الفصل الثامن
بعد عودتي من الإسكندرية في أواخر الصيف، نادتني والدتي يومًا لأقرأ لها بطاقة جاء بها الخادم، وقال: إن صاحبتها بالباب في انتظار الرد، وعندما قرأت اسم السيدة، فرحت والدتي فرحًا شديدًا، وقالت للخادم: لتتفضل بالدخول. وأخبرتني أن هذه السيدة إحدى قريباتها، وأنها جاءت من الآستانة في طريقها إلى الحجاز؛ حيث يقيم زوجها وأولادها.
ولم أكن قد رأيت أو سمعت عن هذه السيدة شيئًا من قبل، وعندما دخلت وتعارفنا، وجدتها شابة جميلة في الثلاثين من عمرها تقريبًا، وبعد أن جلست معها فترة من الوقت، تركتها مع والدتي وعدت إلى جناحي الخاص، وفوجئت بها بعد قليل تقبل ناحيتي وتحدثني دون كلفة كأنها تعرفني منذ أمد بعيد. وكنت بطبيعتي قليلة الاندفاع، ولذلك لم يعجبني منها هذا التدخل في أموري، وبخاصة أنها ظلت طوال الأسبوع الذي قضته بيننا تسألني عن كل ما يكتنف حياتي وتبدي فيه آراءها، ولذلك كنت أحاول تجنبها قدر المستطاع.
وعندما عزمت على الرحيل، نزلت أودعها عند الباب وبيدي باقة من أزهار الحديقة قدمتها إليها، وبعد سفرها بشهر أو أكثر، وصلتنا منها رسالة من المدينة المنورة تشكرنا فيها على حسن ضيافتنا لها خلال الأيام التي أمضتها بيننا. وقالت: إنها ما زالت تحتفظ بباقة الورد التي أهديتها لها عند رحيلها تذكارًا لتلك الأيام الجميلة التي تجد فيها العزاء والسلوى عن أيام الشدة التي تعانيها، بعد أن انفصلت عن زوجها، وقالت: إنها ستبقى في المدينة لمدة سنة مع أولادها حتى يتم ولدها الصغير سن الحضانة، فتتركه هو وأخته لوالدهما وترجع إلى وطنها؛ حيث يقيم أخوها، وقد أسفت والدتي وطلبت مني أن أكتب لها رسالة نيابة عنها، أدعوها لتأتي عندنا بعد انقضاء المدة؛ حيث تجد من والدتي الأم الثانية لها وتجد مني الأخت المخلصة، وظللنا نتبادل الخطابات حتى انقضت السنة، وجاءت لتعيش معنا، وكان بؤسها عاملًا على ميلي إليها وعطفي عليها، وبخاصة أنني كنت أقرأ في ملامحها علامات اليأس والحزن العميق مما أثر في صحتها تأثيرًا شديدًا.
وعندما كنا نتسامر ذات ليلة روت لي قصتها المؤثرة، وهي التي تكاد تكون صورة طبق الأصل من حياة المرأة الشرقية في ذلك العصر.
قالت: أنا من أم شركسية وأب تركي، وكان والدي أحد السادة الأثرياء، وقد تزوج من والدتي؛ لأنه لم يرزق أبناء من زوجته الأولى، وقد أنجبت له والدتي أخي وأنا، ثم مات بعد أن ضاعت أمواله في أوراق مالية تدهور ثمنها، ولم يترك لنا سوى بيت ذي حديقة واسعة، وكانت والدتي صغيرة وخشيت عجزها عن مواجهة الحياة، فتزوجت من رجل طيب أحسن معاملتها وتكفل بنا كأنه والدنا.
وذات يوم حضر زوج والدتي ومعه رجل من أشراف الحجاز طلبني من والدتي، وزكاه زوجها فرضيت بزواجي منه إذا وعد صدقًا أنه لا يفرقني عنها ولا يطلب مني مغادرة وطني. وسألته إذا كانت له زوجة أخرى فطمأنها بقوله: إنه لم يتزوج بعد. وقد عرف كيف يستميلني ويجذبني إليه ويحببني فيه فأحببته، حتى إنه لما أراد العودة إلى بلاده رغبت في مرافقته، ورافقتنا والدتي إلى الحجاز، ووجدت أنه لم يكذب عليها ولم تكن له زوجة غيري، ولما اطمأنت إلى ذلك، تركتني ورجعت إلى بلادها. وعشت معه عيشة هادئة، وبعد ثلاث سنوات رزقت منه بطفلة سميتها «زينب».
كان زوجي في كل حج يتوجه إلى مكة ويغيب فيها، فساورتني الشكوك. وذات يوم عثرت على خطاب في درج مكتبه من سيدة فهمت منه أنه تزوجها، فثارت ثائرتي، وفارقته عائدة إلى إسطنبول وفي نيتي عدم العودة إليه.
ولكن زوجي حضر في صيف تلك السنة، وبذل كل جهده لينال رضاي وعفوي عنه، وعزا زواجه بابنة عمته بأنها قريبته يخشى على مالها من الضياع، فرجعت معه، ورزقت منه ولدًا هو «السيد محمد». ولكن تبين لي بعد ذلك أنه مزواج، وأنه من كثرة زواجه لا يعلم عدد من تزوج منهن، وكذلك لا يعرف أولاده، ولما وصلت إلى المدينة وكانت لي عمة تعيش فيها قصدت بيتها ونزلت عندها وأرسلت إليه طالبة طلاقي بشرط أن أبقى مع ولدي حتى يبلغ سن الحضانة، فقبل ذلك. وبقيت مع ولدي حتى انقضت المدة، وكتبت إليكم فجاءني كتابكم بالأمل.
وقد تألمت لحال هذه السيدة ورثيت لها ووعدتها بأن أعاملها معاملة الأخت لشقيقتها، ومن محاسن الصدف أنها جاءت في وقت كنت محتاجة فيه إلى شيء يحول اتجاه تفكيري في حالتي.
وكانت هذه السيدة ذات صفات طيبة ومخلصة وفية. وكانت تحبني حبًّا جمًّا أشعرني بسعادة عظيمة: ولكن كثيرًا ما كانت محبتها تدفعها إلى محاولة الاستئثار بي، وكان ذلك يحدث عندي شيئًا من الثورة النفسية لأنني أكره كل ما يحد من حريتي واستقلالي، وإن كنت أشفق عليها لعلمي أنه لا ملجأ لها إلا بيتنا وبخاصة بعد أن توفي شقيقها الوحيد بعد وفاة أمها، وصارت وحيدة لا معين لها في الحياة.
كانت تميل إلى العزلة والأشغال اليدوية والبقاء في الغرفة التي تعودت الوجود فيها وتكره كل شيء يحدث الضوضاء، ولذلك كانت تضيق بعزفي الموسيقي رغم أنني كنت قد وصلت في العزف على البيانو إلى درجة لا بأس بها، وكنت مرغمة على الإقلال من هذه الهواية مراعاة لخاطرها.
وقد فكرت في وسيلة تشغلها عني قليلًا، فعرضت عليها أن تأخذ معي دروسًا في الرسم، وأن تشاركني أيضًا في دروس اللغة العربية واللغة الفرنسية، فقبلت، ولكنها لم تستمر إلا في الرسم لميلها الشديد للأشغال اليدوية. وقد أتقنت هذا الفن لدرجة كبيرة.
عاشت هذه السيدة بجانبي خمس سنوات حتى صرنا خلالها كأختين تفرح الواحدة لفرح الأخرى وتحزن لحزنها. وفي هذه الفترة تعرفت بسيدة أخرى أحببتها حبًّا صادقًا، وكانت هي الوحيدة التي لا تغار منها صديقتي وتعترف بأنها جديرة بحبي وإخلاصي، تلك هي الزوجة الأولى للمرحوم حسين رشدي باشا، وكانت فرنسية الجنسية.
عرفتها في حفل زفاف حسين بك رياض، وكنت مع صديقة لي بغرفة الزفاف عندما دخلت هذه السيدة وعليها سيماء الوقار وملامح الذكاء، فاسترعت انتباهي. وأظن أنني أيضًا كنت موضع اهتمامها رغم صغر سني في ذلك الوقت. قدمتني إليها شقيقة رشدي باشا، وأمضيت بجانبها معظم السهرة مغتبطة بجانبها؛ إذ وجدتها في أفكارها وحديثها تختلف عن غيرها من السيدات المثقفات المغرورات، وقد زادنا ارتباطًا يوم أمضيناه بباخرة على النيل ذهبت بنا إلى القناطر الخيرية ومعنا سيدات أخريات من الإفرنجيات، وقد مكننا الوقت الطويل الذي أمضيناه معًا من حسن التعارف وربطنا بأواصر المودة الأدبية والروحية، وقد صارحتني أنها سمعت عني كثيرًا ولكن على غير الحقيقة التي لمستها من معاشرتها لي … فسألتها عما وصل إليها عني، فقالت سمعت بعض الناس يقولون إنك تركت زوجك لأنك تريدين الزواج من غيره من الشبان، وأنه تعس لفراقك وعدم انقيادك له، وقد امتحناك دون أن تشعري، فظهر لنا خلاف ما سمعنا. فلما أظهرت لها دهشتي من امتحانها الذي لم أشعر به … قالت دخلت عندي إحدى صديقاتي يوم استقبالي، وكنت أنت عندي وقتئذ، فقدمتك إليها، وبعد خروجك تحدثنا، وأكثرت من الثناء عليك وتحدثنا عن السيدات المصريات عامة. فقالت هذه السيدة، كم من خفايا يخبئها البرقع! … فقلت لها: ماذا تعنين بهذا القول؟ قالت: كل هؤلاء السيدات يسلكن تحت شعار براقعهن أسوأ المسالك. أما نحن معشر الفرنجيات فإننا نخرج سافرات … وكل واحد يعرفنا ولذلك لا يمكننا أن نطرق مكانًا مشتبهًا فيه، قلت لها: إن هذا الكلام لا ينطبق على صديقاتي وخاصة صديقتي الصغيرة، قالت لي: هل تسمحين لي أن أمتحنها، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان. فقلت لها: افعلي ما تشائين، فإني على ثقة تامة بصديقتي.
عندئذٍ سألتها عن تلك السيدة، ولما عرفتها، تذكرت أنها كانت تتردد علينا حتى بلغت من نفسي مكانة طيبة، وفي صباح يوم كنَّا نتحدث عن التحف والآثار القديمة، فقالت: إنها تعرف أحد الحوانيت وفيه ممَّا أحب الأشياء كثيرة، وحببت إليَّ مرافقتها إلى ذلك الحانوت لأرى لوحات الرسم والتحف الموجودة به، فوافقت وخرجنا معًا في عربتها، وبعد أن تفرجنا، دعتني بإلحاح لتناول الشاي معها في أحد محلات الحلوى، فرفضت؛ لأن ذلك لا يليق بي شخصيًّا فضلًا عن خروجه عن التقاليد … وكررت رجاءها وإلحاحها، وكررت الرفض بدوري. ولما لم توفق إلى إقناعي، ظنت أنني ربما أقبل هذه الدعوة إذا كانت في محل آخر بعيد عن المدينة، فعرضت عليَّ الذهاب إلى مقهى بجهة الجزيرة لا يؤمه أحد من معارفنا، فرفضت أيضًا رفضًا باتًّا، وقد دهشت السيدة لهذا الرفض من شابة مثلي إزاء سيدة مثلها، فلم أعبأ بدهشتها، ورجوتها في شيء من الخشونة والاستياء أن تعيدني إلى منزلي. ولما فهمت مني أن رفضي يرجع إلى أن الاختلاط يتنافى مع تقاليدنا، قالت لي: إن كثيرًا من السيدات المسلمات يحضرن عندي الحفلات، ويمكثن داخل حجرة مظلمة يمكنهن من خلالها مشاهدة الحفلة من وراء ستار دون أن يراهن أحد، ولكنني أقنعتها أن هؤلاء السيدات يذهبن مع أزواجهن أو إخوتهن أو آبائهن، وأن حالتي تختلف عنهن.
وكنت قد حدثت صديقتي حرم رشدي بك في أمر هذه الصديقة بعد أن كثر إلحاحها عليَّ، فقالت لي: إن خير ما تقدمينه لها دليلًا على إخلاصك وحبك هو ألا تطلبي منها زيارتك أو حضور أية حفلة عندك.
وكان هذا يزيد في تقديري وإخلاصي لصديقتي حرم رشدي باشا، فهي لم تكن تعني بظروفي وحالتي واسمي فقط، وإنما كانت أيضًا تجتهد في تثقيفي في اللغة الفرنسية، وكانت ترشدني إلى أثمن الكتب وأنفعها … وكانت تناقشني فيما قرأت وتفسر لي ما يصعب عليَّ فهمه، وكانت تغذي عقلي وروحي بكل أنواع الجمال والكمال.
ثم إنها كانت تحتم عليَّ أن أحضر عندها كل يوم سبت من كل أسبوع، وهو يوم استقبالها … في الموعد المحدد للسيدات … قائلة لي: «أنت زهرة صالوني»، وفي الأيام التي لم أكن أتمكن فيها من زيارتها، كنت أرسل لها باقات الزهور، فكانت تشكرني برسالة رقيقة تقول فيها: إن هذه الزهور الجميلة التي أرسلتها إليَّ لا يمكن أن تملأ الفراغ الذي أوجده غياب زهرتي المحبوبة، فحاولي التقليل من تلك الباقات حتى لا تنقصي بغيابك من بهجة صالوني.
ولقد كانت هذه السيدة الفاضلة مثال العفة والطهر والوفاء والكمال، وكانت تحب أن يتصف كل أصحابها ومعارفها بتلك الصفات النبيلة، ولذلك كانت تحاول دائمًا أن تبث فيهم هذه الفضائل.
وأذكر في أحد أيام استقبالها أن دار الحديث حول موضوع التقاليد والحجاب، فقالت: إنني رغم إعجابي بالزي المصري وما يكسبه الحجاب للمرأة من روعة وجمال، فإنني أشعر بالأسف في الوقت نفسه؛ لأنه يحول دون تقدمها ويحرمها التمتع بقسط أوفر من التعليم والرياضة البدنية، ولذلك تتعرض للبدانة، كما أنه في الأوساط الغربية يظن الكثيرون أن الحجاب أداة تستر على ما خفي تحته، ولذلك يرجع كثير من السائحين إلى بلادهم بفكرة خاطئة؛ حيث إن بعض من يقودونهم إلى المنازل الساقطة، كثيرًا ما يدخلون في روعهم أنهم يقدمونهم لسيدات من العائلات الكبيرة، فيعودون إلى بلادهم مشبعين بهذا الاعتقاد الخاطئ … ويكتب بعضهم ما يمليه عليه خياليه الضال واعتقاده الفاسد. ثم انتقلنا للحديث عن كتابها «حريم ومسلمات مصر» الذي قدمته باسم مستعار. وقالت: لقد كان غرضي من هذا الكتاب هو وصف حياة المصريين على حقيقتها ليعلم الإفرنج أنهم ظلوا يسيئون الظن بهم طويلًا، ولأقنعهم بأن المصريين في عاداتهم وتقاليدهم لا يختلفون عنهم إلا قليلًا، بل لقد ميزهم دينهم الحنيف بما فيه من حكمة وعدالة على غيرهم من البشر.
وقالت: إنني بدأت في تأليف كتاب آخر أبين فيه سوء حال المرأة المصرية كزوجة وأم من جراء التقاليد والعادات البعيدة عن الدين، فالحقيقة أن الدين الإسلامي قد أنصف المرأة أكثر من أي دين آخر، وسأسمي هذا الكتاب «المطلقات»؛ حيث إني حضرت عدة جلسات في المحكمة الشرعية، وتألمت كثيرًا لتعاسة المرأة المصرية وبخاصة الفقيرة وظلم الرجل لها.
وقد سألتها عما إذا كانت تقبل الزواج من رشدي باشا فيما لو عرفت مثل هذا من قبل؟ فقالت: نعم … كنت تزوجته لأني قدرت فيه كرم الأخلاق وأحببته، ولا سيما أنني كنت أعلم أن الدين الإسلامي يحرم الخمر والميسر، ولقد كان زوج أختي من المدمنين على الشراب المولعين باللعب، ولذلك كان ينغص عليها حياتها، كما فقد معظم أمواله، فلما طلبني رشدي، فرحت به لعلمي بأن دينه يحرم عليه هذين المنكرين، وأنه بذلك لن يجلب لي من التعاسة ما جلبه زوج أختي لها.
وقد سألتها عما إذا كانت لا تزال على رأيها الأول في أن المسلمين بحكم دينهم لا يشربون الخمر ولا يقربون الميسر … قالت: لا مع الأسف، ولو أنني عرفت ذلك، لما تزوجت رشدي رغم حبي له … ليس لهذا السبب فقط، وإنما لما يتكبده الأزواج مختلفو الجنسية من جراء التصادم الناشئ عن اختلاف العادات التي يتعذر على كل منهم التخلي عنها دون تضحية أو ألم. ويؤلمني أن أغلب الإفرنجيات اللاتي تزوجن من المصريين هن من طبقات لا أحب أن يظن أحد أنني منها.
ثم أضافت: ومع كل ما قدمت من حديث، فإنني سعيدة وقريرة العين بحياتي الراهنة. وأكبر دليل على عدم أسفي وامتزاجي بالأسرة المصرية أنني أعددت لي قبرًا بالإمام بجانب قبر زوجي كي لا نفترق في الدنيا أو في الآخرة.
ونظرت إليها في دهشة، فإذا بها تقول أمام صاحباتها الفرنجيات: ألا تعلمين أني اعتنقت الدين الإسلامي منذ زواجي من رشدي، وأنني الآن مسلمة وأريد أن أدفن في مقابر المسلمين … ولقد كتبت ذلك في وصيتي لأهلي.
حقيقة إن صديقتي كانت وقتئذ الوحيدة بين الإفرنج التي أمكنها أن تدرس وتتفهم وتقدر أخلاق المصريين وصفاتهم … وكانت تعرف كثيرًا من الأمثلة العربية الدارجة، وتحيط بكثير من العادات والتقاليد التي لا تعرفها كثيرات من المصريات أنفسهن.
وكثيرًا ما كنا نتريض في طريق الجيزة أو في حدائقها. وكان يدور حديثنا غالبًا حول البحث عن الطريقة العملية المجدية للوصول إلى تحسين حال المرأة المصرية والترفيه عنها. وقد استقر رأينا على أن نبدأ مشروعنا بتوجيه المرأة إلى ممارسة الرياضة البدنية أولًا، وتنبيهها إلى خوض الحياة الاجتماعية وترغيبها في دراسة الفنون والآداب، وذلك بعقد اجتماعات تجمع بين الرياضة الفكرية والرياضة البدينة … وقررنا أن نبدأ بإعداد ملعب للتنس في حديقة مصطفى رياض باشا؛ حيث كانت أوسع من غيرها وأنسب إذ كانت محوطة بسور مرتفع يحجبها عن الأنظار، واتفقنا أن نعرض هذا الموضوع على صديقتنا شريفة هانم رياض، فرحبت بالفكرة، وبعد أن حصلت على موافقة زوجها أعدت الملعب وأقامت سرادقًا بالحديقة ليكون بمثابة استراحة للاعبات، ولنجتمع فيه لتبادل الآراء والمحادثات الأدبية … ثم دعونا يوم استقبالها لعرض المشروع على الزائرات في ذلك اليوم … ولن أنسى ما أصابنا من خيبة وفشل عندما شرحنا الموضوع لسيداتنا ودعوناهن للنزول إلى الملعب فلم تتحرك واحدة منهن … وانتهى الأمر بأن انتفع به أولادنا بدلًا من أمهاتهم.
وأذكر هنا أيضًا أنه في ذلك الوقت نفسه، كان المرحوم رشدي باشا وبعض أصحابه يفكرون في تكوين جمعية ومؤسسة لرعاية الأطفال، وقد طلبوا من شريفة هانم رياض كما طلبوا منا أن نكون لجنة من السيدات تشترك معهم في تحقيق هذا المشروع، فحبذنا الفكرة، وقررنا في أول اجتماع لنا وضع لائحة داخلية لهذه اللجنة، وكلفت سكرتيرة اللجنة بتحضيرها، بينما قامت الأعضاء بتجهيز ما يلزم للعرض والبيع في سوق خيرية تقام لصالح المشروع. وأثناء ذلك قدمت السكرتيرة اللائحة، فإذا بها تتضمن بنودًا أو شروطًا أوجبت تذمر أغلب الأعضاء، فانسحبن من عضوية اللجنة، ومن ذلك مثلًا ارتداء زي خاص بأعضاء اللجنة، وضرورة حصول كل عضو تريد الالتحاق بالجمعية على تزكية من عضوين مع شهادتهما بحسن سيرها وسلوكها. وهكذا انفضت اللجنة … وخاب أملنا في إيجاد رابطة أدبية لتوجيه السيدات إلى ما يهذب أفكارهن وينهض بهن.
وكان من جراء ذلك أن حاز الرجال وحدهم شرف تحقيق هذا المشروع الحيوي العظيم، الذي كانت المرأة أولى بالقيام به من الرجل! …