من المكسيك إلى بغداد عن طريق الصين
فمن قبل هذا التاريخ بمقدار مائة سنة، على زمان فيلبه الرابع، ملك إسبانية، سافرت
مراكب من ينكي دنيا إلى نواحي الصين، فرأوا جزيرة واكتسبوها وجعلوا اسمها فيليبيناس Philippines، على اسم الملك المذكور، وسكن هناك
إسبنيولية، وراحت في غير سنين إلى هذه الجزيرة مراكب مع عدة قسوس ورهبان وتلمذوا أناسها
وردُّوهم من الوثنية إلى إيمان المسيح.١
ومن هذه الجزيرة يجيء في كل سنة مركب إلى ينكي دنيا ملآن من بضائع بلاد الصين؛ فيصل
من هذه الجزيرة إلى ينكي دنيا بثمانية أشهر، لكنه في العودة يرجع بثلاثة أشهر،٢ وأيضًا كل سنة يروح إلى تلك الجزيرة مركب من بلد سورط٣ إلى تجار أرمن يسمون جلفالية،٤ ساكنين في هذه الجزيرة — وهم اثنان — يأخذون مال هذا المركب ويدينونه
للسبنيولية لوعدة سنة. ففي كمال السنة يجيء مركب من سورط فيأخذون من السبنيولية دراهم
العام الأول ويعطونهم أيضًا لمثل هذه الوعدة الرزق الجديد. ولا يُعطى دستور لغير طوائف؛
فلا يجيء مركب إلى هذه الجزيرة سوى المركب الذي للجلفالية فقط. وكان لي نية أن أسافر
مع
المركب إلى تلك الجزيرة، ومن هناك أركب في مركب هؤلاء الجلفالية إلى سورط، ومن سورط إلى
بلادي،٥ لكن صدني عارض مع الرجل الذي كان ذاهبًا ليحكم في تلك الجزيرة،٦ فطلب مني أن أدينه عشرة آلاف غرش؛ فشاورت الوزير فقال لى: در بالك لأنه
مَدِين وعليه مائتا ألف غرش دينًا. فامتنعت عن الرواح، وقصدت أن أرجع إلى بلاد
إسبانية.
١
لم يُصب مؤرخنا المرمى في تعيينه لزمن اكتشاف هذه الجزائر؛ فإن مكتشفها هو
رويس لويس دي قيلاويس، سافر سنة ١٥٤٢ من المكسيك، وبلغ هذه الجزائر بعد شهرين،
ولم يتملَّك عليها الإسبانيول إلَّا في سنة ١٥٦٠–١٥٧٠ وقد عُرفت مذ ذاك باسم
فيليب الثاني ملك إسبانية.
٢
لمَّا توطدت سلطة إسبانية على بلاد الهند الغربي «البيروه والمكسيك» والشرقي
«الهند وجزائر الفيلبين … إلخ» أراد التجار في كل من مدن مانيلا Manille وليما Lima أن يربطوا الهندين معًا بطريق البحر؛ تسهيلًا للمواصلات
التجارية، وتقريبًا للمسافات الشاسعة؛ فنجح سعيهم، وجعلت المراكب تسير بين
العالمين حاملة من أمركة إلى الصين والهند الشرقي ما امتازت به من المحصولات
والفضة والذهب نقودًا وسبائك؛ فتعود محملة بضائع الصين من مصاغات وحرائر وأقمشة
وأبازير وتوابل وعطريات. وقد اشتهرت الجوارب الحريرية التي كانوا يأتون منها كل
سنة بخمسين ألف جوز. أما مدَّة السفر فكانت تختلف مع الطريق فيقلع المركب من
ميناء الكالاو Callao، في أواسط آذار متتبعًا
الأرياح الموسميَّة المسماة Alizés، التي تهب
من المشرق للغرب، فيبلغ مانيلا في أقل من شهرين، لكن العودة صعبة، كانت تستغرق
من عشرة أشهر إلى اثني عشر شهرًا، فأرشدهم أحد الآباء اليسوعيين إلى الانتفاع
من الأرياح المضادة؛ فجعلوا يخرجون في تموز من مانيلا فيسيرون نحو الشمال إلى
أن يلتقوا بالأرياح الغربية التي تهب في تلك الأصقاع؛ فتدفعهم إلى شطوط
كاليفورنية والمكسيك بين شهر ك١ وك٢ فيحطون في ميناء أكابولكو Acapulco في المكسيك.
٣
نظنهُ يريد مدينة surate في شمالي مقاطعة
بمباي في خليج كامباي الذي دعاهُ ابن بطوطة كنبايت، وقد وصف مدينة بهذا الاسم
وذكر سعة تجارتها. أما سورط أو سورات فهي مدينة حديثة لم يكد يأتي ذكرها في كتب
العرب؛ لأن اشتهارها لم يسبق أوائل القرن السابع عشر حيث أصبحت ملتقى تجارة
المغول والفرس؛ فأقامت فيها الشركات الإنكليزية والأفرنسية والهولندية فروعًا
مهمة، وكان فيها رسالات دينيَّة لليسوعيين وغيرهم.
٤
يريد — على زعمنا — النسبة إلى جلفا Julfa،
وهو حي أو محلة في جوار أسبهان، بناه شاه عباس في أوائل القرن السابع عشر،
وأجلى إليها سكان مدينة جلفا القديمة، وسماها باسمها جلفا، وما لبثت أن أصبحت
مدينة مهمة امتدت الكثلكة بين سكانها الأرمن الكثيرين، وتعددت الرسالات للرهبان
اللاتين؛ فأتت بأثمار خلاصيَّة ذكرنا شيئًا منها في الجزء الأول الصفحة ٨٣–٩٢
من مجموعتنا المعنونة Documents inédits pour server à
I’Histoire du Christianisme en Orient. Prix 6f. “Picard à Paris, Luzac à
Londres, Harrassowita à Leipzig” 1905.
٥
كانت المواصلات التجارية بين سورات وبغداد عن طريق العجم متتابعة، كما جاء
مرارًا في الرسائل والرحلات المطبوعة وغير المطبوعة المحفوظة عندنا، ويا ليت
رحالتنا عاد إلى بلاده عن طريق الفيليبين والهند والعجم، لكانت سفرتهُ غريبة لم
يسبقهُ أحد إليها.
٦
الفيليبين: جزائر لا جزيرة واحدة.