أمام شباك التذاكر
(أمام شباك تذاكر مسرح الأُديون في باريس عام ۱۹۲٦م.)
(صرَّافة التذاكر – الشاب.)
هي
:
سيدي يريد …؟
هو
:
لا شيء يا آنسة! … أشكرك!
هي
:
لا شيء؟!
هو
:
لا شيء مطلقًا!
هي
:
لا شيء مطلقًا؟!
هو
:
لا شيء على الإطلاق! … أيدهشك ذلك أيتها
الآنسة؟
هي
:
بعض الشيء يا سيدي! … ألا تطلب شيئًا؟
هو
:
وماذا تريدين أن أطلب؟
هي
:
اطلب … محلًّا مثلًا!
هو
:
ليس لديك محل!
هي
:
ليس لدي؟!
هو
:
نعم! … ليس لديك!
هي
:
كيف تدري؟!
هو
:
أعلم حق العلم! … وأثق أنا من ذلك! … متأكد كل
التأكد!
هي
:
هذا عجيب! … ولكني أؤكد لك يا سيدي أن عندي محلَّات
خالية!
هو
:
أؤكد لك يا آنسة أنه ليس عندك محل خالٍ!
هي
:
بلى!
هو
:
كلا!
هي
:
بلى! … بلى!
هو
:
كلا! … كلا! … صدقيني أنا!
هي
:
كيف أصدقك يا سيدي وأمامي لوحة المحلَّات؟
هو
:
لا تهمني لوحة المحلَّات! … إني أقول لك ليس لديك
محل! … وأنت تؤكدين لي وجوده … فلنتراهن! … إني أراهن …
وها هي ذي مائة فرنك! … (يخرج من جيبه ورقة بمائة فرنك).
هي
:
أما ما لا محل للنزاع فيه، فهو أنك ستخسر نقودك!
هو
:
على العكس … وسوف ترین!
هي
:
هذا عجيب!
هو
:
لا محل للعجب! … هذا بديهي … معقول … وكل منطق
سليم يؤكد أن ليس لديك محل! … لا تنظري إليَّ هكذا!
… إني أتكلم مالكًا جميع قواي العقلية! … ليس
لديك محل خالٍ، كل امرأة جميلة ليس لديها محل خالٍ في
قلبها! … أفهمتِ؟ … إني أرى جليًّا أنه لم يبق في
قلبك «فوتيل» واحد شاغر! … حتى ولا في أعلى
«التياترو» … حتى ولا مكان للوقوف في آخر الصفوف
… أليس كذلك؟ … أليس هذا حقًّا؟
هي
:
دعابة ظريفة!
هو
:
أعندك حتى مكان للوقوف؟
هي
:
يا له من مزاح!
هو
:
نعم … إنه مزاح! … ولكن أجيبي: أعندك أم
لا؟
هي
:
مكان للوقوف؟! … في قلبي؟! (تضحك) ما أغرب
ذلك!
هو
:
ليس لديك! … لقد سبق أن توقعت ذلك، وقلته لك …
أترين صدق حكمي على الأشياء؟! … وأنني كنت مصيبًا،
وأنني على ذلك الرابح؟!
هي
:
بالعكس! … لا تمس الرهان من فضلك يا سيدي!
هو
:
كيف؟!
هي
:
لست أنت الرابح! … أنت تطلب مكانًا للوقوف في آخر
الصفوف! … أليس كذلك؟
هو
:
بلى!
هي
:
حسنًا … عندي طلبك! … عندي محل! … محل
واحد بقي لحسن الحظ … فما رأيك؟
هو
:
مكان للوقوف، في آخر الصفوف؟ … كيف ذلك؟
هي
:
ألست أنت الذي طلبت؟ … ومع ذلك ليس هذا صعب
التفسير … أفهمت؟
هو
:
لا … لم أفهم.
هي
:
إن هذا المحل يا سيدي يعطيك الحق في الحضور هنا في
أوقات فراغك! … تراني، وتتحدث إليَّ … وأنت أمام
شباك التذاكر … واقف كما أنت الآن!
هو
:
بغير جلوس؟
هي
:
لا جلوس … تقف هكذا مثل عود الزئبق … هذا هو
المحل!
هو
:
أهذا كل شيء؟
هي
:
كل شيء! … والآن قد سُوِّيَت المسألة! … وبناء عليه
فقد أصبح الرهان لي! … وهذا حق! … وإني أضع هذه
الورقة المالية بلطف وبذوق في جيبي!
هو
:
بلطف وبذوق؟! … شيء جميل جدًّا!
هي
:
ومعقول جدًّا!
هو
:
إذن فقد خسرت أنا مائة الفرنك … ولم أجئ هنا
إلا لأخسرها وأذهب كالمغفلين!
هي
(ضاحكة)
:
ولكنك كسبت الوقوف في آخر الصفوف!
هو
:
كفى يا سيدتي! … ليس من السهل الدعابة معك! …
وداعًا أيتها الآنسة!
هي
(ضاحكة)
:
وداعًا سيدي!
هو
:
أريد أن أقول كلمة قبل رحيلي: إن السيارات التي
تسير ليلًا في الطرقات دون مصابيح لا تعبث بالأمن
العام عبث عيني المرأة الجميلتين … وإنه لمما يؤسَف
له، ويُعَد ظلمًا، أن تُترَك الأعين النُّجْل تُحدِث خسائر
فادحة للأرواح والجيوب، دون الحيلولة بينها وبين
ضحاياها! … إني أقترح أن تتدخل السلطة في ذلك …
قد يبدو هذا متعذرًا، ولكن أمرًا يصدر من إدارة
«البوليس» كفيل بحل المسألة!
هي
:
أمر من إدارة «البوليس»؟
هو
:
نعم! … أمر يقضي بأن كل امرأة ذات عينين
نجلاوين ملزمة بوضع نظارة سوداء! … وإلا حُكِمَ عليها
بمخالفةٍ مائة فرنك!
هي
:
شيء جميل!
هو
:
أليس كذلك؟
هي
:
هذا منطقي ومعقول! … كل امرأة ذات عينين نجلاوين
يجب أن تحجبهما بنظارة سوداء! … كما ينبغي لكل
صاحب كلب أن يضع لكلبه كمامة!
هو
:
أحسنتِ! … وقد نبهَتْني المقارنة إلى شيء … أن صاحب
الكلب مسئول عن الخسارة التي يسببها كلبه غير المكمم! … غير
المكمم! … أفاهمة؟
هي
:
من غير شك!
هو
:
وعلى ذلك، فكل امرأة بغير نظارة هي كذلك مسئولة
مدنيًّا … أفاهمة؟
هي
:
لا … لم أفهم هذا!
هو
:
ينبغي أن تفهمي … والآن … ما دمت أنت الساعةَ
بغير نظارة؛ فإنك محكوم عليك بالمسئولية المدنية
… وبناء عليه ردي إليَّ بلطف وبذوق مائة الفرنك!
هي
:
في المشمش.
هو
:
مشمش؟
هي
:
بأي حق أرد إليك الرهان؟
هو
:
بناء على أمر «البوليس»!
هي
:
الأمر الذي اخترعته أنت الآن؟!
هو
:
دعينا إذن من هذا كله … ما علينا … أحقًّا أنه
حُكِمَ عليَّ ألا يكون لي غير الوقوف في آخر
الصفوف؟!
هي
:
بالتأكيد! … ما دمتُ للأسف لا أملك «فوتيلًا»
خاليًا!
هو
:
وهل يظل ذلك «الفوتيل» دائمًا مشغولًا؟!
هي
:
هذا ما أجهله.
هو
:
ومكان الوقوف هذا … لا يسمح لي بأكثر من المجيء،
لأزرع نفسي أمام شباك التذاكر؟
هي
:
يقينًا.
هو
:
أهذا كل حقي؟
هي
:
نعم.
هو
:
ألا ترين أنك بذلك تظلمينني!
هي
:
ربما … ولكن ما حيلتي؟
هو
:
تستطيعين توسيع دائرة حقوقي!
هي
:
عفوًا يا سيدي إذا سألتك عن صنعتك! … أنت من رجال
القانون بلا شك! … أليس كذلك؟
هو
:
صدقتِ! … ولكنني أريد أن أسألك شيئًا!
هي
:
ماذا؟
هو
:
أريد أن تحبيني … بأي ثمن!
هي
:
هذا طلب مدهش!
هو
:
وما يدهشك؟
هي
(ضاحكة)
:
خير لك أن تقول: أريد أن تحبيني بأمر
«البوليس»! … وإلا حُكِمَ عليكِ بمخالفة!
هو
:
عفوًا … إني تنقصني رقة الأسلوب!
هي
(بجِد)
:
لست أقول ذلك … لا!
هو
:
بلى! … بلى! … وأنت محقة! … إني أعرف عيوبي!
… وطالما قيل لي إن التي تحبني يجب أن تكون امرأة
غريبة، عجيبة في أفكارها وأساليبها … حتى ترضى
بشاعر مجنون مسرف … فنان يحب الفوضى والهوس، ويحيا
الحياة البوهيمية … ولن تحبني قط امرأة عادية،
تراعي أصول المجتمع، وتحافظ على التقاليد!
هي
:
حسنًا … وأنت تجدني إذن عادية أو غير
عادية؟
هو
:
عليك أن توجهي هذا السؤال إلى نفسك!
هي
:
بالعكس!
هو
:
أنت تعرفين وتشعرين!
هي
:
ولماذا تريد أن أحبك بأي ثمن؟ … (تلاحظ مجيء
حارسة الألواح) أوه!
الحارسة
(على عينيها نظارة سوداء)
:
عفوًا سيدي! … «بونجور مدموازيل!»
هي
:
«بونجور مدام كوزان!» … ماذا تطلبين؟ … عجبًا! …
ماذا أرى؟ … (بتهكم) نظارة سوداء! … آه … أنت إذن ذات عينين
نجلاوين يا «مدام»! … يا للعينين الجميلتين الخطرتين!
الحارسة
:
أنت تمزحين؟!
هي
:
أبدًا! … أؤكد لك يا «مدام كوزان» … ألستِ قد
وضعتِ هذه النظارة بأمر من «البوليس»؟
الحارسة
:
البوليس؟
هي
:
أجل!
الحارسة
:
ما هذا الذي تروين يا آنسة؟
هي
:
إذن بناء على أمر مَن وضعتِ نظارتك؟
الحارسة
:
أمر مَن؟ … أمر طبيب العيون طبعًا … ألستُ
مريضة بعيني منذ أسبوع؟
هي
:
إذن فليس من «البوليس» … الغُبن عليك إذن … أنت
الخاسرة … أليس كذلك يا سيدي؟
الحارسة
:
إني لا أفهم مما تقولين كلمة.
هي
:
أنصحك بأن تنزعي للحال نظارتك … حتى لا يختلط
الأمر بينك وبين اللواتي يضعن نظارتهن بأمر من
«البوليس» (ضاحكة)، أليس كذلك يا سيدي؟
الحارسة
:
أيُّ أمر بوليس؟!
هي
:
انزعيها واسمعي كلامي!
الحارسة
:
كيف أنزعها وأنت لا تعلمين ما قاله لي طبيب
العيون؟ … فقد أزعجني!
هي
:
دعينا يا «مدام كوزان» من طبيب عيونك … انزعي هذه
النظارة، حفظًا للأمن العام، فقد انقلبت الأمور الآن
… (ضاحكة) أليس كذلك يا سيدي!
هو
:
بالضبط!
الحارسة
:
أنت تسخرين مني … وقد وجدتِ مجالًا للتهكم عليَّ … أشكرك … (تذهب).
هو
(ينادي)
:
«مدام»! … «مدام کوزان»!
هي
:
دعها! … دعها! … إنها ثرثارة … وقد
ضايقتها عمدًا لتذهب عنا … قل لي! … لماذا تريد
مني أن أحبك؟
هو
:
لأني أريد ذلك … وكفى!
هي
:
أعرف … ولكن لماذا؟
هو
:
لأني وجدت فيك ما أبحث عنه!
هي
:
وهو؟
هو
:
روحك! … ذكاؤك! … نظراتك! … شعرك المقصوص
كشعر إلهة مصرية! … كل ما فيك ينبئ بامرأة غير
عادية، ثائرة، متطلعة، تسخر من كل شيء، ولا تحافظ
إلا على أصول عقلها السليم أو غير السليم! …
وهي خليقة بأن تحول أوجاع الحياة وأحزانها — أيا كانت —
إلى مسرات وملاهٍ! … نوع المرأة الخطرة! … لكن
المرحة الفكهة! … هذه هي صورتك!
هي
:
ليست صادقة!
هو
:
بلى … وأزيد على ذلك أن امرأة كهذه لا تستطيع
أن تستغني عن رجل من نوعها! … رجل له — مثلها —
أساليبه الخاصة!
هي
:
ربما! … ولكنني أؤكد لك أنني لا أستطيع أن أحبك،
لأن قلبي الآن ليس ملكي!
هو
:
أؤكد لك أنك ستحبينني!
هي
:
أيمكن حب اثنين في وقت واحد؟
هو
:
ولم لا؟
هي
:
كيف؟
هو
:
الرجل يحب حليلته وخليلته في وقت واحد، كما يحب
كمنجته وقطته معًا! … ولو أن ميزان الحب لهما غير
متساوٍ! … ولكنه مع ذلك يحب الاثنين!
هي
:
ليس هذا منطقيًّا!
هو
:
بلى! … ليس من المنطق القول بأنه لا يمكن إلا حب
شيء واحد؛ فالحياة أقصر من أن تُكَرَّس لحبٍّ واحد!
هي
:
لا أرى ذلك!
هو
:
سوف ترين! … والآن إلى الملتقى أيتها الآنسة!
هي
:
أتمضي؟
هو
:
أجل … فقد أضعت عليك وقتك!
هي
:
لا! … لست تضيع عليَّ شيئًا! … ما دام ليس هناك زبون
سواك!
هو
:
هاكِ عنواني! … فإذا أردت رؤيتي فأرسلي إليَّ
كلمة!
هي
:
عبثًا تحاول … لن أكتب شيئًا!
هو
:
بلى! … إنك امرأة طُلَعة وغير عادية!
هي
:
لا تعتمد على ذلك … في وسعك أن تأتي لتراني متى
شئت! … فلست أحول دون من يريد رؤيتي! … ولكن لا
تنتظر مني أن أكتب إليك، فهذا محال … محال!
هو
:
هذه كبرياء موروثة في المرأة، ولا محل لها! …
ولكنها كبرياء مؤقتة، وما دمت امرأة غير عادية …
فلا تلبث كبرياؤك أن تنتهي سريعًا … ويجيء يوم يدفعك حب
استطلاعك إلى الكتابة إليَّ!
هي
:
حسنًا … انتظر إذن ظهور المشمش!
هو
:
سأنتظر هذا المساء في منتصف الساعة السابعة بمطعم
«الأب لويس» … إلى الملتقى أيتها الآنسة!
هي
:
إلى الملتقى يا سيدي … سوف تنتظر طويلًا.
(يخرج هو.)
هي
(تفكر لحظات … ثم
تنادي)
:
«مدام کوزان»! … «مدام کوزان»!
الحارسة
:
ماذا حدث؟ … ألم يكفك تهكمك عليَّ أمام الزبائن؟
هي
:
أمام الزبائن؟! … هذا لم يكن زبونًا … إنه …
الحارسة
(ببرود)
:
كيف ذلك؟ … كيف؟
هي
:
إنه رجل غريب! … ولكنه ظريف! … قولي لي يا
«مدام کوزان» …
الحارسة
:
إني غاضبة عليك!
هي
:
لماذا؟ … سبحان الله! … إنا كنا نمزح مزاحًا
بريئًا … لا بد من البهجة والمرح، والتسامح في
المزاح … أليس كذلك؟ … لا سيما عندما تكون
العيون متعبة … ينبغي تحويل أوجاع الحياة وأحزانها
إلى مسرات وملاهٍ … والآن قولي لي يا «مدام كوزان» …
أتعرفين أين هو مطعم «الأب لويس»؟
الحارسة
:
نعم أعرف … . مطعم «الأب لويس» في شارع …