الفصل العشرون
بعد ذلك اللقاء العاصف بيني وبين سعد باشا زغلول تركني وتوجه إلى الغرفة الأخرى، لمقابلة أعضاء لجنتنا ولم يدم هذا اللقاء إلا دقائق قليلة؛ حيث أخبروني بأن السيدات قد خرجن من الغرفة ويردن الانصراف، وأن سعد باشا قد غادر المكان، وخرجت مع صفية هانم من الصالون فوجدت زميلاتي يرددن في حالة من التوتر والارتباك: «هيا بنا. مصر لها رب.»
وبعد أن سلمنا على صفية هانم وخرجنا وركبنا عرباتنا، ركبت معي مدام ويصا خياط وسيدة ثالثة لا أتذكر من هي الآن، فسألتهن عما دار بينهن وبين سعد باشا بخصوص الموضوع الذي جئنا من أجله، فأخبرنني أن سعد باشا قد دخل عليهن وهو يقول: «هل أعطيتن رشوة حتى تأتين لطلب مثل ذلك الطلب؟» فقلن له: «نحن لا نرتشي، ولو كان ذلك ما وقفنا هذا الموقف.» فقال لنا: «من هو ذا عدلي؟ الأمة كلها معي.» فردت عليه مدام خياط قائلة: «إذا كان في الأمة واحد يخالفك الرأي، فالأمة إذن ليست بالإجماع معك.» فغضب واحتد عليهن وعاد يقول: «لا بد أنهم أعطوك رشوة.» فقامت السيدات محتدات، وأرسلن إليَّ لكي أخرج. ورجعنا بعد ذلك إلى منزلي. وبقينا نفكر فيما نفعل مجتمعات لدرء هذا العمل المخزي، وكان التليفون يدق بين الحين والآخر؛ حيث يسأل الطلبة وبعض الأعيان عن نتيجة مقابلتنا لسعد، بعد أن سمعوا أن وفد السيدات قد توجه إليه ليطلب منه أن يحسن مقابلة عدلي باشا، ويستفسرون عما إذا كان هذا صحيحًا، وماذا تم في الأمر.
وهنا، لا بد أن أعترف بأننا قد أخطأنا خطأ كبيرًا عندما تسترنا على هذا الخبر ونفينا صحته، وأعتقد أننا لو كنا قد أخبرناهم بالحقيقة، لعرف الناس نية سعد باشا ولانفض من حوله كثيرون.
وقد وصل عدلي باشا في اليوم الثاني لهذا اللقاء بعد أن قام بواجبه نحو بلاده، ولكن للأسف لم يقدر الشعب المصري جهود رجاله المخلصين. وقام سعد يرمي عدلي بالخيانة، فكتبت إليه خطابًا أرجوه فيه عدم استعمال الكلمات الجارحة في انتقاده، لا سيما أن عدلي لم يسئ إليه بقول أو بإشارة في خطاباته. فوعدني أنه سيلطف من حدته لإرضائي. ولكن للأسف وجدته غير قادر على كبح جماح نفسه في مهاجمة عدلي بمختلف الطرق المبتكرة المنظمة، ثم أرسل لي يقول: «لقد تبعت مشورتك، ولعل كلامي قد أعجبك.» ففهمت أنه يتهكم عليَّ، ولم أرد عليه.
وقد بقي هذا الصراع بعد ذلك بين سعد وعدلي وثروت وأصحابهم، حتى انتهت المسألة بنفي سعد باشا إلى سيشل، فحرك فينا هذا التصرف شعور الثورة بعد أن كنا نستهجن خطة سعد وأصحابه وتهريج أتباعه، فقمنا نحتج على نفيه ونطالب بإعادته لبلاده، وعقدنا الاجتماعات تلو الاجتماعات، بعضها في منزل أحمد بك أبو إصبع وبعضها الآخر عندي. وقد أقسمنا على أن نقاطع الإنجليز والتجارة الإنجليزية. وكان أعضاء الوفد من الرجال قد قرروا أيضًا القيام بمثل هذه المقاطعة، ولكنهم تلقوا تهديدًا بالنفي فلم يجرءوا على تنفيذها، واكتفوا بأن أرسلوا إلينا يوم اجتماعنا خطاب شكر وتشجيع.
كذلك فقد فكرنا ذات يوم من الأيام في إرسال نجدة لخلاص سعد باشا وإعادته إلى مصر، وبحثنا الموضوع والأساليب التي تؤدي لنجاحه، ولو ترتب على ذلك نفينا نحن أيضًا، وقد وجدنا أن الطريق بعيد والمسالك وعرة، فضلًا عن أننا لم نتعود القيام بمثل هذا العمل الخطر، فقررنا الاكتفاء مؤقتًا بالدعاية لمقاطعة البضائع الإنجليزية وإنماء روح الثورة في نفوس المصريين، وصرنا نعقد الاجتماعات المتوالية في منزل سعد وفي منزلنا، ونحرص على مواساة زوجته المسكينة في هذه المحنة.
الثورة والاحتجاج
ولقد كان الإنجليز في تلك الأثناء قد وجهوا إلى سعد باشا زغلول إنذارًا بالكف عن العمل في السياسة، وبالبقاء في بلدته بعيدًا عن كل نشاط سياسي. وقد رد سعد باشا على الماريشال اللنبي برسالة مقتضبة قوية الحجة قال فيها: «لقد اختارتني الأمة للمطالبة باستقلالها، ولا أعترف لغير الأمة بسلطة إعفائي من هذه المهمة، وللقوة أن تصنع بي ما تشاء.»
وفي الساعة الثامنة والنصف من صباح يوم الجمعة ٢٣ ديسمبر ١٩٢١، اقتحمت فصيلة من الجنود الإنجليز بيت الأمة، واعتقلت سعدًا، وذهبت به إلى جزيرة سيشل التي اختارها الإنجليز منفى له …
ولم تكد هذه الأخبار تعرف وتنتشر، حتى نشبت الثورة واندلعت نيرانها في القاهرة، وتأججت منتقلة إلى الوجه البحري والوجه القبلي إلى أن عمت مصر كلها.
وقد سار الشعب رحلة شديدة المراس في جهاده ضد الإنجليز وكان جهادا مليئًا بأعمال البطولة، وجدير بالذكر أنه على إثر قيام الثورة، اتحدت الصفوف من جديد، وزالت الخلافات الحزبية، وأصبح المصريون جميعهم رجلًا واحدًا في الكفاح والجهاد.
ولقد كانت المظاهرات الصاخبة تجتاح كل نواحي القاهرة وتحتشد في الشوارع والميادين، وكانت هذه المظاهرات تواجه بأزيز رصاص الجنود البريطانيين ووقع حوافر فرسان الجيش الإنجليزي وعلى ظهورها الضباط والجنود وقد لمعت سيوفهم في محاولة لإخماد ثورة الشعب، فلا يجدون من المتظاهرين إلا كل أنواع البطولة والبسالة، رغم العشرات الذين كانوا يهوون تحت سنابك الخيل أو يسقطون قتلى بالرصاص.
إذا كنت يا صاحب الفخامة تعتقد في نفسك القدرة على خنق صوت الأمة المصرية بإبعاد الرجل الذي عهدت إليه بأن يتكلم باسمها، فارجع عن هذا الاعتقاد أيضًا، إذ إن القوة تفنى والحق يبقى! … وسوف نواصل احتجاجنا بلا انقطاع على التدابير الجائرة الظالمة التي تتخذها فخامتك ضدنا، وهي تدابير لن تؤدي إلا إلى إثارة غضب الشعب وغضب الله! …
خطاب مفتوح
ولقد حرصت لجنة الوفد المركزية للسيدات المصريات أن تكون في قلب الأحداث في هذه الفترة الحاسمة من تاريخ مصر، وكانت تتابع كل التطورات السياسية وتعبر عن رأيها في المواقف والأحداث دون أن يعنيها الأشخاص.
حضرة صاحب الدولة عدلي يكن باشا …
إننا نربأ بموقفك الحاضر أن يحوم شك حول استقالتكم لعدم ظهورها للآن ليطلع عليها الشعب التائق لمعرفة صيغتها بعد أن قمت بالواجب عليك لبلادك برفضك مشروع كيرزون ووقوفك موقفًا شريفًا.
تعلم دولتكم أننا في أحرج موقف تمر به بلادنا، وأن من مصلحة هذا البلد المغلوب على أمره أن تؤدوا واجبكم للنهاية بنشر عريضة استقالتكم حالًا حتى لا يسبب موقفكم الغامض طمع بعض من تسول له نفسه الدنيئة إذا صح أن بمصر خائنًا يقبل أن يكون آلة تسخره إنجلترا لتنفيذ حكم الموت على بلاد نشأ فيها وغذاه نباتها ورواه نيلها، ونحن نطالب دولتكم بذلك لظننا أن وطنيتكم لا تقف أمامها قوة في سبيل تأدية واجب عليكم لوطنكم.
لقد أدى عدلي باشا الواجب عليه برفضه مشروع كيرزون وتقديم استقالته وإن كانت لم تظهر صيغتها للآن. غير أننا نسمع أن وزارة ستشكل، وأننا إزاء ذلك لنقف مندهشين لا نكاد نصدق أن يوجد مصري تسمح له وطنيته أن يقبل الوزارة في أحرج وقت تمر به بلادنا المغلوبة على أمرها، إذا صح أن بمصر خائنًا يقبل أن يكون آلة تسخره إنجلترا لتنفيذ حكم الموت على بلاده التي نشأ فيها وغذاه نباتها ورواه نيلها، بعد أن ظهرت نيات إنجلترا الاستعمارية في مشروع كيرزون ومذكرة اللورد اللنبي، وبعد أن ظهر ظهور الشمس أن إنجلترا تريد أن تكون الوزارة المصرية عونًا لها على تنفيذ سياستها وقتل روح الوطنية ومحو كل مقاومة لاستعبادنا بالقوة الغاشمة … فهل يرضى مصري بهذه الوصمة؟ إننا لا نصدق ذلك، والأمة والتاريخ له بالمرصاد.
لقد انتهت المفاوضات الرسمية بين الحكومة المصرية والحكومة الإنجليزية ونشرت بالجرائد ليطلع عليها الشعب المصري والشعب الإنجليزي في آن واحد، فشهد الشعبان معًا بل شهد العالم أجمع استعداد الأمة المصرية لعقد تحالف يضمن استقلال مصر ومصالح إنجلترا وباقي الدول فيها، كما شهد سوء نية الحكومة الإنجليزية وعدم رغبتها في الوصول إلى حل معقول بين الأمتين.
يهددنا اللورد اللنبي بالنيابة عن حكومته بالالتجاء إلى استعمال القوة والبطش إذا نحن لم نوقع صكًّا بعبوديتنا الدائمة بأيدينا، ويذكرنا بما لإنجلترا من الفضل علينا وبما نحن مدينون لها به بما قدمته لنا من مساعدات وخدمات … نحن نعذر اللورد اللنبي لأننا نعتقد أنه لم يتمكن في المدة الوجيزة التي قضاها بيننا وفي ظروف استثنائية من درس أخلاقنا وقوميتنا، وإن كنا لا نظنه على جهل تام من معرفة تاريخنا المجيد. وكذلك نعذر الحكومة الإنجليزية الحالية؛ لأنها استعمارية وقد أعمتها مطامعها عن النظر إلى الحقائق وتقدير العواقب. ولكننا لا نجد عذرًا ننتحله للأمة الإنجليزية بل وللأمم المتمدينة الأخرى إذا كانت هي أيضًا تنظر بعيني اللورد اللنبي وحكومته، ولم تحسب حسابًا للانقلاب الذي سيحدث في نفوس المصريين من قرب اليأس إلى قلوبهم، ولم تستدرك الأمر. إذا كان للإنجليزي فضل علينا، فذلك الفضل راجع إلى اللورد كيرزون الذي أدى إلينا بصراحة مشروعه خدمة لا تقدر، إذ كشف لنا النقاب عن نوايا إنجلترا الاستعمارية، وأوقفنا على درجة مهارة حكومتها من السياسة والحذق.
فليعلم اللورد اللنبي ولتعلم حكومته أنه إذا كان كما يقول من صالح المصريين أن يعيشوا على وفاق تام مع الدولة الإنجليزية، فما من مصري يجهل أنه من صالح إنجلترا أكثر أن تحافظ هي على صداقة الأمة المصرية لها وحسن ثقتها بها، وأنه لا يمكننا أن نتجاهل ولا نقدر ما يهدد مصر بل والدول الأخرى من الخطر العظيم إذا نحن قبلنا المشروع المعروض علينا. أما تهديدات الحكومة الإنجليزية ذاتها فلا ترهبنا ولا تزعجنا، بل تزيدنا ثباتًّا وعزمًا واتحادًا على المثابرة في العمل لنجاح قضيتنا العادلة؛ لأننا نعلم أن سياسة الإرهاب والقوة قصيرة العمر خطيرة العاقبة على المستند عليها، خصوصًا إذا استعملت ضد أمة أثيلة في المجد تحتم عليها كرامتها أن تعيش حرة أو تموت.
يا صاحب الدولة ثروت باشا رئيس مجلس الوزراء
أتيتم في وقت كانت الأمة المصرية تعمل فيه لاسترداد حقها المغتصب، غير طالبة أي مساعدة … معتصمة بالحق، قوية باتحادها، فصرحتم بأن وزارتكم ستعمل لتحقيق أماني الأمة مسترشدة بإرادتها، فكان لهذا القول أحسن وقع في نفس الشعب الذي طالما انتظر تحقيق ذلك، ولكن مع الأسف قد أتت النتيجة مخيبة للآمال مثبطة للعزائم؛ حيث قد ظهرت أعمالكم مخالفة أقوالكم، فلما انتبه الشعب من سكرته وفطنت الأمة لنتيجة أعمالكم، قامت لإظهار شعورها وإعلان ثباتها على مبدئها، فقابلتم هذه الحركة بالعنف والقسوة وسلحتم الأخ ضد أخيه وأخرجتم القوانين الاستثنائية من قبورها لتعاقبوا بها المخلصين لبلادهم المتفانين في سبيل حريتها. وها قد امتلأت السجون بأبناء مصر الأبرياء وتخضبت الأرض بدماء شهدائها وتقرحت أعين الثكالى وتفتت أفئدة الأرامل واليتامى، فهل تعتقدون للآن بأنكم تعملون لتحقيق أماني الأمة، أم هي قوة تدفعكم إلى القيام بما لا يرضي الحق والعدل؟ فإن كان السبب الأول هو الدافع لكم، فقد ظهر أن سياسة الشدة أسوأ الطرق … ونحن سيدات مصر أمهات وزوجات وأخوات نطلب منكم منع تدخل البوليس في المظاهرات السلمية، وإلا فنعلنكم نحن معشر السيدات أننا أول من يكون في الطليعة لنتلقى حراب جنودكم فداء عن أزواجنا وأبنائنا وإخوتنا العزل من السلاح، وإن كان السبب الثاني فدعونا نقف وجهًا أمام أعينكم، وتمثل مأساة سنة ١٨٨٢ مجسمة، فتقضون على الأمة القضاء الأخير بدل أن تتمشوا على إرادتها كما تقولون.
بيان الوفد المصري
وقد أصدر الوفد المصري بيانًا بشأن الوثيقتين الجديدتين، في أول مارس ١٩٢٢.
وكان هذا البيان عبارة عن منشور تم توزيعه على جماهير المواطنين. وقد وقع البيان: حمد الباسل، ويصا واصف، علي ماهر، جورجي خياط، مرقص حنا، مراد الشريعي، علوي الجزار، علي الشمسي، واصف غالي.
ظهرت وثيقتان جديدتان ليس فيهما من جديد سوى اللين في التعبير، أما الجوهر فهو هو بعينه الذي عرفناه في مشروع لورد كيرزون وتبليغ ٣ ديسمبر ١٩٢١.
تصرح هاتان الوثيقتان أن الحماية انتهت، وأن مصر صارت دولة مستقلة ذات سيادة، ولا شك أن هذا التصريح إقرار بحق لمصر كانت تتبوأ به مكانًا لائقًا بين الأمم، لولا أن هاتين الوثيقتين ما كادتا تصرحان به حتى هدمتاه بسرعة هدمًا كاملًا؛ لأنهما تقرران أن إنجلترا تتولى حماية مصر من كل اعتداء أو تدخل أجنبي بالذات أو بالواسطة وتتولى حماية الأجانب ومصالحهم في مصر. وتزيد على هذا كله أمرًا جديدًا تقتضيه إنجلترا لنفسها وهو أنها هي التي تحمي الأقليات، وهو تدخل بين الحكومة المصرية ورعاياها الذين أجمعوا بأقليتهم وأكثريتهم على الخلاص من الحكم الأجنبي.
فالدول على هذا لا تعرف لمصر مركزًا دوليًّا غير أنها محمية بالسلطة الإنجليزية خارجًا، وهذه السلطة هي نفسها التي تحمي الأجانب والأقليات داخلًا، وليس هذا وذاك سوى الحماية قانونًا وفعلًا.
وأما القول بأن هذه المسائل مؤقتة حتى يحين وقت المفاوضات فلا يغير في الموضوع شيئًا؛ لأن التصريح بإلغاء الحماية جاء في وثيقة واحدة مقترنًا بهذه القيود، ولأن تحديد وقت المفاوضة ليس من حق مصر وحدها. ومصر التي تعاني الاحتلال المؤقت منذ أربعين سنة أعرف البلاد بالتسويات المؤقتة، على أن المفاوضات قد لا تفلح، فتبقى الضمانات التي احتفظت بها إنجلترا في يدها.
ومتى كانت الحماية الفعلية باقية على هذه الصورة، وكانت إنجلترا لا تزال تعتبر مصر كلها جزءًا من مواصلاتها الإمبراطورية وتحفظ في يدها حق تأمين هذه المواصلات بجيش إنجليزي يبقى محتلًّا للقطر المصري، فكل استقلال تعلنه إنجلترا استقلال لفظي.
أما الأحكام العرفية فتقول الوثيقتان إنها تلغى بعد الموافقة على قانون التضمينات وسريانه على جميع سكان مصر … فالإلغاء معلق على أمور لا ترجع إلى مصر وحدها، وبذلك قد تبقى الأحكام العرفية إلى زمن غير محدود، أما الوعد بإيقاف سريانها فلا يمكن الاعتماد عليه؛ لأن الإيقاف غير الإلغاء بل هو البقاء والاستعداد للظهور في كل آن. وعلى هذا فيكون تأليف البرلمان حاصلًا تحت سلطة الحماية الفعلية ومع وجود جيش الاحتلال والأحكام العرفية.
وغريب أن تطلب الحكومة البريطانية منا بعد كل هذا أن نحسن الظن بنياتها، إذ كيف يمكن أن يكون سبيل إلى حسن الظن ونحن نرى منها كل هذا الإصرار على أن تضرب على المصريين حماية رفضوها … ونرى كل هذه المبالغة في إبعاد سعد باشا ورفاقه في الوقت الذي تعرض فيه تسوية وقتية، والذي تدعي فيه أن الكلمة أصبحت لمصر.
يأسفون لأننا نرى في التدابير الاستثنائية التي اتخذت أخيرًا مساسًا بمطمحنا الأسمى … والمصريون لا يرون فيها ذلك المساس؛ لأن هذا المطمح أرفع من أن يمس. إنما يرون فيها مساسًا بكرامتهم وشرفهم القومي، ويرون فيها إخلالًا بمبادئ العدل الأولية.
حريتنا الشخصية مصادرة … وحريتنا السياسية مخنوقة، والصحافة ما بين مكممة ومعطلة لا تستطيع نشر آراء الأفراد والهيئات في الحالة الجديدة. والاجتماعات العامة محرمة … وزعيم البلاد رأس الحركة الوطنية مبعد عن الوطن … والوطنيون مهددون بالنفي والاعتقال، كل هذا ويريدون أن يقنعونا بأن ذلك في مصلحتنا.
حقًّا إن مصلحتنا ومصلحتهم تقتضيان بأن يوضع حد لهذا الهياج، ولكن ذلك الهياج ليس إلا وليد سياسة الإرهاب والخديعة التي اتبعت في طول البلاد وعرضها.
إن مصلحتنا ومصلحتهم هي في رفع الظلم الذي وقع، وإلغاء التدابير الاستثنائية التي اتخذت، وتحطيم السلاسل التي تقيد حريتنا، وإعادة سعد والمنفيين إلى بلادهم، ورد المعتقلين السياسيين إلى أهلهم.
حينذاك تطمئن النفوس ويصبح في الإمكان بحث المسألة المصرية في جو هادئ، فنقول مصر كلها:
أيها المصريون … إن السياسة البريطانية تريد أن تختبركم مرة أخرى، لقد سمعت طلباتكم ولم يبق خافيًا شيء من الحل الذي يقضي به العدل، ولكن فريقًا قليلًا منكم أطمعوها فيكم وفي ثبات عزيمتكم، فوضعت يدها في أيديهم كي يكرهوكم بالحيلة والإرهاب على قبول نظام رفضتموه من قبل.
إنهم يظنون أن جهودكم التي بذلتموها بسخاء يمكن أن تضيع عليكم، فأثبتوا لهم مرة أخرى أنهم في ظنهم هذا واهمون، وأنكم تطلبون الاستقلال ولا تقبلون ما دون الاستقلال. «فلتحيا» مصر … «وليحيا» سعد باشا.