وصف قرطجنة
ومن هناك سافرنا إلى بلدة تسمى كرتاخينا «قرطجنة
الجديدة Cartagène»،١ وكان السفر الذي سافرناهُ سعيدًا لأننا بخمسة وخمسين يومًا دخلنا إلى هذه
الأسكلة حيث ترسي الغلايين، وكان وصولنا إلى هذه البلدة يوم مبارك، وهو يوم خميس الفصح
المقدس. ثم خرجنا ثاني يوم للبر نهار جمعة الآلام، واسترحنا من أتعابنا، وأيضًا تشرفنا
بالزياحات المقامة يومئذٍ لآلام المسيح. وفي هذه البلدة قوم أكابر أغنياء جدًّا، وديوان
من ديوانات الملك وكنائس وقسوس وديورة رهبان وراهبات. وسكان هذه البلدة كاثوليكيون محبو
الغرباء، وهم إسبنيوليون حقيقيون. وكان حاكم هذه البلدة رفيقنا في المراكب، وقد عمل لي
عزًّا عظيمًا وإكرامًا جزيلًا، فرسينا في هذه البلدة أربعين يومًا حتى جاءت المكاتيب
مع الأولاق٢ من بلدة ليما التي هي تخت لوزير الملك وللتجار الأغنياء الذين من البيروه،
فخرجنا من هذه الأسكلة وسافرنا إلى أسكلة تسمى بورتو بلُّو،٣ وفي هذه الأسكلة يصير البيع والشراء لما يرجع تجار البيروه من البحر
القبلي، فبقينا نستناهم نحو شهرين حتى وصلوا إلى عندنا وأحضروا معهم من الفضة والذهب
خمسة وعشرين لكًّا،٤ وصار البيع والشراء بين التجار والهنود وبين التجار السبنيولية أربعين
يومًا؛ ففي ذلك الحين جاء المركب الفرنساوي السابق ذكرهُ وقنصر،٥ وفي ليلة من الليالي طفَّ على الشختورات الإسبنيولية، وأخذ المال الذي كان
فيها، وكانت عدة المال مائتي ألف غرش، فالصبح لما سمع أصحاب مراكب الحرب خرجوا وراءهم
فما صادفوهم، فراحت على من راحت وراح الصيادون الفرنساوية المذكورون وهم يزمرون ويدقون
بالدفوف. ويوجد في هذه الأسكلة التي تسمى بورتو بلو شيء من جنس الدبابات أصغر من
البرغوث، ويُسمى في اللسان الهندي بنكثوا،٦ فهذه الدبيبة إذا تغافل عنها الإنسان تجوز في جسده، ومن بعد أربعة أو خمسة
أيام تكبر وتصير قدر الحمصة فيلتزمون أن يكشفوا بصنعة، ويخرجوها بإبرة من غير أن
يفقئوها ويحطونها على بصة نار، فتطق مثل الفرقوعة. وإذا ما أخرجوها بصنعة وفقئوها فتقع
ميتة على لحم الإنسان فيتورَّم ويفقع ويموت ذلك الإنسان. وأيضًا في ذلك البلد يحصل خفاش
الليل، كبير يجيء إلى الإنسان وهو نائم، ويبدأ يفصده ويمص دمه ويستفرغهُ، وبجناحهِ يهوي
على ذلك الإنسان ليطيب لهُ النوم، ولا يزال يفصد ويتقيأ الدم إلى أن يفيق الإنسان نصف
غشيان من كثرة الدم الذي خرج منه،٧ وقاسينا في تلك البلدة من الحر والمطر مدة أربعين يومًا. والتجار يبيعون
بضائعهم، فلمَّا أدخلوا خزينة الملك إلى هذه الأسكلة أرسلني الجنرال حتى أتفرَّج عليها،
فرأيت شيئًا لا يحصى من الفضة والذهب.
١
قرطجنة: بلدة عظيمة بسكانها وتجارتها؛ لأنها تعتبر مرفأ أمركة الجنوبية إليها
تأتي السفن التجارية، ومنها تقلع محملة كنوزًا وبضائع، وقد كانت عندئذٍ سوقًا
عامًّا للرق يأتي النخاسون بالعبيد المساكين من الكونغو والغويان وغيرهما من
بلاد أفريقية فيبيعونهم بيع المواشي؛ ولذلك سعى المرسلون أن يخففوا آلام
العبيد، ويفكوا قيودهم ما استطاعوا، وينيروا عقولهم بنور الإنجيل؛ ليكون صليب
المسيح عزاء لهم ورجاء في حالتهم التعيسة. وقد اشتهر بين ذوي الغيرة المسيحية
على هؤلاء المنكودي الحظ القديس العظيم بطرس كلافر اليسوعي، الذي قضى نحوًا من
نصف قرن بخدمة العبيد في قرطجنة؛ فكان لهم أبًا حنونًا اكتسب منهم إلى المسيح
عددًا لا يحصى، وقد عمد بيده ثلاثمائة ألف ونيفًا، ومات سنة ١٦٥٤.
٢
أولاق: كلمة تركية معناها السعاة.
٣
بورتو بلُّو وقد كتبها سائحنا
مرارًا بورتو ويلو على اللفظ السبنيولي Porto Belo وتسمى أيضًا St.
Philippe de Porto Belo بلدة صغيرة على برزخ باناما بالقرب
من نهر شاغر Chagre، وهناك يهتمون الآن بثقب
ترعة باناما لتمر السفن من بحر إلى بحر.
٤
اللك كناية عن عشرة ملايين.
٥
قنصر: هي كلمة ancrer أي: أرسى، وردت في
رسائل بعض معاصري السائح.
٦
نظنه يريد الدبيبة المعروفة عند علماء الطبيعيات باسم
Sarcopsylla penetrans، فإن وصفها عندهم
يطابق ما جاء به الكاتب اطلب Traité de Parasitologie du Dr.
Moniez p. 612، وقد وصف دون دولوا dom d’Ulloa مرضًا جلديًّا شبيهًا سماه الحية الصغيرة Culebrilla، يصيب سكان باناما، قال: إنه
دملة تداوى بالشق بإخراج الجلد البالي فتيلًا يشابه الحية. وزاد إن سكَّان
قرطجنة وبورتو بلو يذهبون إنه بالحقيقة حية أو دبيبة صغيرة. وقد ثبت الآن أنه
دبيبة تعرف باسم Filaria Medinensis (ibid. p.
319).
٧
هو وصف الخفَّاش المسمى Vampire.