من بغداد إلى البندقية
فأقول — أنا الحقير في الكهنة: إني في تاريخ سنة ألف وستمائة وثمانية وستين للسيد
المسيح خرجت من مدينة بغداد قاصدًا زيارة قبر المسيح في رفقة الطوبجي باشي المسمَّى
ميخائيل آغا،١ ثم إننا سرنا في درب القفر، ففي نصف الدرب خرج علينا لصوص مقدار مائة نفر،
وصار بيننا حرب، فظفرنا بهم. وكان ذلك نهار عيد القيامة، ونحن كان عددنا اثني عشر
نفسًا، لكن بقوة آلات الحرب من التفنك٢ انتصرنا عليهم، ومن هناك أخذنا دربنا وسرنا إلى مدينة الشام، ومن الشام
قصدت القدس الشريف، وتشرَّفتُ بزيارة تلك الأماكن المقدَّسة.
ثمَّ ذهبتُ إلى مدينة حلب، وبعد أيام انحدرت إلى ميناء البحر الذي يسمَّى إسكندرونة؛
فمن هناك ركبت في مركب إنكليزي، وسرنا قاصدين بلاد أوروبَّة، فجزنا إلى جزيرة قبرص،
وهناك زرت قبر القديس عازار وأختهِ مريم ومرتا،٣ ومن هذه الجزيرة رحلنا، وبعد أيام جزنا على جزيرة قريطش التي تسمَّى كريد،
ومن هناك وصلنا إلى جزيرة زانطية، وهي في حكم البنادقة، مع جزيرتين أُخريين قريبتين
منها تسميان: كورفو وسافولنية، وهما أيضًا في حكم البندقيَّة التي تسمَّى باللسان
التركي واناديك٤ المعروفة في كل الدنيا، ومن هناك سرنا.
وبعد أيَّام عبرنا إلى ميناء البندقية المذكورة، وكانت عدَّة الأيَّام التي بقينا
فيها على وجه البحر سبعين يومًا، من خروجنا من إسكندرونة إلى أن دخلنا إلى هذا الميناء،٥ ثم أخرجونا من المركب وجعلونا في بيت التطهير الذي يسمَّى نازاريت٦ باللسان الطلياني، فمكثنا هناك واحدًا وأربعين يومًا كالمرسوم، وهذا
نازاريت هو خارج عن المدينة، وذلك عادة في بلاد النصارى؛ خوفًا من الطاعون، ففي تمام
الواحد والأربعين يومًا أتى الحكيم باشي لينظرنا هل بيننا أحد مريض، فبعد ذلك أعطونا
دستورًا أن نخرج من نازاريت؛ فخرجنا ودخلنا إلى البلدة المذكورة، وبقيت هناك عشرين
يومًا متنزهًا، وزرت كنائسهم، والغنى الذي نظرتهُ في كنيسة مار مرقس الإنجيلي٧ هو شيء لا يوصف.
ثم من بعد تلك الأيام توجهت إلى مدينة رومية العظمى، وسكنتها ستة أشهر، وزرت الأماكن
المقدَّسة، خصوصًا كنيسة مار بطرس الرسول الفريدة في المسكونة؛ لحسنها، وبعد ذلك خرجتُ
قاصدًا بلاد فرنسة، فمرَّيت على أرض أمير يسمى كران دوكه توسكانا،٨ وهو يسكن بلد فلورنسة، وهذا الأمير هو غني جدًّا، ذو مال وخزائن.
ومن فلورنسة انحدرت إلى ميناء البحر إلى بلدة تسمَّى ليغورنة من حكم هذا الأمير المذكور، وبعد أيام قليلة سافرت إلى بلدة جينوا ميناء البحر، وهي تحت حكم أمير يحكم على ذاتهِ، وهذا البلد شريف بالعمارات غني بالأموال.
١
ننقل عن الصكوك والأوراق الخطية المحفوظة في مكتبتنا ما نعرفهُ عن هذا الرجل:
هو مخائيل كوندوليو Condoleo طوبجي باشي أو
مدير الطوبخانات الشاهانية في الشام وحلب وبغداد … إلخ. ولد في كريت، وسكن دمشق
الشام، وكان يجول في البلدان بأمر الحكومة السنية ليتفقد أحوال الطوبخانات. وقد
ذكره مرارًا المرسلون في رسائلهم لِما كان عليهِ من الثبات في الدين
الكاثوليكي، والعيشة المسيحية. وكان لهم أعظم نصير بالمساعدة المادية
والأدبيَّة، وكان كثير الثروة واسع الجاه، متقد الغيرة. وقد ذكره بالثناء
مرارًا الأب يوحنا أميو Amieu رئيس الرسالة
اليسوعية سنة ١٦٤٦، وألْمح إلى أسفاره إلى بغداد. وكان لمخائيل آغا أولاد وكلَ
بهم الأب هيرونيموس كيرو Queyrot المرسل
اليسوعي في دمشق الشام؛ ليتلقنوا منهُ التعليم المسيحي والعلوم الأدبيَّة،
ويدرسوا اللغة اليونانية التي كان يلقِّنها عندئذ الأب كيرو المذكور لتلامذته
العديدين من الروم الملكيين.
٢
التفنك: كلمة تركية معناها: قصبة ثم جرى استعمالها باللغة التركية والعربية
في حلب وما بين النهرين بمعنى البارودة أو البندقية، وهذا المعنى دارج في
البلاد الداخلية إلى الآن.
٣
يعرف القرَّاء أن مكان قبر مريم المجدلية ومرتا ولعازر من المشاكل التاريخية
التي لا يزال المؤرخون يتباحثون في حلِّها، فالفرنساويون وسكان إقليم بروفنسة
خاصَّةً يذهبون إلى أنهم عاشوا بعد قيامة المخلص وماتوا في ضواحي مرسيلية،
ودفنوا على قُلَّة يحجُّ إليها الزوَّار متبركين، وهي قُلَّة سنت بوم Sainte-Beaume. أمَّا سائر المؤرخين لاسيما
المحدثين، فإنَّهم ينكرون حقيقة هذا الخبر، ولا يسلمون بهذه الذخائر، ومن
البراهين التي يثق بها الفرنساويُّون تقليد يُعزونهُ إلى رهبان جزيرة قبرص جاء
فيه أن مسيحي الشرق يعتقدون نقلًا عن تقليد قديم أنَّ لعازر ومرتا ومريم دُفنوا
في ضواحي مرسيلية. وقد ذكر العلماء البولنديون في المجلد الخامس عشر بتاريخ ٢٢
تموز هذا الرأي استنادًا إلى رسالة بعث بها الأب يوسف بسُّون Besson اليسوعي بتاريخ ١٧ نيسان ١٦٦٠ إلى الأب دي
غوردان رئيس اليسوعيين في إس Aix-en-Provence،
لكننا نرى رحَّالتنا يذهب مذهبًا آخر يتناقلهُ اليوم أهل قبرص الروم وهم
يكرِّمون قبر القديس لعازر في كنيستهم الكبرى، والله أعلم بالصواب.
٤
واناديك اسم البندقيَّة أو فينيسية باللغة التركيَّة.
٥
كانت السفن في القرن السابع عشر تقطع رأسًا المسافة بين أساكل سوريَّة
والبندقيَّة بثلاثين يومًا، وقد كانوا يبلغونها بخمسة عشر أو عشرين يومًا، إذا
ساعدتهم الريح، لكنَّ العواصف والحاجة إلى الوقوف في موانئ جزائر البحر المتوسط
كثيرًا ما كانت تؤخر وصولهم إلى شهرين أو أكثر.
٦
نازاريت بالطلياني Lazaretto والفرنساوي
Lazaret، المكان الذي فيه يقضي القادمون من
البلاد الموبوءة حجرهم الصحيَّ مدَّة أربعين يومًا، والكلمة مشتقَّة من اسم
لعازر Lazare وبهِ سُمِّيت في الأجيال
المتوسطة مآوي المصابين بالبرص؛ فيكون معناها الأصلي مستشفى البرص Léproserie. وكان هذا المستشفى خارج البندقيَّة
يُدعى سانت ماري دي
نزارت Ste Marie de Nazareth ولهذا سماهُ المؤلف نازاريت لا لازاريت.
٧
هي الكنيسة الكاتدرائية الشهيرة في البندقيَّة.
٨
وبالفرنسية Le Grand Duc de Toscane، وكان
اسمهُ إذ ذاك الدوك فردينان الثاني «١٦٢١–١٦٩٠» وكان لأمراء توسكانا قناصل في
حلب والأساكل في ذلك العهد.