الفصل الرابع
كنت في التاسعة من عمري عندما ختمت القرآن الشريف، فأرادت والدتي أن تحتفي بهذه المناسبة بإحياء ليلة تتلى فيها آيات الذكر الحكيم تحت إشراف معلمي. ودعت بعض صاحباتها لتناول العشاء وسماع القرآن، فكان هذا أول يوم مفرح رأيناه بعد وفاة والدي.
ولما كنت أعلم أن الشيخ إبراهيم معلمي يتمنى الوصول إلى وظيفة شيخ جامع بلدته بمركز مغاغة، وأن يكون عنده «ركوبة حصاوي»، فقد أخبرت والدتي بذلك لتحقق أمنيته مكافأة له على تعليمي، ولما جاء في اليوم التالي يودعني، فرحت كثيرًا لسروره العظيم عندما أعطته والدتي «ثمن الركوبة» وخطابًا لعلي بك شعراوي الذي كان وصيًّا علينا وناظرًا على أوقاف والدي لكي يتوسط في تعيينه شيخًا لجامع بلدته، وقد عين فعلًا.
ختمت القرآن، فظن من حولي أنني ملكت ناصية اللغة العربية والديانة. ولكني في الحقيقة لم أكن أستطيع قراءة شيء غير القرآن؛ لأنه مشكل، ولا أعرف من علوم الديانة إلا كيفية الوضوء والصلاة والصوم ومع ذلك فقد ساعدني على فك الخط والكتابة دراسة اللغة التركية التي تلقيتها على أيدي معلمين أكفاء مثل أنور أفندي وحسن أفندي الخطاط المشهور وحافظ أفندي … وكان الأخير رصينًا في الإلقاء ومجيدا في ترتيل الشعر التركي والفارسي، وقد نهجوا في تعليمي للغة التركية الطريقة الصحيحة، فتعلمت قواعدها والخط الرقعة والنسخ، وقد أفادني ذلك بالنسبة للغة العربية نظرًا لتماثل حروف اللغتين.
وكنت أشتري من أمام الباب خلسة الكتب العربية من الباعة المتجولين، وكان ذلك محظورًا علينا، ولم أكن أميز ما أشتريه، ولكن الكتاب الذي كان يسهل عليَّ فهمه، كنت أفرح به وأقرظه وأقول إنه كتاب جيد، أما الكتاب الذي كنت لا أفهمه، فقد كنت أحكم عليه بأنه كتاب رديء وأهمله في دولاب صغير عندي.
وكنت بفطرتي أميل للشعر، ولذلك كنت أشتري كل كتاب فيه أشعار، وقد زادني ميلًا إلى الشعر في طفولتي السيدة خديجة المغربية الشاعرة التي كانت تتردد علينا كثيرًا، وتقضي عندنا أيامًا عديدة في غرفة تخصص لها طوال إقامتها، وكنت أذهب إلى غرفتها كل صباح، فأجدها تحت «الناموسية» في فراشها تكتب في أوراقها.
وإذا سألتها ماذا تكتبين؟ أجابتني إنها تكتب شعرًا، فأطلب منها روايته فتروي لي ما نظمته، وقد بلغ من تعلقي بالشعر وحبي له في ذلك الوقت أن طلبت منها أن تعلمني نظم الشعر، فقالت لي: إنه يحتاج إلى الإلمام بعلوم كثيرة منها النحو والصرف والعروض، وقد كنت أجهل هذا تمام الجهل.
لقد كنت معجبة بتلك السيدة إعجابًا شديدًا؛ لأنها كانت تحضر مجالس الرجال، وتتباحث معهم في أمور أدبية واجتماعية بينما كنت أرى المرأة الجاهلة ترتعد فرائصها خوفًا ويتصبب جبينها عرقًا؛ إذا قضى الحال أن تحادث رجلًا حتى ولو كان من وراء ستار، وقد أعطتني بذلك فكرة أن المرأة الفاضلة تستطيع أن تتساوى بالرجل إن لم تَفُقه … فازددت إعجابًا بها، وتمنيت أن أكون مثلها رغم دمامتها.
ولم يعد يكفيني ما أشتريه من الكتب بين الحين والآخر، وإنما أصبحت في مطالعة كتب والدي، لعلمي أنه كان رحمه الله يحب الأدب والشعر، وكان دائمًا محوطًا بالشعراء والأدباء، ولذلك كنت أتحين الفرص لأتمكن من فتح مكتبه بتجربة المفاتيح التي كانت تحت يدي، وكانت معي فتاتان في سني تربيتا معي، إحداهما شركسية والأخرى مصرية، فكنت أعهد إليهما بمراقبة الدهليز في الوقت الذي أحاول فيه فتح خزانة الكتب، وكانت موجودة في غرفة التدريس. وأخيرًا تمكنت من فتحها. وكم تألمت لما فوجئت بمنظر الشيكولاته التي كان يحتفظ بها والدي لنا، وقد أذابتها السنون، فسالت على الأوراق وتركت بها أثرًا، ولكن حب الاستطلاع تغلب على عاطفتي، ودفعني إلى مد يدي المرتجفة إلى تلك الكتب، فآخذ منها كتابين دون معرفة ما بهما، وكان أحدهما الجزء الثاني من «العقد الفريد»، والثاني «ديوان أبو النصر» أحد شعراء ذلك العصر، وما زالا عندي حتى الآن. وأذكر أن أول قصة قرأتها هي قصة «المملوك الشارد» تأليف جورجي زيدان، وقد حببت إليَّ قراءة القصص التاريخية.
أما اللغة الفرنسية، فقد بدأت أتعلمها وأنا في سن التاسعة بعد ما ختمت القرآن. وكانت معلمتي إيطالية الجنسية تحسن تعليم الموسيقى أكثر من تعليم الفرنسية. وبهذه المناسبة أذكر كيف بدأت دراسة البيانو في تلك السن.
أشار الطبيب الذي كان يعالج أخي أن يشتروا له مهرًا صغيرًا «سيسي» ليتعلم ركوب الخيل — وهو إذ ذاك في السابعة من عمره — لأن الركوب رياضة سامية تقوي الجسم وتنشط حركة الأمعاء وفي الوقت نفسه لا تتطلب مجهودًا كبيرًا، فطلبت أنا أيضًا أن يشتروا لي مهرًا لأركب مثله، وحاولوا إقناعي بأن ركوب الخيل لا يليق بالبنات، ولكني دحضت زعمهم هذا بحجة دامغة، فضربت لهم مثلًا بجارتنا ابنة الضابط لمعي بك التي تركب الخيل وتقود عربتها الصغيرة بنفسها، ولما عجزت والدتي عن إقناعي، خيرتني بين الحصان والبيانو، وكانت تعرف ميلي الشديد للموسيقى فنجحت إذ فضلت البيانو على الحصان، قائلة في نفسي: أكسب البيانو وأتمتع بركوب حصان أخي كلما أردت …
ويمكن هنا أن أروي ما أتذكره من برنامج حياتنا اليومية، فقد كنا ننتهي أنا وشقيقي وفتاتان تربيتا معي من تلقي الدروس في الظهر، وبعد تناول الغداء، كانوا يأخذون أخي إلى غرفة النوم للراحة. أما أنا فكنت أنزل إلى الحديقة لألعب على الأرجوحة أو أقوم بتجاربي في تسلق الأشجار والأسوار أو تنسيق حديقتي الصغيرة؛ إذ كان لكل منا قطعة صغيرة في وسط الحديقة يزرعها كيف يشاء. وأذكر أنني بينما كنت أشتغل بزراعة حديقتي، كان يساعدني أحيانًا في تنظيمها وإرشادي إلى فن الزراعة بستاني يدعى «متى» وكذلك الساقي الذي كان يخدم والدي، وهو عبد حبشي اسمه «عنبر» كان كثير المزاح والضحك، وقد أوهمني يومًا بأن الدراهم تزرع وتؤتي ثمرها فأبديت رغبتي في زراعتها، فصار يأخذ مني قروشًا ويدفنها أمامي في الأرض، ثم يوصيني بألا أخبر بمكانها أحدًا حتى لا تُسرق، وقال: إنها إذا سرقت لا نجني من وراء زرعنا ثمرًا، واستمر الحال هكذا مدة طويلة وكنت كلما سألته على انفراد: لماذا تأخر ظهور شجر الدراهم؟ أجاب إن هذه الأشجار ليست كغيرها في سرعة نباتها، ولذلك فإن الدراهم غالية ولا يملكها كل إنسان. فانتظرت ولما أعياني الانتظار ولم أجد الأرض قد أنبتت ذهبًا ولا فضة، سألت «متى» البستاني قائلة: هل الأغنياء يجنون كثيرًا من النقود من زراعتهم الواسعة؟ فقال لي: نعم، فقلت له: لماذا إذن لم تثمر نقودي؟ فقصصت عليه القصة، فقهقه طويلًا وقال لي: هل يعقل أن تزرع المعادن وتنبت؟ فكان ذلك درسًا في إساءة الظن بالناس وعدم التسليم بما يقال بدون تحكيم عقلي أو الاسترشاد بمن حولي فيما لا أعرفه قبل القيام بمثل هذه المشروعات.
وقد زادني يقظة وحرصًا، اختبار آخر أودى بما كنت قد ادخرته منذ عام من المصروف اليومي الذي كانت تعطيه لي والدتي ووالدتي الكبيرة.
كنت ألعب بعد ظهر أحد أيام رمضان في الحديقة كعادتي عندما رأيت سيدة ملثمة تهرول نحو المنزل، ولم أكن أعرفها، وقد عجبت لمجيئها في مثل هذه الساعة على خلاف العادة في رمضان؛ حيث تجري الزيارات ليلًا بعد الإفطار، فتبعتها وصعدت السلم خلفها ثم رجوتها أن تنتظر في البهو حتى أخبر والدتي لمقابلتها. ولما دخلت غرفة والدتي وجدتها مستغرقة في النوم، فقصدت إلى غرفة والدتي الكبيرة، وكانت مستيقظة، فأخبرتها بوجود زائرة، فرفضت مقابلتها وأشارت إلى الخادم بإغلاق باب غرفتها، فرجعت إلى السيدة التي بقيت متسترة في برقعها الكثيف لأعتذر لها وأنا في شدة الخجل بأن كل من في البيت نائمون الآن. وسألتها عن حاجتها، فقالت: إنها زوجة أحد الباشوات من جيراننا، توفي زوجها الثري بعد أن فقد كل أمواله في أخريات حياته وتركها هي وأولادها في حالة سيئة من الفقر والبؤس حتى إنهم كثيرًا ما ينامون جياعًا. وكانت قد أتت لتطلب المعونة من والدتي، فتأثرت بما سمعت وعدت إلى غرفة والدتي لأوقظها ولكني لم أجرؤ على ذلك، وتذكرت المبلغ الذي وفرته من مصروفي لشراء بعض اللعب واللوازم، وكان داخل دولاب في غرفة والدتي، فمشيت على أطراف أصابعي وفتحته برفق واحتراس كي لا أوقظها، وأخذت المبلغ كله — وكان سبعة جنيهات — وأعطيته لها في خجل نظرًا لضآلته، وكدت أصعق عندما اختطفت مني النقود وتركتني مهرولة نحو السلم دون أن تشكرني، فبقيت في مكاني لا أبدي حراكًا، ولكني تغلبت على ذلك ورجعت إلى حسن ظني قائلة في نفسي لا بد إنها من فرحها واستعجالها لشراء الطعام لأطفالها نسيت واجب الشكر. وبذلك عاودتني الطمأنينة، ونزلت إلى الحديقة أستأنف اللعب وقلبي تملؤه الغبطة والرضا عن نفسي.
وبعد بضعة أيام، جاءتني إحدى جاراتنا لزيارة والدتي. وسمعتها في حديثها تقص عليها نبأ لص متنكر في زي امرأة أو لصة تدخل البيوت في ساعات الراحة لتسرق ما يمكنها سرقته، أو لتستغل رحمة أصحابها بطلب المعونة بزعم إنها من بيت عريق، وعندما سمعت ذلك، أسفت كل الأسف، ليس لضياع نقودي فقط، بل لأنني كنت للمرة الثانية ألعوبة الخادعين، وكتمت الأمر عن والدتي وكل أهل المنزل.
قلت إنني كنت أمضي كل أوقات فراغي في الحديقة، وأفضل اللعب فيها بعد الغداء على النوم، فإذا حل العصر، خرج «سعيد آغا» من غرفته، وأمرني في عبوس أن أصعد لتغيير ملابسي استعدادًا للخروج للنزهة مع شقيقي الذي كان يقول لي بتهكم: أما تستحين من بقائك طول الوقت في الحديقة، وأنا مع كوني ولدًا أمضي أكثر أوقاتي داخل المنزل؟ فكنت أرد عليه بحسرة قائلة: غدًا ستنعكس الآية، وأنا التي سأبقى في البيت وتكون أنت خارجه.
ثم كنا نخرج مع «سعيد آغا» خائفين في معظم الأحيان، ذلك أننا إذا كنا قد أذنبنا في شيء نحو مربيتنا، فقد كانت تشكو إليه ذنوبنا وهو الذي يتولى القصاص. كان يأخذنا إلى الجبلاية ومعنا الفتاتان ويصعد بنا إلى قمتها، ويأمرنا واحدًا واحدًا أن نأتي إليه بفرع من فروع الشجر، ثم يسرد علينا ما وصله من الشكاوى ضدنا، وبعد ذلك يتلو الحكم على المذنب منا، ويأخذ منه الفرع قائلًا: افتح يدك، ثم يضربنا على كفوفنا حسب درجة الذنب ويتركنا نبكي، وبعد ذلك يخرج مناديلنا من جيوبنا ويمسح لنا دموعنا، ويقول: الآن وقد نال كل منكم جزاءه، حذار أن يعود أحدكم إلى مثل ما فعل، وإن عدتم إلى مثل ذلك فسيكون العقاب مضاعفًا.
وبعد ذلك يصبح طفلًا مثلنا، يلعب معنا ويجري أمامنا ونجري خلفه، فكنت أنسى سيئاته بالحسنات التي تعقبها. وذلك بخلاف شقيقي الذي كان يضمر في نفسه كل شيء، وعندما يصل إلى داخل المنزل ويشعر أنه في مأمن منه، يصرخ صراخًا عاليًا وهو يصعد السلم، فتسرع والدتي لاستطلاع الخبر، فيشكو لها وهو يشهق بالبكاء ما فعله الآغا قائلًا: ضربني هذا العبد.
وكنت أحدق فيه ببصري ليسكت، ولكن عبثًا كنت أحاول إسكاته، ولما كانت والدتي تحقق في سبب عقابنا، كان يخبرها الآغا بأننا كنا نستحق هذا العقاب، ويقص عليها الأسباب، فكانت تهدئ من ثورة أخي قائلة: هذا مربيك ولم يفعل ذلك إلا لصالحك …
كنت أحب «لا لا سعيد آغا» لأني كنت أشعر بحبه وإخلاصه لنا رغم ما يظهره من القسوة أحيانًا، ولا أنسى مدى الحياة ساعة خطر رأيته فيها يضمنا إلى صدره ناسيًا نفسه، وكان ذلك ذات يوم توجهنا فيه إلى الجزيرة للنزهة في عربتنا، وكان يجرها جوادان روسيان كبيران في غاية القوة، وكانا لم يخرجا منذ بضعة أيام، وما كدنا نجتاز كوبري قصر النيل حتى جمحا على جسر الجزيرة متجهين إلى منحدر نحو النيل. فذعر «سعيد آغا» وأخذنا بين ذراعيه وصرخ بأعلى صوته: آه يا أولاد سيدي …
وكأن الله قد أراد أن يكافئ إخلاصه هذا بنجاتنا؛ حيث شكم السائق الجوادين بقوة، فوقفا تمامًا، ونزلنا من العربة حتى هدأت ثورتهما، ثم استأنفنا نزهتنا.
كان «لا لا سعيد» أبيًّا، معتدًّا بنفسه، مفاخرًا بانتسابه لبيتنا، وكانت والدتي تعزه كثيرًا وتعطف عليه؛ لأن والدي اشتراه صغيرًا وعُني بتربيته، وتعليمه في المدارس، وكان يحب والدي إلى درجة العبادة، ولما كبر، وجه حبه إلينا، وكانت والدتي تقدر فيه الحب لوالدي ولنا من بعده، وقد شببت وأنا أقدره وأعرف له فضل تربيتنا، وكان تأثير ذلك عليَّ كبيرًا.
كانت الأعياد والمواسم من أكثر عوامل بشرنا وسرورنا … وكنا ننتظرها بفارغ الصبر ونستعد لها من قبل حلولها بمدة طويلة، وكنا نهتم بإعداد ثيابنا لهذه المناسبات، ولكن كثيرًا ما كانت هذه الثياب تنغص عليَّ وتعكر صفوي وتسلبني بهجة العيد وفرحته إذا ما حيكت على خلاف ما كنت أود. وكان يزيدنا حزنًا وألمًا إنني لا أستطيع أن أجهر بذلك، فقد كان عليَّ دائمًا أن أتسلمها صاغرة شاكرة دون إبداء أية ملاحظة أو اعتراض.
وكلما فكرت أنه كان من السهل تحاشي ما ينغص عليَّ من جراء ذلك أو غيره من الأسباب، وددت لو أن العادات وقتئذ كانت تسمح للصغار بإبداء ما يجول بأنفسهم في شيء من الصراحة … فالصراحة هي أساس حسن التفاهم بين الناس … وقد حرمتني تلك العادات والتقاليد القديمة من التمتع بمزاياها وفوائدها، بحجة أنه لا يليق بالصغير أن يعارض أو يبدي رأيًا، وإنما يجب عليه أن يأخذ كل ما يقال قضية مسلمًا بها، وأن يتقبل كل ما يعرض عليه دون مناقشة أو معارضة.
ولقد كانت والدتي — رحمها الله — محافظة متمسكة بالتقاليد … وكانت ميالة إلى الخير والإحسان، ولذلك كان للفقراء في كل أعيادنا نصيب كبير من برها … ففي ليلة السابع والعشرين من رجب، تحتشد جموع السائلين في الشارع على جانبي الطريق دون سابق دعوة إليهم، بل بحكم عادتهم في مثل هذا اليوم. وكانت والدتي تنزل إلى صحن الدار الفسيح لتشارك بنفسها في إعداد الفت واللحم والأرز … وكانت الأبواب تفتح لأفواج السائلين فوجًا بعد فوج، حتى يشبع الجميع ويحمل كل منهم في وعائه عشاء زوجته وأولاده وأهل بيته.
كان هذا المنظر يؤلمنا ويؤثر فينا، إذ كنا نرى بين هؤلاء المتسولين الضرير والأعرج والمقعد والمريض والعجوز … فكنا نطلب من والدتنا أن تأمر بإعطاء من كان يستدر عطفنا بسوء حالته نقودًا أكثر من غيره.
وكان لكل منا متسول أو أكثر يتردد بعد ذلك يوميًّا تقريبًا. وكان متسولي رجلًا مبتور الساق، وكان ينبهني إلى وجوده بقوله: «يا رب» … وكان هناك أيضًا مداح يدعى «عبد الرحيم» وكان خفيف الروح، يرتجل المدائح والمواويل وقد ظل يتردد على منزلنا إلى أن تقدمت به السن، فخصصنا له مرتبًا شهريًّا، ويطول استمرار هذا الحال حوالي أربعين عامًا، كان يعتبر نفسه كأحد المستحقين فيطالبنا بكل ما يلزمه، وقد توفي إلى رحمة الله عام ١٩٣٨.
وكذلك كانت تفعل والدتي في ليلة النصف من شعبان وبعد انتهائنا من إطعام الفقراء، كنا نجتمع في غرفة واسعة، وتأتي «الشيخة جلسن» لتجلس في وسط الغرفة وتقرأ علينا دعاء نصف شعبان، ونحن نردد بصوت عال، وكان لهذا الدعاء في نفوسنا رهبة وروعة.
أما في ليلة القدر، فقد كنا نتوضأ قبل النوم ونصلي، ثم يترقب كل منا ظهور «طاقة النور» التي يستجاب الدعاء عند ظهورها، حتى يغلبنا النعاس.
وعندما كان يحل عيد الفطر … كنا نستيقظ في الصباح الباكر، ونرتدي ثيابنا الجديدة … ثم نخرج لزيارة أصدقائنا، وكنا نمضي باقي النهار في منزل ثابت باشا نلعب في حديقته، أو كان أولاده يأتون عندنا، وكانوا أقرب جيراننا.
وكنا نترقب عيد الأضحى الذي تنحر فيه الذبائح، فنستيقظ مبكرين لنرى توزيع اللحوم على المستخدمين والفقراء. وكانت «دادتي» تعد لنا الكبد المحمرة للإفطار قائلة: إن السنة تقضي بأن نذوق لحم ذبائح العيد.
وكانت الاستعدادات لعاشوراء تبدأ قبل موعدها بيومين أو ثلاثة أيام، وكنا نحن الصغار نشترك في نقش الصحون والأواني بالزبيب والصنوبر والجوز والفستق، وكانت الأسر الكبيرة تتبادل إهداء العاشوراء، وكم كان منظر الشوارع جميلًا وهي مزدحمة بحاملي هدايا العاشوراء ما بين رائح وغاد، وجميعهم في ملابسهم الشاهية أو الحرير يتمنطقون بأحزمة جميلة ويحملون على رءوسهم الصواني ذات الغطاءات الزاهية.
ومن الأعياد التي كانت تدخل السرور علينا، مولد النبي ﷺ؛ حيث كنا نخرج في المساء لنشاهد الصواريخ والسرادقات الجميلة … ونشتري حلوى المولد من عرائس وخيل وغير ذلك من مختلف أنواع حلوى المولد.
أما يوم وفاء النيل، فكان له في نفوسنا روعة كبرى؛ حيث كنا نتخيل ما نسمعه من أن القدماء كانوا يزفون إلى النيل في ذلك اليوم أجمل فتاة مصرية، وكنا أحيانًا نمضي الليلة في ذهبية المرحوم علي باشا فهمي، وكان منظر النيل في تلك الليلة بأنوار الذهبيات والمراكب المزدانة بالأعلام والأزهار والأنوار الملونة.
إن كل عيد من هذه الأعياد كان حقًّا مظهرًا من مظاهر الاحتفاظ بالقومية المصرية الرائعة، التي نأسف أشد الأسف لتضاؤلها واضمحلالها بانتشار التقليد الإفرنجي في بلادنا، وميل الجيل الجديد إلى الاحتفال بالأعياد الإفرنجية بدلًا من إحياء أعيادنا الوطنية الرائعة وتمجيدها وتخليدها كما يفعل الأجانب في بلادهم بأعيادهم الدينية والقومية …