الفصل السابع
بعد زواجي، تعود شقيقي أن يعود كل يوم من مدرسته فيقصد الجناح الذي أسكنه وكتبه تحت إبطه ليراني قبل أن يذهب إلى الجناح الخاص به وبوالدتنا. وكان ذلك يدخل كثيرًا من السرور على نفسي وقلبي.
على أنني كنت ألمح تغيرًا في نظراته، فقد كان يقف أمامي شاخصًا إليَّ ببصره في كلفة لم أتعودها منه، وكنت كذلك أحار في بدء الحديث معه، كأنما كان كلانا يشعر بأن حادثًا جد علينا فغير من مجرى حياتنا.
وعادة كنت أضع حدًّا لصمتنا بسؤاله عن دروسه وأصدقائه، وعن نتائج تناطح خراف لا لا بشير وشجار ديوكه، وعما يعتزم عمله، وهكذا تنبسط أسارير وجهه شيئًا فشيئًا، ولا نلبث أن نعود إلى حالتنا الأولى من الضحك واللعب، وكثيرًا ما كان يترك لي بعض كتبه لأتسلى بقراءتها، ويقاسمني بعض أدواته المدرسية كما كان يفعل من قبل.
وقد أحضر لي ذات يوم باقة زهر البانسيه يضمها شريط حريري سماوي اللون، وكنت أحب هذا اللون وهذا النوع من الأزهار والذي يرمز للذكرى، ولذلك فقد فرحت بها كثيرًا، وما زالت أحتفظ بها عندي حتى اليوم.
ولقد ظللت بعد ذلك فترة طويلة دون أن أقدر وضعي الجديد الذي كان يقتضي مني الرزانة، ويحتم عليَّ أن أظهر بمظهر ربة البيت بمعنى الكلمة، فقد كنت بحكم سني أميل إلى عالم الطفولة وألعب كلما وجدت إلى اللعب سبيلًا.
على أنني لم أتهيب حياتي الزوجية طويلًا، فقد كنت أميل إلى زوجي بحكم قرابتي له، ولما كان يظهره من عطف عليَّ بعد زواجنا. وبدأت آنس به وأطمئن إليه شيئًا فشيئًا، إلى أن لاحظت بعد أشهر أن هناك شيئًا غامضًا قد استولى عليه، فتغيرت أحواله معي ومعاملته لي، ولم أكن حتى ذلك الوقت أدري لهذا التغيير سببًا.
كنت إذا أردت زيارة صديقة أو قريبة، منعني من الخروج، وإذا زارتني صديقة أو قريبة استجوبني استجوابات كثيرة وملحة عما جرى بيننا من أحاديث، كأنما كان يخشى أن يكون قد وصل إلى علمي شيء لا يريد أن أعلمه. وكنت إذا لجأت إلى التسلية بالعزف على البيانو، أرسل يطلب إليَّ أن أكف عن العزف لوجود ضيوف معه. وهكذا شعرت أنه يقيد حريتي تقييدًا ظالمًا. وتألمت لذلك كثيرًا، وبدأت أشعر بالكآبة والسأم، وضاقت الحياة في وجهي، وأصبحت أبكي كثيرًا بسبب أو لغير سبب، وحتى لا يدرك أحد حقيقة معاناتي، فإنني كنت أحتفظ معي دائمًا بكتاب، وأدعي لمن يراني باكية أو متأثرة أنني منفعلة بأحداث محزنة كنت أقرؤها، وما كان يبكيني في الحقيقة غير قصتي المؤلمة!
ولقد لاحظت أن زوجي يكثر من الصلاة والدعاء، فكنت أقول له مازحة: لا بد أنك اقترفت ذنبًا يستوجب التكفير، ولكن الله لن يستمع لدعواتك، وعندئذ كنت أجده أكثر اضطرابًا دون أن أدري لذلك سببًا.
وفي قلب هذه الظروف، وقع حادث سياسي خارجي دفعني إلى التفكير بعيدًا عن دائرة حياتي الخاصة. كان ذلك عام ١٨٩٥ عندما نشبت حرب تساليا بين تركيا واليونان؛ حيث وجد المصريون أنفسهم في موقف يستوجب مساعدة الأتراك، وكان أن شكلت لجنة من الرجال للمساعدة برئاسة المرحوم رياض باشا، وتولت السيدة قرينته رئاسة لجنة السيدات، وقد طلب من زوجي أن أكون عضوًا فيها رغم صغر سني، فوافق على الفور، وكانت هذه أول مرة أقوم فيها بالمساهمة في عمل اجتماعي إنساني عام نبهني إلى واجب الفرد نحو المجتمع وجعلني أقدر فائدة التضامن.
وقد وجدت في هذا الأمل أكبر تسلية وعزاء وصرت أنظر إلى نفسي بعين الاعتبار والتقدير بعد أن خضت عباب المجتمع، وتمكنت من دراسة أخلاق الناس عن كثب، والمقارنة بين شعورهم وآرائهم وعرفت كم يعاني الإنسان في سبيل التعاون على الخير. وكم يريق ماء وجهه في السعي إليه مدفوعًا بشعور الواجب والإنسانية.
وكان الدرس الثاني الذي تعلمته هو أنه بعد أن انتهت الحرب بانتصار تركيا، أراد الباب العالي أن يعبر عن عرفانه لمصر بالجميل، فأرسل النياشين وآيات الشكر إلى رئيس الحكومة الذي خلف رياض باشا، وبذلك نال التقدير من لم يناصروا تركيا أو يأخذوا بيدها، وهكذا تعطي الحياة غالبًا من لا يستحق وكفى المجاهد أنه أرضى ضميره.
وهكذا خرجت من هذه التجربة وقد استفدت في مدة قصيرة أضعاف ما كان يمكن أن أكسبه من خبرة في سنين طويلة، كما تعلمت منها الصبر وسعة الصدر، وكان عليَّ بعد أن انتهت المعركة أن أعود إلى دائرة حياتي الضيقة من جديد.
ذات يوم من الأيام، سمعت والدتي تناقش زوجي في غضب وبصوت عال، ثم نادتني وسألتني عن الوثيقة التي أعطاها لي زوجي، فلم أجب لأنني لم أتذكر أنه أعطاني وثيقة، ولكنه قال لي: إنها داخل المظروف الذي سلمته لك غداة يوم زواجنا. وتذكرت أنه كان قد أعطاني مظروفًا مغلقًا مكتوبًا عليه «يحفظ طرف الهانم» وأنني كنت قد وضعته في دولابه دون أن أعلم ما بداخله، وعندما أحضرته لاحظت أن والدتي قد اطمأنت وأخذت المظروف مني واحتفظت به.
لقد تعودت والدتي أن تسافر من وقت إلى آخر لزيارة قبر والدي وقضاء ليلة في المنيا في منزل عمتي «والدة زوجي»؛ حيث كانت تسكن معها بناته ووالدتهن، ولما عادت في هذه المرة الأخيرة، استقبلتها على السلم كالعادة فوجدتها حانقة مكفهرة، وعندما دخلت غرفتها وخلعت إزارها، فاجأتني قائلة: لماذا أخفيت عني طوال هذه المدة ما يؤلمك ويحزنك، وكلما سألت عن سبب بكائك، ادعيت أنك تقرئين قصة محزنة؟ قلت: إنني لم أخف شيئًا، والحقيقة هي ما كنت أقول. ردت: أما زلت تحاولين الإخفاء؟ لقد عرفت الأمر. سألت: أي أمر؟ قالت: عودة زوجك إلى أم أولاده التي حملت منه وهي الآن على وشك الوضع.
وعندما سمعت ذلك، هللت فرحًا وصفقت بيدي، فدهشت والدتي لهذا المنظر وسألتني إن كنت أمثل هذا الدور لإخفاء الحقيقة مرة أخرى، فأقسمت لها إن هذه أول مرة أسمع فيها هذا النبأ، وأكدت لها فرحتي واغتباطي لأنني كنت في غاية التعاسة، وبدأت أروي لها أول مرة بعض ما كنت أعانيه في حياتي تلك، ولم أكن من قبل أجرؤ على أن أفعل ذلك، وما هي إلا فترة قصيرة، حتى سمعت زوجي يصفق كعادته عند قدومه من الدهليز لينبهني إلى مجيئه. فأسرعت نحوه لأهنئه بقرب قدوم المولود، وتمنيت أن يكون ولدًا ليحقق أمنيته ويطلق عليه اسم والده «حسن» فظهرت عليه علامات الارتباك دون أن ينطق، وعندئذ أوليته ظهري، وذهبت إلى غرفة أعدت لي في الجناح الذي كانت تسكنه والدتي، ولم يكن قد مضى على زواجنا إذ ذاك أكثر من خمسة عشر شهرًا.
وإنني أفضل أن أتحدث باختصار عن هذه المسألة، فأقول إنه قد بدا لي من مجريات الحوادث ما كنت أجهله، فقد عرفت من تلك الوثيقة التي ظلت تحت يدي مدة طويلة دون أن أعرف مضمونها، أنهم لإتمام زواجي من ابن عمتي كانوا قد اتفقوا معه على أن أكون الزوجة الوحيدة، وقد تم زواجي منه بعد أن نفذ التزامه، ولكن عندما رأت والدتي أنه عاد إلى حياته الأولى مع أم بناته وتأكدت من ذلك بحدوث الحمل قررت انفصالي عنه.
ولقد حاول زوجي بعد مضي فترة من الزمن إصلاح ذات البين، ولكن والدتي كانت في حالة ثورة وغضب عليه نظرًا لموقفه الذي أثر في نفسيتها، وإن كان قد تبين لنا فيما بعد خلاف ذلك، فقد اتضح أن مفهوم الإقرار هو أنني الزوجة الوحيدة، وأنه إن راجع أم أولاده تكون طالقًا بينما التبس الأمر علينا وقصرناه على أساس وقوع الطلاق بالنسبة لي أنا.
وبقيت منفصلة عنه سبع سنوات، كونت نفسي خلالها تكوينًا علميًّا لا بأس به، فطلبت من معلمة اللغة الفرنسية أن تستأنف دروسي معها، وكذلك مدرسة البيانو، ولميلي الشديد للغة العربية طلبت من زوج خالتي أن يبحث لي عن شيخ أزهري طاعن في السن حتى يسمح له بدخول الحريم في منزلنا المحافظ، وأحضر لي يومًا رجلًا يدعى الشيخ موسى له هذه المواصفات، ومع ذلك فقد كان يجد صعوبات كثيرة في الوصول إليَّ كل مرة، ولما طال به هذا الحال تركني قبل أن أتم علوم القواعد والأدب، فاضطررت أن أدرس بنفسي.
وكان تعلقي بالموسيقى وحبي للألحان الإفرنجية يدفعني إلى قضاء أغلب سهراتي وأنا أعزف على البيانو، كنت أنتهي من العشاء، وأقصد غرفة البيانو وأظل أعزف حتى ساعة متأخرة من الليل. وكان يساعدني على إتقان العزف كثرة ترددي على دار الأوبرا؛ حيث كنت أشترك مع صديقتي «عديلة هانم النبراوي» في تأجير مقصورة.
كانت صديقتي هذه رشيقة القوام، جميلة الوجه طيبة القلب، رقيقة الحاشية، تربت في فرنسا ونهلت من الثقافة الفرنسية؛ حيث كان والدها يوسف باشا النبراوي يعيش هناك بحكم عمله في السلك الدبلوماسي. وقد تزوج من فرنسية بعد وفاة والدتها.
وقبيل وفاة والدها نصحت له زوجته بإرسال ابنته إلى مصر لتتعود على معيشة بلادها وتتعلم لغتها. وقد تزوجت من ابن عمها صبحي النبراوي ولما لم ترزق منه أولادًا وكانت تتوق لأن يكون لها ابنة، فقد وهبتها كريمة عمتها ابنتها زينب «سيزا نبراوي» التي كانت في الثالثة من عمرها، فتبنتها وأحسنت تربيتها وثقافتها. وكانت عديلة هانم سبب معرفتي بسيزا وتعلقي بها. وقد أوصتني بها خيرًا قبل وفاتها؛ إذ كانت تحبها حبًّا عظيمًا.
وكم كانت الصدمة شديدة على سيزا المسكينة التي كانت تجهل حتى ذلك الوقت أن لها أمًّا غيرها، وكانت سيزا في ذلك الوقت في السادسة عشرة من عمرها.
قلت إنني كنت أميل إلى العزف على البيانو، ومن حسن حظي أن جاءت من أوروبا فتاة في مثل عمري تقريبًا، وكانت ابنة أحد جيراننا وهو فرنسي الجنسية ويعمل موظفًا كبيرًا في وزارة الحربية، وقد ربطت بيني وبين هذه الفتاة صداقة متينة لتوافق أفكارنا وتقارب عمرينا وتشابه ميولنا وكانت ذا خلق وثقافة كبيرة، كانت تزورني في كل يوم تقريبًا، نقضي معظم أوقاتنا في قراءة القصص والأدب والشعر الفرنسي أو العزف على البيانو، وكان ذلك سببًا في تمكني من اللغة الفرنسية وتقدمي في فن الموسيقى.
وكانت هذه الفتاة يتيمة الأم وقد تزوج والدها بعد ذلك ورزق من زوجته أولادًا، وكانت تعيش معهم عمتاها. وكانتا لا تتفقان مع زوجة أبيها، ولذلك فقد كانت دائمًا موضع غضب أحد الجانبين، فضلًا عن أن والدها كان رجلًا غريب الأطوار لا يريد أن يسمع لأحد شكوى، فكانت تجد في وجودها معي ترفيهًا عنها.
وكانت «لويزيت» تتألم لحرمانها عطف من حولها. وكان والدها لا يفكر إلا قليلًا جدًّا في الترفيه عن أولاده. وكان من نتيجة هذا الحرمان وتلك القيود أن تعرفت «لويزيت» على شاب يعمل في أحد المحال التجارية الكبيرة وأحبته حبًّا عظيمًا، ولما كان هذا الشاب فقيرًا ودونها مقامًا فقد أدركت أن والدها سوف يرفض زواجها منه. ولذلك انتظرت حتى بلغت سن الرشد وهربت معه إلى أوروبا ليتزوجا هناك حتى علمت أنه كان على اتصال بفتاة غيرها، وأنه كان قد وعدها بالزواج، وجاءت تطالبه بتحقيق وعده، فتركته لويزيت لها، وعادت إلى مصر والتحقت بأحد البيوت كمربية للأطفال. ولما علم أبوها بذلك، عفا عنها وأراد أن يعيدها إلى منزله لتعيش معه، ولكنها رفضت؛ لأنها لم تجد في نفسها الشجاعة على مواجهة أبيها بعد ما حدث فأوعز الأب إلى أخيه أن يدعوها لتقيم معه في فرنسا، فبعث إليها عمها يدعوها، فوافقت؛ لأنها شعرت بأنه ليس في مقدورها الاستمرار في خدمة البيوت. وذهبت إلى هناك حيث انتابتها حمى، وأجريت لها عملية الزائدة الدودية وماتت على إثر ذلك.
ولم تكن أختها الصغرى أوفر حظًّا منها. فقد أحبت شابًّا، ورفض أبوها أن تتزوج منه لفقره، وعندما أراد أن يزوجها من غيره، رفضت ومرضت وسافر بها الأب إلى فرنسا لتغيير الهواء ولإبعادها عن هذا الشاب، وفي إحدى النزهات صادفت هذا الشاب، فأصابتها رعدة ومرضت بالحمى إلى أن ماتت هي الأخرى.
وكم من فتيات ذهبن ضحية ظلم الآباء ونتيجة تفضيل المادة على سعادة بناتهم. ولذلك تنتهي حياة هؤلاء الفتيات بالموت أو السقوط.
طوال تلك الفترة، لم تنقطع الوساطة بيني وبين زوجي، وأذكر أن الزبير باشا طلب مقابلتي يومًا، فلما قابلته سألني عن سبب عدم عودتي لزوجي وقيامي بخدمته، وقال: إن هذا لا يليق أن تفعله بنت سلطان باشا، ثم انبرى غاضبًا ليقول: ألا تعلمي أن من حق زوجك أن يأخذك عنوة إلى محل الطاعة؟ … واستمر يخاطبني بغلظة وعنف وأنا صامتة، ولما رأى دموعي على خدي، قال لي لقد سمحت لنفسي أن أكلمك بهذه اللهجة؛ لأن والدك كان بمنزلة شقيقي، ولذلك فإنني أعتبر نفسي أتكلم بلسانه … فلم أستطع بعد ذلك صمتًا وقلت: لو كان والدي على قيد الحياة لما أسمعني مثل هذا الكلام لأنني لم أذنب، وإن كان هناك مذنب فهو ابن عمتي، ورغم ذلك فلو كنت أعلم أنه في احتياج لي، ما ترددت في التضحية بنفسي، ولكنه الآن يعيش مع أم أولاده التي تلد له كل سنة طفلًا، ويكفي أنني لا أطلب منه شيئًا، وأتحمل مناوءاته، ولو كان أبي حيًّا لما قبل أن تتعذب ابنته بهذه الصورة؛ لأنه كان رجلًا عادلًا وأبًا رحيمًا. ثم تركته وخرجت. وفي اليوم التالي أرسل زوجته لتعتذر لي عن قسوته.
وبعد أيام علمت أن الشيخ علي الليثي يريد هو أيضًا أن يتوسط في الصلح، وأنه يعتزم القدوم لهذا الغرض. ولقد ارتعت لذلك لأنني كنت أحبه كثيرًا، وكنت أخشى إن حاول معاملتي بخشونة الزبير باشا أن يقل حبي واحترامي له، ومع ذلك انتظرته بشجاعة. ولكنه لم يأت، وعلمت أنه عز عليه أن يكدر خاطري لاعتقاده بأنني لست المخطئة، فازداد حبي وتقديري له.
وتعددت بعد ذلك المساعي وتنوعت الوسائل لإرغامي على الصلح، وكثيرًا ما كان يأتي زوجي بنفسه ويستخدم كافة الوسائل ما بين الرجاء والعطف تارة وما بين الوعيد والعنف تارة أخرى. ولكني في كل هذه الحالات. كنت أتمالك مشاعري، وأحاول إقناعه بالمنطق، وأذكره بواجباته نحو أولاده ووالدتهم. وكنت أقول له إنني أعتقد أن الذي يدفعك إلى هذا السعي إنما هو وخز الضمير لظنك أنك أسأت إليَّ ولكن ثق أنك قد أحسنت بعملك؛ لأن واجبك نحو أولادك يقضي عليك أن تعيش بينهم. فكان يدعي أن حبه لي هو دافعه الوحيد للإلحاح عليَّ بالعودة … وكنت أرى على وجهه علامات الحزن الصادق أحيانًا.
وقد أثرت كل هذه العوامل والانفعالات في أعصابي وصحتي، فمرضت مرضًا شديدًا ألزمني الفراش عدة أشهر، وعندما جاء الصيف أشار عليَّ صديقنا وطبيبنا الدكتور علوي باشا بضرورة سفري إلى الإسكندرية لتغيير الهواء والاستفادة بحمامات البحر، وسافرنا بالفعل، وعدت بعد ثلاثة أشهر وقد استفدت إلى حد ما من بعدي عن المنازعات، كما أصبحت أكثر تعلقًا بالبحر مما كنت، وعندما جاء الصيف التالي، وأردت السفر إلى الرمل، أراد زوجي أن يستغل هذه الفرصة وظن أنه إذا منعني من السفر قبلت الصلح معه. فامتنع عن صرف المبلغ الذي اعتمدته لسفري، ولكن والدتي عندما عرفت ذلك، سافرت على الفور لتستأجر لي منزلًا على حسابها الخاص، وسمحت لي بالسفر مع خالتي لقضاء الصيف هناك وكان لهذا العطف أبلغ الأثر في نفسي.
وفي الإسكندرية … في ذلك الصيف بالذات … كانت لي أول تجربة من نوعها. فقد قررت أن أشتري لوازمي بنفسي من المحلات الكبيرة. بالرغم من تذمر «سعيد آغا» ورغم امتعاض أهل المنزل ودهشتهم من هذه الخطوة وتحدثهم عنها وكأنني قد خالفت قوانين الشريعة.
كنت قد حصلت على إذن من والدتي بذلك بعد جهد وإقناع، وكان عليَّ أن أصحب وصيفاتي و«سعيد آغا»؛ لأنه لا يليق بي أن أتوجه بمفردي، وكان عليَّ أن أسدل إزاري على حاجبي وأن ألتف بحيث لا يظهر من شعري أو ملابسي أي شيء. وعندما دخلنا المحل، دهش الموظفون والمشترون من هذه المظاهر غير المألوفة، وبخاصة عندما رأوا الآغا يحملق بنظراته الحادة في وجوه الناس وكأنه يحذرهم من النظر إلينا، ثم اندفع نحو أحد مديري الأقسام يسأله في لهفة وحدة: ألا يوجد عندكم محل للحريم؟ فأشار له إلى قسم ملابس السيدات. ونادوا على الفتيات البائعات ليتولين خدمتي بعد أن وضعن حاجزين يحولان بيني وبين الموجودين، وإزاء ذلك لم تتمالك أصغر الفتيات من أن تسأل الآغا من أي بلد ومن أي عائلة نحن، فحملق فيها غاضبًا، وشكا للمدير وقاحتها.
وكاد صاحب المتجر يطرد تلك البائعة، لولا أنني رجوته ألا يفعل. وكنت أنا في غاية الخجل من هذه التصرفات.
ورغم مرارة التجربة الأولى فقد تكررت زياراتي للمحال التجارية بعد ذلك، واستطعت أن أقنع والدتي بالفائدة المادية التي تعود علينا من شراء مستلزماتنا بأنفسنا، وكيف يتسنى لنا اختيار أحسن الأشياء، وكيف نستغني عن الدلالات والبائعات المتجولات ونتقي شرورهن ومساوئهن، وما زلت بها حتى قبلت التوجه معي مرة، فتأكدت من صدق قولي، وتعودت بعد ذلك التوجه إلى المحلات التجارية لقضاء لوازمها بنفسها.