة البؤساء من أولاد الفقراء وأمهاتهم، جاعلات نصب أعينهن العناية بأولاد الشعب. كذلك فقد تطوع بعض الأطباء المصريين والأجانب لهذه الخدمة الإنسانية بالمجان. وكانت الخدمات الطبية تجري تحت إشراف الأميرات والسيدات أعضاء اللجنة اللاتي كن يحضرن بالتناوب في أيام محددة.