الفصل الأربعون
كتب إلينا أديب كبير يذكرنا بأن مبدأ الصحيفة أن تأخذ بالأصلح الأنسب، وأن ما تدعو إليه السيدة الجليلة هدى هانم شعراوي إنما هو من هذا المبدأ، ورأى أن فيما كتبناه في الأسبوع الفائت من الرد على السيدة انحرافًا عنه.
ولو أن سيدنا الأستاذ قد اطلع على الكتاب بأكمله الذي رفعته أخيرًا السيدة إلى دولة رئيس الوزراء كما اطلع على ما كتبناه، لتأكد أننا في ردنا لم ننحرف عن مبدأ الصحيفة، ذلك لأن السيدة تطلب فيما رفعته أمرين؛ أولهما: منع تعدد الزوجات، وثانيهما: أن يكون الطلاق على يد القاضي، ونحن لم نرد عليها إلا في الأمر الثاني وتركنا الأول، لأننا نعتقد اعتقادًا جازمًا أنها محقة فيه؛ لأن تعليق تعدد الزوجات على شرط العدل، وأن العدل غير قائم وأنه لفظ لا مدلول له في هذا الأمر، يشعر بأن هذا التعليق ضرب من التحريم، وأن الأولى مع هذا وما يسبب عنه من التعب العائلي واضطراب التربية أن يعدل عنه الراغب فيه.
ولكننا في الأمر الثاني أخذنا في نقده؛ لأننا نعتقد أن ما تطلبه السيدة ليس بالأصلح ولا بالأنسب وإنما هو إحراج ضرره أكبر من نفعه. وقد أبان معالي وزير الحقانية في حديث له بعض ضرره ومعايبه، ما دعانا إلى أن نعتبره غير صالح وما همنا فوق ذلك مما ذكرته السيدة إلا قولها: «وهما أي الوالدان لا يعدمان حيلة لتدبير الأسباب المعقولة لعرضها على القاضي عند طلب الطلاق.»
وواضح في هذه الدعوة التشبث بأن يكون الطلاق على يد القاضي، وأنه في حال وقوع ما يشين الزوجة يختلق الزوجان أسبابًا يعقلها القاضي، لتسهيل سبيل الطلاق، وتكون شعارًا على ما كتبته الزوجة الخائنة.
ولعمرنا إن التشريع الذي يدعو إلى الاختلاق لا يكون تشريعًا يضعه مصلحون يرمون إلى تقديم الخلق، فإن كان سيدي الأستاذ الكبير لا يزال بعد ذلك يرى أن الطلاق على يد القاضي أوفى وأن السيد لا يزال بعد ذلك يرى صلاحية هذا التشريع، فإننا نقول له مع القائلين: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ.
نصيب المرأة في الميراث
يهمني أن أبلغ حضرة الأستاذ ومن حضروا خطبته أني في خدمتي لهذه النهضة أؤدي واجبًا معهودًا إليَّ من جمعية الاتحاد النسائي التي شرفتني برئاستها، ولما كان نصيب المرأة في الميراث ليس من المسائل الداخلة في هذا الموضوع، لا بإقرار الحالة الحاضرة ولا بتعديلها.
وإن كان لا بد من إبداء رأيي في هذا الموضوع، فأقول بصفتي الشخصية إني لست من الموافقين على رأي الأستاذ الخطيب فيما يتعلق بتعديل نصيب المرأة في الميراث. ولا أظن أن النهضة النسوية في هذه البلاد لتأثرها بالحركة النسوية بأوروبا يجب أن تتبعها في كل مظهر من مظاهرها، وذلك لأن لكل بلد تشريعه وتقاليده وليس كل ما يصلح في بعضها يصلح في البعض الآخر، على أننا لم نلاحظ تذمرًا من المرأة أو شكوى من عدم مساواتها لرجل في الميراث، والظاهر أن اقتناعها بما قسم لها من نصيب، ناشئ من أن الشريعة عوضتها مقابل ذلك بتكليف الزوج بالإنفاق عليها وعلى أولادهما، كما منحتها حق استقلال التصرف في أموالها.
أما القول إن عدم المساواة في الميراث من دواعي إحجام كثير من الشبان عن الزواج في الشرق، فغير وجيه لأننا نشاهد في أوروبا انتشار هذا الداء في عصرنا الحالي انتشارًا أشد خطورة منه في الشرق، بالرغم من أن الأوروبية ترث بقدر ما يرث الرجل، فضلًا عن أنها ملزمة بدفع المهر، ومكلفة بالتخلي عن إدارة أموالها لزوجها.
ولو سلمنا بنظرية الأستاذ سلامة موسى وجاريناه في طلب تشريع جديد، فهل لا يخشى أن يؤدي ذلك إلى إسقاط الواجبات الملقاة على عاتق الزوج نحو زوجته وأولاده بإلزام الزوجة بالاشتراك في الصرف، وفي ذلك ما فيه من حرمان يعود بالشقاء والبؤس على الزوجات الفقيرات اللاتي لم ينلن ميراثًا من ذويهن … وهذه الطبقة تشمل أغلبية الزوجات، ولا يخفَى ما هن عليه من جهل وأمية لا تسمحان لهن بمقاومة هذا الشقاء أو تلطيفه بخلاف مثيلاتهن في الفقر بأوروبا؛ لأن التعليم هناك يشمل كل الطبقات.
ترى الغربية أكثر حظًّا منها؛ لأنها تظهر لنا حائزة لقسط كبير من الحرية المدنية المساوية لحرية الرجل، بيد أنها أقل حظًّا من أختها الشرقية في الحرية الاقتصادية. فبينما الشرقية غير المتساوية مع الرجل في حق الميراث تتمتع بكافة أنواع الاستقلال في إدارة أعمالها وأموالها، نجد الغربية المساوية لأخيها في الميراث محرومة من هذه النعم، إذ لا يمكنها أن تنفق أي مبلغ من مالها، ولا أن تحترف حرفة دون تصديق زوجها وموافقته … لذلك نراها ثائرة في جميع بلدان أوروبا على تلك القيود التي تحول بينها وبين الحرية الحقيقية والاستقلال منذ عصور طويلة.
ومن الرجم بالغيب أن يقال إن المرحوم قاسم أمين لما قام بنشر كتبه في سبيل تحرير المرأة، كان ينوي المطالبة بمساواة المرأة بالرجل في الميراث وإن الذي أخره عن إعلان هذا المطلب هو انتظار نضوج الرأي العام.
فالمطلع على كتب المرحوم قاسم يقرأ من بين سطورها أنه كان يُعنَى فقط بجعل المرأة عضوًا صالحًا في الهيئة الاجتماعية، وأن نعد الفتاة لتكون أهلًا للقيام بنصيبها من العمل في خدمة عائلتها ووطنها.
ليس في شرائعنا ما يميز بين المرأة والرجل في التعليم، ولا في أنواع الحرف، ولا في الوظائف العامة بدون أي اعتراض بقدر تدرجها في التعليم، ولذلك نشاهد في كل عام ازدياد عدد الموظفات في وظائف التعليم ومصالح التليفونات والطب وغيرها، ولا فرق في الأجر بين الرجل والمرأة المتساويين في الكفاءة بخلاف ما هو جار في أوروبا اليوم.
إن أهم ما يشغلنا اليوم في الوصول بالمرأة إلى المركز اللائق بها، ليس هو السعي لتغيير القوانين أو قلب الشريعة، فلله الحمد لم نجد في هذه ولا تلك من الأحكام ما يحملنا على التذمر والشكوى … بل كل ما نسعى إليه هو حسن تطبيق هذه القوانين بما يطابق غرض الشارع وحكمه، وكل المطالب التي تقدمنا بها إلى الحكومة ترجع إلى تحقيق هذا الغرض لتحسين حال العائلة وهنائها.
وما عرضناه تنظيمًا لمسائل الطلاق والزواج والحضانة وبيت الطاعة يرجع إلى هذا أيضًا، ولا يخرج عن أحكام الشريعة الغراء.
فإذا كان هناك من موجب لاستياء المرأة وشكواها، فليس من رجحان نصيب الرجل على نصيبها في الميراث، بل من تصرفات أخرى يتبعها الوالدان، وكثيرًا ما تفضي إلى حرمانها من هذا النصيب الضئيل بطريق الوقف. وإذا شكونا منها لا نكون متظلمين من الشريعة نفسها بل من الخروج على أحكامها بهذه الحيل باسم الدين وهو بريء منها، أعني بذلك احتيال الوالدين على حرمان بناتهم مما قدر لهم شرعًا بواسطة الوقف، فيرصدون أموالهم على الذكور، على أن المجمع عليه شرعًا أن المورث لا يملك في حياته تعديل نصيب ورثته بعده، وكل تصرف يخالف ذلك يعتبر باطلًا.
دعاة الإلحاد
ولعل حكومتنا القائمة بالإصلاح الآن توفق لأن تضع حدًّا لهذا الظلم المخالف للعدل ولروح الشريعة الغراء.
وقد هاجمت صحيفة الأخبار دعوة الأستاذ سلامة هجومًا عنيفًا. وقالت في مقال منشور بتاريخ ٢٩ ديسمبر ١٩٢٨: «مكانكم يا دعاة الإلحاد … لقد كان في النية أن نرد كيد دعاة الفتنة إلى نحورهم، ولكنا رأينا أن حضرة السيدة هدى شعراوي هانم قد قامت بهذا الواجب … ولعل في رد السيدة ما يرجع دعاة الإلحاد إلى الصواب، وإلا فإن هم عادوا عدنا وأخرجنا من الجراب ما يلقف ما صنعوه، وما صنعوا إلا سحر ساحر وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ.»
رسالة الأمير طوسون
قرأنا المقال الحكيم المنشور في جريدة الأهرام الغراء تحت عنوان «نصيب المرأة في الميراث»، فسرنا أن تكون الحكمة رائد عصمتك فيما توخيته من نهضة المرأة المصرية والعمل على رقيها مع الاحتفاظ بالشرائع الإلهية والصالح من عاداتنا وأخلاقنا ومميزاتنا القومية كأمة لها كيان بمقوماتها ومشخصاتها. فهذه هي طريق الإصلاح النافع وسبيل النهضة الصحيحة.
أما الدعوة إلى إطراح قوميتنا والانفصال شيئًا فشيئًا عن أصول ديانتنا، تلك الدعوة التي يدعو إليها الآن نفر منا رأوا الشقة بيننا وبين الغربيين بعيدة، فأرادوا بحسن قصد فيما نظن أن يعلوا بنا إليهم من طريق الطفرة، وحسبوا من استحكام حلقات التأخر وتغلغله فينا أن ليس لنا نجاة إلا بتحطيم ما نحن عليه من خلق وعادات ودين، فتلك دعوة خطرة المغبة، سيرون بأعينهم قريبًا من عملوا بها قد ضلوا الطريق وأصبحوا حيارى لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
لذلك كان إعجابنا بمقال عصمتك في وسط هذه المحن التي تحدق بالشرق والشرقيين إعجابًا لا حد له، وارتياحنا إليه من هذه الناحية عظيمًا كبيرًا، خصوصًا أنك أيدت فيه جانب الشريعة الإسلامية الغراء، وبينت وجه الحكمة وسر التشريع في نقص نصيب المرأة عن الرجل في الميراث … وإذا كان اللائق في بعض الأحيان يدعو إلى الإغضاء على القذى والغض عن الإساءة، فالواجب يحتم أن يقال للمحسن أحسنت، وهذا هو الذي أردناه من كتابنا هذا إلى عصمتك.
عيد المصرية
وخلال هذه الفترة … وبالتحديد في يوم ٢٤ ديسمبر ١٩٢٨، احتفلنا بالذكرى الثالثة لصدور مجلة المصرية «الاجبسيين»، وهي مجلة كنت أصدرها باللغة الفرنسية للتعريف بأحوال المرأة المصرية وتطوراتها … وقد أقيم هذا الاحتفال في منزلي، وشاركت فيه شخصيات عامة من الرجال والنساء، تقديرًا لدور هذه المجلة.
وقد كتبت جريدة المقطم بهذه المناسبة تقول: «اليوم تستقبل مجلة «المصرية» الذكرى الثالثة لظهورها، وإننا لسعداء بأن نحييها عند بزوغ فجر هذا اليوم سائلين لها عمرًا طويلًا وجولات صالحة في ميدان الخير العام.
إن مجلة «المصرية» هي مجلة نسوية تنادي بما يخالف مبادئنا وخطتنا في تربية المرأة وفي تحديد حقوق المرأة وبيان مهمتها، وفي القرن العشرين، عهد توزيع الأعمال والتخصص في فروع كل مهنة، تقول بمزاحمة الجنس اللطيف للجنس الخشن، ولكنها مع ذلك سدت من ناحية أعمال البر بالإنسانية وإغاثة الملهوفين وتشجيع الصنائع المصرية وبخاصة القديمة منها.
على أن الخلاف في الرأي لا بد منه في أمة تريد النهوض … بل هو بمثابة عنصر في الدواء العام لمختلف الأمراض».