الفصل الثلاثون
حل البرلمان في عهد وزارة زيوار باشا عام ١٩٢٥ بسبب المشاحنات الحزبية التي كانت قائمة بين أفراد الأمة لانشقاقها الحزبي وتباين نزعاتها وألوانها، وكانت الحكومة إذ ذاك تحت إيعاز الإنجليز تحاول هدم الوفد والأحزاب الأخرى، وتُكون حزبًا جديدًا يسمى حزب الاتحاد. في ذلك الوقت قام كبار المصريين وفي مقدمتهم الأمير عمر طوسون يدعون إلى الاتحاد، وقد سعى لذلك عند سعيد باشا، ولكنه لم يقبل المسعى نظرًا لتمسكه بفكرة أن خصومه هم الذين يجب عليهم أن يعتذروا له وأن يطلبوا الانضمام إلى الوفد …
حضرة صاحب الدولة سعد زغلول باشا
دفعني إلى أن أبعث بهذا الكتاب إلى دولتكم ما رأيته من أن حقوق البلاد سائرة في سبيل الضياع، وأن هذا إنما هو نتيجة التمادي في المشاحنات الحزبية، واعتقادي أن الحالة إذا استمرت كذلك، فإن نصيب القضية المصرية لن يكون إلا الخسران.
وإني بالرغم من الجفاء السياسي الذي بيني وبينكم، وبالرغم أيضًا من المجهودات العظيمة التي بذلت سدى في سبيل الاتحاد، لا أزال عظيمة الرجاء في أن إخلاصكم لنجاح هذه القضية يجعلكم تدوسون على كل اعتبار، توصلًا لإنقاذ البلاد من الحالة السيئة التي وصلت إليها، ولا أشك في أنكم ستقدرون حرج المركز الذي نحن فيه الآن.
لذلك عملت على أن أتشرف بمقابلتكم إذا سمحتم للتفاهم معكم فيما يجب لتدارك الخطر، فإذا رأيتم التفضل بتشريفي في منزلي، شكرت لدولتكم هذا الفضل، وإن أبيتم إلا حرماني من ذلك التفضيل، فإني مستعدة للقائكم في الزمان والمكان اللذين تحددونهما.
حضرة السيدة الجليلة هدى شعراوي
تشرفت بكتابكم الكريم، وأشعر القصد الجميل الذي دعاكم إلى كتابته، ويسرني أن أقابلكم عندي في اليوم الذي تختارونه صباحًا من الساعة العاشرة أو مساء من الساعة الخامسة. ولحضرتكم فائق احترامي.
وفي حوالي الساعة العاشرة من صباح يوم ٥ إبريل، طلبت منزل سعد باشا تليفونيًّا، فرد خادمه بغلظة: من يريد محادثة الرئيس؟ قلت: منزل شعراوي باشا. قال: ولكن من أنت؟ قلت: أبلغ الباشا ذلك وهو يفهم. قال: هو لا يعرف ولا يكلم من لا يبوح باسمه، فقولي من أنت وماذا تريدين، أو انتظري إلى أن يحضر السكرتير في الساعة العاشرة.
اللقاء العاصف
وفي حوالي الحادية عشرة كلفت سكرتيري أن يطلب سكرتير سعد باشا الخاص، وذهب ليطلب المقابلة، ثم عاد ليقول: لتتفضل السيدة، فذهبت على الفور … وعندما وصلت استقبلني الخادم على باب الحريم، وفتح لي، وكانت خادمة إفرنجية تنتظرني من جهة الباب الثانية من الداخل، فمشت أمامي إلى الصالون، وبعد أن استقر بي المقام، قالت لي بصوت مضطرب: «سيدي يعتذر لمرضه عن النزول، فإذا كنت تنوين مقابلته ولا يصعب عليك الصعود إلى الطابق الأعلى فتفضلي لمقابلته.» فقلت لها: «أستطيع الصعود … فقط أخبريه بحضوري»، فذهبت وعادت بعد قليل تدعوني للصعود … وعندما دخلت، وجدت سعد باشا جالسًا على كرسي بمسندين، ولما رآني هم قائمًا ببطء وقال: «اعذريني إذا كنت قد كلفت خاطرك وأتعبتك بالصعود للدور العلوي، ولكنني أشعر بتعب في صدري إثر النزلة الشعبية التي اعترتني في الشتاء المنصرم، كنت قد تحسنت في مينا هاوس إلا أن المرض عاودني من مدة، فلم أخرج منذ أربعة أيام تقريبًا.» فقلت له: «لا بأس عليك يا دولة الباشا.» وسألني عن صحتي وعن أولادي، فشكرته. وبعد ذلك سكت. قلت له: «يا دولة الباشا أوضحت لكم في كتابي السبب الباعث لطلبي هذه المقابلة، وبالرغم من أني لم أجد في ردكم ما يشجعني على الحضور، إلا أنني أتيت لأتبين ما إذا كنت مخطئة في ظني أو كنت محقة.» فقال: «ألم أشكرك في جوابي على القصد الجميل الذي دعاك إلى كتابته؟» قلت: «نعم. إن هذا ما تستوجبه المجاملة، ولكنه لا يفيد بأنكم توافقون على هذا المسعى.»
قال: «هذا شيء آخر يجب أن نتناقش فيه» … قلت: «قبل المناقشة، أريد أن أعرف إذا كنتم توافقون مبدئيًّا على الغرض الذي أتيت من أجله» … قال: «يجب أن نتناقش أولًا» … قلت: «الموضوع واضح، فإما أنك تشعر مثلي بأن الحالة السيئة التي نحن فيها الآن تحتم الاتحاد … وإما أنك لا تشاركني هذا الرأي، وفي هذه الحالة لا فائدة من المناقشة» … قال: «سبحان الله، كيف دون مناقشة يمكنني أن أقول شيئًا؟ من يكره الاتحاد؟ لا أحد يميل للاتحاد مثلي، ولكني أريد أن أعرف مع من سيكون هذا الاتحاد؟ وعلى أي قاعدة ولأي غرض؟» قلت: «أما السؤال الأول، فالاتحاد يكون مع خصومك، وعلى القاعدة التي تضعونها بعد التفاهم … وأما الغرض فهو واضح كالشمس … إخراج البلد من المأزق الذي هي فيه الآن بسبب الانقسام، ومنعها من السقوط في الهوة السحيقة التي ستسقط فيها إن لم تتحد الأحزاب وتعمل كلها يدًا واحدة لمقاومة عدو الجميع … العدو الخارجي.» قال: «أتريدين أن أتحد مع من هدموا الدستور؟» قلت: «ومن هدم الدستور؟ كيف يكون وراءك أربعة عشر مليونًا من الأنفس ثم يأتي زيوار باشا إلى البرلمان بمفرده ويخرجه منه ثم لماذا لم تقل له عندما طلب منك الخروج وقفل مجلس النواب ما قلته عندما طلب الإنجليز نفيك … أنا هنا بقوة الأمة ولا أخرج إلا برغبتها؟» قال متأثرًا: «لم يكن هناك وقت للتفكير» … قلت: «سبحان الله. هل في مثل هذه الظروف ينطق القلب أم العقل؟ كان يجب أن تخرج هذه الكلمة من قلبك، فالوطنية الصادقة تنطق بما يوافق الظروف.»
لماذا تحاسبينني وحدي؟
فأطرق ساكنًا ثم رفع رأسه وقال: «لماذا تؤاخذينني على كل ذنب ولا تفعلي ذلك مع غيري؟» قلت: «غيرك مسئول عن نفسه ولا تؤيده الأمة … فإذا أخطأ فلنفسه، أما أنت فتتكلم عن أربعة عشر مليونًا، فإن أخطأت، أخطأت الأمة معك … ولذلك أحاسبك على كل ما تفعل.» فقال: «ومن أنت؟ ومن تكونين حتى تعطي لنفسك هذا الحق؟» قلت: «أنا مصرية واحدة من الأربعة عشر مليونًا الذين تتكلم بلسانهم، ولذلك أجد لنفسي الحق في أن أحاسبك على ما تفعل، وفضلًا عن ذلك فإنك لا يمكنك أن تنكر من أنا، ولا ما قمت به من خدمات لوطني، ولا ما لبيتي وأسرتي من الفضل والمساهمة في هذه القضية.» قال: «هل نسيت كل ما فعلته فيَّ؟» … قلت: «ليس هذا مجال عتاب.» قال: «لا بل يجب أن نتعاتب، أتظنين أنه كان من السهل عليَّ أن أوافق على مقابلتك بعد كل ما فعلت بي؟» فأجبته على الفور: «كنت أظن أنك ستفرح وتفخر اليوم بأني نسيت كل أعمالك وأني دست على كرامتي بعد ما فعلته صحفك فيَّ، وكنت أظن أنك ستقدر وطنيتي هذه وتعرف أن ما دفعني إلى ذلك هو حبي لوطني وثقتي بأنك ركن متين في بناء النهضة، فلما رأيت كل المعاول تعمل لهدمك، جئت لأقدم لك مساعدتي ناسية كل شيء … وما دمت لم تقدر هذا كله … فنهارك سعيد.»
إذن فالمسألة شخصية
وقمت خارجة، فقام خلفي، وأمسك بيدي وقال: «أعذريني … لقد تعديت حدود اللياقة، فلا تغضبي»، وأجبرني على الدخول ثانية والجلوس واستئناف المناقشة بعد عتاب تناول بعض الموضوعات الشخصية، مثل عدم سؤالي عنه وهو مريض … فأعطيته الحق فيما هو محق فيه، وأعطيت نفسي الحق فيما لا حق له فيه، وعند استئناف الحديث قال: «من يقول إن سعدًا يكره الاتحاد؟ ألست أنا الذي بذلت كل جهدي لكي أمنع الانقسام والخلاف وأنا في أوروبا؟ ثم بعد أن عدت إلى مصر، ألم أذهب بنفسي لزيارة خصومي في بيوتهم؟ (ويقصد بذلك زوجي) واجتهدت أن ألم شعثهم.»
قلت: «هذا صحيح، ولكنك بعد ذلك قمت فورًا تنشر الانقسام، هل نسيت خطبتك التي ألقيتها في شبرا وغيرها؟ لماذا لم تترك عدلي يسافر؟ وما الذي صنعه عدلي؟ إنه لم يفرط في شيء، بل رفض مشروع كيرزون ورجع مرفوع الرأس موفور الكرامة، فهل كان يستحق المقابلة التي قوبل بها ولا سيما بعد أن أذن له الإنجليز بمبلغ ٣٠٠ جنيه شهريًّا؟» قلت: «لهذه المناسبة، هل لك أن تقول لي ما هي الخيانة التي ارتكبها ثروت حتى اقتنع بأنه خائن؟ وهل لك أن تبرز ما عندك من الأدلة على خيانته، فقد داخلني في الرجل الشك وقتًا ما لما رميته بالخيانة، وكنت أنتظر منك عند تسلمك مقاليد الحكم بعده أن تقيم الأدلة على خيانته.» قال: «نعم … كيف لم يرتكب أكبر خيانة؟ إنه انتهك حرمة منزلي في غيابي وأمر بتفتيش أشياء من زوجتي.» وهنا لم أتمكن من منع نفسي من مقاطعته قائلة: «هل هذا كل ما اقترفه ثروت؟ إذن فالمسألة شخصية لا تمس حقوق البلد في شيء … وإن كنت ترى في عمل ثروت هذا خيانته للبلد، فاسمح لي أن أخلفك في هذا التقدير»، فرد بحدة قائلًا: «لماذا تقاطعينني … دعيني أتكلم كيف ترين هذا قليلًا وقد أقدم عليه موعزًا من الإنجليز؟» قلت: «وما الذي يثبت لك ذلك؟ هل وجدت عندما وليت الحكم وتسلمت أوراق الوزارة ما يثبت هذا الظن؟» قال: مرة ثانية: «ألم تقرئي الكتاب الأبيض؟» قلت: «وماذا يقول ذلك الكتاب الأبيض؟» قال: «إذا كنت لم تقرئيه، فكيف تقولين إنك تشتغلين بالسياسة؟» قلت: «لقد قرأته، ولكن لم أجد فيه شيئًا مما تقول.» قال: «ألم تقرئي في الفقرة التي كتبت فيه لمناسبة قفل بيت الأمة والاعتداء على أشياء زوجتي بتفتيشها أن بعض رجال الدوائر الحكومية قد ارتاحوا لهذا العمل؟» قلت: «وهل هذا دليل أن ثروت كان ذلك المرتاح؟ ربما كان غيره. ولو فرضنا أنه ارتاح لهذا العمل، فله بعض العذر، فثروت ليس ملاكًا يتغاضى عن كل المساوئ ولقد أسأت إليه كثيرًا، فهو إنسان وعنده نفس، إذن فله العذر إن كان قد تشفى فيك، إن خصومك يا سعد خونة كانوا أو غير خونة، أنكرتهم أم لم تنكرهم، هم موجودون ولهم حيثية ولهم أولاد وأصهار وأنساب وأحساب وأتباع، ولهم في البلاد مصالح، وهم من كبار البلاد وذوي العقول الناضجة فيها، فلا يمكنك أن تبيدهم عن آخرهم، إذا رأيت في ذلك تطهيرًا للبلد منهم ووقاية لها من شرهم، ولكن إذا أردت ذلك، فلا يكون إلا عن طريق واحد وهو تحويل هذه العقول وتلك الهمم إلى ما فيه صالح الوطن وخيره وإزالة الخلاف الذي بينكم، وبذلك تنتفع البلد بالتفافهم حولك بدلًا من أن تخسر كما هو جار الآن من جراء انشقاقكم. ولا يمكن أن يكون هذا صعبًا عليك أنت الذي أمكنك أن تجتذب قلوب الأربعة عشر مليونًا من المصريين، تضللهم إذا شئت وتهديهم بإشارة منك». قال: «أتريدين أن أتحد مع عبد العزيز فهمي الذي قال: إن الشعب المصري غبي وجاهل؟ هل أعجبك منه هذا القول؟» قلت: «لا، أنا لم تعجبني بعض تصريحاته وما كان يليق به وهو وزير أن يتفوه بتلك التصريحات يجاهر بجهل المصري حتى ولو كان ذلك صحيحًا.» فقال بلهجة خطابية: «هل الأمة المصرية غبية؛ لأنها جاهلة؟ لا. وأنا أفضل الجاهل المخلص على المتعلم.»
قلت: «كيف تفضل الجاهل على المتعلم العاقل؟ … وهل يقود الأمم إلا نخبتها أم تقودها العامة والجهلة؟ إن الأمة التي تخضع للعامة تسودها الفوضى».
فقال: «إن الشعب الذي يقوم كما قام الشعب المصري لهو جدير بكل تبجيل، وإنه لشعب نبيل.» قلت: «نعم، ولكنه لم يقم من تلقاء نفسه … وأنت مثلي تعلم كيف هب ومن الذين ساعدوه على هذا القيام … وما هم إلا هؤلاء الرجال الذين تسميهم خصومك … وحرام يا سعد أن تحرم الأمة الانتفاع بهذه العقول النيرة وتلك الكفاءات.» قال: «ولماذا لا ينضمون إلى الوفد؟» قلت: «كيف ينضمون للوفد وليس للوفد برنامج ولهم برنامجهم؟» قال: «كيف؟ … لنا برنامج.» قلت: «وأين برنامجكم؟» قال: «ألا تعرفين أن برنامجنا هو الوصول إلى الاستقلال التام لمصر والسودان؟» قلت: «هذه غاية الجميع، وهم وضعوا لتحقيقها برنامجًا يوضح طريقة الوصول إلى ذلك الاستقلال. لذلك نريد أن تتحدوا لتتفقوا على تنفيذ هذه الوصية.»
قال: «إذن فليأتوا إليَّ ليعتذروا أولًا، ثم بعد ذلك نتباحث.» قلت: «لا يمكنني أن أطلب منهم ذلك بعد كل الشتائم والتهم التي وجهتها إليهم؛ لأن لكل واحد كرامته وعزة نفسه.» قال: «أتريدين أن أذهب أنا إليهم؟» قلت: «لا … هناك طريقة تسهل عليكم هذا الأمر، يمكنكم أن تشرفوني وتحددوا موعدًا لهذا التشريف، وأنا أدعوهم للحضور والاجتماع بكم في أي وقت تريدون، وإن كنت لا تود أن يعرف أحد أن هذا الاجتماع قد انعقد عندي أو أنني قد نلت هذا الشرف، فلك ألا يعرف أحد ذلك حتى أهل منزلي … ويمكنك أن تنسب ذلك إلى مسعى الأمير عمر طوسون باشا الذي كان له الفضل الأول في السعي لهذا الاتحاد.» قال: «لا … لا يمكنني أن أتنازل عن رأيي وهو وجوب انضمامهم إلى الوفد إذا كانوا يريدون الاتحاد» … وهنا رأيت أن لا فائدة من الإلحاح … لا سيما وقد استغرقت المقابلة أكثر من ثلاث ساعات، وقمت متأهبة للخروج، فأوصلني حتى السلم، وهناك وضع يده على كتفي وقال: «لماذا لا تشتغلين معي؟» … قلت: «لا، أنا مع الحق». فقال محتدًّا: «وهل أنا الباطل؟» فقلت: «لا أعلم.» قال: «غدًا ترين ما يحل بك!» … قلت: «أنا لا أخشى شيئًا لأنني واثقة بأنني لا أعمل لأي غرض إلا لخدمة بلادي، وإن يدك يا سعد لن تصل إليَّ ولو فرضنا أنك ستحرض عليَّ صبيان الوفد ليرموا منزلي بالحجارة أو ليقتلني أحدهم، فهذا كل ما أتمناه، وهو أقل تضحية في سبيل خدمة بلادي.»