الفصل الثاني عشر
وصلنا باريس في الساعة السادسة من مساء يوم الأربعاء ١٧ يونيو، ولم نجد في «أوتيل برنسيس» محلًّا مناسبًا للإقامة به، وقد سررت لذلك كثيرًا؛ لأن وجودي في هذا الفندق كان يشق على نفسي لعدم وجود والدتي معي في هذه المرة، وقد تعودنا أن نكون معًا دائمًا، فأين هي الآن، وفي أي حال يا إلهي، ومع ذلك فقد أرغمتنا الظروف أن نقضي ليلتنا في هذا الفندق بعد أن عجزنا عن أن نجد أماكن مناسبة في أي فندق آخر.
باريس في ١٨ يونيو
أمضينا ليلة أمس بأوتيل برنسيس، ثم خرج الباشا صباح اليوم وأجر لنا شقة أوتيل الكونتنتال، فعزلنا في الحال، وها نحن بها والشقة في أول دور تطل على الشارع وعلى الحديقة وقريبة من البلد، ولكن هواء برنسيس أوتيل أنقى وأحسن. وقد خرجنا في الصباح لقضاء بعض مشتريات للأولاد، وبعد الظهر زارتني مدام روس، وبعد العصر ذهبت لزيارة «مدام روبين»، ما ألطف هذه السيدة وما أطيب قلبها، فإنها مثال الوفاء.
الليلة ليلة ميلاد «بثنة». إني أذكر ما قاسيته فيها، ولكن نظرتي لبثنتي تنسيني كل ما مضى، وأسأل الله أن يكافئني ببقائهما وسعادتهما.
الجمعة ١٩ يونيو
اليوم أتمت بثنة الإحدى عشرة سنة، أشكر الله أن أبقاني لهذا اليوم، فيا ترى أعيش وأراها في سن الحادية والعشرين؟ هيهات أن تسمح صحتي بذلك.
السبت ٢٠ يونيو
سافر الباشا اليوم إلى لوندرة ليرى حسن شعراوي وما يلزمه لإدخاله المدرسة، وتركني مع الأولاد هنا، وكلفني بعمل ما يلزم من مشاورة الأطباء، ولكني أشعر بألم في رأسي وحلقي، وأظنه ابتداء زكام، وأحس بحزن عظيم لا أعلم له سببًا إلا اشتياقي إلى والدتي وتألمي لبعادها.
الأحد ٢١ يونيو
ما أثقل هذا اليوم بالمطر والسحاب، يوم عبوس حزين، مثل قلبي، من الصباح حتى المساء لم تعطف عليه الشمس بابتسامة ولم تكل عيناه من الدموع، فيا حبذا لو كنت أشاركه البكاء، ولكن عيني تبخل عليَّ من زمن به:
توجهت بعد ظهر اليوم إلى «الدكتور كومبي» وأزعجني بتشخيص مرض «محمد»؛ حيث قال: إن عنده التهابًا في المصران.
الاثنين ٢٢ يونيو
توجهنا مع «مدموازيل كليمان» بعد الغداء إلى فرساي وعند وصولنا ذهبنا إلى منزلنا وتوجهنا إلى البارك وتفرجنا عليه، أما السراي فكانت مغلقة كأغلب المتاحف بفرنسا.
الخميس ٢٥ يونيو
توجهت مع «مدموازيل كليمان» إلى بولونيا، وأخذنا الشاي معًا في قاعة استقبال الكلوب.
حضر الدكتور روبين اليوم، وطمأنني على «محمد»؛ حيث إنه لم يجد عنده التهابًا في المصران، وقرر لعلاجه ١٥ يومًا.
الاثنين ٢٩ يونيو
دعيت إلى الشاي مع «مدموازيل كليمان» عند «مدام سيجفريد». وتوجهت الساعة الرابعة عند السيدة العاقلة المحترمة، فقابلتنا بترحيب ولطف زائدين. وقدمت لي مدموازيل فيجزون مفتشة مدارس البنات، وكانت قد دعتها خصيصًا لكي تعرفني بها ولكي يمكنني بوساطتها مشاهدة المدارس الصناعية والتدبيرية.
الثلاثاء ٣٠ يونيو
توجهت مع «مدموازيل فيجزون» لزيارة المدارس الصناعية والتدبير المنزلي للبنات. وسرني جدًّا ما رأيته وأحزنني، سررت لهم وحزنت علينا، فرحت لتقدمهم وتكدرت لتأخرنا، يلزمنا جيل بطوله وعرضه إذا كنا حاكمين أنفسنا إذا بقينا محكومين، لنحصل على درجتهم إذا مشينا وحذونا حذوهم. ولكن وا أسفاه من أين نتحصل على هذه الروح الحية، نثبت في عملنا ونثابر عليه لنصل إلى هذه الدرجة من الكمال.
في أثناء وجودي بباريس، دعيت لحضور اجتماع نسائي كبير تطالب فيه السيدات بمساواة المرأة بالرجل في الحقوق والانتخاب، وينادين بالسلام.
وقد عقد اجتماع كبير في صالة «الجورنال»، خطبت فيه عظيمات السيدات الفرنسيات مثل مدام سيجفريد وأفريل دي سانت كروا ومدموازيل كليمان وسيدات أخريات، وقد لاحظت روح الدعوة للسلام بين الشباب حتى بين الضباط أنفسهم، وقد سررت من هذا المظهر الجميل جدًّا، وصرت أعتقد أن الأوروبيين حقيقة قد وصلوا إلى درجة عظيمة من الرقي.
وقد حدث أن زرت «مدام سيجفريد» بعد ذلك، وتحدثنا في السلام وسألتها عما إذا كانت تعتقد أن السلام سيسود أوروبا، فأجابتني تلك السيدة العظيمة قائلة: لأجل أن يسود السلام العالم يجب أن نوطده في نفوسنا، ونهيئ له فيما حولنا، وبالطبع فإن ذلك يحتاج إلى زمن طويل.
عدنا بعد ذلك إلى «فيتيل»؛ حيث بدأ الباشا في أخذ حماماته وقد شعرت بالوحدة لعدم وجود والدتي معي، فكنت أقضي أغلب أوقاتي في النزهة مع ولدي في الحديقة أو في القرى القريبة من البلدة.
وقد كتبت في مفكرتي الخاصة يوم الجمعة ١٠ يوليو ١٩١٤ هذه السطور: أف، ما أطول ليلة الأمس عليَّ، وما أثقل هذا اليوم الحزين! … سأمضي كل مدة «الكور» — العلاج — بهذا الشكل … محرومة من أويقات حريتي التي ألقي فيها العنان على عاتق أفكاري وتذكاراتي وأنفرد بهم عن كل شغل وشاغل بين كتبي وتخيلاتي وأحلامي وأوهامي وصلاتي وعبادتي وماضي وحاضري، وبالجملة حياتي الحقيقية … حياتي الشخصية التي فيها أكون أنا … معي نفسي … فلها أو عليها كما تقتضي الظروف … فإلى اللقاء يا أنا!
وكتبت في اليوم التالي السبت ١١ يوليو: أمضيت هذا اليوم أطوف في البارك مثل التائهة وحدي؛ حيث إن الأولاد كانوا يتفرجون على «قرة جوز» وكان الباشا مشغولًا بأخذ مياهه في الأوقات المعينة لها، فأين أنت يا والدتي العزيزة؟ وما حالك الآن؟ كنت قبل سنتين تلازمينني في مثل هذه الساعات، والآن ليس معي إلا تذكارك، وأي تذكار يا رباه أينما أكون، أتصورك في فراشك طريحة الآلام، فتظلم الدنيا في عيني فينعكس فيهما ما كنت أراه حسنًا.
على أنني قد حاولت أن أملأ فراغ وقتي. ولما كانت بلدة «دون ريمون» وهي بلدة «جان دارك» لا تبعد كثيرًا عن «فيتيك» فقد زرتها وشاهدت الغرفة الصغيرة التي كانت تسكنها، والشجرة التي كانت تؤدي صلاتها تحتها فتسمع أصوات «سانت كاترينا» و«سان ميشيل» يأمرانها أن تخلص فرنسا من احتلال الإنجليز في عهد الملك شارك السابع. وقد أعطاها الملك قوة مسلحة صغيرة هجمت بها على الإنجليز وانتصرت عليهم في «باتي» ثم خانها أحد الفرنسيين وحاكمها الإنجليز وحكموا عليها بالإعدام حرقًا … وبعد ذلك أخذ الفرنسيون يقدسونها، واتخذوا من بيتها الصغير متحفًا فيه كل الآثار التاريخية القديمة الموجودة في «دون ريمون».
ولما أوشك الباشا أن يتم حماماته، سافرت إلى باريس لقضاء بعض حاجياتي على أن أعود مع حسن شعراوي، وقد نزلت في شقة كان أخي قد استأجرها بدلًا من النزول في الفندق لعدم وجود أحد معي سوى خادمتي «مرجريت».
وكم كانت دهشتي عظيمة عندما وجدت باريس خالية، وشوارعها هادئة ساكنة، ووجوه سكانها عابسة كاسفة. وكان قد صادف وجودي بها أواخر شهر يوليو عندما وقعت حادثة «مدام كايز» التي قتلت «مسيو بينيت» صاحب ومدير جريدة «الفيجارو». وكان الجميع يكيلون لها اللعنات رغم أنهم كانوا يعلمون أن هذه السيدة لم تقدم على ارتكاب جريمتها إلا بعد أن سعت بكل جهدها لكي تمنع «مسيو بينيت» من نشر الوثائق التي كانت تحت يده، والتي كان يهددها هي وزوجها بنشرها وفيها ما يلوث شرفهما، فلما فعل، لم تستطع كبح جماح نفسها فقتلته.
وفي الوقت نفسه، كنت أسمع الناس يتحدثون عن احتمال وقوع الحرب بين فرنسا وألمانيا، وما كنت أصدق ذلك لثقتي العظيمة في أن المدنية التي وصلت إليها أوروبا ستمنعها من خوض غمار الحرب، التي تعتبر أشد أنواع الوحشية. ولكن عندما زارتني صديقتي «مدموازيل كليمان»، وجدتها شاحبة وتكاد تكون مقوسة الظهر من هول الموقف فسألتها: أتظنين حقًّا أن الحرب قائمة، فقالت: نعم مع الأسف؛ لأن الحالة تفاقمت تفاقمًا شديدًا، فقلت لها: وماذا سيكون موقفكم أنتم يا أنصار السلام؟ قالت: سنكون بجانب شعبنا؛ لأن صوتنا ما زال ضعيفًا، وقد عجبت من ذلك، ولم أصدق أبدًا أن الحرب ممكنة.
ولكن عندما توجهت في اليوم التالي لقضاء حاجياتي وأردت صرف ورقة مالية قيمتها ألف فرنك، لم أجد قيمة صرفها ذهبًا، وأتت إليَّ الصرافة وبيدها كيس مليء بالفضة، وقالت لي: لقد جمع كل الذهب ولم يبقَ عندي سوى الفضة …
وقد فضلت أن تعطيني ورقًا بدلًا من الفضة الثقيلة، وقد أسفت بعد ذلك لأنني كنت أجهل قيمة الدراهم الفضية.
وفي اليوم الذي أردت فيه العودة إلى «فيتيل» مع حسن شعراوي، سألني الخادم عما إذا كنت قد حجزت في القطار؛ لأنه يتعذر غالبًا وجود محلات مرموقة خالية، فأجبته بالنفي، وكان أن سبقنا إلى المحطة لحجز المحلات، ولكننا عندما توجهنا إلى القطار، وجدنا كل دواوينه خالية، فلم يسافر في القطار سوانا نحن الثلاثة وأحد المراكشيين! …
ولما وصلنا إلى «فيتيل»، وجدت الباشا والأولاد في انتظارنا بالمحطة، وقد استقبلوني في لهفة قائلين إنه لم يبق بالفندق الذي نسكنه أحد غيرنا؛ لأن الناس هجروا المدينة خوفًا من الحرب لقربها من الحدود، وكان ذلك يوم ٢٩ يوليو، وقد قررنا أن نغادر «فيتيل» بعد يومين أو ثلاثة أيام، وعلى الأكثر في اليوم الثاني من شهر أغسطس.
وقد رأيت الخدم بالفندق محزونين، وبخاصة الخادمات؛ لأن أزواجهن قد طلبوا للتجنيد ولما سألنا مدير الفندق عن الحالة، أجابنا بأنه أمر بإغلاق الفندق وهو قائم بجمع الذهب لإرساله إلى المصارف، وأنه ربما يطلب هو أيضًا للخدمة العسكرية.
غادرنا «فيتيل» في أول أغسطس قاصدين «سان موريس» بسويسرا، وكان المفروض أن يصل القطار الذي سنستقله في حوالي الساعة الحادية عشرة، ولكننا بقينا في انتظاره على رصيف المحطة حتى الساعة الواحدة، ولما تأخر موعده حوالي ثلاث ساعات، سألنا ناظر المحطة عن السبب، فقال لنا في غضب: هل هذا يوم سباحة مع أطفال؟ فقلنا له: إننا ما كنا نعلم أنه يوم التعبئة والاستعداد للحرب، ودخلت مطعم المحطة لأشتري شيئًا من الطعام للأولاد، فوجدته خاليًا إلا من رغيف واحد وعلبة من كبد الإوز، فاشتريتها هي والرغيف وكان الأولاد في حالة جوع شديد، فوزعت عليهم الرغيف والكبد. وكان معي بعض الشيكولاتة، فاحتفظت بها في حقيبتي الصغيرة احتياطيًّا للطوارئ.
بقينا كذلك حتى الساعة الثالثة، عندما مر بنا قطار لا نعلم مقصده، ولما سألنا ناظر المحطة عن وجهته، قال لنا: «إن اليوم يوم ترحيل الجنود، ولا يعلم أحد إلى أين تسير القطارات.» فركبنا هذا القطار حتى وصل بنا إلى «بلفورت». وفي تلك المحطة رأينا قطارًا آخر قيل لنا: إنه قاصد إلى الحدود من جهة سويسرا، وأشارت علينا بعض السيدات الفرنسيات بترك قطارنا وركوب هذا القطار، فنزلنا نحمل أمتعتنا بأنفسنا لعدم وجود الحمالين بالمحطات وكانت تمر أمامنا القطارات تحمل المجندين، ونرى النساء اللاتي جئن لودعاهم، بعضهم يبكي وبعضهم الآخر يحاول أن يخفي آلامه وأحزانه.
وسافر بنا القطار الآخر، وكانت قد ركبت معنا فيه سيدة ألمانية وابنتها، وكانت ترتعد خوفًا، وقد أتت هذه السيدة بابنتها والتصقت بي ورجتني أن أحميها وأن أقول إنها في معيتي، وقد وعدتها بذلك وطمأنت خاطرها.
ووقف بنا القطار فترة طويلة في إحدى المحطات، ثم سار بنا في حوالي الساعة العاشرة وكان الأولاد قد جاعوا وعطشوا وكان قد ركب معنا تاجر يهودي مصري وعرفنا بنفسه، فقال لنا: إن هذا القطار سوف يصل بنا إلى قرب الحدود حوالي ساعة، وكان أن أخرجت ما معي من حلوى وقسمته بين الجميع، ووعدنا التاجر بأن يحضر بعض المأكولات من بوفيه المحطة عند وصولنا، وبعد أكثر من ساعة وقف القطار على مسافة قصيرة من الحدود وسمعنا البائعات ينادين باسم نوع من الفطير، فهرول اليهودي ونزل من القطار وجلسنا في انتظار أن يأتي لنا بشيء نأكله، وعلى هذا الأمل لم يتحرك أحد منا، ولما قرب موعد تحرك القطار، صعد التاجر صفر اليدين وهو يقول: حقًّا، لقد كان طعم الفطير لذيذًا جدًّا، فقلت له: «لعلك تذكرت الأطفال، وأتيت لنا بشيء منه» فإذا به يرتبك ويقول في خجل: «إني آسف جدًّا … لقد نسيت!» فلم أستطع أن أمنع نفسي من لومه قائلة: «لقد أعطيتك من زاد أولادي وأنت جائع، فكيف تنساهم؟» … فلم ينطق من شدة الخجل!
وبعد ساعة وقف القطار مرة أخرى على الحدود؛ حيث كان يجب علينا أن نترك قطارنا ونأخذ القطار السويسري الألماني. وقد حاولت أن انتهز الفرصة لأشرب قليلًا من الماء وأحضر بعض المأكولات من بوفيه المحطة، ولكن عبثًا حاولت، فقد كانت الألمانيات الجميلات مشغولات بتقديم الطعام والشراب للرجال الألمان ولم ينتبهن إلى أنني كنت أتكلم الفرنسية وهن لا يفهمنها وعدت إلى القطار، وحاولت أن أدخل أولادي إلى الصالون، فوجدت كل الدواوين مكتظة بالألمان، وفي النهاية لم يكن هناك بد من أن نجلس الأطفال على الحقائب وأن نبقى نحن واقفين في الطرقة حتى الساعة الثانية بعد منتصف الليل، إلى أن وصل القطار إلى مدينة «بال» فنزلنا منه قاصدين أقرب فندق للمحطة.
وما إن وصلنا الفندق، حتى ابتدرنا صاحبه قائلًا: إنه لا يوجد لديه مكان واحد، فقلت له: هل تظن أنني سأخرج بأطفالي الصغار بعد الثالثة صباحًا للبحث عن فندق آخر، إنني أرى في مقاعد المدخل ما يكفي لإيوائنا هذه الليلة، ولما رأى في لهجتي الإصرار والحزم، قام ليسأل عن أماكن خالية في فندق آخر، واستطاع أخيرًا أن يجد لنا أماكن في فندق يقع في «بال» القديمة. وطلب سيارات لتنقلنا إلى هذا الفندق على مسافة نصف ساعة وانتقلنا إلى الضفة الأخرى من نهر الرون، ووصلنا الفندق ونحن في حالة من التعب والإرهاق لا يمكن وصفها: وبخاصة الأطفال، ولم نكد ندخل غرفنا حتى طلبنا من الخادم أن يأتي بلبن وجبن وخبز، فأكلنا ثم نمنا نومًا عميقًا.
استيقظنا في الصباح على صوت الأطفال يلعبون في الشارع، وقد شعرت بالألم وأنا أنظر إلى هؤلاء الصغار الذين كانوا يضحكون ويمرحون جاهلين كل ما يدور حولهم، غير مدركين أن الحرب سوف تحولهم إلى أيتام بؤساء! …
وفي يوم الأحد ٢ أغسطس ١٩١٤، بارحنا «بال» إلى زيورخ؛ حيث وصلنا في الخامسة مساء … ونزلنا في فندق «بورولاك»، ولم نجد أماكن لائقة رغم أننا كنا قد حجزنا من قبل، ولكن كل الناس كانوا قد هاجروا إلى سويسرا باعتبارها بلد الحياة، ومن كثرة الزحام التزمت الفنادق بالاقتصاد قدر الإمكان في المعيشة والغذاء، فلا يحصل النزلاء إلا على القوت الضروري فقط، وكان علينا أن نتوجه إلى غرفة الطعام للحصول على الإفطار، وانتظرنا في طابور طويل أكثر من نصف ساعة حتى جاء دورنا …
وذات يوم افتقدنا الملح، فسألنا عن السبب، فقيل لنا: إن هذه بوادر اقتصاد الحرب، وبدأنا نتنزه سيرًا على الأقدام بسبب غلاء المعيشة، وصرنا نتحاشى طلب الشاي بعد الظهر؛ لأنه كان يكلفنا جنيهًا تقريبًا.
وإزاء هذه الظروف، قرر الباشا أن نعود إلى مصر عن طريق إيطاليا، فتركنا زيورخ يوم الجمعة ٧ أغسطس ١٩١٤؛ حيث وصلنا إلى ميلانو في الخامسة مساء، وفي الليل كان باعة الجرائد ينادون بأعلى أصواتهم «أخبار الحرب» بمثل ما ينعق البوم بصوته النحس على أسطح المنازل في الليلة الهادئة!