الفصل الرابع عشر
أريد قبل أن أتحدث عن الحياة السياسية في مصر في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، وما ترتب على ذلك من أحداث أدت إلى قيام ثورة ١٩١٩ … أريد قبل ذلك أن أتحدث عن واقعة حدثت في تلك الأيام، وكانت ذات أثر ومدلول على نفسيتي وتفكيري.
فقد حدث في صبيحة يوم ٢١ أكتوبر ١٩١٨ أن جاءتني إحدى المربيات في ثياب سوداء تعودت أن تزورني بها مجاملة لي في حزني على شقيقي وقد بادرتني بصوت متهدج قائلة: لقد ماتت الباحثة! …
وشعرت بهزة حزن في نفسي لهذا الخبر … وما كنت أظن أن شيئًا في الحياة بعد فقدان أخي يستطيع أن يهز شعوري هذه الهزة العنيفة، وقد عجبت لذلك إذ كنت قد قطعت كل صلة بالحياة، وحسبت أنه لم يبق في شعوري متسع لغير حزني على أخي، وكدت أثور على نفسي وعلى تلك التي أحدثت هذا التأثير فيها، ما الذي يعنيني أنا أن الباحثة قد قضت؟ وأن البلاد نساءها ورجالها، قد خسروا في نهضتهم عضوًا هامًّا بوفاة تلك السيدة الفاضلة!
وفي تلك اللحظة انفردت في مخيلتي صفحة بيضاء ذات إطار أسود لهذه السيدة، وخيل إليَّ أنني أسمع صوت باحثة البادية وهو يدوي في قاعة المؤتمر الذي عقد عام ١٩١٠ مطالبًا بحقوق عشرة للنساء.
لقد تجسم خيالها أمام ناظري في محاضراتها بالجامعة المصرية وهي تلقي على أترابها دروسًا في الأخلاق والواجبات، ومرت بخاطري مناقشاتنا في السفور والحجاب في الاجتماعات التي كنا نعقدها قبل الحرب، وكانت تنظر إلى أقوالنا ونشاطنا بابتسامة ممزوجة بشيء من الشك والاستغراب.
وعلى الفور قمت فارتديت ثيابي وخرجت قاصدة دار الراحلة … وإذ بنعشها يختصر علينا الطريق، ويقابلنا ملفوفًا بالعلم المصري وتسير خلفه جماهير المشيعين، وتبعتهم حتى مقرها الأخير؛ حيث واروا التراب ذلك الجسم النشيط، وأغلقوا القبر على شعلة الذكاء المتقدة.
ولما عدت إلى منزلي واختليت بأحزاني، شعرت أن الأموات أكثر تمسكًا بحقوقهم منا، فقد ألقوا على عواتقنا تراثًا مقدسًا يطالبوننا باحترامه واستغلاله في كل فرصة، لذلك لما رأينا نحن النساء أن الرجال قد سبقونا لتكريم ذكرى فقيدتنا، لم أستطع إلا أن أتجرد من أنانية أحزاني، وأطالب زميلاتي بالواجب عليهن نحو «الباحثة» فقمنا بدورنا بإقامة حفل تأبين لها بالجامعة المصرية الأولى. وأرادت السيدات أن تكون تحت رياستي، فاعتليت المنبر أول مرة في حياتي.
وبعد ذلك كنت أبحث عنها في الأيام العصبية التي اجتزناها إبان الثورة وبعدها، وكنت أناديها في نفسي، فكان لا يتردد صوتها إلا في ضميري.
ما بعد الحرب
انتهت الحرب العالمية الأولى عام ١٩١٨، وأعلن الرئيس ولسون مبادئه الأربعة عشر التي كانت تعطي الأمم حق تقرير مصيرها واختيار الحاكم الذي ترضاه، وظلت مصر تترقب تطبيق هذه المبادئ عليها وبخاصة أنها قد ساعدت الحلفاء مساعدات قيمة جدًّا كان لها أثر كبير في نتائج الحرب، وقد اعترف الإنجليز أنفسهم بقيمة هذه المساعدات. ولما رأت مصر أنه لا يبدو أن إنجلترا ستفي بوعودها وأن الحالة سوف تبقى على ما كانت عليه، تيقظ شعور رجالها وبدءوا يتهيئون لنبذ مجال الكلام وخوض مجال العمل. وبدءوا ينبذون السياسة التي كانت مقصورة على تحرير الاحتجاجات وتشكل الوفد المصري ليتولى القيام بعمل إيجابي.
ويبدو أن التفكير في هذا الموضوع، وفي وجوب وضع حد لهذه السياسة والخروج من عالم الاحتجاجات إلى العمل الإيجابي، كان قد استولى على اهتمام كثير من رجالات مصر. ودار الحديث بشأنه بين الأمير عمر طوسون وسعد زغلول باشا وعدلي يكن باشا وعلي شعراوي باشا ومحمد محمود باشا وحمد الباسل باشا وغيرهم من قادة الرأي في مصر. وقد كان الأمير عمر طوسون في طليعة المشتغلين بهذه القضية لدرجة أن سعد باشا كان يفكر في إسناد رئاسة الوفد إليه، ولكن الأمير لم يتمكن من الاشتراك في هذا العمل بعد أن صدرت إليه أوامر القصر بأن يعود إلى الإسكندرية وألا يتدخل في السياسة، وكان ذلك نتيجة إيعاز السلطة الإنجليزية للقصر.
ولما كانت الجمعية التشريعية التي شكلت بمقتضى القانون الصادر في أول يوليو ١٩١٣ ما زالت قائمة حتى انتهاء الحرب العالمية الأولى، فقد اتجهت النية إلى اختيار أعضاء الوفد المصري من بين أعضائها، أو اختيار هيئة يزكيها هؤلاء الأعضاء وتخويل هذه الهيئة صفة الوكالة العامة، فاستقل سعد باشا وأصحابه بتأليف الوفد. وكان مما شجع هذه الفكرة ما عرضه علي باشا شعراوي من استعداده للقيام بكل ما يحتاجه سفر الوفد من نفقات لغاية أربعين ألف جنيه، ووعد بدفع الباقي إذا لم تقم الأمة بدفع المال اللازم أو قصرت في دفع جانب منه.
وقد تكوَّن الوفد من حضرات أصحاب السعادة والعزة: سعد زغلول باشا، علي شعراوي باشا، عبد العزيز فهمي بك، عبد اللطيف المكباتي بك، محمد محمود باشا، أحمد لطفي السيد بك، إسماعيل صدقي باشا، سينوت حنا بك، حمد الباسل باشا، جورج خياط بك، محمد أبو النصر بك، مصطفى النحاس بك، الدكتور حافظ عفيفي بك.
وقد بقي الوفد المصري بعد تشكيله، يرقب إعلان الهدنة ليبدأ كفاحه بإبلاغ بريطانيا مطالب مصر. فلما أعلنت الهدنة يوم ١١ نوفمبر ١٩١٨، بادر سعد وأصحابه إلى طلب مقابلة السير ريجنالد ونجت المعتمد البريطاني، فحدد لهم موعدًا يوم الأربعاء ١٣ نوفمبر، في الساعة الحادية عشرة صباحًا؛ حيث التقى به سعد زغلول باشا وعلي شعراوي باشا وعبد العزيز فهمي بك.
وقد بدأ السير ونجت هذا اللقاء التاريخي بقوله: إن الصلح اقترب موعده، وبدأ العالم يفيق بعد غمرات الحرب التي شغلته زمنًا طويلًا، والمصريون هم أقل الأمم تألمًا من أضرار الحرب، وهم مع ذلك قد استفادوا منها أموالًا طائلة، وعليهم أن يشكروا دولة بريطانيا العظمى التي كانت سببًا في قلة ضررهم وكثرة فائدتهم.
ورد عليه سعد زغلول باشا بقوله: ما تقول إن إنجلترا فعلت خيرًا لمصر، فإن المصريين بالبداهة يذكرونه لها مع الشكر، ولكنني أظن أنه لا محل لدوام الأحكام العرفية ولا لمراقبة الجرائد والمطبوعات، وأن الهدنة وقد عقدت فإن المصريين لهم حق في أن يكونوا قلقين على مستقبلهم.
وقال السير ونجت: يجب ألا تتعجلوا وعليكم أن تكونوا متبصرين في سلوككم، فإن المصريين في الحقيقة لا ينظرون للعواقب البعيدة.
ورد عليه سعد زغلول باشا: لا أستطيع الموافقة على ذلك.
وتدخل علي شعراوي باشا قائلًا: إننا في طلبنا الاستقلال، لسنا مبالغين فيه، فإن أمتنا أرقى من البلغار والصرب والجبل الأسود وغيرها ممن نالوا الاستقلال قديمًا وحديثًا.
فاعترض السير ونجت بأن نسبة الأميين في مصر كبيرة، وهنا رد عليه عبد العزيز فهمي بك بأن هذه النسبة مسألة ثانوية فيما يتعلق باستقلال الأمم؛ لأن الذين يقودون الأمم في كل البلاد أفراد قلائل، وإن شروط الاستقلال التام متوفرة في مصر.
وقال السير ونجت: لقد كانت مصر عبدًا لتركيا، أفتكون أحط منها لو كانت عبدًا لإنجلترا؟! وهنا تصدى له علي شعراوي باشا قائلًا: قد أكون عبدًا لرجل من الجعليين، وقد أكون عبدًا للسير ونجت الذي لا مناسبة بينه وبين الجعلي، ومع ذلك لا تسرني كلتا الحالتين؛ لأن العبودية لا أرضاها ولا تحب نفسي أن تبقى تحت ذلها، ونحن كما قدمت نريد أن نكون أصدقاء لإنجلترا صداقة الأحرار لا صداقة العبيد.
وتذرع السير ونجت بحجة أن موقع مصر حربيًّا وجغرافيًّا يجعلها عرضة لاستيلاء كل دولة قوية عليها. فأجابه سعد زغلول باشا بقوله: متى ساعدتنا إنجلترا على استقلالنا التام، فإننا نعطيها ضمانات معقولة على عدم تمكين أي دولة من استقلالها والمساس بمصلحة إنجلترا، ونحالفها على غيرها ونقدم لها عند الاقتضاء ما تستلزمه المحالفة من الجنود.
وأضاف علي شعراوي باشا: يبقى أمر آخر، وهو حقوق أرباب الديون الأجانب، فيمكن بقاء المستشار الإنجليزي؛ حيث تكون سلطته هي سلطة صندوق الدين العمومي.
وأنهى السير ونجت اللقاء بقوله: لقد سمعت أقوالكم، وإني أعتبر محادثتنا محادثة غير رسمية بل بصفة حبية، فإني لا أعرف شيئًا عن أفكار الحكومة البريطانية في هذا الصدد!
وقد تدارس الثلاثة أثر هذه المقابلة فيما دار بينهم وبين السير ونجت؛ حيث فهموا أن الحكومة البريطانية لا تفكر في المسألة المصرية قبل عقد الصلح وانتهائها من حل المشاكل المترتبة على الحرب، وفهموا أيضًا أنها حتى لو فكرت في ذلك، فليس في نيتها إلغاء الحماية والاعتراف باستقلال البلاد لما بدا من دهشة على السير ونجت عندما تناولوا معه الكلام عن الاستقلال.
ولما كانوا قد عرفوا من خلال حديثهم مع السير ونجت أنه لا يعرف بعد رأي حكومته في المسألة المصرية، فقد انتهزوها فرصة ملائمة لطلب السفر إلى لندن للتباحث مع أولي الأمر هناك في المسألة وإطلاع الرأي العام عليها، وقد كتب سعد وأصحابه إلى قيادة الجيش الإنجليزي مستأذنين في السفر ومطالبين بجوازات السفر في أقرب فرصة. واتسعت حلقة المكاتبات بينهم وبين القيادة البريطانية ودار المندوب السامي.
وكانت وزارة حسين رشدي باشا في الحكم وقتئذ، فطلبت التصريح لأعضاء الوفد بالسفر إلى مؤتمر الصلح، فلم يوافق الإنجليز، ورأت الوزارات أن تستقيل لهذا السبب. وظل الوفد يطالب بالسماح له بالسفر دون جدوى، وعزز طلبه وتضامن معه جميع الوزراء السابقين وكل أصحاب المكانة والكفاية في البلاد، وأضربوا عن الاشتراك في تأليف أية وزارة … وبقيت البلاد بلا حكومة فترة من الزمن …
اعتقال زعماء الوفد
قلنا إن مصر كانت خاضعة للأحكام العسكرية وإزاء الموقف القائم، فقد استدعى القائد العام للقوات البريطانية رجال الوفد المصري يوم ٦ مارس ١٩١٩، وألقى عليهم هذا البلاغ: «علمت أنكم تضعون مسألة الحماية موضع المناقشة، وأنكم تقيمون العقبات في سير الحكومة المصرية تحت الحماية بالسعي في تأليف الوزارة؛ وحيث إن البلاد تحت الأحكام العسكرية، لهذا يلزمني أن أنذركم أن أي عمل منكم يرمي إلى عرقلة سير الإدارة يجعلكم عرضة للمعاملة الشديدة بموجب هذه الأحكام!»
وبعد أن أتم تلاوة هذا البلاغ، حاول سعد زغلول باشا مناقشته فصاح: «لا مناقشة» … وتركهم وانصرف.
إن وزارة رشدي باشا لما علقت سحب استقالتها على سفر الوفد، قبلت استقالتها نهائيًّا، وليس لذلك معنى إلا الحيلولة بيننا وبين عرض قضيتنا على مؤتمر السلام، وقد نتج عن هذه السياسة أن أعظم رجال مصر أهلية لإدارة البلاد في هذه الأيام قد رفضوا تأليف وزارة تعارض مشيئة الأمة التي أجمعت على طلب الاستقلال.
فالنتيجة الطبيعية لذلك أن تقع مسئولية بقاء البلاد بلا حكومة على الذين وضعوا هؤلاء في مركز حرج أمام ضمائرهم وأمتهم، غير أن السلطة العسكرية عمدت إلى تحميلنا مسئولية امتناع المرشحين للوزارة عن قبولها.
أنذرتنا السلطة اليوم، وتوعدتنا بأشد العقاب العسكري … وهي لا تجهل أننا نطلب لبلادنا الاستقلال التام، ونرى الحماية غير مشروعة، كما تعلم بالضرورة أننا قد أخذنا على عاتقنا واجبًا وطنيًّا لا نتأخر عن أدائه بالطرق المشروعة مهما كلفنا ذلك.
وحسبنا أن نذكر لكم هذا التصرف الجائر الذي يجلب سخط العالم المتمدين، حتى تفكروا في حل هذه الأزمة بسفر الوفد، فيرتاح بال الشعب.
وقد اتخذت السلطة العسكرية البريطانية في مصر من رفع هذه البرقية إلى رئيس حكومة لندن مبررًا لاستعمال القوة، وظنت أنها بذلك ترهب المصريين، وتزعزع عقيدتهم في عدالة قضيتهم، وفي يوم ٨ مارس ١٩١٩ تم اعتقال سعد زغلول باشا ومحمد محمود باشا وحمد الباسل باشا وإسماعيل صدقي باشا، ونفوا إلى جزيرة مالطة.
ولقد شبت الثورة بعد نفي سعد باشا وأصحابه إلى مالطة، وحل محله زوجي الذي كان وكيلًا للوفد، وقامت حركة السيدات في ذلك الحين مباشرة، وكنت أنا وزوجي نعمل لخدمة وطننا لا لخدمة الأشخاص، وكان زوجي يطلعني على ما يحدث وما ينتظر أن يحدث، ليمكنني من ملء الفراغ الذي يحدثه نفيه أو سجنه، وكان هو الذي نصحني بالاتصال بحرم سعد باشا وحرم محمد محمود باشا وبعائلات أعضاء الوفد.
وكان نبأ اعتقال سعد وأصحابه قد سرى بطيئًا ومتناقضًا في اليوم الأول؛ لأن القيادة العسكرية حظرت على الصحف نشره أو التلميح إليه.
ولكن أعضاء الوفد عرفوا النبأ في يومه، ثم علم به طلبة المدارس العليا وغيرهم في اليوم التالي، وسرى في أنحاء القاهرة ومنها إلى الأقاليم.
وقد أضرب طلاب المدارس العليا في صباح اليوم العاشر من شهر مارس، وخرجوا من مدارسهم في مظاهرة كبيرة طافت بدور المعتمدين السياسيين للاحتجاج على اعتقال الزعماء، وعلى كبت شعور الأمة وحرمانها الحق في إبداء مشيئتها، وهي تسمع كل يوم دعوة الأمم كافة إلى بيان حقها وتقرير مصيرها.
وأضرب عمال الترام بعد الظهر، ثم أضرب الحوذية في اليوم الحادي عشر، وأصبحت الدكاكين مغلقة في معظم أنحاء المدينة إلا الدكاكين الأوروبية، وتجددت المظاهرات من طلاب المدارس وطلاب الأزهر وطوائف شتى من الجماهير، فقابلها الجنود البريطانيون بإطلاق المدافع الرشاشة غير مفرقين بين كبير وصغير ولا بين مشترك في المظاهرات أو غير مشترك.
وكانت نقابات المحامين قد أعلنت الإضراب، فانقطع المحامون عن المحاكم، واستثارت القسوة في قمع المظاهرات غضب الناس وحنقهم، فكثرت المظاهرات بدلًا من أن تقل، واضطرمت وقدتها بدلًا من أن تخمد، وطاش صواب الحراس العسكريين من جراء المفاجأة، فأصبحوا لا يميزون ولا يطيقون النظر إلى حشد من الناس، ففي يوم الجمعة الرابع عشر من مارس، أطلقت السيارات المدرعة نيرانها على حشد كبير بجوار المسجد الحسيني، فقتلت منهم بضعة عشر رجلًا وجرحت خلقًا كثيرين ولم يكونوا في مظاهرة ولكنهم كانوا خارجين من المسجد بعد أداء الصلاة. وتعددت المظاهرات في مدن القطر، فقوبلت بمثل ما قوبلت به في القاهرة، وشاع خبر القتل وإطلاق الرصاص في أنحاء الأقاليم، فانفجر السخط الذي طال كظمه في الصدور، وانفجرت الثورة في كل مكان.
على أنه من الخطأ أن يقال إن المظاهرات كانت هي سبب الثورة الوحيد، أو إن الثورة ما كانت لتنفجر في القطر لولا مظاهرات العاصمة، فالمظاهرات كانت مثل الشرر الذي يتطاير في البداية من فوهة بركان يغلي على وشك الانفجار، فمن شهد تلك الثورة الجارفة التي اندفعت اندفاعًا يدل على عمق مكامنها وتأجج وقودها، أيقن أنها قوة لا تحبس طويلًا، وأنها هي سبب المظاهرات وليست نتيجة المظاهرات.
فقد صبر الناس زمنًا على مظالم الحرب وآثارها، ثم انتظروا الفرج بعد الهدنة، فإذا بهم يتجرعون مرارة الخيبة ويوجسون من مخاوف المستقبل فوق ما أوجسوا من مخاوف السنوات الماضية. وزاد من المرارة أنهم يعانون هذا الكظم كله في الوقت الذي تعلو فيه دعوة الإنصاف وتتجاوب فيه الصداء بالظفر والرجاء، وإنهم يطلبون أمرًا يسيرًا هو حق الشكوى والاحتجاج فإذا بهم يجابهون بالتهديد والإقصاء عن البلاد.
وعندما شاع خبر إطلاق الرصاص على المتظاهرين، وشاعت أخبار الموتى والمعتقلين من الطلاب والشبان، طغى الغضب وعم، وكان ظهوره على نمط واحد في جميع أنحاء البلاد بغير تدبير ولا سابق اتفاق فبدأ انقطاع السكك الحديدية ما بين طنطا وتلا في اليوم الثالث عشر من مارس، ثم انقطعت في جهات كثيرة دفعة واحدة، وتناول التحطيم والتخريب أسلاك التلغراف والتليفون وقضبان السكك الحديدية؛ حيثما وصلت إليها أيدي الثائرين.
ولم يخل هذا التحطيم من غرض تعمده الثائرون بتدبير مقصود، وهو إعاقة القطارات المسلحة والفرق الجوالة عن الطواف بالمدن والقرى لجمع السلاح وتفتيش المنازل وإيذاء الناس.
إلا أن الباعث الأكبر للتحطيم والتخريب كان اندفاعًا جامحًا بغير قصد مرسوم … اندفاع الساخط يحار فيما يصنع وهو ساخط … كأنما هو في هذه الثورة الجامحة يريد أن تسمعه الدنيا ولو بتدمير أثاثه وإحراق داره، فجاءت عوارض الثورة متفقة في كل مكان؛ لأنها هي كل ما يستطاع في تلك الحالة.
وقد ظل الإنجليز ضالين في فهم شعور هذه الأمة، يفسرون أعمالها بأسباب المصالح ولا ينظرون إلى بواعثها النفسية، كأنما البواعث النفسية عامل لا يحسب له حساب في حركات الجماهير، فظنوا أن أعمال الثائرين لا تتفق هذا الاتفاق إلا بتدبير مصطنع ودسيسة أجنبية.
وقد بقينا بعد ذلك نتتبع أخبار الوفد ونؤازره، ونزكي نار الغيرة في قلوب الرجال والنساء … ونواسي أهل المصاب برصاص الإنجليز، ونزور الجرحى قدر استطاعتنا، ونمد يد المساعدة للفقراء والمعوزين وحاولنا أن نحصل على أسماء الجرحى والقتلى، فحصلنا على أسماء كثيرة جدًّا.
ومن هذه الأسماء نذكر: السيدة شفيقة بنت محمد، والسيدة عائشة بنت عمر، والسيدة فهيمة رياض، والسيدة حميدة بنت خليل، والسيدة نجيبة السيد إسماعيل، هذا بخلاف كثير من النساء اللاتي أصبن بجراح من رصاص الإنجليز داخل بيوتهن وخارجها.
وإن أنس فلن أنسى الأثر المحزن الذي أحدثه ضرب أول شهيدة مصرية، وهي السيدة شفيقة بنت محمد في نفوس الشعب عامة، وقد تجلى ذلك في تشييع جنازتها التي اشتركت فيها كل طبقات الأمة، حتى صارت جنازتها مظهرًا من مظاهر الوطنية المشتعلة.
ولقد تتابعت مثل هذه المظاهرات المحزنة، ولكنها لم ترق في أعين السلطة البريطانية فكانت لا تحترم حتى تشييع الجنازات، وبذلك كادت تنقلب الجنازة إلى عراك دموي بين الأهالي والإنجليز.
ولا أنسى الألوف من الأطفال والشبان والشيوخ الذين قتلوا في ساحة عابدين. كذلك لا أنسى تهجم الجنود البريطانيين وانتهاكهم لحرمات المنازل وبخاصة الضواحي، لأسباب طفيفة وقد تكون مختلفة يفتعلونها على الأعراض والأرواح والممتلكات.
كل هذه الفظائع كانت تثير كراهية الشعب وسخط النساء على جيوش تلك الأمة التي كانت تعتبر راقية متمدينة.