الفصل الرابع والأربعون
وجه الاتحاد النسائي الدولي دعوته إلى الاتحادات النسوية لعقد المؤتمر الثاني عشر في مدينة إسطنبول في ١٨ أبريل ١٩٣٥، وقد حرصت على أن يكون الوفد النسائي المصري إلى هذا المؤتمر كبيرًا لإظهار مصر في المستوى اللائق بحضارتها وللتعبير عن الأواصر التي تربط بيننا وبين تركيا، وفعلًا تكون الوفد برئاستي وعضوية اثنتي عشرة سيدة، وكان من المهم أن أفعل ذلك. بعد أن قامت مسز كوريث اشبي رئيسة الاتحاد النسائي الدولي بزيارة مصر في يناير، وقد قوبلت بمنتهى الحفاوة سواء من جانب رجال الدولة أو القيادات النسائية في الاتحاد، وقد بالغت الحكومة التركية في العناية بوفد جمعيتنا، فأوفدت معنا الملحق الصحفي بالسفارة التركية بالقاهرة ليسهل لنا مهمة الاتصال بالجهات والهيئات وكذلك شئون السفر والإقامة.
وقد أبحرنا على الباخرة التركية «أزمير» من ميناء الإسكندرية، وكان معنا الوفد الهندي، ووصلنا إلى أزمير بعد ثلاثة أيام؛ حيث كان الوالي في استقبالنا نيابة عن الحكومة، كما استقبلنا استقبالًا حافلًا من الهيئات الرسمية ومن الشعب التركي، كذلك فقد وصلتني كثير من رسائل التشجيع والتأييد من مواطنينا ومواطناتنا الأعزاء، ومن بينها برقية من صفية هانم زغلول تتمنى فيها النجاح والتوفيق لأعمالنا.
وفي منتصف أبريل، كان قد اجتمع وفود أربعين دولة، وكذلك مندوبو الصحف من جميع أنحاء العالم، وقد نشط الوفد المصري؛ حيث قام بمجهود مشكور في سبيل الدعاية لمصر ونهضة المرأة المصرية سواء في المحافل أو الأحاديث والمقابلات الصحفية، ما كان له أثر فعال في توجيه الاهتمام بنوع خاص إلى مصر وممثلاتها في المؤتمر.
وفي ١٨ أبريل، افتتح المؤتمر رسميًّا؛ حيث اجتمعت مندوبات أربعين دولة يمثلن مائتي مليون من نساء العالم في سراي يلدز. ومن الغريب أن هذه السراي كانت في سالف الزمن تؤوي نساء السلطان عبد الحميد، ثم دار الزمن دورته لتملي النساء على العالم رغباتهن من سراي يلدز نفسها!
رسالة السلام
وقد افتتحت المؤتمر مسز كوريث اشبي رئيسة الاتحاد النسائي الدولي؛ حيث ألقت خطابًا مؤثرًا وبليغًا، دعت فيه الجميع إلى التعاون لتحرير المرأة ونشر السلام العام بين الأمم.
وتكلمت عن الوفد النسائي المصري، ولكنني قبل أن ألقي كلمتي بالفرنسية، ألقيت كلمة باللغة التركية شكرت فيها السلطات التركية والاتحاد النسائي التركي على الحفاوة البالغة التي يلاقيها أعضاء المؤتمر، ثم ألقيت خطبتي عن ضرورة تعاون الشرق والغرب ومقاومة الحروب التي تهدد العالم، وتحدثت عن انضمام الأمم الشرقية إلى الاتحاد النسائي الدولي رغبة في التعاون مع الغرب لنشر السلام العام بين الأمم جميعًا، على أن يكون هذا السلام مبنيًّا على أسس العدل واحترام حقوق الشعوب وإزالة الفوارق الجنسية والدينية وغير ذلك من المسائل الجوهرية.
قرارات المؤتمر
وقد أصدر المؤتمر عدة قرارات هامة، بناء على اقتراحات الوفد النسائي المصري الذي كان له أكبر نصيب في هذه القرارات، ومنها أن الرقي يقضي بأنه على النساء في جميع بلدان العالم أن يوجهن أنظارهن إلى قاعدة المساواة والعدالة، وأن يجاهدن لاستئصال شأفة انحطاط منزلتهن التي يشكين منها من الوجهة القانونية والاجتماعية والاقتصادية.
وإن تطبيق مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في مسألة الجنسية يتعذر العمل به في مصر من جراء نظام الامتيازات الأجنبية، ولذلك فإن المؤتمر يتمنى زوال النظام المخالف لمبادئ المساواة، وبخاصة أن مصر هي البلد الوحيد في العالم الذي لا يزال قائمًا فيه هذا النظام.
ويقترح المؤتمر على الجمعيات المشتركة فيه أن تبحث جديًّا في الوسائل العملية، لمعالجة بعض الأضرار الحالية، كتقليل ساعات العمل وإنشاء صناعات جديدة وتسهيل الاعتمادات، وتعديل النقد بما يحقق رفع مستوى المعيشة في العالم كله وتثبيت أسعار السلع.
وإن النساء المجتمعات في المؤتمر يحتججن على جميع أنواع التجاهل والمظالم وعدم المساواة المرتكبة بحق الجنس الإفريقي في العالم كله، وكذلك على طريقة أخذ الثأر باليد الهمجية.
قلب الإسلام
وقد طلبت السيدة أستر فهمي ويصا أن يعقد المؤتمر القادم في مصر؛ لأنها قلب الإسلام، كذلك فقد عبر المؤتمر عن تقديره لجهود الوفد النسائي المصري بانتخابي نائبة لرئيسة الاتحاد النسائي الدولي بأغلبية ١٤٨ صوتًا من بين ١٦٦ صوتًا، وكنت أول شرقية تنال هذا اللقب الدولي المشرف.
مقابلة أتاتورك
وبعد انتهاء مؤتمر إسطنبول، وصلتنا دعوة لحضور الاحتفال الذي أقامه مصطفى كمال أتاتورك محرر تركيا الحديثة، وكنا قد فرغنا من مشاهدة بعض منشآت أنقرة ومدرسة عصمت أينونو للبنات وبعض المنشآت المهنية.
وفي الصالون المجاور لمكتبه وقفت المندوبات المدعوات على شكل نصف دائرة، وبعد لحظات قليلة فتح الباب، ودخل أتاتورك تحيطه هالة من الجلال والعظمة. وسادنا شعور الهيبة والإجلال؛ لدرجة أن مسز كوريث اشبي رئيسة الاتحاد النسائي الدولي كان يبدو عليها الوجل والتأثر، وهي تلقي كلمتها نيابة عن أعضاء المؤتمر.
ورد أتاتورك بالتركية، فشكر لها وللسيدات وحيا جهودهن في خدمة بلادهن. بدئ في تقديم رئيسة وفد كل دولة، وعندما جاء دوري تحدثت إليه مباشرة من غير ترجمان، وكان المنظر فريدًا أن تقف سيدة شرقية مسلمة وكيلة عن الهيئة النسائية الدولية، وتلقي كلمة باللغة التركية تعبر فيها عن شكر وإعجاب سيدات مصر بحركة التحرير التي قادها في تركيا، وقلت: إن هذا المثل الأعلى من تركيا الشقيقة الكبرى للبلاد الإسلامية شجع كل بلاد الشرق على محاولة التحرر والمطالبة بحقوق المرأة، وقلت إذا كان الأتراك قد اعتبروك (أتاتورك) فأنا أقول: إن هذا لا يكفي، بل أنت بالنسبة لنا «أنا الشرق». فتأثر كثيرًا بهذا الكلام الذي انفردت به، ولم يصدر معناه عن أي رئيسة وفد، وشكرني كثيرًا في تأثر بالغ، ثم رجوته في إهدائنا صورة لفخامته؛ لنشرها في مجلة «الاجيبسيان».
ولقد كانت صورة تركيا الحديثة غير واضحة في الأذهان، ولذلك ذهب البعض إلى اتهامها بالكفر والإلحاد، وجرت في ذلك مساجلات فوق صفحات الجرائد والمجلات، ولكن الحقيقة كما قلت في حديث صحفي مع جريدة المقطم نشر بعد عودتي بيومين: إنه ليلوح لي أن هذا الجديد الذي أحدثه الغازي العظيم لم يكن يعني به إدخال القشور من مدنية الغرب على أبناء البوسفور أو بناته، وإنما كان يعني به تجديد العقليات وتوجيهها إلى وجهة التفوق مسايرة للجيل الحديث، فالسيدة التركية إذن لم تفقد روعتها الشرقية الغالية، ولكنها فقدت — بحكم النهضة الحديثة — هذا الجمود الذي كان يتناولها فيجعل منها مقعدة رهينة حجرات أربع، ورهينة جهل مريع، وهذا بلا ريب من نعمة الأقدار على أخواتنا في إسطنبول.
إلى رئيس الوزراء
كان من الطبيعي بعد عودتنا من المؤتمر، أن نبذل الجهود من أجل تطبيق هذه القرارات على حياتنا العامة، ولذلك فقد أرسلت باعتباري رئيسة للاتحاد خطابًا إلى دولة رئيس الوزراء، ألفت فيه نظر دولته إلى ما جاء في هذه القرارات خاصًّا بمساواة الجنسين من الوجهة الأخلاقية وبمنع تعدد الزوجات وبحقوق المرأة السياسية.
وقلت في هذا الخطاب أنه فيما يتعلق بالقرار الخاص بالناحية الأخلاقية، فقد علمنا أن الحكومة مهتمة بتنفيذ التقرير الذي قدمته اللجنة الخاصة ببحث مسألة إلغاء البغاء الرسمي في البلاد، وبقاء تعدد الزوجات، فضلًا عن كونه يسيء إلى سمعتنا الأدبية أمام العالم المتمدين، فإن له تأثيره المؤلم في الحياة العائلية والاجتماعية، وهو في الحقيقة يخالف روح الشريعة التي لم تسمح به إلا تحت شروط يستحيل تحقيقها.
وفيما يختص بحقوق المرأة، فقد سجل المؤتمر عقيدته الراسخة في أنه لا يتحقق أي نظام حكومي بصفة دائمة ما لم يراع فيه هناءة المرأة والطفل، وما لم يعمل على الاستفادة من مواهب المرأة.
منشور إلى نواب الأمة
كذلك فقد وجهنا منشورًا إلى نواب الأمة تحت هذا الشعار «أنصفوا المرأة تسعد الأمة»، وطالبنا فيه بتحقيق مطالب المرأة المشروعة، وهي: منع تعدد الزوجات لغير الضرورة، ومنع فوضى الطلاق، وإلغاء قضايا الطاعة، ومد أجل الحضانة للولد حتى يبلغ وللبنت حتى تتزوج، وتحديد سن الزواج.
زواج حورية إدريس
كانت الآنسة حورية إدريس (ابنة خالي) ضمن أعضاء وفد الاتحاد النسائي المصري الذي اشترك في المؤتمر الدولي الرابع عشر في إسطنبول، ولم تكن تركيا غريبة بالنسبة لنا، فإن والدتي تنحدر أصلًا منها، وقد تعددت زياراتي لها، كما أسلفت في مستهل هذه المذكرات.
وكان من بين الهيئات التي قامت بتكريمنا هناك سفارتنا المصرية، وكان ضمن أعضاء السفارة سكرتير أول هو الأستاذ «حسن شفيق» ابن أحمد شفيق باشا، الذي كان رئيسًا لديوان الخديوي، وهو رجل فاضل خدم وطنه حقبة طويلة من الزمن، وكتب تاريخ مصر في ثلاثة مجلدات سماها «مذكراتي في نصف قرن».
وقد نشأت بين حسن وحورية ألفة خلال الفترة القصيرة التي أمضيناها في إسطنبول، وما إن انتهينا من المؤتمر وعدنا إلى مصر، حتى عاد هو الآخر وطلب يد حورية مني، فوافقت على هذا الزواج، وأقمت لهما احتفالًا لطيفًا بمناسبة عقد قرانهما في منزلي بالرمل في ١١ أغسطس ١٩٣٥، وقد حضر هذا الحفل لفيف من الأهل والأصدقاء المقربين الذين كانوا يقضون الصيف بالإسكندرية.
وكانت المهور في ذلك الوقت مرتفعة جدًّا، ولذلك فقد انتهزت هذه الفرصة لأضع حدًّا للمغالاة في المهور، وقررت أن يكون مهر حورية خمسة وعشرين قرشًا فقط، وكان هذا القرار مجال تعليقات صحفية، وكتب الأستاذ أحمد الصاوي في الأهرام بتاريخ ١٣ أغسطس ١٩٣٥ يقول: «سمعنا المأذون يردد على أسماعنا جملة دهشنا لها أشد الدهش وطربنا لها أشد الطرب، وهي أن مهر هذه العروس قد قررته السيدة هدى هانم شعراوي حدًّا أدنى للمهر وهو ٢٥ قرشًا، ليكون ذلك مثلًا يضرب للناس، وحثًّا على عدم المغالاة في المهور، وإبطالًا لحجة كل شاب يعتذر عن عدم زواجه دائمًا بالمهر، وتوريطًا لأولياء أمور الفتيات وتبصرة لهم بواجبهم نحو بناتهم، وأن المهر يذهب والرجل يبقى.
ولكن لما كانت السيدة هدى هانم قد رأت أن يكون هذا الزواج مثالًا، فقد وضعت في الوقت نفسه لهذه القاعدة «فرملة» خشية الحظر، وإسراف الشبان في الزواج والطلاق؛ فجعلت الصداق ثلاث مئة جنيه، وبذلك وضعت الضمانات اللازمة لحماية الفتاة.»