الفصل السابع والعشرون
في شهر سبتمبر ١٩٢٤ تلقيت دعوة لحضور مؤتمر جراتز الدولي لمناقشة قضية إنسانية حيوية، وهي مشكلة الاتجار بالنساء والأطفال، وقد انعقد هذا المؤتمر لمدة ثلاثة أيام في الفترة ما بين يوم الخميس ١٨ سبتمبر إلى يوم السبت ٢٠ سبتمبر، وما زلت أحتفظ ببطاقة عضوية هذا المؤتمر التي تحمل اسم «مدام شعراوي باشا» ورقم ١٤٢.
وقد حرصت على المشاركة في هذا المؤتمر الدولي لعديد من الأسباب في مقدمتها؛ أننا منذ ذهبنا إلى مؤتمر روما الدولي وأنا حريصة على التعبير عن المرأة المصرية في المؤتمرات الدولية التي تناقش القضايا الإنسانية والاجتماعية وأوضاع المرأة، كذلك فإن قضية الاتجار بالنساء والأطفال من القضايا الحيوية، وكان قد سبق لنا أن قدمنا مذكرة إلى رئيس الوزراء يحيى باشا إبراهيم بشأن أوضاع مماثلة تتعلق بحماية كرامة المرأة وإنسانيتها … فضلًا عن الدور الذي بدأته جمعية الاتحاد النسائي المصري على هذا الطريق وما زلت سائرة فيه … وأخيرًا، فإن هناك ذكرى خاصة، وهي أن مدينة جراتز بالنمسا بالذات هي التي شهدت الساعات الأخيرة لوالدي المغفور له محمد سلطان باشا.
أتقدم بالشكر إلى مس بيكر إذ دعتني إلى ذلك المؤتمر، فبعثت بذلك عندي فكرة الاشتراك في ذلك الفعل الإنساني العظيم، وسيكون من دواعي ارتياحي التام أن يعطف المؤتمر على الاقتراحات التي أقدمها إليه، إذ يسمح لي ذلك أن أقوم بنصيبي من العمل والمعاونة في تحقيق برنامجه، إني أرى أنه يجب على المؤتمر إذا أراد أن يصل إلى غايته المنشودة أن يجتهد بادئ ذي بدء في تحقيق ذلك المشروع، وهو أن يسعى لدى الحكومات ليحملها على أن تغلق منازل البغاء في جميع بلاد العالم إغلاقًا تامًّا مطلقًا.
ولما كانت غاية الاتحاد الدولي هي استئصال الاتجار بالنساء والأطفال، وإذا كانت الجهود التي بذلت إلى الآن لم تؤد إلى النتائج المقصودة، فإني أرى وجوب القضاء على الداء من أساسه، وذلك باجتناب كل تردد في طلب إغلاق منازل البغاء العامة؛ لأن وجود هذه المنازل بطريقة تقرها الدولة أو تتسامح في إجرائها كما هو الشأن في عدة بلاد منها مصر، في رأيي، إهانة للشرف واعتداء على الفضيلة والحياء العام، إن السماح بفتح هذه المنازل تشجيع للرذيلة وإطلاق لأيدي أولئك الذين يتجرون بالنساء والأطفال.
أرادت بعض الحكومات أن تحدد المضار وأن تقلل المخاطر التي تترتب على وجود هذه المنازل، فاعتقدت بفائدة ترك رقابتها إلى البوليس، ولكن إذا كان من الواجب أن نبت في ذلك الأمر طبقًا للنتائج التي أسفر عنها ما يحدث في مصر، فإن لنا أن نعتقد أن البوليس لم يقدم الدليل على أنه يقوم دائمًا بمهمته كما يجب، أولًا لأن من يقبلون أن يكتسبوا عيشهم من استغلال ذلك العمل التعس — البغاء — أشد حذرًا وأغور دهاء من أن تضرب على يدهم أية مراقبة؛ بحيث إن رجال البوليس كثيرًا ما يتهاونون في مراقبة أولئك النسوة السافلات من جراء اشمئزازهم منهن ومقتهم لهن، فيترتب على ذلك أن رقابة البوليس لا تفي تمامًا بالغرض، وإن الخطر ليعظم إذا كان رجل البوليس يهمل أداء واجباته من الفحص والتدقيق تحقيقًا لمصلحة ما.
وإثباتًّا لما أقول أقص عليكم مثلًا واقعيًّا. انتهت النيابة المصرية من تحقيق قضية بدأت بها في العام الماضي، وقد أسفر ذلك التحقيق عن إدانة عدد كبير من المتهمين وعن وجود منازل عديدة للدعارة في مدينة القاهرة، منازل كانت تساق إليها فتيات منكورات بينهن بنات قاصرات لم يتجاوزن الستة عشر عامًا، بل وطفلات بين السابعة والتاسعة كن يسلبن من أهلهن بإغوائهن بوعود خلابة ووسائل جنائية أخرى؛ فإذا ما سجن في تلك المنازل، روقبن مراقبة صارمة تحول دون اتصالهن بعائلاتهن أو بأي شخص آخر غير مستغل لهن، فتعاني أولئك البغايا المنكودات أفظع ضروب الإنهاك دون أن يستطعن تذمرًا أو شكوى؛ بل وثبت ما هو أكثر من ذلك … ثبت أن كثيرًا من المتجرين بأولئك النسوة لم يكونوا يقنعون بالاتجار بهن في منازلهم؛ بل كانوا يبيعونهن أيضًا إلى أقرانهم في المنازل الأخرى بثمن من المال كأنهن سلعة يجوز الاتجار فيها أو تعتبر مصدرًا للكسب، وذلك دون أن يصيب الفريسة نصيب من الغنم، وثبت أيضًا أن كثيرًا من أولئك الفتيات كن يقضين نحبهن بسبب الأمراض الفتاكة وإهمال وسائل الصحة والعلاج، وأن الأطباء المكلفين بالعناية بهن يغفلون أداء مهمتهم كما يجب؛ وذلك للسبب نفسه الذي أبديته عند كلامي عن البوليس.
وكان من نكد الطالع أن أسفر التحقيق في هذه القضية أيضًا عن أن عددًا من ضباط البوليس، معظمهم من الأوروبيين، كانوا يمالئون أصحاب هذه المنازل بإهمال مراقبتها المطلوبة إهمالًا مقصودًا، مما أدى إلى استكشاف عدد عديد من الرخص سلم إلى بنات دون العاشرة، وإذ كانت هذه الرخص خلوًّا من صور حاملاتها خلافًا لما تقضي به اللوائح، فقد كانت تتداول من يد إلى أخرى دون أية رقابة أو مسئولية.
وقد ثبت أيضًا أن معظم هذه المنازل السافلة تزاول تلك الأعمال الشائنة منذ أكثر من عشرين سنة تحت بصر البوليس وسمعه.
وفي الختام لا يسعني إلا أن أبدي شكري للحكومة المصرية الحاضرة؛ لأنها اهتمت بتلك القضية، ولم تدخر وسعًا في محاكمة المتهمين الأصليين وإحالة الضباط الذين اشتركوا في تلك الفظائع وأهملوا في تطبيق القانون عمدًا على مجلس التأديب، إذ كان تصرفهم سببًا في ذيوع الدعارة في عاصمة الديار المصرية إلى درجة سريعة. لست أستطيع أن أتصور كيف أن الحكومات التي عهد إليها بالسهر على الأمن العام والأخلاق العامة؛ تسمح بوجود هذه المنازل العامة، في حين أن الأزمة الحاضرة التي نجتازها عقب فقد الملايين الكثيرة من الفتيان الذين سقطوا في ميدان الشرف أثناء الحرب الكبرى، تتطلب التشجيع على الزواج؛ لتكثير عدد السكان الذي تحول دون كثرته هذه المنازل، وإنا لنرجو أن تحتذي حكومات العالم كله ببريطانيا العظمى وسويسرا فتحظر وجود هذه المنازل.
وإني لأرجو المؤتمر أن يتناول تلك المسألة بعين الاعتبار، وأن يضعها في مقدمة المسائل، وأن يسعى السعي اللازم لدى الحكومات ليفوز بمحو تلك البؤر الخبيثة.
أما في مصر فإن وجود الامتيازات الأجنبية يحول دون تشريع يقضي بمحو هذه المنازل إذا كان أصحابها من الأجانب، ولذلك فإني أطلب إلى المؤتمر أن يتدخل لدى الحكومات صاحبات الامتياز وأن يطلب إلى الدول أن تسمح للحكومة المصرية بأن تغلق هذه المنازل.
وإني أختم كلمتي بأن أرجو المؤتمر أن يغضي عن صراحتي فيما لاحظت إذ كنت أكثر مما يجب، فإني معتمدة على الاعتقاد الجازم والنزاهة الصادقة اللتين تخالجان المؤتمر للسعي إلى غايته. لم أتردد في أن أصرح فيما صرحت، ولو أني الشرقية الوحيدة التي حظيت بالمثول في تلك الجمعية الموقرة، فأنا مصرية ومن بلد تحميها حضارتها وتدفعها عواطفها الإنسانية الجمة الفياضة دائمًا إلى أن تُعنَى بالصالح العام قبل صالحها الخاص. ولكم في ذلك المثل قناة السويس التي هي اليوم بالنسبة لمصر مصدر للشقاء. إني أعتقد أن عملًا إنسانيًّا كالذي نسعى إليه هنا هو قضية، لا تفريق فيها بين الجنس والوطن.
وقد نشرت جريدة الأخبار هذا الخطاب كاملًا بتاريخ ٢٥ سبتمبر ١٩٢٤ وقالت تعليقًا عليه: «وقد حاز خطاب السيدة الجليلة استحسانًا جمًّا، وقوطعت بالتصفيق مرارًا. وأرسلت جمعية الطلبة المصرية بباريس تلغرافًا إلى عصمتها تشكر فيه لها جهودها لخير الوطن ولمصلحة البلاد.»
لجنة المقاطعة
عدت إلى مصر دون أن أجد أي تقدم وتطور في المسألة المصرية، وبخاصة فيما يتعلق بالسودان. كان الزعماء قد انشغلوا بمسائل تتعلق بأشخاصهم دون أن يعطوا كثير اهتمام لقضايا البلاد، وكانت الجماهير قد انقسمت إلى سعديين وعدليين؛ لدرجة أن الصحافة أخذت تسخر من هذه الأوضاع، وتعبر عن مدى اهتمام المرأة بقضية السودان وتطالب الزعماء بأن يهتموا إزاء ذلك بنهضة النساء وترقية المرأة.
- (١)
الاحتجاج على الحكومة الإنجليزية بشأن تصرفها الأخير في المسألة المصرية وبالأخص مسألة السودان، وأن يبلغ هذا الاحتجاج إلى الحكومتين المصرية والإنجليزية.
- (٢) المقاطعة العامة لكل ما هو إنجليزي داخل مصر وخارجها، ومطالبة الحكومة المصرية بمشاركة الشعب في هذه المقاطعة، ويكون ذلك:
- (أ)
سحب الودائع والأموال التي لها في البنك الأهلي.
- (ب)
سحب مكتب الحكومة المعين في إنجلترا لمباشرة مشترياتها وإلحاقه أو نقله لمملكة أخرى.
- (جـ)
منع سفر العمال المصريين إلى السودان واستدعاء الموجود منهم في عمل الخزانات هناك، ومن كان منهم مرتبطًا بعقد لمدة معينة فيؤمر بالعودة عند انتهاء تلك المدة لكيلا تساعد مصر بأيدي أبنائها على إقامة تلك الخزانات التي في إتمامها خطر على مصالح مصر.
- (أ)
- (٣)
طلب الإفراج عن جميع المقبوض عليهم في السودان بسبب الحوادث السياسية الأخيرة التي لا يعاقب عليها قانون العقوبات المصري، والعمل على عدم تنفيذ الأحكام الصادرة عليهم.
- (٤)
فتح كلية الخرطوم وإعادة التدريس فيها.
- (٥)
أن تطالب حكومة مصر بحقها في إدارة السودان حتى يتم لها الاختصاص بالسلطة بكل الوسائل، والأمة مستعدة لتأييدها فيها.
- (٦)
طلب رفع الراية المصرية الحالية على جميع محلات الحكومة عسكرية كانت أو ملكية في جميع مديريات السودان.
- (٧)
تشكيل لجنة من السيدات تسمى لجنة المقاطعة، وكذلك تشكيل لجنة أخرى من الرجال، تعمل كلتاهما لتنفيذ قرارات هذه الجمعية.
تحيتي للجنس اللطيف
وحتى تبدو أبعاد الصورة واضحة في ذلك الوقت، فإنني أسجل هنا تلك التحية التي وجهها الأستاذ فكري أباظة إلى الجنس اللطيف في شخصي وقد نشرت في جريدة «السياسة» في نوفمبر ١٩٢٤.
سيدتي هدى شعراوي
أحييك ثم أهنئك: أما «التحية» فلجمالك الوطني، وجلالك القومي، وأما «التهنئة» فلأن «دولة الرجال» في عالم الجهاد قد دالت وقامت على أنقاضها «دولة النساء».
كنت خصمًا «للجنس اللطيف» لما كان الجنس اللطيف لا يفكر إلا في الأزياء الجديدة والألوان العديدة، وأما اليوم وقد تظاهر للسودان قبل أن يتظاهر الرجال، وأما اليوم وقد احتج على بلاغ السودان قبل أن يحتج الرجال، وأما اليوم وقد استأنف الجهاد بعد الفشل، والرجال غرقى في بحار الفشل … فقد حق عليَّ أن أعتذر، وقد حق عليَّ أن أستغفر وأن أتوب.
سيدتي … كان الجنس اللطيف فيما مضى مختصًّا بتدبير المنزل في الداخل، وكان علينا نحن الرجال تدبير الأمر في الخارج. أما اليوم يا سيدتي فسنعكس الموقف.
اهتمي أنت وجنسك اللطيف بالسودان وبلاغ السودان وتصريحات ماكدونالد عن السودان وتحقيقات السودان ومحاكمات السودان ومظالم السودان وسجون السودان، اتركي لنا — نحن الرجال — «تدبير المنزل»، فعلينا «الغسيل» و«العجين» و«ترضيع الأطفال» و«مسح السلالم» و«توضيب الأولاد» و«تخزين السمن». وعلى العموم سندير المنزل ونحن جلوس «على الشلت» حتى إذا عاد الجنس اللطيف من جهاده مع العدو الغاصب، قابلناه «بالزغاريد» ووجد كل شيء على أحسن حال؟!
سيدتي هدى … لا والله ما قصرنا … وإنما نحن هذه الأيام مشغولون، عندنا أمام محكمة الجنايات قضايا اللواء والسياسة والكشكول، وعندنا في دوائر الحكومات تعيينات وترقيات لأولادنا وأحبابنا وأبنائنا، وتشفيات وانتقامات ورفتيات وإحالات لأعدائنا وأشباه أعدائنا، وعندنا «النادي السعدي» نسعى في إعداده وتأثيثه قبل انعقاد البرلمان.
والنادي السعدي مشغولية كبيرة: فأودة الاستقبال القطيفة المشجرة لا نجد للآن لها «بساطًا» أو «سجادة عجمي» توافقها، وأودة «اللعب» لا يزال عليها نزال ونضال … وأودة السكرتارية ينقصها ضرب الحيطان بالزيت … والبوفيه لم ترد إليه الأصناف بعد من «اسكتلندا» و«ملقا» و«ألمانيا» … ألسنا معذورين إذا تأخرنا قليلًا في مسألة السودان وبلاغ السودان و«بلادي» السودان!
سيدتي هدى فتح «الوفد» باب الاكتتاب لضحايا السودان من نصف عام، فجمع حتى الآن مئة جنيه وكسورًا، وفتح في الوقت نفسه باب الاكتتاب «لنادي سعد» فجمع في «لحظة» لنادي سعد ثمانية عشر ألفًا من الجنيهات، ولو عملنا النسبة الحسابية لكانت النتيجة ما يأتي:
نادي سعد ١٨٠٠ جنيه.
السودان ١٠٠ جنيه.
إذن النادي أهم من السودان ١٨٠ مرة؟!
إذن لن يهتم الوفد بالسودان حتى «ينتهي» نادي سعد!
وعندما «ينتهي» نادي سعد، يكون السودان قد انتهى …
سيدتي هدى … أحييك ثم أهنئك … أما «التحية» فلجمالك الوطني، وجلالك القومي … أما «التهنئة» فلأن «دولة الرجال» في عالم الجهاد قد دالت … وقامت على أنقاضها «دولة النساء»!