الفصل السابع عشر
بعد أن قدم علي باشا شعراوي تقرير الوفد المصري إلى المندوب السامي البريطاني ببضعة أيام، حل موعد صدور الميزانية الجديدة للبلاد. ولم تكن هناك وزارة تصدرها، فأصدرها الماريشال في بلاغ بتاريخ أول أبريل ١٩١٩ وقد اعتبر المصريون هذا العمل تحديًا لمشاعرهم واستخفافًا بشأنهم، فانفجرت براكين الغضب من جديد. وأضرب التجار وبعض الموظفين الذين لم يكونوا قد أضربوا من قبل، وتمرد طلاب المدرسة الحربية ومدرسة البوليس، وخرجوا متظاهرين أمام قصر السلطان ودور السفارات. أما ثورة الأزهر الشريف فقد اشتدت لدرجة أن السلطة العسكرية لجأت إلى مخاطبة شيخ الأزهر في أمر إغلاقه نهائيًّا أو الاكتفاء بإغلاقه في غير أوقات الصلاة. وقد أبى شيخ الأزهر أن يفعل ذلك، وقال: إن الله ينهَى المسلم عن إغلاق مساجد الله.
ولم يكن أمام اللورد اللنبي إلا أن يلعب بالورقة الأخيرة، فطلب من السلطان فؤاد أن يصدر منشورًا ينصح فيه الأهالي بالخلود إلى السكنية، وقد فعل ذلك، وصدر المنشور السلطاني الذي نشر في الوقائع المصرية الصادر يوم الأحد ٦ أبريل ١٩١٩.
ولكن هذه المحاولة لم تجد نفعًا، فقد ظلت الثورة قائمة ومشتعلة وبعد أن رأى اللورد اللنبي أنه قد جرب كل وسيلة بلا جدوى، قرر أن يلجأ إلى الحل الذي طلبه المصريون. فقد استعرض الحوادث التي شبت خلال هذا الشهر، ورأى أن اعتقال سعد ورفاقه قد أثار أحداثًا خطيرة، وأنه قد هبت على إثر ذلك أعظم ثورة في تاريخ مصر. ورأى أيضًا أن زوجي علي باشا شعراوي باعتباره وكيل الوفد قد عالج هو وزملاؤه من رجال الوفد هذه المواقف بشجاعة مذهلة. وأنهم رغم تعرضهم لقسوة الإنجليز، فإنهم قد مضوا في طريقهم مثابرين، ضاربين أروع الأمثال في شجاعتهم ووطنيتهم وتفانيهم في خدمة البلاد والثبات على المبدأ.
وإزاء ذلك كله، أصدر اللورد اللنبي إعلانًا بأن الحكومة البريطانية قد سمحت لأعضاء الوفد المصري بالسفر.
وكان هذا الإعلان تغيرًا في السياسة الإنجليزية بعد أن وجدت إنجلترا أنه لا سبيل إلى الاستمرار في تلك السياسة التي نتج عنها قيام الثورة الخطيرة في البلاد.
وكان أن عدلت عنها، وأفرجت عن سعد ورفاقه يوم ٧ أبريل ١٩١٩، ورتبت سفر باقي أعضاء الوفد المصري؛ بحيث يلتقون مع سعد زغلول باشا ورفاقه في المركب التي تحملهم إلى باريس.
وقد ابتهجت الأمة ابتهاجًا شديدًا بهذا النصر السياسي، وعمتها نشوة الفرح، وقامت مظاهرات الابتهاج بدلًا من مظاهرات الغضب والثورة. ورغم كثرة المظاهرات في جميع أنحاء البلاد، فقد انعدمت حوادث السرقة والشغب. واشترك في هذه المظاهرات كبار القوم وصغارهم، وكلهم مستبشر بما أحرزته البلاد من فوز نتيجة الوحدة والائتلاف.
وبعد الإفراج عن الزعماء المنفيين وانضمام الأعضاء الآخرين إليهم، ذهبوا جميعًا إلى باريس للاشتراك في مؤتمر السلام، وقدموا إليه طلبًا فرفض طلبهم، وقوبلوا استقبالًا غير مشجع، حتى إن رئيس الوفد سعد زغلول باشا — رغبة منه في توطيد العلاقة بينه وبين الوفود المشتركة في المؤتمر — زار مقر كل وفد وترك بطاقة تحية باسمه، فلم يفكر أحد في رد هذه المجاملة فيما عدا رئيس حكومة بريطانيا.
ورغم هذا التجاهل، قدم الوفد المصري إلى المؤتمر مذكرة بعدالة مطالب مصر. ومن ناحية أخرى، فإنه ردًّا على هذا التجاهل، نهج الوفد سبيلًا آخر هو نشر الدعاية للقضية عن طريق الصحف والرأي العام، وقد استطاع أن يقوم بدور في هذا المجال، رغم أن الصحافة الفرنسية كانت خاضعة لأوامر الحكومة الفرنسية التي كانت بدورها واقعة تحت ضغط الحكومة البريطانية، وقد تمكن الوفد من القيام بدعاية واسعة النطاق كان من أثرها إلمام الأوساط السياسية والرأي العام بقضية مصر.
ومن المعروف أن وزارة حسين باشا رشدي كانت قد استقالت بسبب عدم السماح للوفد بالسفر لعرض القضية المصرية على مؤتمر الصلح، وقد ظلت البلاد بلا وزارة طوال هذه الفترة، فلما سمحت السلطات البريطانية للوفد بالسفر وسافر فعلًا، عادت وزارة رشدي باشا إلى الحكم في ٩ أبريل ١٩١٩، ولكنها لم تستطع الاستمرار في الحكم طويلًا لعدم تمكنها من التوفيق بين مطالب المصريين وبين إرادة السلطات البريطانية وكان أن استقالت، وأعقبتها وزارة محمد سعيد باشا الذي صرح للصحف غداة تأليف الوزارة بأن وزارته لا تبت في شيء له مساس بمركز مصر السياسي، وأنها ليست لها صفة سياسية؛ لأن المسألة لم يبت فيها بعد في مؤتمر الصلح.
وقد استطاع سعيد باشا في مدة رئاسته للوزارة، أن يخفف بعض الأحكام الصارمة فرفع شيئًا من الضغط عن الصحافة والخطابة. ولكن الناس كانوا يسيئون الظن بنياته؛ لأنهم كانوا يعرفون جفاءه لسعد باشا ووفاقه مع اللورد اللنبي، فأوجسوا منه خيفة، وثار بعضهم عليه، ورماه أحدهم بقنبلة لم تصبه.
على أن الوفاق بين سعيد باشا واللورد اللنبي لم يمتد طويلًا، فقد اختلفا في مسألة لجنة ملنر والغرض من قدومها، فقد كان اللورد اللنبي باختصار يرى أن امتعاض المصريين من قدوم لجنة ملنر سبب كاف لتعجيل قدومها بينما كان رئيس الوزارة يرى ألا تحضر اللجنة قبل الفراغ من حل القضية المصرية بين الدولة العثمانية والدولة البريطانية، وقد أدى هذا الخلاف إلى استقالة سعيد باشا من رئاسة الوزارة.
وفي ٢١ نوفمبر ١٩١٩، قبل يوسف باشا وهبة تشكيل الوزارة، ونهج منهاج سلفه على أن تكون وزارته إدارية، واتخذ خطة الحياة بالنسبة للجنة ملنر المقبلة.
وقد وصلت لجنة ملنر إلى القاهرة يوم ٧ ديسمبر ١٩١٩ في جو مشحون بالكراهية وسوء الظن من جميع المصريين الذين كانوا على إيمان واقتناع كاملين بأن هذه اللجنة تهدف إلى احتواء مصر ضمن المستعمرات البريطانية، لا سيما أن وظيفة رئيس اللجنة لورد ملنر هي «وزير مستعمرات». وهذا وحده كفيل بأن يوحي بوجود هذه النية، فضلًا عن أن أعضاءها كلهم من المستعمرين، ورغم أن اللجنة أصدرت بيانًا تطمئن فيه الأمة إلى حسن نواياها وإلى رغبتها في التعاون للتوفيق بين أماني الأمة وبين المصالح الخاصة لبريطانيا، فإنها قد تطوعت من الوفد ومن البلاد كافة، ولم يعد أمامه مناص من السفر بعد مدة لم تطل.
علمنا أن صاحب المعالي يوسف وهبة باشا قد قبل، في الظروف القاسية العصبية التي تجتازها الأمة، أن يقوم بتشكيل الوزارة بعد البلاغ الرسمي الأخير الذي تضمن تمسك الإنجليز بالحماية على مصر؛ وحيث إنه لا يمكن تفسير هذا القبول إلا بقبول الحماية والعمل تحت لوائها ومعاونة لجنة ملنر في تقرير مصير البلاد.
وحيث إنه يخشى أن يعتبر الإنجليز الذين يسعون جهدهم لتشويه حركتنا الوطنية ووحدتنا القومية قبول الرجل لهذا المنصب بمنزلة إرضاء أقباط مصر أو فريق منهم عن وزارته أو عن سياسة هذه الوزارة أو أي سياسة لا ترمي إلى إنالة مصر استقلالها التام.
وحيث إن وهبة باشا لم يمثل في وقت من الأوقات أماني الأقباط ولم يشترك معهم في شعورهم القومي أيًّا كان نوعه.
وحيث إنه لا فرق بين مسلم وقبطي بل المصريون كلهم شخص واحد، ولكن الأقباط يرون أنفسهم مضطرين إلى أن يتقدموا بصفتهم أقباطًا لإظهار شعورهم حيال هذا الحادث.
لذلك هم يلعنون براءتهم من كل رجل أو هيئة تقبل الحماية أو تساعد على تعضيدها.
فلكل هذه الأسباب يعلن الموقعون على هذا اشتراكهم مع سائر طبقات الأمة المصرية في الاحتجاج على تشكيل الوزارة الجديدة.
وقد وقع هذا البيان من رجال الدين المسيحي: القمص باسيليوس إبراهيم وكيل البطريركية، والقمص بطرس عوض الله رئيس الكنيسة البطريركية، والقمص سيداروس غالي نائب رئيس المجلس العام وعضو المجلس الروحي، والقمص سلامة منصور رئيس المجلس الأعلى الملي الفرعي، والقمص مرقص سرجيوس، والقمص عبد المسيح ميخائيل رئيس كنيسة الفجالة.
ومن قادة الرأي وأعضاء الوفد: سينوت بك حنا، ويصا بك واصف، فهمي بك حنا ويصا، أمين بك خياط، شكري بك بطرس، سامي أخنوخ فانوس، إبراهيم تكلا، وليم مكرم عبيد، راغب إسكندر، عزيز مشرقي، الدكتور إبراهيم فهمي المنياوي باشا، الدكتور نجيب إسكندر باشا.
وإلى جانب ذلك، فقد عقد اجتماع كبير في الكنيسة المرقصية الكبرى برئاسة القمص باسيلوس وكيل البطريركية … وقد تناوب فيه الخطباء محتجين على قبول وهبة باشا تشكيل الوزارة، ومعبرين عن تضامنهم مع إخوانهم المسلمين. وقد أرسل المجتمعون برقية إلى وهبة باشا محتجين على قبوله الوزارة، «إذ هو قبول للحماية ولمناقشة لجنة ملنر، وهذا يخالف ما أجمعت عليه الأمة المصرية من طلب الاستقلال التام ومقاطعة اللجنة».
وفي صباح يوم الاثنين ١٥ ديسمبر ١٩١٩، نشرت الصحف نبأ محاولة اغتيال رئيس الوزراء؛ حيث قام بهذه المحاولة شاب وطني من أقباط مصر يدعى «عريان أفندي يوسف» بمدرسة الطب، بإطلاق أربع رصاصات من مسدس بيده على سيارة رئيس الوزراء في ميدان سوارس، وقد تحطم زجاج السيارة، ونجا رئيس الوزراء.
لجنة الوفد للسيدات
كنت قد سافرت إلى مدينة الأقصر خلال تلك الفترة التي تم فيها تشكيل لجنة الوفد المركزية للسيدات. وقد تم كل شيء وأنا بعيدة عن القاهرة، إلى أن وصلتني رسالة من السيدة أستر فهمي ويصا، تخبرني فيها بأن السيدات قد اجتمعن في الكنيسة المرقصية الكبرى يوم الخميس ٨ يناير ١٩٢٠. وقد نجحت عملية الانتخاب نجاحًا باهرًا، وأسفرت النتيجة عن انتخاب السيدات: حرم شعراوي باشا (١٣٩ صوتًا)، حرم فهمي بك (١٠٢ صوت)، حرم عمر باشا سلطان (١٠٠ صوت)، حرم رياض باشا (٩٨ صوتًا)، حرم حجازي بك (٧٥ صوتًا)، الآنسة فكرية حسني (٦٨ صوتًا)، حرم أحمد بك أبو أصبح (٦٥ صوتًا)، حرم مقاري بك (٦٣ صوتًا)، حرم علوي باشا (٥٢ صوتًا)، حرم رفيق بك فتحي (٥٠ صوتًا)، حرم مجيب بك فتحي (٥٠ صوتًا)، حرم تكلا باشا (٣٨ صوتًا)، حرم الدكتور أحمد عزت (٣٨ صوتًا)، حرم أحمد أفندي شاكر (٣٣ صوتًا)، حرم ويصا واصف أفندي (٢٣ صوتًا).
وقالت السيدة أستر فهمي ويصا في رسالتها: «ويغلب على ظني أن أغلبية تلك السيدات مناسبة، ومرسل لك الاحتجاج من نسختين للتوقيع عليهما بصفتك الرئيسة وردهما بالتالي … ونرجو أن يصلا برجوع البريد للأهمية.»
وقد نص قانون لجنة الوفد المركزية للسيدات المصريات على أن «مهمة هذه اللجنة مساعدة اللجنة المركزية للوفد المصري في تبليغ الوفد المصري أماني السيدات المصريات والسعي بكل ما يمكنها (أي لجنة السيدات) لاستمرار المطالبة باستقلال مصر استقلالًا تامًّا … وأن تقوم هذه اللجنة ما دام العمل الذي انتدب الوفد لأجله قائمًا … وتصدر القرارات بأغلبية الآراء، وإذا تساوت يرجح رأي الفريق الذي فيه الرئيسة».
ولم يكد يعلن عن قيام لجنة الوفد المركزية للسيدات، حتى انهالت علينا التوكيلات الصادرة من المواطنات في القاهرة والأقاليم، مؤكدة أن «للجنة المذكورة أن تمثل أمام جميع الهيئات». كما تلقيت رسالة من السيدة حرم عبد السلام فهمي جمعة باشا رئيسة اتحاد ترقي المرأة المصرية بطنطا، تقول فيها: «ولما كان مفروضًا على كل مصرية أن تؤدي الواجب نحو بلادها، رأينا أن نكاتب حضرتكم لتتكرموا بإرسال صورة من التوكيل المعطى للجنة للتوقيع عليه من السيدات هنا حتى تكون الفائدة أعم والصوت أقوى.»
أيها السادة …
قررت مصر نهائيًّا ألا تفاوض لجنتكم الموقرة ما دامت تشتمل على أن تكون مصر تحت الحماية البريطانية.
ومع هذا فإننا نستحسن أن نعطيهم فكرة عن الحالة الحاضرة في مصر كما هي في الواقع، وكثير من الناس قد أبوا رأيهم في أسباب هذه الحركة، وبعضهم قد أصاب قليلًا، ولكن معظمهم كانوا بعيدين عن الصواب.
الحركة المصرية حركة وطنية محضة، خالية من كل صبغة دينية أو تأثير تركي، ولا دخل للبلشفية فيها مطلقًا، وليست نتيجة حالة الغلاء الحاضر كما ذكر بعضهم.
والمسألة المصرية وطنية محضة … ويمكننا أن نقول إن ثورة اليوم هي نتيجة سوء الإدارة في مصر، وحقيقة لا يمكننا أن نقول: إن سوء الإدارة هو السبب المباشر في إحداث هذه الثورة، ولكن لا يمكننا أن ننكر أن سوء الإدارة قد أيقظ الصفات الكامنة في المصريين.
إن نار الوطنية الحقيقية التي تزكيها المدنية الصحيحة، وإن أخمدتها الفتوحات المتعددة والمدنيات المظلمة، إلا أنها كامنة على الدوام، وقد ساعد على اشتعالها ثانية النفوذ الإنكليزي ومدنية القرن العشرين، وقد قدم سوء الإدارة البريطانية الوقود من جديد لاشتعال هذه الروح في قلوب المصريين.
تفخر إنجلترا بأنها حكمت مصر حكمًا صالحًا في الماضي، ونحن نشكرها على ذلك. ولعظمة إنجلترا شأن كبير في ذلك النجاح رغمًا عما يقوله اللورد ملنر من أنه لا يوجد شيء اسمه عظمة، فلم تكن العظمة المشار إليها عظمة القوة العسكرية التي حفظت خضوع المصريين وهدوءهم في مدة الحكم البريطاني، فإن المصريين لا يخافون المدافع، ولكنها العظمة الناتجة من حسن سمعة إنجلترا.
ولا بد أن إنجلترا قد حضرت إلى مصر لذلك الغرض الوحيد، وهو تأييد مصالحها التجارية وتمهيد الطريق إلى الضم النهائي. فطمع إنجلترا هو ضم مصر، ولكن خوف الاصطدام مع مصالح الدول الأخرى هو الذي جعلها تدعي خلاف ذلك. فلذلك أعلنت إنجلترا أنها دخلت البلاد لأسباب غير حقيقية. وعلى ذلك نكون قد سرقنا في ظلام الليل في الوقت المناسب الذي أمكن إنجلترا فيه أن تفاوض الدول الأخرى على ضحايا مماثلة … فإذا كانت إنجلترا تنظر للأشياء على حقيقتها، فإننا لا نزال نرجو أنها لا تدور على روح الشهامة والرجولة فتقبل هذا المركز البغيض.
ومصر من الجهة الأخرى كانت تعيش على وهم أن إنجلترا صادقة، وقد اعتمدت على كلمات الشرف التي صدرت منها ولم تشك لحظة واحدة فيها … وقد قدمت لها كل أنواع المساعدة، فقدمت إلى جيش فلسطين ما يحتاجه من رجال وحيوان ومحصولات، وأصبحت مركزًا حربيًّا للجيوش البريطانية في الشرق. وكل مصري بسلامة نية وباطمئنان عول على شرف إنجلترا وعدالتها، ولكن ظهر بعد ذلك للأسف وبعد فوات الفرصة أنه بمساعدة القائمين في وجه الاستعمار الألماني قد وقعت مصر في أنياب استعمار أعظم وهو استعمال الدولة التي أسرفت مصر في الثقة بها والميل إليها.
فهل تعجبون أيها السادة أن تحتج مصر على ذلك، وهل تعجبون أن يداخلها الريب والشك، وهل لا تكون محقة إذا صممت على عدم المفاوضة معكم؟ إن مبادئكم الإنجليزية تقدم الجواب على هذه الأسئلة.
فبالإضافة عن الأمهات والأخوات والبنات المصريات، نخبركم أن هناك واحدًا من أمرين لحل المسألة المصرية. فإنجلترا إما أن تحافظ على سمعتها وشرفها فتكسب احترامنا وصداقتنا، وبعبارة أخرى تقوم بتنفيذ وعودها التي أمضت عليها فتقرر في الحال محو الحماية وإبطالها وتعلن استقلال مصر. فإن فعلت ذلك كانت الصديقة لنا والمحسنة إلينا … وكانت كل شيء في نظرنا لا يناقض استقلالنا، فسيكون لها المساعدة العظيمة في تقدم مصر الأدبي حتى يصل أبناء الفراعنة إلى درجات الرقي التي كان فيها أجدادهم. ألا نستحق هذه التجربة.
أما الحل الثاني لهذه المسألة، وهو حل سيئ، هو أن يحمل إنجلترا الطمع وحب المكسب المادي فتسحق شعور نفسها بالشرف والواجب، وتستولي على مصر بالتدريج وبالقوة، فإذا تظلم المصريون قابلتهم بنار البنادق كما حصل … إن لإنجلترا قوة كافية من الجيش والأسطول والطيارات، ولكننا سنحتج ونتظلم وسنحارب بلا سلاح حتى تروى أرض أبنائنا بدمائنا، فنموت موتة السعداء.
وإن تاريخنا في زمن الرومان وما بعده يؤيد ما سبق من العبارات. لا تنسوا أيها السادة المحترمون المئة ألف شهيد في زمن ديوكليشن … ونرجو لكم أن تنظروا إلى المصريين في ذلك العهد بأنهم هم آباء المصريين الحاليين والدم فيهم واحد.
وإننا نستميح العذر في الكلام بهذه الصراحة، فإن الأولى يكون الإنسان صريحًا لا سيما في زمن سئمت فيه الدنيا من طريقة المحاولات القديمة، وبعد هذه الحرب العظيمة لا يمكن لشيء أن يبقى سوى الحرية والعدل والصدق. سترفع الفضيلة رأسها على مر الزمن، ويخيل لنا أن إنجلترا ستكون أكبر العاملين على ذلك.