الفصل السادس
كنت أحب أخي حبًّا متناهيًا رغم غيرتي منه، وكان يزيد من عطفي عليه ضعف صحته، ويزيد من حبي له أنه سيحيي اسم والدي الحبيب، ويرفعه بما كان يتحلى به من صفات حميدة.
ولقد ضاعف من تعلقي بأخي ذلك الحادث الذي وقع ذات يوم، وتجلى فيه فرط حبه لوالده؛ ذلك إننا كنا نلعب ذات يوم في شرفة الطابق العلوي، ولم يكن معنا أحد، فذكرت له أننا على موعد مع أولاد ثابت باشا، وأن هذا الموعد قد أزف، وعلينا أن نستبدل ملابسنا استعدادًا للزيارة، وبخاصة أن والدهم يريد أن يرانا. وعندئذ نظر إليَّ أخي بحزن وسألني: لماذا ليس لنا أب مثلهم؟ ولماذا لم يعد والدنا من سياحته الطويلة كما تقول لي مربيتي كلما سألتها عنه؟ ألا يشعر بالشوق إلينا مثل ثابت باشا؟ قلت له: ألا تعرف السبب؟ قال: لا. فهل تعرفينه أنت؟ قلت: نعم، ولكن إذا أطلعتك عليه فهل تعدني بأن تحتفظ بهذا السر دون أن تبوح به لأحد؟ قال: نعم … تعدني بذلك، قلت له: إنهم يكذبون علينا … إن والدنا لن يعود إلينا أبدًا … فقال في دهشة واستغراب: لماذا؟ قلت: لأنه قد مات! …
وكم ندمت على خروج هذه الكلمة من فمي؛ لأنه كاد يصعق من هول المفاجأة، وارتمى على الأرض يبكي وينتحب ويصرخ صراخًا عاليًا، وانحنيت عليه باكية أحاول أن أهدئ من روعه وأكفكف عبراته … ولكن حناني لم يهون عليه شيئًا، بل ظل على هذه الحالة إلى أن سمعته والدتي، فهرولت نحونا صارخة: ما لك يا خطاب؟
وعندئذ تواريت خلف الباب وأنا أرتعد خوفًا وفزعًا، مخافة أن يطلعها أخي على ما قلته له، فتحقد عليَّ، ومالت عليه والدتي ورفعته عن الأرض وضمته إلى صدرها وهو ما زال يبكي دون أن يجيب عن أسئلتها … فظنت أني ضربته، فالتفتت إليَّ غاضبة وسألتني: هل ضربته؟ فرد عليها وهو يشهق قائلًا: لا … أبلة لم تفعل لي شيئًا! …
وتعجبت والدتي من أمره، وظلت تحاول تهدئته إلى أن نام في حضنها، وأمضينا ليلة سوداء؛ لأن ذلك الانفعال أثر في صحته الضعيفة، فقضى يومين أو أكثر دون أن يقوى على مغادرة فراشه، واجتهدت والدتي أن تعرف منه السبب، فلم يعترف لها بشيء. ولما كان لا يعرف الكذب، فإنه لم يستطع أن يهدئ خاطرها.
وهكذا بر أخي الصغير بوعده، وشب على هذه الفضيلة، ولم يعد يسأل بعد ذلك عن أبيه؛ لأنه عرف مكانه، ومنذ ذلك اليوم زاد تقديري لأخي، وتضاعفت محبتي له، وشعرت أنه يغمرني بحبه أكثر من ذي قبل ويسر إليَّ بخفايا نفسه، وقد ظل الحب بيننا متبادلًا وكبيرًا حتى فرق بيننا القدر، وكانت وفاته أقسى صدمة واجهتني في حياتي.
كانت في حياتنا الأسرية صداقات وطيدة، وفي مقدمة السيدات اللائي كنت أكن لهن الحب والاحترام، المغفور لها سمو الأميرة أمينة إلهامي قرينة الخديوي توفيق، فقد كنت أجد منها العطف والمجاملة، ولذلك ظلت منزلتها في نفسي كما كانت حتى الآن.
وقد عرفتها وأحببتها وأعجبت بجمالها وجلالها وأنا طفلة بعد وفاة والدي، إذ كانت والدتي تأخذنا معها إلى السراي كلما التمست المساعدة في أمورنا وأشغالنا، أو حسم النزاع بالنسبة لبعض مشاكل الميراث، وأذكر أنها كانت تنظر إلينا في حنان، وتأمر الجواري بأن يذهبن بنا إلى غرفة أولادها الأمراء والأميرات، فكنا نلعب معهم حتى تنتهي زيارة والدتي وتستأذن للانصراف.
وأذكر أن أخي الذي لم يكن قد تجاوز الرابعة من عمره، قد أعجبته ذات مرة لعبة كبيرة من لعب الأميرات، وأصر على ألا يخرج بدونها، وعندما عرفت الأميرة الوالدة أمرت بإعطائها له، فخرج مسرورًا بينما كنت أتصبب عرقًا من الخجل لأني بحكم السن كنت أدرك أكثر منه ما يليق وما لا يليق.
ومن بين هؤلاء أيضًا سيدة فرنسية كانت زوجة أحد كبار مهندسي الري في الوجه القبلي، وكانت قد جاءت إلى مصر مع خالها وهو مهندس أيضًا؛ حيث لم يكن لها من عائل سواه إذ كانت يتيمة الوالدين. وقد أحبها ريشار وتزوج منها، ثم مات خالها وبقيت هي مع زوجها في مصر.
وكانت هذه السيدة خفيفة الروح، رقيقة الحاشية، جذابة أكثر منها جميلة، وكانت ذات عينين سوداوين فاتنتين مثل شعرها الفاحم. وكان زوجها يفوقها جمالًا تزينه الرجولة والشجاعة والمروءة. وكانت زوجته مكروهة من النساء، وكان هو أيضًا مكروهًا من الرجال؛ لأن حبهما المتبادل الوثيق لم يسمح لأحد أن يطمع في الوصول إليهما.
وفي ذلك الوقت، كان أحد الباشوات يشغل منصب مفتش عام الوجه القبلي، قبل أن يشغل والدي هذا المنصب، فكان بحكم وظيفته رئيسًا للمسيو ريشار، وكثيرًا ما كان يدعوه مع زوجته إلى سراياه ويحتفي بهما حفاوة بالغة. وقد فهمت مدام ريشار من مجاملته لهما وكثرة تردده عليهما أنه يقصد استمالتها إليه، فصارت تحتجب عنه وتعتذر عن قبول دعوته وإذا أتى للزيارة في غياب زوجها امتنعت عن مقابلته، وكان من نتيجة هذا الصد من جانبها أن فصل زوجها من عمله، ولما كانا فقيرين لا مورد لهما إلا الوظيفة، فقد ذاقا مرارة العيش وبؤسه مدة طويلة، تحملاها بصبر في سبيل الذود عن شرفهما وكرامتهما. ولم تشأ عدالة السماء أن يستمر عذاب هذين الزوجين البريئين طويلًا، فنقل هذا الباشا إلى وظيفة أخرى، وخلفه والدي الذي كان على علم بما نالهما من جور سلفه، فأعاد ريشار إلى وظيفته وأولاه كثيرًا من عطفه وتقديره، وقد جعلهما هذا الموقف يدينان بفضله. وبقيت هذه المودة إلى أن توفي المسيو «ريشار» عام ١٨٨٣ أي قبل وفاة والدي بسنة واحدة، ومنذ ذلك الوقت تحول حب هذه السيدة نحونا بإخلاص شديد، وكان لي من هذا الحب أوفر نصيب؛ لأنها كانت ترى في صورة شبيهة بصورة والدي وأخلاقه، فتعلقت بي تعلقًا شديدًا كان له الأثر الكبير في تربيتي معنويًّا وأدبيًّا. وأعتقد أنني قدرت شعورها نحوي حق قدره، فبادلتها هذا الحب طول حياتها … وكانت عندي المثل الأعلى للوفاء والإخلاص والأمانة، وكانت والدتي من قبل قد آنست فيها هذه الصفات، فكانت تعهد إليها بالبقاء معنا كلما تغيبت عنا أو سافرت المنيا لزيارة قبر والدي. ولم تكن تأتمن أحدًا غيرها علينا.
وكانت مدام ريشار في هذه الأثناء تلازمنا ليل نهار وتراقب دروسنا وتحثنا على الدرس والتحصيل وتلعب معنا كأنها طفلة وتلقي علينا النصائح والحكم، وعندما كانت تعود والدتي، كانت تغادرنا آسفة على فراقنا، وكثيرًا ما كانت تأتي لتصحبنا لمشاهدة السيرك والحفلات المختلفة، وعندما كان يسألها أحد عما إذا كنت ابنتها، كانت تطير فرحًا وتقبلني قائلة: إذن هدى تشبهني.
كانت «فطنات» وصيفة والدتي تكرهني كرهًا شديدًا … وكانت أيضًا تكره مدام ريشار من أجلي؛ لأنها كانت تدافع عني وتحميني من شرها. قد حاولت هذه الوصيفة مرارًا أن تشي بمدام ريشار عند والدتي، وقد نجحت فعلًا في آخر الأمر، وكان عليَّ أن أدافع عن صديقتي وأنفي عنها ما كانت ترميها به «فطنات» من تهم.
وكانت تتمادى في الإساءة إلى من في البيت، وفي مقدمتهم فتاتان مصريتان تربيتا معي … وقد ظلت كذلك إلى أن هربت الأولى «فردوس» من المنزل، ولجأت إلى دار الحرية، ورفضت العودة إلى البيت؛ رغم حبها الشديد لي، وبقيت أنا والفتاة الأخرى «ياسمين» نتقاسم اللعنات التي كانت تصبها علينا، وفضلًا عن ذلك فقد كان عليَّ أن أواجه محاولتها بذر الشقاق بيني وبين أخي، فقد كنت أنصحه بالمواظبة على دروسه والجد في طلب العلم، بينما كانت هي توحي إليه بأنه غني ومثله ليس في احتياج للتعليم. وما زالت وراءه تحضه على التراخي والتكاسل حتى اتسعت بيني وبينه شقة التنافر وقد أرادت أن تستغل هذا الخلاف لتقصيه عني، ولكنها فشلت في أن تؤثر في عواطفه نحوي.
وقد استمر الحال على هذا المنوال حتى ناهزت الثالثة عشرة من عمري، فتقدم لطلب يدي من والدتي شاب من رجال القصر، وكان ذلك في أواخر عهد الخديوي توفيق، ولكن والدتي لم تقبل طلبه، وقد علمت بذلك مصادفة فيما بعد.
فقد حدث عندما كنت في دور النقاهة من مرض ألم بي، وكانت والدتي تجلس بجانب فراشي فغلبني النعاس، وعندما أفقت من النوم، وجدتها في جانب من الغرفة ومعها خالتي تتبادلان حديثًا يشوبه الجد، وسمعت خالتي تقول: إنه سيأخذها رغمًا عنك؛ لأنه سيطلبها من الخديوي، وحينئذ لا يمكنك إلا الإذعان لأمره. فردت عليها والدتي قائلة: وهل ابنتي بلا عريس؟ إنني سأزوجها من ابن عمتها، فقالت خالتي: حرام عليك أن تفعلي ذلك، وتزوجي هذه الطفلة من رجل له أولاد أكبر منها سنًّا، فقالت لها أمي: إنه ابن عمتها وصاحب الأمر في كل شيء … عندئذ غضبت خالتي وقالت لها سنرى من الذي يفوز في النهاية؟ …
وشعرت كأن الغرفة تدور بي، وبكيت في صمت بكاء مريرًا، وتذكرت ما كنت أسمعه من الجواري والمربيات عندما كان يأتي ابن عمتي لزيارتنا، فقد كن يقلن لي إذ ذاك: لقد أتى عريسك فأنزلي لتسلمي عليه.
وبعد فترة من هذا الحديث لاحظت أن ابن عمتي يكثر من المجيء إلى مصر، ويجالس والدتي كثيرًا، فكان يداخلني الشك في أن الأمور تسير في مجرى التحقيق، ولكن كان يزول هذا الشك عندما كنت أرى والدتي تناقشه في غضب وحدة، ولذلك فإنني بتوالي الأيام نسيت هذه المسألة.
إلى أن جاء يوم نادتني فيه والدتي، وكان أمامها صندوق مليء بالحلي والمجوهرات من محل نجيب بك الجواهرجي … وقد خيرتني في انتخاب قطعتين منها فسألتها عن السبب في ذلك، فأجابتني بأن هذا وفاء لنذر عليها نذرته لشفائي من مرضي. وصدقت، واخترت عقدًا جميلًا وسوارين من الماس … ثم هرولت إلى غرفة والدتي الكبيرة لأريها هذه الهدايا النفيسة لتشاركني فرحتي بها، وكانت وطأة المرض قد اشتدت عليها، ورغم ذلك فرحت لفرحتي ونثرت عليَّ عطرًا كان بيدها، ولولا وفاتها بعد ذلك، لكنت قد علمت منها الحقيقة، ولكن للأسف لم يعد بعد وفاتها من يكاشفني الحقائق أو يفسر لي ما يتعسر عليَّ فهمه.
ولقد حزنت عليها حزنًا عميقًا، وكانت قد أهدت لي خاتمًا يوم ختمت القرآن، فأصبح هذا الخاتم تذكارًا خالدًا وعزيزًا لا يفارق إصبعي.
وقد لاحظت بعد ذلك أنه كلما أتت زائرة لوالدتي، صعدت «فطنات» إلى الطابق العلوي، وأخرجت قطعتي الماس من الدولاب وعادت بهما إلى غرفة الضيوف لتتفرج عليهما الزائرات. وكنت أبدي دهشتي لذلك، وأخجل من أن يظن الناس أننا حديثو نعمة!
ثم لاحظت بعد ذلك أن «فطنات» وبعض الجواري يهيئن «الشور» وهي عبارة عن قطع مربعة من الحرير أو التيل الأبيض مزركشة بخيوط الذهب أو الفضة.
ولما كنت أدرك أن هذه القطع تهدى للمدعوين يوم عقد القران، فقد سألت لمن تعدون هذه «الشور» فقيل لي: إنها لقران ابنة أحد الباشوات الذي سيعقد قريبًا …
ثم رأيت بعض إصلاحات تجري في المنزل، وقررت والدتي أن نقضي فصل الشتاء في حلوان إلى أن يتم الإصلاح … فاستأجروا لنا بيتًا صغيرًا بالجهة الشرقية قرب الأرض المقامة عليها المصحة الآن … وكانت من قبل خالية تؤدي إلى الجبل.
فسافرنا إلى حلوان دون أن يساورني أي شك من ناحية هذه الاستعدادات.
وقد أعجبتني تلك الضاحية الرائعة التي كانت في أبهى حلل بهجتها في ذلك الوقت؛ حيث كان الخديوي توفيق يتخذها مشتى له، كما كانت أغلب العائلات الكبيرة تقضي فصل الشتاء فيها. ويؤمها في أيام الجمع والآحاد والأعياد معظم أهل القاهرة للنزهة وقضاء الوقت في الكازينو ودور التمثيل. وكان الشيخ سلامة حجازي رحمه الله يمثل في مسرح الكازينو روايات تاريخية غاية في الإتقان والإبداع، ولما كنت أميل كثيرًا للروايات المسرحية وأحب الموسيقى، فقد صادفت حلوان في نفسي قبولًا وسرورًا، فضلًا عن أن المرأة لم تكن تخرج كثيرًا في المدن في ذلك الوقت، ولذلك كانت تجد في حلوان بعض الحرية التي لا تتمتع بها في القاهرة فتخرج النساء للنزهة هناك.
وقد حدث ذات يوم أن جاءت إحدى صديقاتي من القاهرة لتقضي معي بضعة أيام في حلوان، وفرحت كثيرًا، وخرجت معها بعد الظهر، لأطلعها على ما في حلوان من روعة وجمال، ولم نكد نتجه إلى المحطة حتى فوجئت بقدوم «سعيد آغا» عابسًا ليقول لي: إلى أين أنت ذاهبة؟ عودي إلى البيت فورًا.
وأذعنت لأمره رغمًا عني … وعدت ومعي صديقتي. فلما دخلت أدهشني وجود معلمة اللغة التركية بالباب. ولما سلمت عليها، وجدت بيدها طرحة بيضاء وضعتها على رأسي في الحال، ثم وضعت مصحفًا تحت إبطي، فازدادت دهشتي من هذا العمل الذي لم أتعوده أو أفهم له معنى. ثم جاء سعيد آغا وخلفه علي بك فهمي وزوج خالتي سعد الدين بك، فهرولت إلى غرفتي … وعندما وجدتهم يتبعونني، لجأت إلى النافذة وأعطيتهم ظهري ففاجأني علي بك قائلًا: إن ابن عمتك علي بك شعراوي يريد الزواج منك … فمن توكلين منا؟
في تلك اللحظة بالذات، فهمت معنى كل تلك الاستعدادات وهذه الأشياء التي لم يمكنني تفسيرها من قبل. وأخذت أبكي وأنا مولية لهم ظهري … ولما طال وقوفهم، تقدم «سعيد آغا» وهمس في أذني: أتريدين إغضاب روح والدك والقضاء على والدتك المريضة … إنها في غرفتها تتلوى على سرير المرض وتبكي … وربما لا تحتمل الصدمة إن أنت رفضت.
وأصابت مني هذه الكلمات مواطن الضعف، فقلت لهم: افعلوا ما تشاءون، وخرجت مهرولة إلى غرفة والدتي، فاصطدمت بمسمار كان في جانب الباب، فشج رأسي وأسال دمائي، وكان المنظر محزنًا ومؤلمًا فبكت صديقتي وبكى كل من حولي.
وهكذا أمضيت مدة إقامتنا في حلوان حزينة النفس دامعة العينين، كلما فكرت في أنني سأزف إلى ابن عمتي. وكان سبب عدم رغبتي في الزواج منه هو أنني شببت أراه عميدنا، والمشرف على شئوننا إشراف الأب أو الأخ الأكبر، الذي يجب أن أخشاه وأحترمه، ثم أتذكر أنه أب لثلاث بنات يعشن معه ومع أمهن، وأن ابنته الكبرى كانت تعيرني بأنني سأكون زوجة أبيها … وكانت كلما أرادت إغاظتي نادتني «يا امرأة أبي»، ثم أتذكر أيضًا أنني كلما ذهبت لتحيته، لم أجد منه تلطفًا في الحديث، على خلاف معاملته لأخي.
ولما انتهت إقامتنا في حلوان وعدنا إلى القاهرة، وجدت تغييرًا عظيمًا في منزلنا، وبدأت الخياطة تتردد علينا لإعداد ثياب الجهاز، فكنت أرفض ارتداءها ولا ألتفت إلى شيء مما يدور حولي، إلى أن اقترب موعد الزفاف وبدءوا في إقامة الزينات، وقد لاحظت أن والدتي كانت خلال هذه الفترة دائمة الثورة والغضب، تمامًا كما كانت عندما خطبت، ولكني لم أعلم سبب ذلك لأنني كنت أتجنب السؤال عن أي شيء.
وحتى يوم حفلة زواجي، كنت أجهل الاستعدادات التي عملت من أجلي، ولا أعرف الجناح الذي أعد لي في المنزل … فأخذتني والدتي للفرجة عليه، وهنا أعترف بأن ما رأيته من الرياش الفاخر قد أدخل على نفسي شيئًا من السرور، وغابت عني الحقيقة التي كنت أخشاها أمام هذا الجمال الساحر.
ولما بدأت ليالي الفرح الثلاث، أخرجني ما سمعته من الموسيقى وما رأيته من المظاهر المفرحة عن تلك الأحاسيس التي كانت تنتابني، وكنت أضحك وأمرح مع زميلاتي اللائي يحضرن هذه الليالي، حتى ظن أهل البيت أن الحالة الأولى لم تكن إلا مظهرًا من مظاهر الخجل التي تستولي على الفتيات في مثل هذه الظروف. وزاد من فرحي ما رأيته ليلة الزفاف من العناية الفائقة بشخصي، وكدت أطير من الفرحة عندما دخلت غرفة الزينة وارتديت حلة العرس المزركشة بالذهب والفضة، وأذهلني لمعان الماس والجواهر التي حلوا بها صدري وتوجوا رأسي وزينوا ساعدي. وتصورت أنني سأبقى في هذا الزي وعلى هذه الحال إلى ما شاء الله.
ولما أقبلت المغنيات لزفافي إلى الجناح الذي أعد لي، وكان على مسافة طويلة، وبدأت أشعر بثقل هذه الأشياء، فصرت أتوكأ على زميلاتي فتيات الشرف وأنا أسير بين الشموع المتوهجة ورائحة الأزهار الزكية حتى وصلت إلى البهو الكبير، وهناك رأيت حشدًا ضخمًا من السيدات المصريات والأجنبيات في ثياب السهرة البديعة، وكلهن عيون شاخصة إليَّ، مليئة بالتأثر والحنان.
وعندما أجلسوني على عرش العرس، جاءت السيدات الأجنبيات كل بدورها تضم يدي وتقدم إليَّ باقة من الورد أو تضعها تحت قدمي في شيء من التأثر. ولم أفهم وقتئذ أن هذا الشعور كان رفقًا بطفولتي لتزويجي في تلك السن المبكرة.
وعلى قرع الطبول، انصرفت السيدات ودخل الآغا معلنًا قدوم العريس. ودخل وصلى ركعتين، ثم قام وأقبل نحوي ورفع القناع عن وجهي، وقبلني على جبيني، ثم أخذ بيدي وصعد بي إلى عرش العرس، وجلس إلى جانبي يحدثني حديثًا لم أفهم منه شيئًا، ثم أتوا كما هي العادة بكأسين من الشربات الأحمر، فأعطاني كأسًا وتناول الأخرى.
في صباح اليوم التالي، نظرت من نافذة غرفتي للترويح عن نفسي بمشاهدة السرادق الكبير المزين بأفخر الأبسطة والرياش والأنوار الزاهية التي خلبتني في الليالي الماضية … ولكني انقبضت عندما رأيت أيدي الهدم تعمل فيه، كما وجدت أرض الحديقة التي كان منصوبًا عليها خالية من تلك الأشجار العديدة التي كنت أحبها، وكان لي مع كل منها شأن وذكرى.
كل تلك الأشجار التي كنت أحبها وآنس إليها وأتسلقها وأتأرجح عليها في طفولتي، والتي كانت من غرس والدي وكان يحبها مثلي ويعتني بها. أصبحت أثرًا بعد عين فداء ليلة واحدة ظننت أنها ستبقى ببهائها وجلالها، ولكنها سرعان ما تلاشت كالحلم الجميل.
بكيت على أشجاري، وبكيت على طفولتي، ورأيت في تلك الحديقة الجدباء صورة من الحياة التي سأعيشها منفصلة عن كل ما كان يؤنسني ويسليني … فابتعدت عن النافذة كاسفة البال محزونة القلب، وصرت أتحاشى النظر إليها مدة طويلة حتى لا تعاودني تلك الذكريات الأليمة.