الفصل السادس عشر
طوال الفترة التي بدأت منذ اعتقال سعد زغلول باشا ورفاقه الثلاثة في ٨ مارس ١٩١٩ ونفيهم إلى مالطة، وحتى الإفراج عنهم والسماح لباقي أعضاء الوفد بالسفر، كان زوجي علي شعراوي باشا وكيل الوفد هو الذي يتولى رئاسة هذه الهيئة ومتابعة أعمالها خلال هذه الفترة الخطيرة الرهيبة، وقد تحمل المسئولية كاملة مستهدفًا لكل أنواع العقاب هو ومن معه من أعضاء الوفد. وهي مسئولية تفوق في خطرها مسئولية رئيس الوفد المنفي؛ لأن سعد باشا نفي في وقت كانت البلاد فيه خالية من المظاهرات، ومن ذلك الغليان الذي أعقبها، ومن تلك الحوادث الخطيرة التي عمت البلاد، وقد اشترك مع زوجي في تحمل هذه المسئولية باقي أعضاء الوفد بجنان ثابت وجأش رابط منذ لحظة اعتقال سعد.
وقد حدث في يوم الاعتقال، أن أرسلت قرينة سعد باشا إلى زوجي تبلغه أن مكتب سعد مفتوح له ولزملائه في غيابه كما كان في حضوره، وترجوه أن يقبلوا دعوتها للعشاء في ذلك المساء، وأن يعقدوا جلستهم الأولى في مكان انعقادها المألوف كي لا يطرأ على سير الدعوة أدنى تغيير بعد ذلك الحادث الذي أريد به القضاء عليه.
وقد قرر الأعضاء أن يلبوا رجاءها وأن يشكروها عليه، وإن كانوا قد اعتذروا عن حضور العشاء لانشغالهم بإعداد الخطة التي تلائم الموقف الجديد.
ولم يكن شعور الأعضاء بعد الاعتقال شعور فزع وارتداع كما قدرت السلطة، بل كان شعور استياء لاعتبارهم دون من اعتقلتهم السلطة في الخطر والأثر، وشعور رغبة في إفهام السلطة الإنجليزية خطأها وتحديها واستفزازها بإتيان العمل نفسه الذي من أجله اعتقلت سعدًا وأصحابه. وقد كتب شعراوي باشا احتجاجًا إلى رئيس الحكومة البريطانية على اعتقالهم، وأبلغه فيه أن الوفد مثابر على خطتهم، كما وجه مع زملائه في اليوم التالي خطابًا إلى صاحب العظمة السلطان يلقي فيه تبعة إعراض الكبراء عن تأليف الوزارة على السلطة العسكرية، وقال في خطابه إن هذا «هو النتيجة الطبيعية للخطة التي اتخذت في مسألة سفر الوفد، فإن كل مصري ذي كرامة لا يمكنه حقيقة أن يقبل الوزارة في هذا الظرف من غير أن يستهين بمشيئة بلاده».
وكانت الحكومة البريطانية قد اختارت الفيلد مارشال اللنبي مندوبًا ساميًا لها بمصر بعد نشوب الثورة بأسبوع تقريبًا. وكانت تهدف بذلك إلى إشاعة اليأس في نفوس المصريين بتولية هذا المنصب لقائد كبير من قادة الإمبراطورية، ظنًّا منها بأن فاتح القدس سيدخل الرعب في القلوب، ولن تمضي مدة قليلة على تعيينه ومنحه السلطات العليا حتى تخمد الثورة.
وقد بدأ الفيلد مارشال اللنبي عمله بمصر باستدعاء الكبراء والعظماء ليفهمهم أنه جاء لينهي الاضطرابات ويتحرى أسباب الشكاية ويعمل على الإصلاح.
ولكن مقابلاته لهؤلاء العظماء ومطالبته لهم ببذل النصح، ذهبت كلها سدى ولم تنجح مساعيه في تشكيل الوزارة.
اشتغالي بالحركة الوطنية
بدأت حركاتنا السياسية بالمظاهرة الكبرى التي قمنا بها صباح يوم ٢٠ مارس ١٩١٩، وكان ذلك بعد أن أطلق الإنجليز رصاصهم على المتظاهرين إثر نفي سعد زغلول باشا ورفاقه إلى مالطة، وقد قامت هذه المظاهرة احتجاجًا على تصرفات القوة الغاشمة التي أزهقت الأرواح البريئة، التي لم تجن شيئًا سوى المطالبة السلمية باستقلال البلاد ورفع الأحكام العرفية عن كاهلها والمناداة بإعادة سعد من منفاه.
سيدتي …
في هذه الظروف المحزنة التي نجتازها، جئت أذكرك بمحادثاتنا أثناء الزيارات التي كنت تؤدينها لي في الصيف الماضي بمنزلنا في الرمل، حينما كنا نتحدث عن نتائج الحرب المؤلمة، وكنت تؤكدين لي إذ ذاك أن بريطانيا العظمة نزيهة في اشتراكها في هذه الحرب، وأنها لم تسهم فيها إلا لخدمة أمنية العدل والإنسانية، وللدفاع عن حرية الشعوب المظلومة وحماية حقوقها.
هل تتفضلين بإجابتي إذا كان هذا ما زال في رأيك؟ وما فكرك يا سيدتي في حكومتك التي تخول نفسها حق إعلان الأحكام العرفية في زمن السلم، وتنفي عن بلادهم أناسًا لا يطالبون إلا أن يعيشوا أحرارًا في بلادهم كرماء للجميع.
وما قولك في جنودك الذين يجوبون بالمدافع الرشاشة طرقات مصر الهادئة، ويطلقون الرصاص على شعبها الأعزل إذا رفع بعض الصبية صوتهم مطالبين بالحق والحرية.
أرجو أن تخبريني يا سيدتي إذا كانت هذه نتيجة كل المجهودات التي بذلتها إنجلترا في خدمة الإنسانية والعدالة، وإلا فتفضلي بشرح المعنى الصحيح لكلماتك الجميلة التي كنت أسمعها منك.
إذا كانت فئة من الصغار قد ضربت بعض الحوانيت، فإنها لم تفعل ذلك إلا لأنها حذت للأسف الشديد المثل الذي ضربه لها جنودكم المتمدينون جدًّا في زمن غير بعيد.
وتقبلي يا سيدتي عبارات شعوري الحزين الممزوج بتحياتي.
ولما رآني زوجي على هذه الحالة من الانفعال وأنا أكتب إليها خطابي، لم يشأ أن أرسله إليها قبل أن يعرضه على سكرتير لجنة الوفد، مخافة أن أكون قد تعديت بجرأتي حدود القانون، فأخذه مني وعرضه عليه وعلى زملائه، ثم عاد متهلل الوجه، وقال: «لقد أعجبنا خطابك لدرجة أننا قررنا الاحتفاظ بصورته في المضبطة.»
وقد أخذت الخطاب بعد ذلك وأرسلته إليها، وكان ذلك أول احتجاج كتبته في بدء الثورة الوطنية.
وكنت أنتظر من هذه السيدة — التي كان زوجها يشكل أكبر مركز للسلطة الإنجليزية في مصر، فضلًا عن أنها أمريكية الجنسية — أن يكون لها بعض التأثير على السلطة الغاشمة، أو على خطابي، ولكنها لم تفعل شيئًا من ذلك، بل صارت تظهر لمعارفها وأصدقائها دهشتها من خطابي هذا وتقول إنها لم تفهمه.
وكان زوجها قد صرح في بدء ثورتنا بكلمات تأثر بها الشعب وظل يتناقلها. فقد قال: «إن ثورة المصريين مثل شرارة في القش تطفئها بصقة.» فلما عرف المصريون ذلك، ثاروا ضده وتربصوا به، فلم يجرؤ على ركوب القطار من العاصمة كما أشيع يوم مغادرته مصر، بل استقل عربة أوصلته إلى إحدى المحطات، ومنها ركب القطار متخفيا حتى لا يعرف فيقتل.
أول مظاهرة للسيدات
قلت إن أول احتجاج لنا كان في ذلك اليوم المشهود الذي خرجت فيه كل سيدات مصر للاحتجاج على أعمال الشدة والإرهاب التي كانت تصدر عن السلطة العسكرية الإنجليزية، وكانت هذه السلطة قد أعلنت قبل ذلك أن جميع المظاهرات تقمع بالقوة ولا يصرح بها إلا بإذن، وقد أرسلنا إلى مقر رئاسة السلطة وفدًا من بناتنا، نعلنها اعتزامنا بالقيام بمظاهرة سلمية … فرفضت السلطة التصريح لنا بالمظاهرة، وكان أن تصرفت بعض الفتيات اللائي كلفناهن بهذه المأمورة من تلقاء أنفسهن؛ حيث اتصلن بكثير من السيدات اللائي اتفقن معنا على السير في المظاهرة، وأخبرنهن بأن المظاهرة قد أجلت، ولكننا بعد ذلك قرأنا في جريدة المقطم أن السلطة قد سمحت للسيدات بإقامة هذه المظاهرة، فأمضينا الليلة في محاولات الاتصال بالسيدات تلفونيًّا لنخبرهن بالتصريح، ولكن مع الأسف لم نستطع الاتصال بمعظمهن بسبب الرقابة التي كانت مفروضة على التليفونات ولولا هذا الاضطراب الذي أثاره تصرف هؤلاء الفتيات لبقي العزم على ما كان عليه ولاشتركت كل نساء القاهرة في تلك المظاهرة.
وفي صباح يوم ٢٠ مارس ١٩١٩، أرسلت اللوحات التي كنت قد أعددتها للمظاهرة إلى منزل أحمد بك أبو إصبع، مكتوبًا عليها باللغتين العربية والفرنسية بالبوية البيضاء على قماش أسود علامة الحداد: «ليحيا ناصرو العدل والحرية … ليسقط الظالمون المستبدون وليسقط الاحتلال».
وقد نظمنا خط سير المظاهرة … وأعطيناه للفتيات اللائي سلمناهن العلم واللافتات في المقدمة … ولشد ما كانت دهشتي عندما لم أر اللافتة المكتوب عليها «ليحيا محبو العدل والحرية». وسألت صديقتي «وجيدة هانم خلوصي» التي كنت قد أوفدتها بهذه اللافتات إلى منزل أحمد بك أبو إصبع عن السبب، فأخبرتني بأن إحدى السيدات قد زعمت وجود خطأ لغوي فيها … فلم تسمح بظهورها، وأعلنت بأعلى صوتها بين السيدات قائلة: «إن من لا يجيد معرفة الكتابة بلغة، فالأجدر به ألا يكتبها.» وكانت هي في الحقيقة الجاهلة، وقد أقنعتها بخطئها بعد ذلك، فلم تغفر لي هذا الموقف أبدًا.
ولم يكن هذا هو الموقف الوحيد، فقد حدث موقف آخر.
كان الاتفاق يقضي بأن نقصد سفارة أمريكا أولًا، ثم سفارة فرنسا … ولكنني رأيت فتياتنا قد غيرن خط السير وقصدن بيت الأمة أولًا. فلما أرسلت صديقتي «وجيدة هانم» لتنبههن إلى ذلك، قلن لها إن غالبية السيدات قررن ذلك، فأذعنت لهذا القرار على مضض، وابتدأنا ببيت الأمة بدلًا من أن ننتهي به حسب الاتفاق.
ولم نكد نصل إلى هناك، حتى حاصرنا جنود السلطة الإنجليزية، وأحاطوا بنا مسلحين وقد سدوا الشوارع بمدافع الماكينة، فوقفت صفوفنا تحيط بها صفوف الطلبة الذين كانوا يتبعوننا طوال الطريق لحمايتنا.
وقد أدركت أن هناك تدبيرًا مسبقًا بين أدلتنا وبين السلطة التي كانت تنتظرنا مطمئنة بشارع سعد زغلول. وبذلك فشلت خطتنا، ولم يرنا إلا قليل من الناس، وعلمنا بعد ذلك أنه كان أمام دور السفارات عدد كبير من الأجانب ينتظروننا بباقات الورد ليلقوها تحت أقدامنا.
وبينما نحن في تلك الوقفة التي أجبرونا عليها، أردت أن أشق طريقي بالقوة لأقود مسيرة السيدات، فتقدمت إلى الأمام، وإذا بجندي إنجليزي يجلس القرفصاء بسرعة ويصوب فوهة بندقيته إلى صدري، وعندما حاولت أن أتقدم نحوه، أسرعت إحدى السيدات تجذبني من الخلف لتمنعني من التقدم، فقلت لها بصوت عال: «دعيني أتقدم، ليكون لمصر اليوم مس كافيل.» فما كاد الجندي يسمع هذا الاسم، حتى خجل وقام على الفور.
وأردت بعد ذلك أن أخترق صفوف الجنود، وطلبت من السيدات أن يتبعنني، فإذا بذراعين تحيطانني، وإذا بصوت حرم الدكتور حبيب خياط تقول لي: «ما هذا الجنون؟ أتريدين إراقة دماء هؤلاء الأولاد إذا رأوا قطرة من دمك تسيل؟»
وأعادتني هذه الكلمات إلى رشدي في الحال، فقد تصورت هؤلاء المئات من أبنائنا يخوضون المعركة ضد الإنجليز، وتصورت كم ستخسر مصر من بنيها بسبب مجازفتي هذه، فوقفت في مكاني لا أتحرك، وبقينا على هذه الحال ثلاث ساعات تحت وهج الشمس، وكم تمنيت أن تصيبني ضربة شمس لتقع مسئولية ذلك على السلطة الغاشمة، ولكن للأسف لم يحدث لنا أي أذى.
وأثناء ذلك الوقت، توجه الطلبة إلى السفارة الأمريكية، ثم إلى سفارتي إيطاليا وفرنسا، ووقفوا يصرخون: «لقد حاصرت السلطة الإنجليزية سيداتنا أمام منزل زغلول … نطلب الإنصاف والمساعدة.»
وقد توجه سفير أمريكا إلى موقع الحصار والتقط بعض الصور الفوتوغرافية.
وهال هذا الأمر السلطة البريطانية، وسرعان ما جاء اللواء رسل باشا حكمدار العاصمة، ورجاني أن نعود إلى منازلنا بدعوى أننا قد خالفنا أوامر السلطة بهذه المظاهرة، فقلت له: «لقد قرأنا في جريدة المقطم أن السلطة البريطانية قد صرحت بإقامة هذه المظاهرات، ولذلك خرجنا … فبأي حق يعترضوننا بعد هذا التصريح؟» … فأجابني بأن السلطة لم تصرح بذلك، وقد نشر هذا النبأ خطأ، ومن الأفضل أن نعود إلى بيوتنا.
وأمام القوة والتعسف، لم يسعنا إلا الإذعان، على أن نقوم بهذه المظاهرة مرة أخرى … ولكننا قبل العودة إلى بيوتنا، زرنا السفارات وأبلغناها احتجاجنا على مسلك السلطة إزاءنا، وعلى استمرار الحماية غير المشروعة وقيام الأحكام العرفية في بلادنا بلا مبرر، وقد لقينا منهم كل عطف ولكن بلا نتائج إيجابية.
وجدير بالذكر أن شاعر الوطنية المرحوم حافظ بك إبراهيم قد نظم أبياتًا رائعة تحية لشجاعة المرأة المصرية، وتسجيلًا لهذا الحادث التاريخي. وقد نشرت ووزعت دون توقيع؛ نظرًا للظروف القائمة في ذلك الوقت.
تقرير الوفد المصري
ظلت الأمور تتطور في البلاد في طريق الثورة يومًا بعد يوم، وكان الوفد المصري الذي حمل أمانة المسئولية بعد نفي سعد زغلول باشا ورفاقه، يتصدى للمواقف المختلفة، ويعبر عن رأي الأمة.
وكان التطور الجديد في الأحداث هو ذلك التقرير الذي قدمه الوفد المصري إلى المندوب السامي البريطاني في ٣٠ مارس ١٩١٩، والذي دعا على أثره الأعضاء لمناقشتهم فيه في اليوم التالي مباشرة، أي في يوم ٣١ مارس ١٩١٩.
وقد جاء في هذا التقرير: إن الذي في نفوس المصريين ليس هو العداوة بأي نوع كان، بل هو الإحساس الطبيعي لكل أمة أن تستقل بشئونها.
ولقد أظهرت الأمة في سلوكها طول مدة الحرب أنها تنتظر من بريطانيا العظمى معاملتها على هذا السلوك المستقيم وعلى الضحايا الكبرى التي غرمتها بما تستحق من الرعاية فتعترف لها بالاستقلال بعد زوال السيادة التركية عنها.
ثم إن الوفد المصري الذي وكل لهذه الغاية قد جعل فاتحة برنامجه أن يتجه إلى الشعب البريطاني قبل كل شيء لنيل عطفه على مصر والمصريين، وليتبين للرأي العام هناك أن النقطة التي تلتقي فيها منافع بريطانيا العظمى واستقلال مصر ليست نقطة معدومة بل إيجادها في حيز الإمكان.
وكل ذلك ينفي بتاتًا أن هذه الحركة نتيجة عداوة في النفوس، وإن كانت في الجملة بعض نتائج اليأس وخيبة الرجاء.
ثم استعرض التقرير بعد ذلك مجريات الأحداث منذ إعلان الحماية على مصر؛ حيث «ظنوا أن الحماية ضرورة استدعتها الظروف الحربية فقط … وكان رجاء الناس يزداد يومًا فيومًا بمقدار ما يقرءونه في الصحف من خطب رجال السياسة في بريطانيا العظمى وفي الولايات المتحدة، وبما يطالعونه بشغف عظيم من الخطب التي كان يلقيها «الدكتور ويلسون» في حرية الشعوب، وأنه لا يكون بعد الآن شعب سيد وشعب مسود، بل كلهم في الإخاء الإنساني سواء».
وتناول التقرير بعد ذلك ما حدث من أعمال لجنة الامتيازات … وما ترتب على ذلك من اعتبار المصريين كمية عاطلة ليس لهم في إدارة بلادهم نصيب، فخيم الحزن على نفوس المصريين، ولكنهم اعتقدوا أن كل ذلك من عمل حزب الاستعمار، وأن الشعب البريطاني الحر لا يرضى بهذا التصرف.
وما زالوا يعلقون آمالهم بالرأي العام البريطاني العام وبمؤتمر السلام الذي وضعت قواعده بفضل الأمم الحرة.
ولما نشرت هذه القواعد تألف الوفد المصري وليس أعضاؤه من غير المسئولين ولا غير المعبرين عن الرأي العام كما يقال، بل إنه فضلًا على ما لرئيسه وبعض رجاله من صفة النيابة عن الأمة، قد وكله أكثر من ثلاثة أرباع نواب الجمعية التشريعية غير الوزارة، كما وكله أعضاء الهيئات النيابية الأخرى (مجالس المديريات والمجالس البلدية والمحلية) وكثير من الأفراد أولي الرأي في البلاد.
وطلب الوفد الترخيص له بالسفر إلى إنجلترا وفرنسا، فلم يرخص له بذلك، فلما طال به الانتظار، رفع شكواه إلى المندوب السامي وقتئذ ثم إلى رئيس الوزارة البريطانية، وطرق كل باب ليتمكن من السفر.
فلما صرح هنا بعدم التصريح لأحد بالسفر، وقبلت استقالة الوزارة، تلك الاستقالة التي قالت عنها جريدة «المورنينج بوست» في عددها الصادر في ٢٩ يناير ١٩١٩ إنها بعبارتها تجعل من الصعب جدًّا أن مصريًّا آخر يأخذ محل الرئيس دون أن يستهدف لغضب الشعب، اضطربت الخواطر وشملت الأنفس عوامل اليأس من تحسين الحال.
وقد استدعتنا السلطة العسكرية، وأنذرتنا أننا نعوق سير الحكومة بما نحاول من منع تأليف الوزارة، ولم يمض يومان من هذا الإنذار حتى قبض على رئيسنا سعد زغلول باشا وزملائنا إسماعيل صدقي باشا ومحمد محمود باشا وحمد الباسل باشا، ونفوا إلى مالطة.
ولا شك في إن إطلاق الجنود البريطانيين الرصاص على الطلبة العزل في هذه المظاهرات السلمية على هذا النحو وفي مثل هذا الظرف، من شأنه أن يحدث في البلاد أثرًا سيئًا لا بد أن يكون هو النقطة الأخيرة التي فاض بها كأس الصبر في نفوس أهل البلاد؛ لأنه في يوم ١٥ ابتدأت تأتي أخبار الاعتداء على طرق المواصلات ووقوع البلاد طرًّا في هذا الإضراب الشديد. ذلك ولم يقف الاستياء من هذه المعاملة القاسية لأمة غير محاربة عند حد الرجال، فإن السيدات المخدرات لم يطقن أيضًا احتمال هذه الصدمة، ولم يقف حجابهن الكثيف في طريق إظهار عواطفهن، بل قمن نحو الثلاثمائة من عقائل أعلى البيوت في القاهرة بمظاهرة نشرت الجرائد صبح يومها أي يوم ٢٠ مارس أنها مصرح بها. فلما نزلن من عرباتهن وقطعن مسافة من طريقهن حتى وصلن إلى بيت سعد زغلول باشا، أحدق بهن الجنود البريطانيون مصوبين أفواه البنادق وسنان السنج نحوهن، فوقفن في الشمس محصورات بقوة السلاح نحو الساعتين، ثم سمح لهن أخيرًا بعد أن رآهن على تلك الحال رجال الوكالتين السياسيتين الأمريكية والطليانية … وكان هذا أيضًا مظهرًا من مظاهر سياسة الإحراج، تلك السياسة التي يجب عدلًا وإنصافًا أن تكون هي المسئولة عن النتائج التي نجمت عنها.
والواقع الذي نؤكده لفخامتكم بالصراحة التامة هو أن استياء المصريين مسبب عن عدم مساواتهم بالأمم الصغرى التي لا تفضلهم في المدنية بمنعهم عن بسط آمالهم أمام مؤتمر السلام، وكل المصريين من أكبر رجل إلى أصغر رجل فيهم في هذا الاستياء سواء، دفعهم اليأس إلى إظهار ما في نفوسهم، كل يترجمه على شاكلته، فالرجال المسئولون من رسميين وغير رسميين قد ترجموه بالاحتجاجات المختلفة وبالامتناع عن العمل كالمحامين، والشبان والمظاهرات السلمية، أما سكان الأقاليم فأعربوا عنه، بعضهم بالمظاهرة السلمية، وبعضهم بالاعتداءات المختلفة التي بعضها موجب للأسف.
تلك هي حقيقة الوضع الذي فيه بلادنا الآن، بسطناها إلى فخامتكم بالاختصار وبالحق، نرجو أن تأمروا بتحقيقها … والرجاء معقود بعدلكم أن تزيلوا هذا الاستياء بالقضاء على أسبابه، فإن الأخذ بناصر أمة بأسرها أقدس واجب على عظماء الرجال.