الفصل الخامس والثلاثون
مات الزعيم سعد زغلول وأنا موجودة في رحلتي بالخارج، ولم يتح لي بالتالي أن أشارك في وداع هذا الزعيم، وإذا كانت هناك مواقف قد حدثت بيني وبينه فإن هذا لا ينتقص من قدره كأحد رجال مصر الأوفياء.
ولقد كتبت الصحف كثيرًا عن سعد باشا بعد رحيله، وعددت مواقفه ومناقبه، سواء تلك الصحف التي كانت تؤيده أو تلك التي كانت تعارضه — وأذكر أن مجلة «روز اليوسف» كتبت تحت عنوان «بين المغفور له سعد باشا وصاحب الجلالة الملك فؤاد»: تقول: لعل أبدع الحفلات التي أقيمت ابتهاجًا بعيد جلوس جلالة الملك هي الحفلات التي أقيمت أثناء حكم الوزارة السعدية، فقد اشترك فيها الشعب، وبدت العاصمة في مساء يوم عيد الجلوس كأنها شعلة من نار، وازدحمت الجماهير على جانبي الطريق الذي مر منه الموكب الملكي إلى ميدان باب الحديد؛ حيث أقامت لجنة الاحتفال سرادقًا فخمًا شرفه جلالة الملك بزيارته، ازدحمت الجماهير تحيي الركب الملكي بالتصفيق وهتافها العالي يشق عنان السماء: سعد … سعد … ويعيش الملك.
ومرت بين الجموع المتراصة سيارة جلالة الملك، وقد ركب المغفور له سعد باشا إلى يسار جلالته، ولما توسطت العربة ميدان الأوبرا، وكان الزحام هنا على أشده، والهتاف يعلو ويتجمع ثم يتدافع، التفت سعد باشا إلى جلالة الملك وقال: «إنهم يهتفون لجلالتكم.» فأجابه صاحب الجلالة على الفور وهو يبتسم: «هل أنت متأكد؟!»
وكانت حادثة السردار المشئومة، واستقالة الوزارة السعدية، وطلب السلطة البريطانية إلى سعد باشا أن يترك القاهرة ويقيم إلى حين في فندق مينا هاوس.
وزاره ذات يوم في الفندق المذكور نفر من النواب والعيان ودار الحديث حول الحادثة المشئومة ودسائس بعض رجال السراي، والشائعات التي كانت تتناقلها الأفواه في تلك الأيام العصيبة عن البرلمان والدستور والدس للدستور، ورأى سعد باشا أن الحديث يتطور، وأن بعض الألسن بدأت تتكلم بغير ما يجب، فأسكتهم قائلًا: «أنا لا أصدق أن جلالة الملك يرضى عن هذه الأفعال، أو يشجع بسكوته على الاستمرار فيها. لقد رأيت من جلالته في أكثر من مناسبة واحدة أنه حريص كل الحرص على صونه، وأن جلالته يعتبر الدستور شجرة من غرس يديه.»
وأضاف قائلًا: «وإذا كان في ظواهر الأحوال ما يدعو إلى التأمل أو يدخل على النفس شيئًا من سوء الظن، فمن الواجب ألا ينطق اللسان مع الهوى، وأخيرًا يحسن بنا أن نقول مع من قال «لعل له عذرًا وأنت تلوم!»
وزاره رحمه الله بعد ائتلاف الأحزاب الأستاذ سليمان أفندي فوزي صاحب جريدة الكشكول، وكان متهيبًا من مقابلة الفقيد العظيم، ولاحظ سعد باشا على زائره أنه مضطرب قليلًا، فقابله ببشر وحفاوة وأخذ يؤانسه حتى ذهب روعه، ثم قال له: «شوف يا سليمان أفندي … أنا رجل أقدس النقد وحرية الرأي، أنا لا أطلب من أحد أن ينظر إلى أعمالي بغير عينيه، أو يحكم عليها بغير عقله أو ينزل ضميره على غير ما يرضى. لك أن تقول في إعمالي ما تشاء، وأن تبدي فيها رأيًا سواء كان لي أو علي، ولكن الذي أبغضه وأمقته ولا أطيقه إنما هو الكذب … قل للناس إن شئت إن سعدًا رجل دجال مشعوذ، فهذا رأي وأنت حر في رأيك، ولكن لا تنشر على الناس أن سعدًا ذهب إلى دار المندوب السامي، أو أنه أرسل رسولًا إلى العميد البريطاني ليتحدث إليه في كيت وكيت من الأمور، في حين أنني لم أذهب ولم أوفد رسولًا. هذا هو السلاح الذي أنزهك وأنزه كل صحفي شريف عن الالتجاء إليه.»
محاضرة في كلية الأمريكان
سيداتي:
شرفتني السيدات الفضليات رئيسات هذه المدرسة فطلبن مني عند عودتي من أوروبا أن ألقي عليهن في هذا المعهد العلمي كلمة في الحركة النسائية، وتركن لي حق اختيار الموضوع فيها، ولكن أشغالي الكثيرة التي تراكمت عليَّ بطول غيابي لم تمكني من القيام بهذا الواجب في حينه، فأرجو قبول معذرتي … وأشكر السيدات اللاتي منحنني هذا الشرف وتلك الثقة الغالية بالرغم من أنهن وضعنني في مركز حرج، وهو الوقوف أمام سيدات أمثالكن، نلن من العلوم والمعارف وسعة الإطلاع ما لهن فيه غنى عن سماع كلمتي.
وقد توخيت أن يكون حديثي اليوم في موضوع المقارنة بين المرأة المصرية وأختها الغربية في الحركة النسائية؛ إذ إنني صرفت وقتًا طويلًا في معالجة هذا الموضوع.
سيداتي:
بالرغم من العقبات التي تعترض المرأة في سبيل رقيها من فريق المتشائمين بحركتها والمستخفين بكفاءتها، تسير المرأة في طريق نهضتها للوصول إلى تحقيق غرضها، ألا وهو إسعاد الأسرة البشرية وذلك منذ أدركت أن سعادة هذه الأسرة مرتبطة بسعادتها هي، وأن بيدها وحدها مقاليد الأمور لما لها من السلطان على الرجل في كل أدوار حياته، فهي مربيته طفلًا، وعونه زوجًا، وممرضته أيام مرضه وشيخوخته، وهي مدبرة البيت وقوام نظامه.
أيتها السيدات:
بينما الرجل يحترف حرفة واحدة، تقوم المرأة الضعيفة (كما يزعمون) بأعمال شتى تندمج فيها كثير من الوظائف الرئيسة فلها شأن كبير في التربية والتدابير الاقتصادية والصحية والسياسية، فهي تجمع في وظيفتها كل ما له اتصال بالحياة، لأجل هذا وجب عليها أن تتهيأ لهذه الوظائف، ولا يتسنى لها القيام بها إلا إذا نالت قسطًا وفيرًا من الحرية والحقوق التي تمكنها من أداء الواجب عليها.
ولما كانت الأنظمة في بلاد الغرب أكثر إجحافًا بحقوق المرأة منها في بلاد الشرق، المرأة الغربية أول من صاح بالمطالبة برفع هذا الغبن عنها، ونالها من العنف والاضطهاد بالسجن والتعذيب ما نالها حتى وصلت في بعض البلاد إلى ما تصبو إليه من المساواة بالرجل وحتى وقفت معه جنبًا إلى جنب في جميع الوظائف.
وفي بعض ولايات أمريكا اتسع المجال أمام المرأة حتى صارت تشترك مع الرجل في جميع الحرف الحرة والمراكز العمومية، وذلك بعد أن تقررت لها الحقوق السياسية كالرجل سواء بسواء، ويوجد الآن في تلك البلاد عدد عظيم من النساء أعضاء في المجالس البلدية ومجالس الأقاليم والمجالس النيابية، وفي كثير من المحاكم الابتدائية والاستئنافية عدد غير قليل منهن بين قاضية ونائبة ومحامية، كما يوجد في القارة الأوروبية كثير من الممالك التي نالت فيها المرأة مثل هذه الحقوق. وقد أظهرت المرأة في وظائف القضاء بجلدها وصبرها وحكمتها وعلمها بنفسية الأحداث مقدرة قلَّ أن تجارى فيها، فإن الإحصاءات والمشاهدات دلت على أن كثيرًا من الأحداث يثوبون إلى الرشد ويصبحون أعضاء نافعة صحيحة بفضل تأثير النصائح التي تسدى إليهم من القضاة النساء.
سيداتي:
أتظنن أن المرأة الغربية التي جاهدت لنيل حقوقها، انتهت معركتها منذ تربعها على منصة الحكم بجانب الرجل؟ كلا. إنها لم تجاهد طمعًا في المناصب الرفيعة أو حبًّا في مساواتها بالرجل فقط، بل إنها أرادت من وراء ذلك غرضًا أسمى ومقصدًا نبيلًا هو تهذيب الهيئة البشرية وتقليل الشرور فيها والسمو بها إلى الكمال، فقامت الآن تنشد السلام في العالم وتستعد لمكافحة أسباب الحرب التي هي آفة الإنسانية، وويلاتها.
ولتحقيق هذا الغرض الجليل، يجب أن تتضافر نساء العالم، ولا أخال الطبقات المتعلمة من نساء مصر يحجمن عن مد يد العون وشرف الاشتراك في تحقيق هذه الغاية السامية، وها هو ذا باب الاتحاد النسائي المصري مفتوح على مصراعيه لمن تهزه نخوة الإنسانية للاشتراك في هذه الخدمة المقدسة.
سيداتي:
حقًّا لقد أعجبت بما كانت تبذله السيدات أعضاء الاتحاد النسائي الدولي في درس هذه المسائل العظيمة الشأن في المحاضرات التي ألقيت في اجتماع أمستردام، وكم تمنيت لو أن عددًا من السيدات المصريات حضرن هذا الاجتماع ليشاهدن ما كانت تبذله المؤتمرات من الجهد في دراسة هذه المسألة الكبرى من جميع وجوهها.
أما المرأة الشرقية التي منحتها الشريعة السمحاء حقوقًا تكاد تساوي حقوق الرجل بل تفوقها في بعض المواطن، فمن الأسف أنها لم تخط خطوات تذكر. وقد يعترض على قولي هذا بأن المرأة التركية وثبت وثبة واسعة المدى في مدة وجيزة، وهذا صحيح، غير أنها لم تصل إلى ما وصلت إليه بمحض مجهوداتها، بل يظهر أن الأمة التي تريد رقيًّا كاملًا تشعر أن ذلك لا يتم إلا برقي الجنسين معًا، أدرك ذلك مصطفى كمال مؤسس تركيا الفتاة؛ فحث المرأة في بلاده على الاشتراك مع الرجل في القيام بالواجب. وبفضله ارتقت المرأة التركية، فأصبحت تركيا الحديثة بالرغم مما نزع من أملاكها وما قل من عدد أبنائها تعد في مصاف الأمم الكبيرة المتمدينة.
على أن الرغبة في إصلاح المرأة والأخذ بيدها للخروج من الهوة التي وقعت فيها، بدأت عندنا في مصر منذ خمسين سنة تقريبًا، أو منذ فتحت المدرسة السنية للبنات بفضل ومسعى الأميرة «جشم ألفت هانم» حرم المغفور له الخديوي إسماعيل باشا، ومنذ ذلك العهد ظهر في عالم الأدب والتحرير أديبات وكاتبات كن طلائع النهضة في تحرير المرأة وتهذيبها، وأخذت هذه الروح تنتشر ويكثر أنصارها بين الرجال والنساء حتى ظهر كتابا «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة» للمرحوم قاسم أمين.
إلى أن زادت هذه النهضة قوة وتوسعًا، فتقدمت المرأة إلى الجموع العمومية مباشرة خطيبة رافعة صوتها في المطالبة بحقوقها، وأول من دخلت هذا الميدان المرحومة ملك حفني ناصف المعروفة بباحثة البادية، خصص فيها حينذاك قسم للسيدات تلقي عليهن فيه المحاضرات في الموضوعات المختلفة. وقد هم جماعة من السيدات سنة ١٩١٤ لتشكيل جمعية نسوية لترقية مدارك المرأة، ولكن الحرب عطلت تحقيق هذا المشروع؛ لأن المرأة المصرية لما أدركت الخطر الذي يهدد كيان البلاد، رأت نفسها مدفوعة لمشاركة الرجل في الدفاع عن شرف الوطن بعاطفتين راسختين: عاطفة الوطنية، وعاطفة نسوية بحتة هي عاطفة الشعور بالواجب، فتألفت منها جمعيات سياسية واجتماعية، وظلت تشتغل حتى تشكلت لجنة الاتحاد النسائي المصري عقب دعوة وصلتنا من جمعية الاتحاد النسائي الدولي أوائل سنة ١٩٢٣ لحضور مؤتمر روما، فلبينا الدعوة وسافر وفد منا لهذا الغرض. وكان للاشتراك في هذا المؤتمر فضل كبير في تغيير عقيدة الغربيين في المرأة المصرية، ولذلك قبلت لجنة الاتحاد النسائي الدولي ضم جمعيتنا إليها واعتبارها فرعًا من فروعها المنبثة في بلاد الشرق والغرب. وكان من أثر هذا النجاح أن تشجعت جمعيتنا بعد عودة مندوباتها من روما، فأرسلت وفدًا لرئيس الحكومة المصرية يحمل طلبين مهمين؛ أولهما: إصدار قانون يحرم زواج الفتاة قبل السادسة عشرة. وثانيهما: مساواة البنت للولد في التعليم الثانوي والعالي. وقد وفقن لإجابة هذين الطلبين.
بعد هذا أخذت جمعية الاتحاد النسائي تتدرج في معالجة المسائل الخاصة بإصلاح المرأة سواء كانت من جهة التشريع أو من جهة التربية العقلية والجسمية بإنشائها مشغل ومستوصف دار الاتحاد أوائل سنة ١٩٢٤، أما من جهة الإصلاح التشريعي فقد قدمت للحكومة مشروعًا مطولًا بطلب إصلاح قانون الأحوال الشخصية، وهي تعتقد أن جميع النقط التي طلبت إصلاحها ضرورية لتحسين حال العائلة لا المرأة وحدها، لذلك لنا أمل عظيم في أن الحكومة المصرية التي تمثل إرادة الشعب وتسهر على راحته وسعادته ستحقق هذا المشروع الحيوي المفيد.
سيداتي:
طالما كنت فخورة بما أحرزته المرأة المصرية منا لتقدم في هذه المدة القصيرة، ولكني كلما اتصلت بالمرأة الغربية وعلى الأخص الأمريكية ضعف ما كنت أشعر به من الارتياح لحركتنا لأني إذا قست خطواتنا بخطوات المرأة هناك، مع مراعاة أقدميتها في الحركة النسوية أو الاجتماعية أجد ما تتقدم إليه الغربية في عام قد لا نصل إلى مثله في جيل.
وإذا كان من المحقق والمعروف أن المرأة نصف الخليقة البشرية، فاعلمن أن السعادة والغنى في تلك البلاد قائمان على ساعد الرجل ونشاط المرأة.
سيداتي:
نزلت ضيفة عند صديقة لي في ديترويت، وأقمت عندها بضعة أيام ولا أحدثكن عما لقيته من كرم الضيافة الحاتمية وحسن الحفاوة بأختكن المصرية، ولكن ما رأيته من نظام في بيتها وعناية بأطفالها وروح الوفاق والإخلاص بينها وبين زوجها، كل ذلك كان كافيًا لمحو ما علق بذهني مما كنت أسمعه عن طيش بنات اليسار من الأمريكيات، وقد تبينت أن سر النظام في أمريكا هو شعور المرأة بشخصيتها واحترام الرجل لها، وتقدير الرجل والمرأة للواجب، ووضع الشيء في موضعه، فمتى يا سيداتي يسعدنا الحظ ونخطو خطوة هذه الأمم الراقية.
لي أمل عظيم في أن اللاتي تخرجن في هذا المعهد الجليل وتمرن على المبادئ الأمريكية يكن طليعة المرأة الجديدة في بلادنا.