الفصل الحادي والأربعون
كنت حريصة على متابعة كل مظاهر النهضة النسوية وبخاصة في مجال التعليم، وكان يقيني أن التطور لا بد أن يتحقق مع تعليم الفتاة وتفتحها على الحياة والثقافة العصرية، وكان إيماني أن كل نافذة جديدة للعلم هي بمثابة انتصار جديد لقضية المرأة، ولقد كان تعليم الفتيات مقصورًا في البداية على تخريج معلمات، أما في المجالات الأخرى فقد كان مقصورًا على مراحل أولية أو متوسطة، ومن ذلك اشتغال الفتيات بالطب كان محصورًا في مجال تلقي المبادئ الأولية الكافية لتخرج «قابلات»، ثم عرفت الفتيات بعد ذلك فن التمريض.
ولكن إنشاء الجامعة المصرية فتح الباب أمام الفتيات لتلقي العلوم العالية كما يتلقاها الفتيان، وحدث في أول العام الدراسي ٢٨ / ١٩٢٩ أن تقدمت ست فتيات ممن أتممن دراستهن الثانوية يطلبن الالتحاق بقسم التحضيري لكلية الطب بالجامعة وقد ترددت إدارة الجامعة أول الأمر في قبولهن، ولكنها لم تجد في القانون ما يساعدها في رفض طلبهن، وكان أن تحقق لهن ما أردن. وهؤلاء الفتيات الست هن: سعادات راشد، وحكمت البدري، وفاطمة فهمي، وعايدة أنطون، ونفيسة أحمد.
ولما كنت قد أزمعت السفر إلى مؤتمر برلين على رأس وفد الاتحاد النسائي، فقد رأيت أن أزور طالبات الطب بالجامعة قبل سفري حتى أقف بنفسي على سير تعليمهن ومبلغ نجاحهن، وبذلك يمكنني أن أتحدث عن تقدم المرأة المصرية من موقع المعرفة والمتابعة، وهذا هو رأيي دائمًا: أن أتحدث عن معلومات معروفة بالنسبة لي تمام المعرفة، وأن أكون ملمة بكافة جوانبها ومستعدة للمناقشة فيها.
وقد تمت هذه الزيارة بالفعل في الساعة الحادية عشرة من صبيحة يوم ٢ أبريل ١٩٢٩، وقد أثنى جميع الأساتذة على سير الفتيات في علومهن، وقالوا: إنهن يتميزن على الفتيان بعدة أمور منها إتقانهن اللغة، وجلدهن على العمل، وتخصيص أغلب أوقاتهن للدرس. أما عن الوجهة الأخلاقية فكان الثناء على الفتيات مقرونًا بالإعجاب التام.
مؤتمر برلين
وكان من المقرر أن يعقد مؤتمر الاتحاد النسائي الدولي اجتماعه السنوي الخامس والعشرين في شهر يونيو في مدينة برلين، وقد تعودت المرأة المصرية منذ شاركت في مؤتمر روما عام ١٩٢٣ أن تحضر هذه المؤتمرات دوريًّا، وأن تشارك فيها بالدراسة والمناقشة، وكان الغرض من عقد مؤتمر برلين «السعي لتحرير نساء جميع الأمم بتوسيع نطاق حق تصويت المرأة وإصلاح أمور أخرى لا بد منها لإيجاد مساواة حقيقية في الحريات والحالات بين الرجال والنساء، وتعليم النساء ليتمكن من زيادة تنورهن في الحياة العامة».
وكان الاتحاد النسائي الدولي قد ازدهر في هذه الفترة، فبعد أن كان يضم في البداية عددًا قليلًا من الدول، كبر شأنه واتسع نطاقه وصارت له فروع في ٤٥ قطرًا من أقطار العالم، وجدير بالذكر أن اللجنة العاملة للمؤتمر كانت تضم اثنتي عشرة سيدة من اثني عشر قطرًا من أوروبا وأمريكا ومصر، فلم يكن بين هذه الأقطار أي قطر شرقي آخر غير مصر.
وقد عقد المؤتمر في ١٧ يونيو ١٩٢٩، وبلغ عدد أعضائه ٥٠٠ عضو، وكان هناك من بين الدول المشتركة فيه ٢٥ دولة قد منحت النساء حق الانتخاب.
وكان المؤتمر وأعضاؤه موضع عناية تامة من الشعب الألماني والحكومة الألمانية … وقد اشترك وخطب فيه كبار رجال الدولة من وزراء وحكام وسياسيين. وإذا عرفنا أن ٥٥ في المئة من نساء ألمانيا يشاركن الرجال في الأعمال، فإننا نستطيع أن ندرك من خلال ذلك مدى اهتمام الشعب الألماني بالجمعيات والمؤتمرات النسوية.
وقد ألقى الهر سفرنج وزير الداخلية خطبة الافتتاح، وكان مما جاء فيها: لو كان للنساء حق الانتخاب قبل سنة ١٩١٤ لما اندلعت الحرب وأنزلت الخراب بالعالم؛ لأن النساء قد يقدرن مخاطر الحرب ويألمن من عواقبها أكثر من الرجال، فبواسطتهن سيتحقق حلم الإنسانية الرامي إلى نشر السلم والإخاء بين الأمم، وعلينا ألا ننسى أن المرأة هي رئة الأمة، منها يدخل الهواء النقي المنعش لسائر أعضاء الجسم.
وقد أتيح لنا أثناء إقامتنا في برلين زيارة المستوصفات وملاجئ الأطفال وجمعيات رعاية الأمهات، وقد درسنا نظام تلك النشاطات الاجتماعية التي تمت وازدهرت في ألمانيا أكثر من سواها، وكان يتولى إرشاد الأعضاء في هذه الزيارة طائفة من سيدات الطبقة الراقية في برلين.
وإذا كان الوفد النسائي المصري قد استطاع أن يحقق فوائد أدبية كثيرة في هذا المؤتمر، فلا جدال في أن فوزه الأكبر كان في حمل المؤتمر على إقرار الاقتراح التالي:
جهودنا لإلغاء الامتيازات
نظرًا؛ لأن نظام الامتيازات لا يدع للسلطات المصرية أية سيطرة على منازل البغاء الأجنبية، كما أنه لا يدع لها أية سلطة لمراقبة تجارة المواد المخدرة التي تفتك بالشرق فتكًا ذريعًا.
ونظرًا لضرورة إلغاء تلك المنازل وهذه التجارة كما تقدمت توصيات بذلك إلى جمعية الأمم.
فإن المؤتمر يطلب من الجمعيات المشتركة فيه أن تسعى كل لدى حكوماتها لتسهيل ما تقوم به السلطات المصرية من أعمال التطهير صحيًّا وأدبيًّا.
وقد لقي هذا الاقتراح بعض الاعتراض، وبخاصة من جانب رئيسة الوفد الإنجليزي لعلاقته بنظام الامتيازات ما يجعل له صفة سياسية. وكان المطلوب هو إرجاء النظر فيه إلى مؤتمر قادم. ولكني حرصت على الاتصال برئيسات سائر الوفود بين الجلسات حتى كللت مجهوداتنا بالنجاح. ونذكر هنا بالفضل دور رئيسة الوفد الفرنسي مدام كرامر باك المحامية، فقد حملت على نظام الامتيازات المجحف حملة صادقة، فوافق المؤتمر على الاقتراح المصري بالإجماع ما عدا الوفد الإنجليزي الذي امتنع عن التصويت.
ومما يذكر أيضًا أن المؤتمر قرر قبل انفضاض جلساته أن ينتخب مكتبًا يسمى «مكتب الاتحاد النسوي العام» وهو مؤلف من عشرين عضوًا، وقد أعيد انتخاب رئيسة الوفد المصري عضوًا في هذا المكتب بعد أن رشحتها للعضوية ممثلات ٢١١ دولة ونالت في الانتخاب العام ١٦١ صوتًا. فكان هذا إشادة بذكر مصر ورفع اسمها بين الدول.
المرأة المصرية في برلين
اتفق وجودي في برلين في الشهر الماضي في أثناء انعقاد المؤتمر النسائي الذي دعا إليه الاتحاد النسائي الدولي. وقد مثلت مصر فيه السيدة هدى هانم شعراوي رئيسة الاتحاد النسائي المصري والآنسة حداد والآنسة سيزا نبراوي والآنسة ماري كحيل تمثيلًا لائقًا مشرفًا لهذه البلاد ولسيداتها الناهضات … وحسبي أن أورد هنا للقراء ما حدث في المأدبة الشائقة التي أقامتها السيدة هدى هانم في فندق «كايزر هوف» ببرلين لجمهور من وزراء الألمان الحاليين والسابقين وكرائم السيدات والأوانس اللواتي ينتمين إلى أكبر البيوت الألمانية العريقة في الحسب والنسب.
وقد كان في مقدمة من لبى الدعوة إلى المأدبة المصرية سعادة الدكتور جرارد وزير الحقانية الألمانية الحالي وسعادة الهر روزن وزير الخارجية الألمانية الأسبق وقريناتهم، والبارونة كاردورف عقيلة وكيل مجلس الرخستاغ وزعيمة الحركة النسائية في ألمانيا، وغيرهم من الكبراء والعظماء. وكان الرجال لابسين ملابس السهرة الرسمية (الفراك لا السموكنج) ومتقلدين أرفع نياشينهم دلالة على عظمة تقديرهم للدعوة التي وجهت إليهم وشدة اعتبارهم لها.
وبعد الفراغ من الطعام، نهضت السيدة هدى هانم شعراوي وخطبت خطبة بليغة باللغة الفرنسوية، شكرت فيها الألمان ولا سيما السيدات الألمانيات على ما لقيه الوفد النسائي المصري من حفاوتهن وإكرامهن، وعلى ما صادفته الاقتراحات المصرية من العطف والتأييد في جلسات المؤتمر وخصوصًا ما يتعلق بوجوب تعديل الامتيازات الأجنبية تعديلًا يشد أزر الحكومة المصرية في الضرب على أيدي المتاجرين بالمواد المخدرة. وعقبتها الآنسة ماري كحيل فخطبت بالألمانية بطلاقة أدهشت سامعيها من أبناء تلك اللغة وبناتها. فبسطت للحاضرين المراحل المتعاقبة التي اجتازتها النهضة النسائية في مصر في السنوات الأخيرة.
ونهضت بعد ذلك البارونة كاردورف، وارتجلت خطبة ضافية باللغة الألمانية تولت الآنسة ماري كحيل ترجمتها إلى الفرنسوية، ومما قالت زعيمة الحركة النسائية في ألمانيا إنها زارت مصر في الشتاء الماضي للاستشفاء، فانتهزت فرصة إقامتها فيها لتدرس حقيقة النهضة النسائية المصرية عن كثب، فخرجت من هذا الدرس وهي مطأطئة احترامًا للمجهود الذي بذلته سيدات مصر في هذا الميدان، وقالت: «وبلغ من شدة إعجابي بنشاطهن وحماستهن أنني قلت في نفسي لو لم أكن ألمانية لأحببت أن أكون مصرية.» ثم استطردت إلى الكلام عن السجون والإصلاحيات والملاجئ والعيادات النسائية في مصر. فأفاضت في الكلام عما شاهدته من النظام والنظافة وحسن المعاملة في سجن النساء، وتكلمت بعد ذلك عن الملجأ الذي أنشأته السيدة هدى هانم شعراوي فوصفت أقسامه وما شاهدته من إقبال اليتيمات وغيرهن على الاستفادة من العلوم والصناعات التي يتلقينها فيه. وهنا نوهت الخطيبة بمآثر السيدة هدى هانم ومناقبها وبحسن بلائها في سبيل رفع لواء النهضة النسائية في مصر، فصفق الحاضرون وهتفوا لرئيسة الاتحاد النسائي المصري، فسارت البارونة كاردورف إلى حيث كانت السيدة هدى هانم جالسة وقبلتها بين تصفيق المدعوين الشديد. ثم تكلم كاتب هذه السطور بالفرنسوية.
وعقب سعادة الهر سفرنج … فقال: «إن أول اجتماع للنهضة النسائية الألمانية عقد في حديقة داره من نحو خمس وعشرين سنة بناء على دعوة وجهت إلى سيدات برلين باسم قرينته، وأنه لما عقد يومئذ ذلك الاجتماع الأول من نوعه، تساءل الناس هل يكون الثبات شعار المرأة الألمانية والنجاح نصيبها، فإذا به اليوم يشاهد المرأة المصرية تجلس إلى جانب المرأة الألمانية وإلى جانب الفرنسوية والإنجليزية والأمريكية وغيرها، وتمثل بلاد الفراعنة تمثيلًا خليقًا بكل إجلال وإكبار؛ لأنها لا تقل بذكائها وفطنتها وعلمها ونشاطها عن أي امرأة كانت في أي بلد كان من بلدان الغرب.
وتلاه سعادة الهر جرارد وزير الحقانية الألمانية، فقال إنه يتشرف بأن يكون من أنصار النهضة النسائية في العالم، وإنه لمن بواعث اغتباطه أن يجاهر في هذه المأدبة المصرية بأنه وهو كوزير للحقانية الألمانية سيفرغ قصارى طاقته، ليعمل على تحقيق مطالب المرأة الألمانية التي ترمي إلى مساواتها بالرجل في الحقوق المدنية في ألمانيا، فنهضت السيدة هدى هانم وشكرته على هذه المجاملة الرقيقة.
هذه سطور رأيت أن أخطها عقب عودتي إلى مصر من أوروبا، ليطلع أبناء هذا الشعب وبناته على صفحة وجيزة من صفحات الجهاد القومي الاجتماعي الأدبي الجليل القدر، الذي تجاهده السيدة الجليلة هدى هانم شعراوي في سبيل نشر الدعوة لبنات جنسها في بلاد الغرب؛ حيث لا يزال الناس يجهلون الشيء الكثير عن مصر والمصريين والمصريات.