الفصل الأول

تغير المناخ العالمي

نوع جديد من مشاكل البيئة

(١) الخلاف حول تغير المناخ

تغير المناخ العالمي، من بين كل قضايا البيئة التي ظهرت في العقود القليلة الماضية، هو الأكثر خطورة، والأكثر صعوبة في المعالجة. إنه الأكثر خطورةً نتيجة شدة الأضرار التي قد يجلبها. لا تزال الكثير من أوجه المجتمع الإنساني ورفاهيته — أين نعيش، كيف نبني، كيف نتحرك، كيف نكسب قوت يومنا، وما نفعله للاستجمام — تعتمد على مجال حميد وضيق نسبيًّا من ظروف المناخ، حتى لو تقلص هذا الاعتماد وصار مبهمًا في المجتمعات الصناعية الحديثة بثرائها، وبما تستخدمه من تكنولوجيا. ويمكن رؤية هذا الاعتماد على المناخ في الأضرار الاقتصادية والمعاناة الإنسانية؛ نتيجة تغيرات المناخ في القرن الأخير، من قبيل دورة «النينو»١ والجفاف الذي يستمر لسنوات ويحدث في غرب أمريكا الشمالية كل بضعة عقود. إن تغيرات المناخ التي برزت في هذا القرن أكثر بكثير من تلك التي حدثت في القرن العشرين، ومن المحتمل أن تكون تأثيراتها الإنسانية أكبر بما يتناسب مع زيادتها. إضافة إلى ذلك، لا يؤثر المناخ بشكل مباشر فقط على البشر: يؤثر أيضًا على العمليات البيئية والإيكولوجية الأخرى، وتشمل الكثير مما قد لا يعرف على الفور ارتباطه بالمناخ؛ وبالتالي، يمثل التغير الكبير أو السريع في المناخ تهديدًا إضافيًّا للقضايا البيئية الأخرى من قبيل نوعية الهواء والماء، ويمثل خطرًا على الأنظمة البيئية والتنوع البيولوجي، وتهديدًا للمناطق الساحلية والأراضي الرطبة وطبقة الأوزون في الاستراتوسفير stratospheric.

التوقعات بشأن تغير المناخ في المستقبل موضع شك، بالطبع. إن المعرفة عن تغير المناخ، مثل كل المعرفة العلمية، معرضة للشك. سوف نناقش الشك، وكيف نتخذ القرارات بشأن تغير المناخ في ظل الشك، بشكل مسهب في هذا الكتاب، لكن لا يتضمن مجرد أن سكون شيء ما موضع شك أية نصيحة بشأن ما علينا القيام به بشأنه. بشكل خاص، لا يعني بالضرورة أن المسار الصائب ألا نفعل شيئًا حتى نتأكد. لن ننتظر حتى نتأكد من أن العلة تهدد الحياة قبل أن نتصل بالطبيب، أو ننتظر حتى نتأكد أننا سندخل بالسيارة في الشجرة قبل أن نبتعد عنها. أحيانًا لا نأتي بفعل إلا إذا كنا على ثقة تامة من أنه المسار الصحيح، لكن في أوقات أخرى، نأخذ حذرنا حتى من أخطار غير محتملة إلى حدٍّ ما. ويعتمد الأمر على خصائص كل حالة.

وبالنسبة لتغير المناخ، النقطة الأساسية بشأن الشك هي أنه يقطع الطريقَين كلَيهما. بدايةً بأفضل تقديرٍ لتغير المناخ في هذا القرن، يعني كون التقدير موضع شكٍّ أن التغيرات الفعلية يمكن أن نكتشف أنها أقل من التقدير الحالي، أو أكبر. إن لم نكن نفضل خوض الأخطار عالية الخطورة — وهو ما لا يفضله الناس عادة — فإن هذا يعني أن الشك يجعل تغير المناخ أكثر خطورة، وليس أقل خطورة. وتكون المخاطر أكبر. تشمل المظاهر الحالية لتغير المناخ في القرن الحالي، في الحد الأعلى من مجال الشك، تغيرات سريعة مستمرة تبدو سوابقها قليلة في تاريخ الكرة الأرضية، وتأثيراتها على رفاهية الإنسان ومجتمعه يمكن أن تكون كارثة. لا يعني هذا أن هذه التغيرات المتطرفة مؤكدة، أو حتى محتملة — لكنها فقط خطيرة بما يكفي لوضعها في الحسبان ونحن نتخذ قراراتنا.

بالإضافة إلى أن تغير المناخ المشكلة البيئية الأكثر خطورة التي واجهها المجتمع حتى الآن، ستكون معالجتها الأكثر صعوبة أيضًا. كثيرًا ما تحمل القضايا البيئية مقايضات صعبة ونزاعات سياسية؛ لأن حلها يتطلَّب الحد من بعض الأنشطة المنتجة اقتصاديًّا أو تكنولوجيًّا تتسبَّب في أضرار بيئية غير متعمدة. مثل هذه التغيرات مكلفة وتولد معارضة. لكن بالنسبة لقضايا بيئية سابقة مكَّن التقدم التكنولوجي والسياسات الحكيمة من إحداث نقص كبير في الضرر البيئي بتكلفة متواضعة وبعض التشوه؛ ومن ثم تبيَّن أن هذه المقايضات والنزاعات قابلة للمعالجة بشكل تام. ويقدم التحكم في انبعاث الكبريت الذي يساهم في الأمطار الحمضية في الولايات المتحدة مثالًا لذلك. حين يُحرَق فحم يحتوي على مستويات عالية من الكبريت، في محطات توليد الكهرباء أو مرافق صناعية أخرى يجعل ثاني أكسيد الكبريت (SO2)، المنبعث مع الدخان، المطر حمضيًّا، المطر الذي يسقط باتجاه دخان المداخن، مسببًا الأضرار للبحيرات والتربة والغابات. على مدار آخر ٢٠ سنة، أدى اتحاد التقدم في التكنولوجيا لإزالة الكبريت من غازات المداخن، والسياسات المصممة جيدًا لتقديم حوافز لتبنِّي هذه التكنولوجيا، وحرق الفحم منخفض الكبريت، أو التحول إلى الأنواع الأخرى من الوقود، أدى إلى تقلص كبير في انبعاث الكبريت بتكلفةٍ منخفضةٍ نسبيًّا، ودون تشوُّهٍ بالتحول إلى التيار الكهربي.

سيكون طرح تغير المناخ أصعب؛ لأن الأنشطةَ التي تتسبب فيه — بشكل أساسي حرق وقود حفري للحصول على طاقة — أساسٌ أكثر أهميةً لاقتصاديات العالم، وأقل قابلية للإصلاحات التكنولوجية من أسباب المشاكل البيئية الأخرى. يقدم الوقود الحفري ٨٠٪ تقريبًا من إمدادات الطاقة في العالم، ولا يوجد بديل حديث متاح يمكن أن يحل مكان مصدر الطاقة الهائلة بسرعة أو بتكلفة زهيدة؛ وبالتالي، يحمل تغير المناخ أخطارًا أعلى من القضايا البيئية الأخرى، على مستوى شدة الأضرار المحتملة إذا استمرت التغيرات على حالها، وعلى مستوى التكلفة الظاهرة وصعوبة خفض التغيرات. بهذا المعنى، تغير المناخ هو الأول ضمن جيل جديد من المشاكل البيئية الصعبة التي سيواجهها المجتمع في هذا القرن، والنطاق المتزايد من أنشطة الإنسان يضغط على العمليات على نطاق الكوكب.

حين تكون للقضايا السياسية رهاناتٌ مرتفعة، تكون المناظرات السياسية عادة مثيرة للنزاع. ولأن الأخطار المحتملة لتغير المناخ بالغة الخطورة، والوقود الحفري الذي يساهم فيه بالغ الأهمية بالنسبة للاقتصاد العالمي، علينا أن نتوقع سماع آراء معارضة قوية عما يجب عمله بشأن تغير المناخ — ونحن نتوقع. لكن حتى إذا وضعنا الرهانات المرتفعة للقضية في الاعتبار، فإن عدد الدعاوى المتضاربة وشدتها التي تتطور بشأن تغير المناخ كبير جدًّا.

يقول ألجور النائب السابق لرئيس الولايات المتحدة:

«اليوم أفرغنا ٧٠ مليون طن من التلوث الحراري العالمي في قشرةٍ رقيقةٍ من الغلاف الجوي المحيط بكوكبنا، كما لو كان بالوعة مفتوحة. وغدًا سوف نفرغ كمية أكبر قليلًا، بتركيز متراكم يصطاد الآن حرارة بكميات متزايدة من الشمس. ونتيجة لذلك، الأرض مصابة بالحمى. والحمى تزداد. وقد أخبرَنا الخبراء أنها ليست وعكة عابرة ستبرأ من نفسها. طلبنا رأيًا ثانيًا، وثالثًا، ورابعًا. والنتيجة الثابتة، وتعاد صياغتها بتحذيرٍ مطرد، أن هناك خطأً أساسيًّا يقع. يكمن الخطأ فينا، وعلينا إصلاحه.

نحن — أبناء الجنس البشري — نواجه طارئًا على مستوى الكوكب؛ تهديدًا لبقاء حضارتنا يحشد احتمالًا مشئومًا ومدمِّرًا حتى ونحن نجتمع هنا، لكنَّ هناك أيضًا أخبارًا تبعث على الأمل: لدينا القدرة على حل هذه الأزمة وتجنُّب أسوأ النتائج — لا كلها — إذا عملنا بجرأةٍ وحسمٍ وسرعة.»٢
ويقول السيناتور الأمريكي والمرشح السابق للرئاسة جون ماكين McCain:
«يساهم حَرْق البترول وأنواع الوقود الحفري الأخرى في التجمُّع الخطير لغازات البيوت الزجاجية في الغلاف الجوي للأرض، مغيِّرًا مناخنا مع احتمال ثوران اجتماعي واقتصادي وسياسي هائل. يشعر العالم الآن بالفعل بالتأثيرات الهائلة لارتفاع الحرارة في العالم، ونتوقع نتائج رهيبة أكثر بكثير إذا سمحنا باستمرار انبعاث الطوفان المتزايد من غاز البيوت الزجاجية، والدمار الرهيب الذي يلحق بما خلق الرب. حذر حديثًا مجموعة من كبار الضباط العسكريين المتقاعدين من الثوران المحتمل نتيجة الصراع على المياه، والأرض الصالحة للزراعة والمصادر الطبيعية الأخرى بضغط من كوكب ترتفع حرارته. المشكلة ليست من إبداعات هوليود وليس القيام بشيءٍ حيالها تفاهة تشبه النوبات الهستيرية لكاسندرا. إنه تحدٍّ خطير وملحٌّ على المستوى الاقتصادي والبيئي والأمن القومي.»٣

رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير ورئيس وزراء هولندا جان بيتر بلكينند:

«لم يكن علم تغير المناخ واضحًا قط دون مزيد من العمل، يقدِّر العلماء الآن أننا قد نكون في سبيلنا لارتفاعٍ في درجة الحرارة بمقدار ٣-٤ درجات مئوية عما قبل المستويات الصناعية. لدينا فقط فرصة من ١٠–١٥ سنة لاتخاذ الخطوات التي نحتاج إليها لتجنُّب عبور نقط حرجة تمثل كارثة. ربما يكون لذلك نتائج خطيرة بالنسبة لآفاق نمو اقتصادنا، وأمن شعبنا وإمدادات مواردنا، وخاصة الطاقة؛ لذا علينا أن نعمل بسرعة.»٤

الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون:

«نجتمع معًا في بالي لنواجه التحدي الواضح لعصرنا. نجتمع لأن وقت المواربة انتهى. العلم واضح. تغير المناخ يحدث. التأثير حقيقي. حان وقت الفعل.»٥

السيناتور الأمريكي جيمس إنهوف:

«كل مَن يلتفت ولو بشكلٍ خاطف إلى القضية يفهم أن العلماء يختلفون بقوةٍ عما إذا كانت الأنشطة الإنسانية مسئولةً عن ارتفاع حرارة العالم، أو ما إن كانت تلك الأنشطة ستساهم في كوارث طبيعية … بكل الهستيريا، بكل الخوف، بكل العلم الزائف، هل يمكن أن يكون ارتفاع الحرارة في العالم، الناجم عن تصرفات الإنسان، أكبر خدعة على الإطلاق اقترفت بحق الشعب الأمريكي. من المؤكد أن الأمر يبدو بهذا الشكل.»٦
«بالإضافة إلى ذلك، أحيانًا ما لا تطرحه وسائل الإعلام غالبًا نقاط الضعف في نظرية أن CO2 كان القوة الدافعة في ارتفاع الحرارة في العالم. يفشل المتشائمون في تقديم تفسير مناسب لأسباب بدء ارتفاع درجات الحرارة في نهاية العصر الجليدي القصير في حوالي ١٨٥٠م، قبل أن يمكن لارتفاع انبعاث CO2 بفعل الإنسان على المناخ. ثم حوالي ١٩٤٠م، بالضبط وقد ارتفع CO2 بفعل الإنسان بحدة، بدأت درجات الحرارة في الانحدار حتى سبعينيات القرن العشرين، مما دفع وسائل الإعلام وكثيرًا من العلماء إلى الخوف من قدوم عصر جليدي. أكرر، تنخفض درجات الحرارة بعد انفجار انبعاث CO2. إذا كان CO2 القوة الدافعة لتغير المناخ العالمي، لماذا يتجاهل الكثيرون في وسائل الإعلام عددًا كبيرًا من العلماء المتشككين الذين يستشهدون بهذه الحقائق المزعجة الواضحة إلى حدٍّ ما؟»٧
«بينما تبنَّى العلماء المعارضون (…) آراء متباينة، فإنهم عمومًا يجتمعون حول عدة نقاط أساسية: (١) كوكب الأرض جيد حاليًّا مع التقلب الطبيعي في المناخ. (٢) تتولَّد كل المخاوف بشأن المناخ من نموذج للتوقعات بالكمبيوتر لم يبرهن على صحته. (٣) يستمر قدر هائل من الدراسات التي يراجعها الرفاق في فضح مخاوف ارتفاع CO2. (٤) وضع «الإجماع» لأغراضٍ سياسية، وليست علمية.»٨

البروفيسور ريتشارد لندزن في معهد ماساشوسيتس للتكنولوجيا:

«يدمن التصريحات العلمية المبهمة عن المناخ مَن لهم اهتمام راسخ بالتحذير، ليرفعوا الدعم السياسي من أجل مؤشرات سياسة تقدم موارد لمزيد من البحث العلمي؛ لتغذية مزيد من التحذير لزيادة الدعم السياسي. رغم كل شيء، من يخصص أموالًا للعلم — سواء للإيدز، أو الفضاء، أو المناخ — حيث لا يكون هناك شيء يستدعي التحذير حقًّا؟ في الحقيقة، نجاح نزعة التحذير من تغير المناخ يمكن أن توضع في الاعتبار في زيادة الإنفاق الفيدرالي على أبحاث المناخ من بضع مئات من ملايين الدولارات قبل ١٩٩٠م إلى ١٫٧ بليون دولار اليوم. ويمكن أيضًا رؤيته في الإنفاق المرتفع على التكنولوجيا الشمسية وتكنولوجيا الرياح والهيدروجين والإيثانول والفحم النقي، وعلى قرارات الاستثمار في أنواع الطاقة الأخرى.

لكنَّ هناك بعدًا آخر شريرًا لهذا السعار في تقديم الدعم. يرى العلماء المعارضون لنزعة التحذير مخصصات المنح الخاصة بهم تختفي، ويُسخَر من أعمالهم، ويوصمون بأنهم عملاء لرجال الصناعة، وبالابتذال العلمي، أو بما هو أسوأ؛ وبالتالي يكتسب الكذب بشأن تغير المناخ تصديقًا حتى إذا حلق في وجه العلم الذي يفترض أن يكون أساسًا له.»٩
البروفيسور روي سبنسر Roy Spencer من جامعة ألاباما Alabama:
«بالنسبة للعلماء الذين يقدرون السمعة العلمية، أنصحهم بأن ينأَوْا بأنفسهم في الدعاوى التي تحفزها السياسة بشأن «الإجماع العلمي» حول أسباب ارتفاع حرارة العالم — قبل فوات الأوان. لا تدع خمسة نرويجيين في لجنة جائزة نوبل يحكمون على ما هو علم جيد.»١٠

وفاكلاف كلوس، رئيس جمهورية التشيك:

«بوصفي شخصًا عاش معظم عمره في ظل نظام شيوعي، أشعر بالاضطرار إلى أن أقول إنني أرى التهديد الأكبر للحرية والديمقراطية واقتصاد السوق والازدهار الآن في نزعة بيئية طموحة، وليس في الشيوعية. هذه الأيديولوجيا تريد أن تستبدل بحرية الجنس البشري وتطوره التلقائي نوعًا من التخطيط المركزي (عالميًّا الآن).»١١

من أكثر الجوانب إثارةً للدهشة في هذه المناظرة شدة الاختلافات المعلنة، فيما قد نتوقع أنها مسائل بسيطة تتعلق بالحقائق العلمية، من قبيل ما إن كانت حرارة الأرض ترتفع، وما إن كان الانبعاث الناتج عن نشاط الإنسان مسئولًا عن هذا الارتفاع. هذه المواجهة العامة الحامية بشأن حالة المعرفة العلمية والشك — ليس فقط بين الشخصيات السياسية ومؤيدي السياسة، بل بين العلماء أيضًا — تترك بشكلٍ مفهومٍ كثيرًا من المواطنين المهتمين بالأمر في حيرة.

هدفنا في هذا الكتاب توضيح مناظرة تغير المناخ. نسعى إلى مساعدة المواطن المهتم بالموضوع، وليس الخبير، لفهم ما هو معروف عن تغير المناخ، وبأي درجةٍ من الثقة يُعرَف، لتطوير رأي مستنير عما ينبغي القيام به بشأن هذه القضية. وسوف نلخص حالة المعرفة والشك في النقاط الأساسية في علم المناخ، ونفحص كيف تتطور بعض المقولات البارزة في المناظرة السياسية — بما في ذلك بعض ما ورد في الاقتباسات السابقة — في ضوء المعرفة الحالية. هل يمكن أن نقول بثقة: إن بعض هذه المقولات صحيح ببساطة وبعضها خطأ ببساطة، أم أنها نقاط من الشك الأصيل أو الاختلافات المشروعة في التفسير؟

نلخص أيضًا الفهم الحالي للتأثيرات المحتملة على تغير المناخ والتكنولوجيا والسياسات، والخيارات الأخرى المتاحة للتعامل مع المسألة. وهذه ليست مسائل علمية خالصة، رغم إمكانية معرفتها بواسطة المعرفة العلمية. بالإضافة إلى ذلك، نفحص كيف تتفاعل المناقشة العلمية والجدل السياسي. ويساعد هذا على إلقاء الضوء على أسباب قيام المناقشات العلمية بلعب مثل هذا الدور البارز في المناظرة السياسية حول تغير المناخ، وخاصة كيف يمكن لهذه الخلافات الحادة أن تتأسَّس على نقاط يبدو أنها مسائل تتعلق بالمعرفة العلمية. ماذا يأمل مؤيدو السياسة من تحقيقه بالجدل على الملأ في نقاطٍ علمية، حين يفتقر معظمهم — مثل معظم المواطنين — إلى المعرفة والتدريب اللازمَين لتقييم هذه المقولات؟ لماذا تظهر شخصيات سياسية كبيرة لتعلن عدم اتفاقها على مسائل علمية أساسية، حين يكون لديهم مدخل جاهز للخبراء والمرشدين العلميين لتوضيحها لهم؟ وأخيرًا، ما تأثيرات مثل هذا المزج بين المناقشات العلمية والسياسية على عملية اتخاذ القرار السياسي؟

رغم وجود مساحةٍ واسعةٍ للأمانة، ثمة خلاف مؤسس على المعرفة بشأن تغير المناخ، ونرى أن المسألة تصبح مشوشة إلى حدٍّ بعيد ومثيرة للنزاع أكثر مما ينبغي؛ نتيجة إساءة تفسير حالة المعرفة العلمية في المناظرة السياسية، وإساءة الفهم وإساءة تقديم مدى الشك في نقاط علمية محورية بشأن تغير المناخ، وأهمية هذه الشكوك فيما يجب القيام به.

قبل أن ننهمك في هذه المسائل، يقدم القسمان التاليان من هذا الفصل خلفية ضرورية. يقدم القسم [المناخ وتغير المناخ: تمهيد علمي] خلفية علمية موجزة وتمهيدًا عن مناخ الأرض، وتأثير البيوت الزجاجية، ونماذج المناخ، وكيف أدى نشاط الإنسان إلى زيادة غازات البيوت الزجاجية في الغلاف الجوي. ويقدم القسم [خلفية عن سياسة تغير المناخ] تاريخًا موجزًا للسياسات والمؤسسات الحالية المهتمة بتغير المناخ؛ لتقديم السياق السياسي للمناظرة الحالية.

(٢) المناخ وتغير المناخ: تمهيد علمي

(٢-١) ما المناخ؟

مناخ مكان، أو منطقة، أو الأرض كلها، متوسط أحوال الأرصاد الجوية التي تحدث عبر الزمن — الطقس المتوسط. على سبيل المثال، في شهر نوفمبر بين عام ١٩٧١م وعام ٢٠٠٠م، كان متوسط درجة الحرارة العظمى في واشنطون ١٤ درجة مئوية، ومتوسط درجة الحرارة الصغرى ١ درجة مئوية، ٠٫٣سم سقوط المطر. تحدد هذه القيم المتوسطة، مع متوسطات كميات الأرصاد الأخرى، مثل الرطوبة وسرعة الرياح والغيوم وطبقة الجليد والثلوج، مناخ نوفمبر في واشنطون في تلك الفترة.

بينما يتكون المناخ من متوسط أحوال الأرصاد، يتكون الطقس من أحوال الأرصاد في وقت معين. على سبيل المثال، في ٢٩ نوفمبر ١٩٩٩م، في واشنطون، كانت درجة الحرارة العظمى ٥ درجات مئوية، والصغرى −٣، ولم تسقط أمطار. في ذلك اليوم من نوفمبر، كان الطقس في واشنطون أكثر برودة وجفافًا إلى حد ما، من متوسط حالة المناخ في واشنطون في نوفمبر.

الطقس مهم بالنسبة للقرارات اليومية قصيرة المدى. هل ينبغي أن تأخذ مظلة حين تخرج غدًا؟ هل يقتل الصقيع النباتات إذا تركت في الهواء الطلق هذه الليلة؟ هل نهاية هذا الأسبوع مناسبة للذهاب للتزحلق على الجبال؟ هل ينبغي أن تخطط لحفلتك في نهاية هذا الأسبوع داخل المنزل أم في الهواء الطلق؟ في كل حالة من هذه الحالات، تهتم بالأحوال في يومٍ معين، وليس متوسط الأحوال على المدى البعيد — بالطقس لا المناخ.

المناخ مهم بالنسبة للقرارات طويلة المدى. إذا كنت تدير مرفقًا كهربيًّا، فعليك أن تهتم بالمناخ؛ لأنه لو ارتفع متوسط درجة حرارة الصيف، يشغل الناس المكيفات أكثر وقد تحتاج إلى بناء المزيد من المولدات لتلبية الاحتياجات الكهربية المطردة. وإذا كنت مسئولًا في مدينة، فسوف تهتم بالمناخ لأن إمدادات المياه في المدن تأتي عادة من الخزانات التي تغذيها الأمطار أو الثلوج. التغير في متوسط درجة الحرارة أو توقيت سقوط الأمطار أو كميتها، يمكن أن يغير إمدادات المياه أو الاحتياجات إليها. وإذا تغير المناخ، فقد تحتاج المدينة إلى توسيع القدرة على تخزين المياه أو نقلها، أو العثور على إمدادات جديدة، أو تطوير سياسات للحد من استخدام المياه في أزمنة الجفاف. في القسم [نماذج المناخ ونماذج الطقس] فيما يلي، نعود إلى الفرق بين الطقس والمناخ، في مناقشة الاختلافات في إمكانية التنبؤ على أساسها.

(٢-٢) الإشعاعات الكهرومغناطيسية

لفهم كيف يمكن أن يتغير المناخ، علينا في البداية أن نتناول الأسباب التي تجعل المناخ بهذه الصورة، في أماكن معينة وفي الأرض عمومًا. عكف العلماء على دراسة هذه المسائل منذ بدايات القرن التاسع عشر، بادئين بأكبرها على الإطلاق: لماذا درجة حرارة الكرة الأرضية بهذا الشكل؟

ضوء الشمس مصدر الطاقة بالنسبة لمناخ الأرض، وهو شكل من الإشعاعات الكهرومغناطيسية. وتشمل الإشعاعات الكهرومغناطيسية كل الأضواء التي يمكن أن نراها، إضافة إلى الإشعاعات الأخرى، الأضواء الأخرى، التي لا يمكن أن نراها. تتكون الإشعاعات الكهرومغناطيسية من تيار من الفوتونات   photons، حزم ضئيلة متميزة من الطاقة. لكل فوتون حجم، أو طول موجة، يحدد كيفية تفاعله مع المادة في العالم. ويتراوح طول موجة معظم الفوتونات المنبعثة من الشمس بين ٠٫٣–٠٫٨ ميكرون.١٢ وهذا أيضًا مجال أطوال الموجات التي يمكن أن تراها عين الإنسان. تطورت عيوننا، وعيون الحيوانات الأخرى، لتكون حساسة لأطوال هذه الموجات بسبب المزايا الحيوية للقدرة على رؤية الإشعاعات الموجودة بقوة في البيئة. في المجال المرئي، يدرك البشر أطوال الموجات في صورة لون. نرى أطوال الموجات حول ٠٫٣ ميكرون بنفسجية. ومع زيادة طول الموجة، يتحوَّل اللون الذي ندركه إلى اللازوردي، ثم الأزرق، والأخضر، والأصفر، والبرتقالي، وأخيرًا الأحمر بطول موجة ٠٫٨ ميكرون تقريبًا. الفوتونات التي طول موجاتها أكبر، أكبر من الأحمر، تسمَّى تحت الحمراء ولا يستطيع البشر رؤيتها.
تأتي معظم الإشعاعات الكهرومغناطيسية في الكون من المادة، من خلال عملية تسمى إشعاع الجسم الأسود   blackbody radiation. إشعاع الجسم الأسود في كل مكان. عمليًّا ينبعث من كل ما في الكون، وكل شيء في الحياة، فوتونات باستمرار. إن الفوتونات تنبعث منك الآن، كما تنبعث من كل ما حولك: الحوائط ومكتبك وكلبك وهذا الكتاب. يبرق كل شيء.
fig1
شكل ١-١: فوتونات منبعثة بأطوال موجات مختلفة، من أشياء في ثلاث درجات حرارة مختلفة. المحاور الرأسية (من أعلى إلى أسفل) في وحدات واحد، وألف، ومليون وات/م٢ من السطح المشع، لكل ميكرون من مجال طول الموجات. يوضح القضيب الرمادي في كل لوحة مجال أطوال الموجات التي يمكن لعين الإنسان رؤيتها.
لكن إذا كانت الإشعاعات تنبعث من كل ما حولك، لماذا لا تراها براقة؟ يمكن رؤية الإجابة في الشكل ١-١، الذي يوضح طول موجات الفوتونات المنبعثة من أشياء في ثلاث درجات حرارة مختلفة. بالنسبة لشيء في درجة حرارة الغرفة، حوالي ٢٠ درجة مئوية، تنبعث كل الفوتونات تقريبًا بموجات أطول من ٤ ميكرونات. هذه الفوتونات تحت الحمراء يمكن رصدها بالكاميرات تحت الحمراء ونظارات الرؤية الليلية، لكن لا يمكن لعين الإنسان رؤيتها.١٣
وحين ترتفع درجة حرارة الشيء، تزداد كمية الطاقة المنبعثة منه في صورة إشعاع الجسم الأسود. تُعرَف العلاقة بين درجة الحرارة وجملة الطاقة المشعة بقانون ستيفان بولتزمان،١٤ الذي ينص على أن الطاقة المنبعثة تتناسب مع ربع شدة الحرارة. وهكذا إذا تضاعفت درجة حرارة شيء، يزداد معدل الطاقة المنبعثة بعامل ٢٤ أو ١٦. وهذا يعني أن شيئًا في درجة حرارة ٥٦٠٠ مئوية، مثل الشمس، يشع طاقة بسرعة أكبر مائة ألف مرة من شيء في درجة حرارة ٢٠ مئوية.
لكن، كما يوضح الشكل ١-١، لا يأتي المعدل الأعلى من الإشعاع من انبعاث مزيد من الفوتونات لها أطوال الموجات نفسها فقط: والشيء ترتفع حرارته، يتحول مزيج الفوتونات المنبعثة منه إلى موجات أقصر. بالنسبة لشيء في درجة حرارة ٢٢٠٠ مئوية (الرسم الأوسط في الشكل ١-١)، تقريبًا درجة حرارة قطعة حديد يستخدمها حداد، طول موجات معظم الفوتونات المنبعثة أكبر من أن تراها عين الإنسان، لكن بعضها يقع في المجال المرئي. هذه الفوتونات المرئية في النهاية الحمراء للمجال المرئي، وهكذا تبدو قطعة الحديد متوهجة بلون أحمر باهت: تصبح «حمراء ساخنة». يستخدم الحدادون هذا ليعرفوا متى تصير قطعة من المعدن ساخنة بدرجة كافية للعمل، والحاجة لرؤية هذا الوهج الأحمر الباهت من الأسباب التي تجعل الحدادين يعملون غالبًا في ضوء خافت. الشمس، بتقريب مناسب، جسم أسود درجة حرارته ٥٦٠٠ مئوية. يوضح الرسم السفلي من الشكل ١-١ أن معظم الفوتونات المنبعثة من جسم في هذه الدرجة تقع في مجال مرئي للبشر.

حين ترى شيئًا في درجة حرارة الغرفة مثل هذا الكتاب، لا ترى فوتونات الجسم الأسود تنبعث من الكتاب؛ لأن تلك الفوتونات خارج المجال المرئي في مجال الأشعة تحت الحمراء، لكنك في الحقيقة ترى الفوتونات التي انبعثت من جسم أسود أكثر سخونة، الشمس أو شعيرة مصباح كهربي (٢٧٠٠ درجة مئوية تقريبًا) التي تصطدم بالصفحة وتنعكس إلى عينك.

(٢-٣) توازن الطاقة على الكرة الأرضية

الفوتونات مهما يكن طول موجتها حزم ضئيلة من الطاقة؛ ومن ثم حين ينبعث فوتون من شيء، يحمل الفوتون قدرًا ضئيلًا من الطاقة بعيدًا عن الشيء. وحين يسقط فوتون على شيء ويمتص، يكتسب الشيء القدر الضئيل من طاقة الفوتون. ومعظم الأشياء — بما في ذلك أنت وكل ما حولك — ينبعث منها باستمرار فوتونات بأشعة الجسم الأسود، وفي الوقت ذاته تمتص فوتونات تنبعث من أشياء أخرى.

إذا فقد شيء طاقة أكبر بانبعاث الفوتونات مما يكتسبها بامتصاص الفوتونات، تنقص طاقته بالضرورة. وحيث إن درجة الحرارة مقياس لطاقة الشيء، فإن عدم التوازن بين الطاقة المنبعثة والممتصة يؤدي إلى هبوط في درجة حرارة الشيء. وبالمثل، إذا اكتسب شيء طاقة أكبر بامتصاص الفوتونات مما فقده بانبعاثها، ترتفع درجة حرارته بالضرورة. وإذا كان معدل اكتساب الطاقة بالامتصاص والفقد بالانبعاث متساويَين، تبقى درجة حرارة الشيء ثابتة: تكون في حالة اتزان أو ثبات.

كل الفوتونات التي تصطدم بالأرض تأتي من الشمس تقريبًا. كمية الطاقة الشمسية التي تصطدم بالأرض في الثانية هائلة حقًّا: ١٥٤ ألف تريليون وات، أو في المتوسط ٣٤٢ وات/م٢ من سطح الأرض. ومنها، ينعكس حوالي ٣٠٪ عائدًا إلى الفضاء بواسطة السحب والثلج والجليد والأسطح الأخرى فاتحة اللون، وهكذا يمتص سطح الأرض والغلاف الجوي ٢٤٠ وات/م٢.
fig2
شكل ١-٢: القوة الكلية التي يشعها جسم أسود بوصفها دالة لدرجة الحرارة وات/م٢.
في بدايات القرن التاسع عشر، طرح عالم الرياضيات جوزيف فوريه١٥ سؤالًا يبدو بسيطًا: حيث إن الأرض تمتص طاقة باستمرار من الشمس، لماذا لا تسخن حتى تصبح في سخونة الشمس؟ يقدم إشعاع الجسم الأسود إجابة للسؤال الذي طرحه فوريه: الأرض والغلاف الجوي (جسم أسود كبير إلى حد ما) يشع طاقة إلى الفضاء، أيضًا بمعدل ٢٤٠ وات لكل متر مربع تقريبًا، موازنًا بدقة الطاقة الممتصة من ضوء الشمس. يمكننا استخدام هذه المعادلة لتقدير ما يجب أن تكون عليه درجة حرارة سطح الأرض. يوضح الشكل ١-٢ علاقة ستيفان بولتزمان التي طرحناها فيما سبق، ليبين كيف يختلف مقدار الطاقة المنبعثة من جسم أسود مع درجة الحرارة. يوضح الشكل ١-٢ أنه لإشعاع ٢٤٠ وات/م٢، وبالتالي حفظ التوازن مع أشعة الشمس القادمة، ينبغي أن تكون درجة حرارة سطح الأرض حوالي −١٨ درجة مئوية.

وهذه الدرجة باردة ببشاعة. ولحسن الحظ، هذه أيضًا خطأ. سطح الأرض أكثر دفئًا من ذلك بكثير، درجة الحرارة المقبولة ١٥ درجة مئوية في المتوسط. جاء الخطأ في الحساب من افتراض أن الأشعة تحت الحمراء المنبعثة من السطح تنطلق مباشرة إلى الفضاء. وهذه الفرضية يمكن أن تكون صحيحة إذا لم يكن للأرض غلاف جوي لكن الغلاف الجوي للأرض يمتص الأشعة تحت الحمراء بقوة كبيرة، مما يدفئ السطح بما يسمى «تأثير البيوت الزجاجية».

(٢-٤) تأثير البيوت الزجاجية

نذكِّر بأنه حيث إن الشمس جسم أسود درجة حرارته ٥٦٠٠ مئوية تقريبًا، فإن طول موجات الفوتونات في ضوء الشمس في معظمها ٠٫٥ ميكرون تقريبًا. الغلاف الجوي للأرض شفاف بالأساس لهذه الفوتونات المرئية، وهكذا فإن تلك التي لا تنعكس تمر خلاله ويمتصها السطح. ولأن سطح الأرض وغلافها الجوي أبرد بكثير من الشمس، فإن الفوتونات التي تنبعث منهما في مجال الأشعة تحت الحمراء، بطول موجات حول ١٠ ميكرونات. والغلاف الجوي ليس شفافًا لهذه الفوتونات، لكنه يمتصها بكفاءة هائلة.

الغلاف الجوي جسم أسود أيضًا، رغم أنه جسم غازي، وهو خاضع أيضًا لتوازن الطاقة: الطاقة الداخلة إليه تساوي الطاقة الخارجة منه. وليكون الغلاف الجوي في حالة ثبات، ينبغي أن تنبعث منه طاقة تساوي تلك التي يمتصها من الفوتونات تحت الحمراء المنبعثة من السطح. ولأن الأجسام السوداء تشع في كل الاتجاهات، فإن نصف الفوتونات المنبعثة من الغلاف الجوي، في المتوسط، تصعد باتجاه الفضاء، ويهبط النصف الآخر باتجاه السطح. والفوتونات المنبعثة إلى أسفل باتجاه السطح يمتصها السطح أو الغلاف الجوي.

يمكننا أن نشيد نموذجًا بالغ التبسيط للمناخ، فيه يتكون الغلاف الجوي من طبقة واحدة ماصة وباعثة، وفقدان للطاقة في الفضاء يأتي تمامًا من الغلاف الجوي، وليس سطح الكرة الأرضية. لموازنة الطاقة القادمة من الشمس، على الغلاف الجوي أن يشع في الفضاء ٢٤٠ وات/م٢، لكن حيث إن الغلاف الجوي يشع إلى أعلى وإلى أسفل بالتساوي، ينبغي أن يشع أيضًا ٢٤٠ وات/م٢ إلى أسفل باتجاه السطح. ونوضح هذا بشكل تخطيطي في الشكل ١-٣.
fig3
شكل ١-٣: تدفق للطاقة بشكل مبسط في كوكب له غلاف جوي مثل الأرض. يمثل السهم الأبيض إلى اليسار الطاقة الشمسية القادمة، والسهم الأوسط الفوتونات المنبعثة من الأرض، والسهم إلى أقصى اليمين الفوتونات المنبعثة من الغلاف الجوي، في وات/م٢.
تدفق الطاقة من الغلاف الجوي إلى السطح هو ما نعنيه «بتأثير البيوت الزجاجية». لا يسخن السطح نتيجة الأشعة المرئية من الشمس فقط، بل أيضًا نتيجة الأشعة تحت الحمراء المنبعثة من الغلاف الجوي. وحيث إن السطح يستقبل من الطاقة ما مجموعه ٤٨٠ وات/م٢ — ٢٤٠ وات من الشمس ومثلها من الغلاف الجوي — ينبغي أن ينبعث من السطح ٤٨٠ وات/م٢ ليكون متوازنًا. يوضح الشكل ١-٣ أنه لإشعاع ٤٨٠ وات/م٢، ينبغي أن تكون درجة حرارة السطح ٣٠ درجة مئوية، حوالي ٤٨ درجة أعلى من درجة الحرارة من دون تأثير البيوت الزجاجية.

يوضح هذا النموذج البسيط كيف أن الغلاف الجوي الذي يمتص الأشعة تحت الحمراء يمكن أن يدفئ السطح. تذكر، مع ذلك، أن متوسط درجة حرارة سطح الأرض حوالي ١٥ درجة مئوية. يقدم هذا النموذج البسيط زيادة هائلة في الحرارة لسببين؛ الأول: الغلاف الجوي ليس فعالًا تمامًا في اصطياد الأشعة تحت الحمراء. يمتص بعض أطوال الموجات تحت الحمراء بقوة، وبعضها بضعف، وبعضها لا يمتصه على الإطلاق، وهكذا لا تصل بعض الإشعاعات المنبعثة من السطح مباشرة إلى الفضاء. ثانيًا: العمليات الفيزيائية التي تحدث في الغلاف الجوي الحقيقي، مثل الحمل الحراري — والتحرك العمودي للغلاف الجوي بواسطة العواصف وعمليات الطقس الأخرى — تساعد على تبريد السطح. وتبقى الفيزياء الأساسية لهذا النموذج صحيحة: التأثير المتراكم لامتصاص الأشعة تحت الحمراء بواسطة الغلاف الجوي تدفئة سطح الكرة الأرضية فوق المستوى الذي يمكن أن تكون عليه من دون الغلاف الجوي.

يوضح الشكل ١-٤ نموذجًا ثانيًا بسيطًا، لأرض بغلاف جوي أسمك وأكثر قدرة على الامتصاص نمثله بطبقتين منفصلتين. والفوتونات المنبعثة من السطح تمتصها الطبقة السفلى من الغلاف الجوي. والفوتونات المنبعثة من الطبقة العليا إلى أعلى تنطلق إلى الفضاء، وتلك المنبعثة من الطبقة العليا إلى أسفل تمتصها الطبقة السفلى.
fig4
شكل ١-٤: تدفق للطاقة مبسط في كوكب بغلاف جوي أسمك وامتصاص أقوى للأشعة تحت الحمراء. يمثل السهم الأبيض إلى اليسار الطاقة الشمسية القادمة. وتمثل الأسهم الأخرى من اليمين إلى اليسار الفوتونات المنبعثة من الطبقة السفلى من الغلاف الجوي، والطبقة العليا من الغلاف الجوي، والسطح. والقيم وات/م٢.
في هذه الحالة، يتسرب فقط ثلث الفوتونات المنبعثة من السطح إلى الفضاء في النهاية. ويتم اصطياد الثلثين الآخرين في الغلاف الجوي ويمتصهما السطح في النهاية. وحيث ينبغي أن يكون الانبعاث الكلي إلى الفضاء ٢٤٠ وات/م٢ لإحداث توازن مع ضوء الشمس القادم، ينبغي للسطح إذن أن يطلق ثلاثة أضعاف هذا المعدل، أو ٧٢٠ وات/م٢. يوضح الشكل ١-٢ أنه لإطلاق ٧٢٠ وات/م٢، يجب أن تكون درجة حرارة السطح ٦٢ مئوية. وغلاف جوي أكثر سمكًا يمتص كمية أكبر من الأشعة تحت الحمراء يجعل السطح أكثر سخونة.

وحيث إن هذه التدفئة للسطح بواسطة الغلاف الجوي وُصِفتْ أول مرة في القرن التاسع عشر، فقد عرفت على نطاق واسع «بتأثير البيوت الزجاجية». في وقت أحدث، قورنت بلف بطانية حول الأرض. ومع ذلك، لا يتسم أيٌّ من هذَين التشبيهين بالدقة؛ حيث تعمل البطاطين والبيوت الزجاجية أساسًا بإبطاء الهروب الفيزيائي للهواء الدافئ، وليس بتعطيل مرور الأشعة إلى الفضاء.

مجرد وجود غلاف جوي لا ينتج تأثير البيوت الزجاجية: ينبغي أن يمتص الغلاف الجوي الأشعة تحت الحمراء. على الأرض، يتكون ٩٦–٩٩٪ من الغلاف الجوي من جزيئات النيتروجين (N2) والأكسجين (O2) والغاز الخامل الأرجون (Ar). لا تمتص هذه الجزيئات البسيطة الفوتونات تحت الحمراء ولا تطْلِقها، وهكذا لا تولد تأثير البيوت الزجاجية ولا تدفئ السطح. في الحقيقة، تحدث عدةُ مكونات أخرى تأثيرَ البيوت الزجاجية، وتجعلها أشكال جزيئاتها الأكثر تعقيدًا تمتص الأشعة تحت الحمراء: وهي أساسًا بخار الماء وثاني أكسيد الكربون، بالإضافة إلى بضعة مكونات أخرى.
بخار الماء (H2O) أهم غازات البيوت الزجاجية في الغلاف الجوي، وهو مسئول عن حوالي ثلثي تأثير البيوت الزجاجية. يختلف تركيز بخار الماء اختلافًا كبيرًا. قرب السطح في المناطق الاستوائية الرطبة ربما يصل إلى ٤٪، بينما في المناطق القطبية الباردة يمكن أن يكون مجرد كسر في المائة. في الاستراتوسفير، لا يمثل إلا ٠٫٠٠٠٥٪ (٥ أجزاء في المليون). ويشكل الأكسجين والنيتروجين وبخار الماء والأرجون ٩٩٫٩٥٪ من الغلاف الجوي، لكن الأنواع الكثيرة التي تشكل ٠٫٠٥٪ المتبقية أو ٥٠٠ جزء في المليون، تلعب دورًا بالغ الأهمية في تلوث الغلاف الجوي والمناخ، بما في ذلك مساهمتها بشكل كبير في تأثير البيوت الزجاجية. ثاني أكسيد الكربون (CO2) الشريك الأكبر في هذه النسبة المتبقية، حوالي ٣٨٥ جزءًا اليوم، وأكبر مساهم بعد بخار الماء في تأثير البيوت الزجاجية. الميثان (CH4)، المساهم الأكبر التالي، يمتص الأشعة تحت الحمراء بقوة تبلغ ٢٠ ضعف قوة امتصاص CO2 على أساس جزيئي، لكنه لا يوجد في الغلاف الجوي إلا بمقدار ١٫٧٥ جزء في المليون تقريبًا. تأتي المساهمات الأقل في البيوت الزجاجية من أكسيد النيتروز (N2O)، ويوجد بمقدار ٠٫٠٠٣ جزء في المليون تقريبًا؛ والأوزون (O3)، ويوجد بتركيز مختلف يتراوح من ٠٫٠١ جزء في المليون بالقرب من الأرض إلى ١٠ أجزاء في المليون في الاستراتوسفير.
غازات البيوت الزجاجية التي تحدث بشكل طبيعي، وأهمها بخار الماء وثاني أكسيد الكربون، تدفئ سطح الأرض بهذه الحالة الحالية المناسبة. ومن الواضح أن زيادة تركيز هذه الغازات يمكن أن يجعل الأرض أكثر دفئًا. افترض هذه الاحتمالية بعض العلماء منذ أكثر من قرن، افترضها أولًا عالم الكيمياء السويدي سفنت أرينيوس في ١٨٩٦م، ومرة أخرى نالت دعمًا إضافيًّا من المهندس البريطاني جوي كلندار في ١٩٣٨م. توضح النماذج المقدمة في الشكل ١-٣ والشكل ١-٤ كيف تعمل بمصطلحات بالغة التبسيط. يوضح الشكل ١-٣ غلافًا جويًّا يشبه امتصاصه للأشعة تحت الحمراء امتصاص الغلاف الجوي للأرض، ويوضح الشكل ١-٤ كوكبًا بقدر أكبر من غازات البيوت الزجاجية في غلافه الجوي. وكمية غازات البيوت الزجاجية تزداد في الغلاف الجوي، يتسرب إلى الفضاء قدر أقل من الطاقة المنبعثة من السطح فيصبح السطح أكثر دفئًا.
ثمة مثال متطرف وهو كوكب الزهرة. يحتوي الغلاف الجوي لكوكب الزهرة كمية من CO2 تبلغ ٢٥٠ ألف ضعف تلك التي يحتويها الغلاف الجوي للأرض، وهكذا فهو فعال إلى حد بعيد في اصطياد فوتونات الأشعة تحت الحمراء. إذا استخدمنا تخطيط الشكل ١-٣ والشكل ١-٤ لتمثيل الغلاف الجوي لكوكب الزهرة، ربما نحتاج حوالي ١٠٠ طبقة، وهكذا يمتص الفوتون وينطلق مرة أخرى إلى أعلى ١٠٠ مرة قبل أن يتسرب من الغلاف الجوي؛ وبالتالي ١٪ فقط من الفوتونات المنبعثة من السطح يتسرب خلال الغلاف الجوي؛ يتم اصطياد ٩٩٪ الأخرى وامتصاصها في النهاية بواسطة السطح. يمتص كوكب الزهرة الطاقة الشمسية القادمة إليه بمعدل حوالي ١٨٠ وات/م٢،١٦ وهكذا ينبغي أن يطلقها الكوكب مرة أخرى إلى الفضاء بالمعدل نفسه لإحداث التوازن، ولكن لأن ١٪ فقط من الفوتونات المنبعثة من السطح يتسرب إلى الفضاء، يجب أن تنبعث فوتونات من السطح بمعدل مائة ضعف هذا المعدل، حوالي ١٨٠٠٠ وات/م٢. ويتطلب هذا بدوره أن تكون درجة حرارة السطح ٤٨٠ مئوية — ساخنة بما يكفي لإذابة الرصاص، أسخن حتى من عطارد الذي لا يبعد إلا نصف المسافة عن الشمس مقارنة بالزهرة، لكن غلافه الجوي لا يقدم تأثير البيوت الزجاجية.

(٢-٥) التغذية الرجعية وحساسية المناخ

توضح حتى أبسط النماذج، مثل تلك التي ذكرناها سابقًا، أن سطح الأرض يجب أن يدفأ إذا زاد CO2 أو الغازات الأخرى التي تمتص الأشعة تحت الحمراء في الغلاف الجوي، لكن بأي قدر يدفأ؟ ما مدى حساسية درجة حرارة سطح الكرة الأرضية ومناخها لزيادة غازات البيوت الزجاجية؟ تتطلب الإجابة على هذا السؤال الكمي حسابات أكثر تعقيدًا من تلك التي ذكرناها سابقًا، وتجسد الكثير من العمليات الإضافية التي تُجرى في الغلاف الجوي الحقيقي.
قام العلماء بهذه الحسابات لمائة عام تقريبًا، في البداية باليد والآن لعدة عقود بالكمبيوتر؛ لتقديم أساس بسيط للمقارنة، وتعبر حسابات كثيرة منها عن نتائجها فيما يتعلق بمدى ارتفاع درجة حرارة الأرض بمضاعفة CO2. لقرون عديدة قبل الثورة الصناعية، وجد CO2 في الغلاف الجوي بمعدل ٢٨٠ جزءًا في المليون: بمضاعفة تركيزه يصل إلى ٥٦٠ جزءًا في المليون. حتى إذا حدثت هذه المضاعفة فورًا، لن ترتفع درجة حرارة الأرض في الحال. يستغرق الأمر قرونًا أو أكثر للوصول إلى توازن جديد في درجة الحرارة، لأن المحيطات، بسعتها الحرارية الهائلة، تبطئ من ارتفاع درجة الحرارة. وارتفاع درجة الحرارة الناجم في النهاية عن هذه المضاعفة، بمجرد أن يتحقق توازن جديد، يسمى حساسية المناخ. يمكننا أن نتحدث عن حساسية المناخ لنموذج أو حسبة، يمكن أن نلاحظها بعمل نموذج، أو حساسية مناخ الأرض — ويمكن أن نقدرها من خلال نموذج حسابات تذبذب المناخ في الماضي أو تسجيلاته، ولا يمكن أن نلاحظها مباشرة.
إذا ضوعفت كمية CO2 ولم يتغير شيء آخر في نظام المناخ، فسيكون من السهل نسبيًّا حساب أن الزيادة الناجمة في درجة الحرارة ستكون درجة واحدة مئوية، لكن في الواقع، من غير المحتمل أن يتغير تركيز CO2 وحده. والمناخ يدفأ نتيجة زيادة CO2، تتغير أشياء أخرى كثيرة. والأهم، مع دفء الغلاف الجوي يحتفظ بكمية أكبر من بخار الماء. وحيث إن بخار الماء أيضًا من غازات البيوت الزجاجية، يحدث هذا مزيدًا من التدفئة. مثل هذه التأثيرات غير المباشرة لزيادة CO2 — تغيرات إضافية نتيجة التغير الأوَّلي — تسمى تغذية رجعية، وهي مسئولة عن المزيد من التدفئة الناجمة عن زيادة غازات البيوت الزجاجية. بخار الماء أقوى تغذية رجعية، وهو قادر على مضاعفة التدفئة الناجمة عن CO2 وحده، لكن الكثير من التغذية الرجعية الأخرى مهم في نظام المناخ. يتضمن مثال آخر إذابة الجليد مع تدفئة المناخ، بشكلٍ أساسي في الأنهار المتجمدة والمحيطات قرب القطبَين. الجليد عاكس قوي وما يُكشَف من أرض أو ماء حين يذوب الجليد أكثر قتامة؛ وبالتالي يزيد نقص الجليد من مقدار الطاقة الشمسية القادمة التي يمتصُّها سطح الأرض، مما يسبب المزيد من التدفئة.
التغذية الرجعية لبخار الماء والتغذية الرجعية للجليد مثالان من أمثلة التغذية الرجعية الإيجابية — تغذية رجعية تزيد التدفئة الأولية. وتوجد أيضًا تغذية رجعية سلبية، بها تحدث التدفئة الأولية تغيرات تسبب تبريدًا. على سبيل المثال، ترتبط درجات حرارة السطح والطبقة العليا من الغلاف الجوي بمزج عمودي من العواصف الرعدية: والسطح يدفأ، تدفأ أيضًا الطبقة العليا من الغلاف الجوي. حيث إن الغلاف الجوي الأكثر دفئًا يشع طاقة أكبر في الفضاء، ويقابل هذا التأثير بعض الدفء الناتج عن زيادة غازات البيوت الزجاجية.
بوضع كل أنواع التغذية الرجعية المعروفة في الاعتبار، ترى التقديرات الحالية أن مضاعفة CO2 من ٢٨٠ إلى ٥٦٠ جزءًا في المليون يؤدي إلى تدفئة متوازنة بمقدار ٢–٤٫٥ درجات مئوية، وأفضل تقدير ٣ درجات مئوية. بتعبير آخر، تضاعف التغذية الرجعية التدفئة المباشرة الناتجة عن غازات البيوت الزجاجية ثلاثة أضعاف تقريبًا.

(٢-٦) نماذج المناخ ونماذج الطقس

كيف تتولد هذه التقديرات الكمية لحساسية المناخ؟ يمكن لحقول علمية أخرى أن تستخدم التجارب المقننة لدراسة سلوك الأشياء التي تهتم بها — على سبيل المثال، الذرات أو السوائل أو البكتيريا — لكن علماء المناخ لا يستطيعون القيام بتجارب مقننة على الأرض لملاحظة كيفية استجابتها للتغيرات في مكونات الغلاف الجوي. بدلًا من ذلك يستخدمون نماذج المناخ العالمي — تمثيل رياضي للأرض باستخدام الكمبيوتر. تمثل هذه النماذج القوانين الفيزيائية المعروفة التي تحكم سلوك نظام المناخ — مثل الحفاظ على الطاقة، والقوة الدافعة، والكتلة — وأيضًا بخر مياه السطح، وتكثف المياه في الغلاف الجوي لتكوين سحب، والكثير من العمليات الفيزيائية الأخرى المعروفة والتغذية الرجعية. لتقديم تمثيل دقيق للمناخ، ينبغي أن تمثل أيضًا نماذج المناخ العالمي سلوك الأجزاء الأخرى من الأرض، الأجزاء التي تتفاعل مع المناخ، بما في ذلك المحيطات، وسطح اليابسة، والكريوسفير (السطح الجليدي)، والبيوسفير (النظم البيئية في العالم).
يأتي التحدي الأكبر لوضع نموذج مناخ عالمي دقيق من المجال الهائل للنطاق الفضائي الذي تحدث به عمليات الغلاف الجوي — من أنظمة الضغط لآلاف الكيلومترات، إلى سحب من بضعة كيلومترات، إلى دوامات عنيفة من بضعة أمتار، إلى نشاط جزيئي من أجزاء من المليون أو البلايين من المتر. على النماذج أن تقسم الغلاف الجوي إلى خلايا شبكية محدودة الحجم، وهي أصغر وحدات تعرِّف بوضوح خصائص الغلاف الجوي وتحسبها. وتحدد سرعات الحاسبات الحالية أصغر خلايا شبكية في الغلاف الجوي بنحو ١٠٠كم أفقيًّا، مقسمة إلى طبقات رأسية يبلغ سُمك كلٍّ منها حوالي كم واحد. العمليات التي تُجرى على نطاق أصغر من ذلك، مثل السحب لا يمكن تمثيلها صراحة في النماذج وينبغي بدلًا من ذلك أن توضع في صورة عوامل متغيرة. الوضع في صورة عوامل متغيرة يعني تمثيل هذه العمليات التي تُجرى على نطاق أصغر في صورة دوال متغيرات يستطيع النموذج حلها بوضوح، مثل درجة الحرارة وبخار الماء. وهكذا بينما لا يمكن لنماذج المناخ العالمي أن تمثل السحب مفردة، وهي أصغر بكثير من خلية شبكية محدودة الحجم، يمكن أن تقدر متوسط السحب في خلية في صورة دالة للرطوبة النسبية والرياح في خلية. الوضع في صورة عوامل متنوع جدًّا. لبعضها أسس فيزيائية راسخة، بينما بعضها الآخر بنًى خاصة تسمح للنموذج بإنتاج مناخ حالي واقعي؛ وبالتالي الوضع في صورة عوامل متغيرة من أكبر مصادر الشك في نماذج المناخ العالمي.

يمكن اختبار نماذج المناخ العالمي بمدى قدرتها على استنتاج المناخ الحقيقي للأرض. على سبيل المثال، قد يبدأ نموذج للمناخ العالمي بالأحوال كما كانت منذ بضع مئات من السنين، ثم ينتقل إلى الحاضر لمعرفة قدرته على استنتاج سجل المناخ الملاحَظ. ويمكن أن تشكل الاختبارات الأخرى قدرة نموذج على استنتاج استجابة المناخ الملاحَظ لبعض التشوهات المعروفة، مثل انفجار بركاني هائل أو دورة النينو. تجتاز نماذج المناخ العالمي الحالي هذه الاختبارات بشكلٍ جيد. تستنتج المناخ الملاحَظ للقرنين الأخيرين كما تستنتجه بالنسبة للمتوسط العالمي ومناطق القارات الواسعة، لكنها تتفق بشكل أقل مع السجلات التاريخية (ومع كلٍّ منها) بالنسبة للمناطق الأصغر. المتغيرات التي ترتكز أساسًا على عمليات على نطاق كبير، مثل درجة الحرارة، تُمثَّل بشكل أفضل مما تمثل به المتغيرات التي ترتكز أكثر على نطاقٍ صغير، مثل سقوط الأمطار.

يمكن أن تُستخدَم أيضًا نماذج المناخ العالمي لدراسة المناخ بطرق يستحيل بها دراسة الأرض الحقيقية. يمكنها اختبار سيناريوهات «ماذا يحدث إذا؟»، مثل ماذا يحدث إذا تغير نتاج الشمس؟ أو ماذا يحدث إذا لم يعد هناك انبعاث لثاني أكسيد الكربون نتيجة نشاط الإنسان؟ يمكنها أيضًا، كما نناقش في الفصل الثالث، توقع مدى تغير المناخ استجابة لميول معينة في المستقبل لانبعاث CO2، وغازات البيوت الزجاجية الأخرى.

وتماثل نماذج المناخ العالمي نماذج الغلاف الجوي المستخدمة للتنبؤ بحالة الطقس، لكنها تختلف عنها اختلافات مهمة. يعتمد طقس الغد على طقس اليوم، وهكذا يتطلب استخدام نموذج للتنبؤ بالطقس معلومات مفصلة عن حالة الغلاف الجوي اليوم: درجة الحرارة والضغط والرطوبة وخصائص أخرى كثيرة، محسوبة بدقة وفي مواضع كثيرة قدر المستطاع، على السطح وفي المرتفعات. يأخذ نموذج التنبؤ بالطقس هذه اللقطة للغلاف الجوي ويستخدم الفيزياء المعروفة لتحريكها إلى الأمام زمنيًّا للتنبؤ بالحالة التي سيتطور عليها الغلاف الجوي عبر الزمن، لكن اللقطة الأولى للغلاف الجوي لا تكون قط دقيقة أو كاملة تمامًا، وحيث إن العلاقات الفيزيائية التي تحدد كيفية تطور الغلاف الجوي ليست خطية، فإن الأخطاء الصغيرة في الوصف في البداية تكبر بشكلٍ هائلٍ مع الزمن. في خلال أسبوع أو اثنَين، تسود الأخطاء ويصبح نموذج التنبؤ عديم الأهمية تمامًا.

بوضع هذه المحدودية الجوهرية لقدرة النماذج على التنبؤ بالطقس، كيف يمكن لمشروعات نماذج المناخ لعدة عقود في المستقبل أن تكون دقيقة؟ تكمن الإجابة في الاختلافات بين الطقس والمناخ. كما ناقشنا فيما سبق في القسم [ما المناخ؟]، الطقس حالة الغلاف الجوي في لحظة معينة، بينما المناخ إحصاءات الطقس في فترة زمنية. لا تتضمن القدرة المحدودة للتنبؤ بالطقس في يوم معين قدرة محدودة على التنبؤ بتوزيع الأحوال عبر الزمن — على سبيل المثال، مدى دفء يوم متوسط، ومدى سخونة معظم الأيام المتطرفة أو برودتها أو تكرارها — التي تشكِّل المناخ. هذه كميات مختلفة تفرض مشاكل مختلفة للتنبؤ، والتنبؤ بالمتوسطات والتوزيعات أسهل — بالضبط مثلما من الأسهل التنبؤ بتوزيع النتائج بإلقاء متكرر لقطعة من العملة من التنبؤ بنتيجة رمية واحدة. عدم القدرة على التنبؤ قصير الأجل بأوضاع معينة لا يتضمن عدم القدرة على التنبؤ طويل المدى بأحوال وتوزيعات متوسطة.

لنتناول مثالًا آخر. افترض أننا في يناير في «أن أربور»، ميتشجان.١٧ هل يمكن أن نتنبأ بأن متوسط درجة الحرارة في يونيو القادم سيكون أدفأ أو أبرد من المتوسط في هذا الشهر؟ بالطبع يمكن: نعرف بشكل مؤكد أن يونيو سيكون أدفأ من يناير، حتى إذا لم نستطع التنبؤ بالمناخ في ١٥ يونيو. يونيو أدفأ لأن النصف الشمالي من الكرة الأرضية، بما في ذلك أن أربور، يميل ناحية الشمس في يونيو، وهكذا يستقبل كمية من ضوء الشمس أكبر مما يستقبل في يناير. مع مزيد من الضوء القادم من الشمس، ينبغي أن يكون الطقس أكثر دفئًا نتيجة الأشعة تحت الحمراء المنبعثة لتوازن الطاقة الواردة.١٨ وبشكل مماثل ترفع الزيادة في غازات البيوت الزجاجية حرارة السطح بواسطة الغلاف الجوي. ويتطلب هذا بدوره دفء السطح لحدوث توازن الطاقة. وهكذا، لا يتطلب الأمر أن تكون لدينا القدرة على التنبؤ بالطقس في يومٍ معينٍ في ثمانينيات القرن الحادي والعشرين؛ لنعرف أن غازات البيوت الزجاجية في الغلاف الجوي قد زادت بشكل كبير في ذلك الوقت، وأن ذلك العقد سيكون أدفأ من هذا العقد.

لا يعني هذا أن التنبؤ بالمناخ سهل. بينما لا يعاني التنبؤ بالمناخ من الشك بشأن الأوضاع الأولية التي تحدُّ من التنبؤ بالطقس، فإنه يعاني من مشاكل أخرى لا يعاني منها التنبؤ بالطقس. على سبيل المثال، على مدى قرن أو يزيد من التنبؤ بالمناخ، ربما يتغير الكثير من مكونات نظام المناخ استجابة لزيادة درجة الحرارة، مثل توزيع طبقات الجليد، ودورة المحيطات، وتوزيع أنواع الأنظمة البيئية على سطح الأرض. يمكن أن يتجاهل التنبؤ بالطقس هذه التغيرات؛ لأن هذه الأجزاء من نظام المناخ لا تتغير على مدى أسبوع أو اثنين، المدة التي يغطيها التنبؤ بالطقس، لكن ينبغي أن يضع التنبؤ بالمناخ في الاعتبار المدى الذي يمكن أن تتغير به هذه الأشياء، وتتفاعل مع عناصر أخرى من عناصر المناخ، على مدى عقود أو أكثر. وهذا واحد من شكوك كثيرة في التنبؤ بالمناخ، نناقشه بتفصيل أكثر في الفصل الثالث، لكن هذه الشكوك تتعلق بمدى ما سوف يحدث من ارتفاع في درجات الحرارة، وبكيفية توزيعه حول الأرض، ومسائل أخرى — وليس بما إن كان سيحدث ارتفاع في درجات الحرارة.

(٢-٧) الضغط الزائد على المناخ نتيجة نشاط الإنسان

على مدى القرنَين الماضيَين، زادت أنشطة الإنسان بحدة من غزارة العديد من غازات البيوت الزجاجية في الغلاف الجوي. وكانت الزيادة الأكثر أهمية زيادة CO2، الذي ينبعث من احتراق مصادر الطاقة من الوقود الحفري — الفحم والنفط والغاز الطبيعي — ومن اقتلاع الأشجار وقطع الغابات. هذا الانبعاث لثاني أكسيد الكربون نتيجة نشاط الإنسان يوضع فوق الدورة العالمية الطبيعية للكربون، وفيها يتم تبادل CO2 باستمرار بين الغلاف الجوي والأنظمة البيئية؛ حيث تستخدم الكائنات CO2 في عملية التمثيل الضوئي وتطلقه في عملية التنفس، وبين الغلاف الجوي والمحيطات عن طريق العمليات الفيزيائية والبيولوجية. يوضح الشكل ١-٥ كيف تنوعت غزارة CO2 في الغلاف الجوي على مدى آخر ١٠٠٠٠ سنة. بقيت ٢٦٠–٢٨٠ جزءًا في المليون معظم هذه الفترة، ثم بدأت تزداد بسرعة في القرن التاسع عشر، مباشرة عقب الزيادة في استخدام الوقود الحفري في الثورة الصناعية. يزيد الآن CO2 في الغلاف الجوي عن ٣٨٥ جزءًا في المليون، ويزداد بمعدل جزأَيْن في المليون تقريبًا كل عام.
fig5
شكل ١-٥: متوسط التركيز العالمي لثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي على مدار آخر ١٠٠٠٠ سنة، بالجزء من المليون. يوضح الشكل المقحم آخر ٢٥٠ سنة (المصدر: Figure SMP. 1, IPCC (2007a)).
الميثان (CH4)، ويُعرف أيضًا بالغاز الطبيعي، ثاني أهم غازات البيوت الزجاجية التي تنبعث نتيجة نشاط الإنسان. ينبعث الميثان من حقول الأرز، والمطامر، والمواشي، وحرق الكتل العضوية، ومن استخراج الوقود الحفري ومعالجته، والعديد من المصادر الطبيعية الأخرى. تبدو السلسلة الزمنية لغزارته في الغلاف الجوي مماثلة لسلسلة CO2: قبل سنة ١٨٠٠م، كان ثابتًا عند ٠٫٨ من الجزء في المليون؛ بداية من ١٨٠٠م بدأ زيادة سريعة؛ والآن وصل إلى أكثر من الضعف إلى حوالي ١٫٧٥ جزء في المليون. وتشمل زيادة غازات البيوت الزجاجية الأخرى نتيجة نشاط الإنسان أكسيد النيتروز (N2O)، الذي ينبعث من الأسمدة المعتمدة على النيتروجين ومن العمليات الصناعية إضافة إلى بضعة مصادر طبيعية وازداد من حوالي ٢٥٠ جزءًا في البليون إلى ٣١٥؛ والهلوكربونات، مجموعة من المواد الكيميائية المصنعة ومن أهمها الكلوروفلوروكربونات (CFCs)، وتستخدم في الملطفات والمذيبات، وفي استعمالات صناعية أخرى متنوعة. ليس لهذه المواد الكيميائية مصادر طبيعية، لكنها توجد الآن في الغلاف الجوي عند حوالي ٣ أجزاء في البليون. بالإضافة إلى عدة تأثيرات إضافية أصغر للإنسان، التركيز المرتفع لغازات البيوت الزجاجية مسئول الآن عن زيادة الطاقة الواردة إلى سطح الأرض بمقدار ١٫٦ وات/م٢، مقارنة بالطاقة الواردة من الشمس وتبلغ ٢٤٠ وات.
نمت المعرفة بهذه التأثيرات البشرية على المناخ على مدى العقود الأخيرة. بحلول خمسينيات القرن العشرين وبدايات الستينيات صار من الواضح أن استخدام الوقود الحفري ينتج CO2 بسرعةٍ تكفي لزيادة غزارته بشكل دال في الغلاف الجوي، وقد نشر أول قياس دقيق لهذه الزيادة في ستينيات القرن العشرين. بينما توقَّع معظم العلماء ارتفاع حرارة المناخ نتيجة لهذا، وجدت أيضًا أدلة توحي بميل إلى انخفاضها، بما في ذلك سجلات التذبذب السابق في المناخ بين العصور الجليدية وفترات الدفء بين العصور الجليدية. استمرت فترة الدفء الحالي حوالي ١٠٠٠٠ سنة، تساوي تقريبًا طول فترات الدفء السابق بين العصور الجليدية. وربما يوحي ذلك بأن الأرض عرضة لتبريد تدريجي طويل المدى يؤدي إلى عصر جليدي آخر. إضافة إلى ذلك، شهدت درجات حرارة العالم ميلًا ضئيلًا للبرودة بين عام ١٩٤٥م وعام ١٩٧٥م تقريبًا، في الوقت ذاته الذي صار من الواضح أن تلوث الدخان والغبار يمكن أن يحجب سطح الأرض عن ضوء الشمس القادم؛ ومن ثم يضخم أي ميل طبيعي للبرودة. وبحلول ثمانينيات القرن العشرين، مع ذلك، استعادت درجات حرارة العالم ارتفاعها وأوضحت أدلة كثيرة جديدة أن ارتفاع الحرارة نتيجة غازات البيوت الزجاجية يحظى باهتمام سائد.
مع زيادة تركيز غازات البيوت الزجاجية في الغلاف الجوي، نتوقع ارتفاع حرارة الأرض وتغير المناخ. كما نناقش في الفصل الثالث، أفضل التوقعات الحالية أن تزايد انبعاث CO2 وغازات البيوت الزجاجية الأخرى بدرجة ما كما تزايدت، سوف ترتفع حرارة الأرض حوالي ٣ درجات مئوية بحلول نهاية هذا القرن. قد لا يبدو هذا كبيرًا، حيث إنه حتى في مكان واحد الاختلاف بين يوم صيفي حار ويوم شتوي بارد يمكن أن يصل إلى ٥٠ درجة مئوية، ويمكن أن تحدث تغيرات بنصف هذا الارتفاع بين النهار والليل أو بين يوم ويوم؛ من ثم، يمكن أن تخمن بشكل معقول أن زيادة درجة حرارة العالم بضع درجات لا يبدو أمرًا ذا بالٍ، لكن قد يكون هذا خطأً خطيرًا. بينما درجة الحرارة في أي مكان على الأرض يمكن أن تختلف اختلافًا هائلًا، فإن متوسط درجة الحرارة على الأرض كلها ثابت تمامًا، خلال السنة ومن سنة إلى أخرى. في ماضي الأرض، ارتبط التغير ببضع درجات في متوسط درجة حرارة العالم بتغيرات شديدة في المناخ. على سبيل المثال، في ذروة العصر الجليدي الأخير منذ ٢٠٠٠٠ سنة؛ حين كانت طبقة من الجليد سمكها آلاف الأقدام تغطي معظم أجزاء أمريكا الشمالية كان متوسط درجة الحرارة أقل ٥–٨ درجات مئوية عما هي عليه اليوم. هكذا، توقع ارتفاع بمقدار بضع درجات مئوية في درجة حرارة العالم على مدى ١٠٠ سنة — وأكثر — يجب رؤيته باعتباره أمرًا بالغ الخطورة. في الفصل الثالث نلخص ما تعلمناه منذ ظهر تغير المناخ باعتباره مسألةً علمية خطيرة منذ حوالي ٥٠ سنة، بشأن الدليل على أن المناخ يتغير، ونسبة هذه التغيرات إلى نشاط الإنسان، والتغيرات المستقبلية المحتملة، وتأثيراتها.

(٣) خلفية عن سياسة تغير المناخ

مثل الكثير من القضايا البيئية المهمة، لفت تغير المناخ العالمي أنظار صانعي السياسة بعد عقود من البحث العلمي في الموضوع. لم يشدَّ تغير المناخ انتباه الجماهير أو الساسة في ستينيات القرن العشرين، ولم يشدَّه إلا قليلًا أثناء المناظرات حول سياسة الطاقة في السبعينيات. بحلول أوائل الثمانينيات، حين تبين بشكل متزايد أن ارتفاع الحرارة نتيجة غازات البيوت الزجاجية موضوع خطير، بدأ العلماء والمنظمات العلمية محاولة حث الحكومات على الانتباه إلى مشكلة المناخ. وقد حققوا نجاحًا ضئيلًا حتى ١٩٨٨م، حين دفعت عدة أحداث بتغير المناخ إلى الأجندة السياسية فجأة.

في ذلك الصيف، عانت أمريكا الشمالية من موجة شديدة من الحرارة وأسوأ جفاف منذ سنوات عاصفة الغبار في ثلاثينيات القرن العشرين. بحلول شهر يوليو، كان ٤٥٪ من الولايات المتحدة يعاني من الجفاف، وأعلن بضعة علماء بارزين أن من المحتمل أن يكون السبب تغير المناخ. وبالإضافة إلى ذلك، تبع هذا الصيف الشديد فترة من الدعاية المكثفة بشأن ثقب أوزون القطب الجنوبي ومفاوضات اتفاقية مونتريال، المعاهدة الدولية للحد من المواد الكيميائية المستنفدة للأوزون. في ظل هذه الظروف، بدأ الساسة والعامة الاهتمام باحتمال أن تكون أنشطة الإنسان وراء تشويه المناخ العالمي. في أواخر ١٩٨٨م، بدلًا من إعلان اسم «شخصية العام»، حددت مجلة «تايم» «الأرض المهددة» باعتبارها «كوكب العام»، بينما مرر السكرتير العام للأمم المتحدة قرارًا ينصُّ على أن المناخ «يهم الجنس البشري».

تغير المناخ واستنفاد الأوزون

كثيرًا ما يخلط الناس بين تغير المناخ العالمي واستنفاد طبقة الأوزون في الاستراتوسفير، لكنهما مشكلتان مختلفتان. الأوزون جزيء مكوَّن من ثلاث ذرات من الأكسجين، يوجد بشكل طبيعي في الاستراتوسفير، على بعد حوالي ١٥–٤٠كم فوق سطح الأرض. يحمي الأوزون في الاستراتوسفير الحياة على الأرض بامتصاص معظم الأشعة فوق البنفسجية عالية الطاقة الموجودة في ضوء الشمس. بينما يقع معظم ضوء الشمس في المجال المرئي، تتميز نسبة مئوية ضئيلة منه بموجات أقصر من ٠٫٣ ميكرون، في الأشعة فوق البنفسجية. لجعل الأمور محيرة أكثر، الأوزون بالقرب من الأرض خطر على الصحة ومكون للهباب، ويزداد نتيجة نشاط الإنسان. لتوضيح الاختلاف بين «الأوزون المفيد» (فوق هناك) و«الأوزون الضار» (تحت هنا)، تذكر فقط أنك تريد الأوزون بينك وبين الشمس، لكنك لا تريد أن تتنفسه.

بداية من سبعينيات القرن العشرين أدرك العلماء أن مجموعة من المواد الكيميائية التي يصنعها الإنسان، بشكل أساسي الكلوروفلوروكربونات، يمكن أن تدمر أوزون الاستراتوسفير. وهذا يجعل أشعة فوق البنفسجية أكثر كثافة تصل إلى السطح، مما يزيد من سرطان الجلد، وإصابة العين بالمياه البيضاء، وأضرار أخرى تصيب صحة الإنسان والأنظمة البيئية. زاد الاهتمام أكثر في الثمانينيات، حين لوحظ فَقْد شديد في الأوزون فوق القطب الجنوبي في كل ربيع (أكتوبر ونوفمبر) — وسمِّي بسرعة «ثقب الأوزون» — واعتبرت الكلوروفلوروكربونات السبب.

بعد عشر سنوات من المحاولات التي لم تصادف نجاحًا لحل المشكلة، تبنت الأمم إجراءات صارمة في أواخر الثمانينيات وفي التسعينيات استبعدت تقريبًا كل المواد الكيميائية التي تستنفد الأوزون في الدول الصناعية. وتتخلص الدول النامية تدريجيًّا الآن من هذه المواد الكيميائية. ونتيجة لذلك، بدأت كمية الكلوروفلوروكربونات في الغلاف الجوي تنخفض بالفعل، ويتوقع استعادة أوزون الاستراتوسفير تدريجيًّا على مدى ٣٠–٥٠ عامًا.

يرتبط تغير المناخ واستنفاد الأوزون ببضع طرق. منها أن الكلوروفلوروكربونات تمتص الأشعة تحت الحمراء بقوة، وهكذا تساهم في تغير المناخ بالإضافة إلى تدمير الأوزون. ثمة رابط آخر وهو أن تغير المناخ يرفع حرارة سطح الأرض والطبقات السفلى من الغلاف الجوي، لكنه يجعل الاستراتوسفير أكثر برودة ورطوبة. والظروف الأكثر برودة ورطوبة تعزز تدمير الأوزون، وهكذا يحتمل أن يؤجل استعادة طبقة الأوزون حتى إذا استمر التوقف التدريجي للمواد الكيميائية المستنفدة للأوزون، لكن رغم الربط، فإن استنفاد الأوزون وتغير المناخ مشكلتان مختلفتان جذريًّا. لهما أسباب مختلفة: الكلوروفلوروكربونات والمواد الكيميائية الأخرى التي تحتوي على كلور أو بروم مقابل CO2 وغازات البيوت الزجاجية الأخرى. ولهما تأثيرات مختلفة: تؤذي الأشعة فوق البنفسجية القوية الصحة والأنظمة البيئية، مقابل تغيرات في المناخ والطقس على مستوى العالم. رغم أهمية الاختلافات بين هذه المسائل، تقدم أوجه كثيرة لكيفية استجابة الأمم لقضية الأوزون دروسًا مفيدةً لاستجابتها لتغير المناخ العالمي. سوف نشير إلى الأوجه ذات الصلة من قضية الأوزون في عدة مواضع في هذا الكتاب.
كانت أول استجابة للحكومات تأسيس هيئة دولية لتقييم المعرفة العلمية عن تغير المناخ. الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ أو IPCC. تشمل هذه الهيئة مئات من العلماء مقسمين إلى ثلاث مجموعات عمل، كلٌّ منها مسئولة عن وجه مختلف في قضية المناخ: علم الغلاف الجوي لتغير المناخ؛ التأثيرات المحتملة لتغير المناخ وطرق التكيف مع التغيرات؛ إمكانية خفض انبعاث غازات البيوت الزجاجية التي تساهم في تغير المناخ. التقارير الأربعة الرئيسية للتقييم، التي أكملتها الهيئة منذ تكوينها، في ١٩٩٠م، ١٩٩٥م، ٢٠٠١م، ٢٠٠٧م، تعتبر على نطاق واسع البيانات الموثوق بها للمعرفة العلمية عن تغير المناخ. وسوف نكرر الإشارة إلى هذه التقييمات في كل موضعٍ من هذا الكتاب.
وهذه الهيئة الدولية تبدأ عملها في أواخر ثمانينيات القرن العشرين بدأت الحكومات أيضًا الاهتمام بالعمل على الاستجابة لتغير المناخ. على مدى العامين التاليين للصيف الحار في ١٩٨٨م، دُعي لمؤتمرات عديدة رفيعة المستوى لخفض انبعاث CO2 على مستوى العالم، بشكل نموذجي من ١٠ إلى ٢٠٪ في خطوة أولى. خلال عام ١٩٩١م وعام ١٩٩٢م، تفاوض ممثلو الدول حول أول معاهدة دولية عن تغير المناخ، الاتفاقية الإطارية بشأن تغير المناخ. وقعت هذه المعاهدة في يونيو ١٩٩٢م، ودخلت حيز التنفيذ في ١٩٩٤م، ومنذ ذلك الوقت وضع قانون في كل الأمم وصدقت عليه أكثر من ١٩٠ دولة من بينها الولايات المتحدة.١٩

نصت الاتفاقية الإطارية على أن الهدف «استقرار تركيز غازات البيوت الزجاجية في الغلاف الجوي عند المستوى الذي يمنع التدخل البشري الخطير في نظام المناخ … في إطار زمني كافٍ للسماح للأنظمة البيئية بالتكيف بشكل طبيعي مع تغير المناخ، لضمان عدم تهديد إنتاج الطعام، وتمكين التطور الاقتصادي من التقدم بشكل مستمر.» وتنص المعاهدة أيضًا على عدة مبادئ تهدف إلى توجيه القرارات التالية الخاصة بسياسة المناخ، ومنها مبدأ يحظى بأهمية خاصة عن «المسئولية المشتركة والمتميزة». وينص هذا المبدأ على أن كل الأمم ملزمة بمواجهة قضية المناخ، لكن ليس بالطريقة نفسها أو في الوقت ذاته، وبشكلٍ خاص على أن «… ينبغي على أحزاب الدول المتطورة أن تأخذ زمام القيادة في محاربة تغير المناخ والتأثيرات الضارة الناجمة عنه».

لم تسعَ هذه الاتفاقية الإطارية إلى أن تكون الكلمة الأخيرة عن تغير المناخ، بل لتقديم نقطة بداية من أجل تدابير أكثر خصوصية وإلزامًا يتم التفاوض بشأنها فيما بعد؛ وبالتالي، على عكس مبادئها وأهدافها الطموحة، كانت التدابير الملموسة للمعاهدة ضعيفة وتمهيدية. في ظل هذه الاتفاقية تعهدت الدول بتسجيل انبعاث الغازات الحالية والمتوقعة، ودعم أبحاث المناخ. قبلت الأطراف أيضًا التزامًا عامًّا بتبني تدابير للحد من انبعاث الغازات وتقديم تقارير عنها. لم يتم، مع ذلك، تحديد ما كان على هذه التدابير أن تفعله، أو تحققه. فقط بالنسبة للدول الصناعية (تسمى «دول المرفق الأول») جعلت هذا الالتزام العام يتضمن أيضًا الهدف المحدد لإعادة مستويات انبعاث الغازات إلى المستوى التي كانت عليه سنة ١٩٩٠م بحلول سنة ٢٠٠٠م. وكان هذا الهدف الأقرب الذي سعت الاتفاقية إلى تنفيذه بشكل ملموس للارتقاء بأهدافها، لكن حتى هذا الهدف لم يكن ملزمًا قانونًا.

بقدر ما كان هذا الهدف واهيًا، بذلت حكومات قليلة جهودًا جادة لتلبيته. حشدت دول كثيرة، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية، برامج قومية لم تكن أكثر من نصائح للعمل التطوعي وإعادة صياغة البرامج الموجودة. الدول القليلة التي حققت الهدف فعلت ذلك إلى حدٍّ بعيد بمصادفة تاريخية، أو من خلال سياسات تبنَّتها لأسباب أخرى. روسيا، على سبيل المثال، حققت الهدف نتيجة انهيار الاقتصاد السوفييتي بعد ١٩٩٠م، وألمانيا لأنها استوعبت الاقتصاد الألماني الشرقي المُنكمش، وبريطانيا لأنها خصخصت توليد الكهرباء وأوقفت إنتاج الفحم. وتبين فورًا بعد تبني هذه المعاهدة أن القيام بخفض مهم في انبعاث الغازات يتطلَّب تدابير أقوى. بعد بضع سنوات من مناظرة على نطاق واسع بشأن الشكل الذي يمكن أن تكون عليه هذه التدابير الأقوى، تم تبني خطة في ١٩٩٥م للتفاوض بشأن التزام الدول بحدود انبعاث غازات البيوت الزجاجية بالنسبة لدول المرفق الأول (الصناعية). في ديسمبر ١٩٩٧م، انتهت هذه المفاوضات بتوقيع اتفاقية كيوتو.٢٠
تميزت مفاوضات اتفاقية كيوتو بمساومة صعبة لآخر دقيقة حول الحدود القومية للانبعاث. سعت وفود أوروبا واليابان إلى تخفيضات طموحة للانبعاث بنسبة ٥–١٥٪ تحت مستويات ١٩٩٠م بحلول ٢٠١٠م. عارضت إدارة كلينتون في البداية التخفيضات الوشيكة للانبعاث، وطرحت بدلًا من ذلك الأبحاث والمبادرات التطوعية في السنوات الأولى، مع عدم دخول أهداف خفض الانبعاث حيز التنفيذ إلا بعد ٢٠٠٨م. اتخذ مجلس الشيوخ الأمريكي خطوة غير معتادة بالتعبير عن عدائه لأهداف الانبعاث، حتى قبل اكتمال مفاوضات المعاهدة، ممرِّرًا قرارًا («قرار بارد-هاجل Byrd-Hagel») رفض تحديد الانبعاث بالنسبة للدول الصناعية إذا لم تتعهد الدول النامية بتخفيض الانبعاث في الوقت ذاته.
تم التوصل إلى الاتفاق في الساعات الأخيرة من مؤتمر كيوتو، فارضًا أهدافًا معينة للانبعاث بالنسبة لكل بلد صناعي على مدى «فترة تعهد» لمدة خمس سنوات من ٢٠٠٨م إلى ٢٠١٢م. حُدِّدت الأهداف بالنسبة للانبعاث الكلي لسلة من CO2، وخمس غازات أخرى من غازات البيوت الزجاجية. ومع أن المعاهدة لم تشمل أي تحديد للانبعاث بالنسبة للدول النامية، وقَّع عليها وفد الولايات المتحدة، في خروج على قرار مجلس الشيوخ. كانت أهداف الانبعاث ٨٪ تحت مستويات ١٩٩٠م بالنسبة للاتحاد الأوروبي وبضع دول أوروبية أخرى؛ ٧٪ بالنسبة للولايات المتحدة؛ ٦٪ بالنسبة لليابان وكندا؛ وصفر (أي الإبقاء على مستوى الانبعاث بالمستوى الذي كان عليه في ١٩٩٠م) بالنسبة لروسيا وأوكرانيا.٢١ إذا حققت كل الدول أهدافها، سيكون الانبعاث من هذه الدول أقل بمعدل ٥٫٢٪ أثناء فترة التعهد من مستويات ١٩٩٠م.

ضم البروتوكول أيضًا العديد من البنود المصاغة على عجل، للسماح بالمرونة في كيفية تحقيق الشعوب للحد من الانبعاث. وتشمل آليات لتبادل الالتزام بخفض الانبعاث بين الدول (السماح لدولة بتخفيض أقل بالدفع لدولة أخرى لتقوم بتخفيض أكبر). وضم أيضًا بنودًا للدول لتحقيق بعض التزاماتها بتشجيع التخلص من الكربون بزرع الأشجار أو بتدابير مماثلة، بدلًا من تخفيض الانبعاث من استخدام الطاقة أو من الصناعة. ومع ذلك تركت تفاصيل هذه البنود، بالإضافة إلى مسائل أخرى كثيرة تتعلق بتنفيذ الاتفاقية، للبتِّ فيها فيما بعد.

سعت مفاوضات أخرى على مدى ثلاث سنوات بعد توقيع الاتفاقية، إلى وضع قواعد أكثر تحديدًا لتنفيذ التزامات الانبعاث، وخاصة فيما يتعلق بمقدار الدين الذي يمكن للأمم أن تطالب به لتشجيع التخلص من الكربون، وتمويل تخفيض الانبعاث خارج حدودها في ظل آليات مرنة. كشفت هذه المفاوضات عن اختلافات حادَّة بين مجموعتَين من الدول الصناعية بشأن مدى المرونة التي ينبغي منحها. سعت إحدى المجموعتين، وتشمل الولايات المتحدة وروسيا واليابان وكندا وعدة دولٍ أخرى، إلى مزيدٍ من الحرية في تشجيع التخلص من الكربون بواسطة الغابات أو تخفيضات أخرى، ومزيد من المرونة لإحلال الخفض خارج الحدود مكان الخفض داخل البلاد، بينما رغبت معظم الدول الأوروبية بالسماح بقدر أقل من المرونة فيما يتعلق بهاتَين النقطتَين.

احتدم هذا الصراع وتوقفت المفاوضات بين المجموعتَين في مؤتمر في نوفمبر ٢٠٠٠م في «ذا هوج».٢٢ هنا، رغم التحولات السياسية باتجاه خط أكثر تشدُّدًا في أوروبا، والتشكك البادي في انتخابات الرئاسة الأمريكية غير المحسومة، كادت الوفود تصل إلى تسوية، لكن التسوية المقترحة رفضها في الدقيقة الأخيرة وزيرا البيئة في فرنسا وألمانيا (والاثنان عضوان في حزب الخضر)، اللذان رأيا أن الإضعاف المقترح لتعهدات كيوتو باهظ بدرجة لا تسمح بدفعه ثمنًا لمشاركة الولايات المتحدة. ربما وضع انهيار المفاوضات على عاتق هذا الصراع، وبدا أن هناك اختلافاتٍ أخرى عديدة، بين الدول الصناعية والدول النامية، وبين الدول النامية، كان يمكن أيضًا أن تعرقل الاتفاق إذا طرحت على قمة جدول الأعمال.
بينما كانت إدارة كلينتون مرتبكةً نتيجة التناقض في مقاربة قضية المناخ عمومًا، واتفاقية كيوتو خاصةً، كان موقف إدارة بوش معاديًا بوضوح. بعد شهرَين من تولِّي الإدارة الجديدة مقاليد الأمور في ٢٠٠١م أعلنت أنها لن تصدق على الاتفاقية، لوجود قدر كبير جدًّا من الشك العلمي بشأن تغير المناخ، ولأن الحدود التي وضعتها الاتفاقية للانبعاث قد تضر بالاقتصاد الأمريكي. ورغم تراجع إدارة بوش فيما بعد عن ادعاء أن انسحابها نتيجة الشكوك العلمية، فقد واصلت التمسك بعدم قبول الاتفاقية؛ بسبب التكلفة الباهظة على الاقتصاد الأمريكي وعدم تحديد الانبعاث بالنسبة للدول النامية. في فبراير ٢٠٠٢م، أعلن الرئيس بوش مقاربته البديلة للقضية، وتشمل عدة مكونات: هدف خفض «كثافة غازات البيوت الزجاجية» للاقتصاد الأمريكي — الانبعاث لكل دولار من الناتج القومي الإجمالي — ١٨٪ بحلول عام ٢٠١٢م؛٢٣ زيادة المخصصات لعلم تغير المناخ ولتقنيات معينة لخفض الانبعاث؛ حوافز ضريبية للطاقة المتجددة والمركبات عالية الكفاءة، والعديد من البرامج لتشجيع رجال الأعمال على الخفض التطوعي للانبعاث.

بعد إعلان انسحاب الولايات المتحدة، واصل الموقِّعون الآخرون التفاوض بشأن الآليات المرنة وبنود الالتزام، وتوصلوا إلى تفاهم في نوفمبر ٢٠٠١م، يشبه ما رفض في ٢٠٠٠م. سمحت هذه الاتفاقات بمرونة أكبر مما كان المندوبون الأوروبيون يرغبون في قبوله من قبل، وتلا ذلك بيانات بأن الاتحاد الأوروبي واليابان، وكندا بعد ذلك، سيصدقون على الاتفاقية.

وبقيَت القوة القانونية للاتفاقية غير مؤكدة حتى أواخر ٢٠٠٤م. حتى تدخل حيز التنفيذ؛ ومن ثم تصبح ملزمةً للدول التي صادقت عليها، تتطلب الاتفاقية تصديق ٥٥ دولة، من بينها الدول التي تساهم على الأقل بنسبة ٥٥٪ من الانبعاث الصادر عن الدول الصناعية سنة ١٩٩٠م. وتعني هذه العتبة أن المعاهدة، من دون الولايات المتحدة، لا يمكن أن تدخل حيز التنفيذ إلا إذا انضمت إليها كل الدول الصناعية الكبرى، بما فيها روسيا. بعد عدة سنوات من الشك حول نوايا روسيا، صدقت عليها في نوفمبر ٢٠٠٤م، مما سمح بدخول الاتفاقية حيز التنفيذ في ١٦ فبراير ٢٠٠٥م.

لكن التأخير فترة طويلة في انتظار التوقيع كان يعني أن الاتفاقية لن تدخل حيز التنفيذ إلا قبل بداية فترة التعهد بثلاث سنوات. وكانت جهود الدول أثناء ذلك غير منتظمةٍ إلى حد بعيد، وكان الكثير منها غير مستعدٍّ لتحقيق ما يمكن أن يكون انحرافًا كبيرًا في الانبعاث على مدى سنواتٍ قليلة جدًّا. ونتيجة لذلك، كانت الميول القومية بشأن الانبعاث غير منتظمةٍ إلى حدٍّ بعيد، وكان من المحتمل أن تنفذ دول قليلة تعهداتها.

كانت أوضاع روسيا وأوكرانيا الأسهل في الاستجابة؛ لأن انهيار الاقتصاد السوفييتي في أوائل التسعينيات نزل بمستويات الانبعاث إلى مستوياتٍ أقلَّ بكثير من المستهدف، التي استقرَّت عند خط الأساس لسنة ١٩٩٠م. في ٢٠٠٦م، كان مستوى الانبعاث في روسيا أقل ٣٦٪ من المستهدف وفي أوكرانيا ٥٢٪، مما سمح لهما ببيع أرصدة للدول الأخرى في ظل آليات المرونة التي أقرَّتها الاتفاقية.

وقام الاتحاد الأوروبي بأكثر الجهود جدية لخفض الانبعاث. طبقًا للاتفاقية، على الاتحاد الأوروبي خفض الانبعاث ٨٪، لكنها تسمح له بتحقيق الهدف مجتمعة، وهكذا يمكن لتخفيض أكبر في بعض الدول الأعضاء أن يقابله تخفيض أقل أو زيادة الانبعاث في دول أخرى. ومع ذلك، التزم الاتحاد الأوروبي بأهداف أكثر صرامة بكثير — ٢٠٪ تحت مستويات ١٩٩٠م بحلول ٢٠٢٠م، ليلتزم بتخفيض ٣٠٪ إذا وافقت الدول الصناعية الأخرى على بذل جهود مماثلة. لتحقيق هذا التخفيض، حقق الاتحاد الأوروبي نظام انبعاث قابل للتبادل يسمح بتغطية محطات الكهرباء، ومعظم المصادر الصناعية الكبرى (حوالي نصف مجموع الانبعاث)، بالإضافة إلى نُظُم لتغطية البنايات والمركبات والأدوات والأجهزة الأخرى، والوقود الحيوي. رغم هذه الجهود، انخفض الانبعاث في الاتحاد الأوروبي سنة ٢٠٠٦م ٢٫٧٪ فقط عن مستويات ١٩٩٠م، مع تدابير إضافية أكثر تفاؤلًا للوصول بها إلى ٧٪ تحت المستوى الأساسي بحلول ٢٠١٠م. يبقى من الممكن تنفيذ الالتزام الأوروبي الرسمي بتخفيض ٨٪ طبقًا لاتفاقية كيوتو، لكن فقط تمويل كبير للتخفيضات الأجنبية في ظل الآليات المرنة التي أقرَّتها اتفاقية كيوتو.

ضمن الدول الصناعية الأخرى الكبرى، الولايات المتحدة غير مضطرة لتنفيذ تخفيض بنسبة ٧٪ طبقًا لاتفاقية كيوتو لأنها لم تصدق عليها. كان الانبعاث في الولايات المتحدة أعلى من المستوى الأساسي بنسبة ١٦٪ في ٢٠٠٧م. بذلت اليابان وكندا جهودًا أقل جدية بكثير من جهود الاتحاد الأوروبي، وحققتا إنجازات أقل. كان مستوى الانبعاث في اليابان أعلى ٩٪ من المستوى الأساسي، وقد وضعت كثيرًا من التدابير الضئيلة في خطة المناخ، بشكل متفائل، للتخفيض بنسبة ضئيلة فقط؛ ومن ثم من غير المحتمل أن تحقق المستهدف لها من خفض ٦٪ حتى لو خصصت تمويلًا كبيرًا للتخفيضات الأجنبية. وربما كان وضع كندا أسوأ، ولم تصدق على الاتفاقية إلا في ديسمبر ٢٠٠٢م، وقد اعتزمت وضع عدة خطط مختلفة للمناخ، كلها ضعيفة ولم تُنفَّذ أيٌّ منها بالكامل. مع ارتفاع الانبعاث في كندا بنسبة ٢٦٪ عن المعدل الأساسي، ليست هناك فرصةٌ لتحقيق الهدف، برغم الالتزام القانوني طبقًا للاتفاقية. ربما أستراليا هي الطرف الذي يمثِّل الوضع الأسهل. في البداية عارضت أستراليا الاتفاقية، مثل الولايات المتحدة، ثم غيرت رأيها وصدقت عليها بعد تغيير الحكومة في ٢٠٠٧م، لكن مع أحد أكثر أهداف كيوتو تساهلًا (٨٪ زيادة عن المعدل الأساسي) ونمو الانبعاث بمعدل ٧٪ فقط من ١٩٩٠م إلى ٢٠٠٦م، تتمتع أستراليا بفرصة عادلة لتحقيق هدفها رغم البداية المتأخرة. عمومًا، كان الانبعاث سنة ٢٠٠٧م من الدول التي وقعت على كيوتو ١٤٪ أقل من المعدل الأساسي في سنة ١٩٩٠م، لكن هذا النقص الكبير كان في الأساس نتيجة انهيار الاقتصاد الروسي، والانبعاث الصادر عنه، في أوائل تسعينيات القرن العشرين. معظم الموقعين على اتفاقية كيوتو لأهدافٍ تتعلق بالانبعاث لن يحققوا أهدافهم، ولن تحققها إلى حدٍّ بعيد عدة اقتصاديات رئيسية.

مع تبدِّي الفشل، وافقت الأطراف التي اجتمعتْ في بالي سنة ٢٠٠٧م على التفاوض بشأن معاهدةٍ جديدةٍ حول المناخ خلال سنتَين، لتتضمَّن فعاليات الدول الصناعية والنامية. مع ذلك، عادت المفاوضات التالية بسرعةٍ إلى خطوط الصراع القديم، وهكذا بحلول بدايات ٢٠٠٩م تقلَّص الهدف إلى التفاوض بشأن تعهد سياسي آخر، على أن تتبعه المعاهدة فيما بعد. ومع اقتراب مؤتمر كوبنهاجن في ديسمبر ٢٠٠٩م، ارتفعت الآمال بتجدد انضمام الولايات المتحدة في ظل إدارة أوباما، بالإضافة إلى تصريحات قومية كثيرة عن زيادة التعهدات. وتميز المؤتمر، مع ذلك، بمناقشات حادة عن المشاركة في أعباء العمل والكثير من العقبات الإجرائية. ولم يتم تجنُّب الفشل إلا في المفاوضات المكثفة في الدقيقة الأخيرة في صفقة سياسية عقدها قادة ٢٨ دولة، بما فيها الدول التي يصدر منها انبعاث هائل وممثِّلو المجموعات الإقليمية. تضمَّنت «اتفاقية كوبنهاجن» عدة تطورات مهمة على أي اتفاق سابق — عن هدف الحد من تغير المناخ إلى درجتَين مئويتَين، وعن خفض الانبعاث لتحقيق ذلك، عن التحقق من الفعاليات القومية، وعن الدعم المالي للدول النامية — لكنها كانت مبهمة أو ضعيفة في نقاط محورية. بالإضافة إلى ذلك، أعاقت الاعتراضات من خمس دول التبني الرسمي للاتفاقية، وهكذا فإن وضعها حتى أساسًا لمفاوضات مستقبلية غير مؤكدة. باختصار، برغم مؤشرات جيدة متواضعة قبل الذهاب إلى كوبنهاجن وفيها، والانتباه الكبير الحالي لتغير المناخ، يبقى من غير الواضح إن كان قادة الدول الكبرى يرغبون في العمل بقوة كافية لمواجهة المشكلة، أو إن كانت عملية التفاوض الدولي قادرةً على تشجيع هذا العمل وتنسيقه.

(٤) خطة الكتاب

نسعى في بقية الكتاب إلى تقديم دليل واضح للمناظرة الحالية حول تغير المناخ. تلخص الحالة الحالية للمعرفة العلمية حول تغير المناخ، والخيارات السياسية المتاحة للاستجابة له، والمناظرة السياسية عما ينبغي القيام به، وكيف تتفاعل هذه المناطق الثلاث المعنية بالمعرفة والمناظرة — العلم والسياسة والسياسي.

خطة الكتاب كما يلي: يناقش الفصل الثاني الخصائص العامة للمناظرة العلمية والمناظرة السياسية، والاختلاف بينهما، والتحدي المتوقع الذي يظهر حين تقع مسائل مهمة على الحدود بين هاتَين المنطقتَين غير المتماثلتَين المتعلقتَين بالمناظرة وصناعة القرار. ويلخص الفصل الثالث المعرفة العلمية الحالية وعدم اليقين بشأن تغير المناخ العالمي، مركزًا على النقاط التي أصبحت المسائل الأكثر أهمية في الجدل العام. ويلخص الفصل الرابع المعرفة الحالية عن التكنولوجيا المحتملة والاستجابات السياسية لقضية المناخ. أخيرًا، يتناول الفصل الخامس شيئَين؛ الأول: يضع خطوطًا عامة للمناظرة السياسية الحالية عن تغير المناخ وأسس الورطة الحالية في القضية. الثاني: يرسم أحكامنا الخاصة لوضع مجموعة من التوصيات عما ينبغي القيام به للاستجابة بشكلٍ مناسبٍ للتهديد الخطير الذي يفرضه تغير المناخ العالمي.

(٥) قراءة إضافية بالنسبة للفصل الأول

  • David Archer (2007), Global Warming: Understanding the Forecast, Malden, MA: Blackwell Publishing.
  • K. Emanuel (2007): What We Know About Climate Change, MA: MIT Press.

يصف هذان الكتابان القصيران نسبيًّا العلم الأساسي لارتفاع درجة حرارة العالم. وقد كتبا لمن ليست لديهم خلفية علمية عميقة.

١  النينو El Niño: انظر المصطلحات. (المترجم)
٢  Nobel lecture, Oslo, December 10, 2007.
٣  Speech on Energy and Policy, April 23, 2007.
٤  Letter to Matti Vanhanen (رئيس وزراء فنلندا، ورئيس الاتحاد الأوروبي) ٢٠ أكتوبر ٢٠٠٦م.
٥  كلمة في افتتاح مؤتمر بالي عن تغير المناخ، ١٢ ديسمبر ٢٠٠٧م.
٦  «علم تغير المناخ»، بيان للسيناتور جيمس م. إنهوف، ٢٨ يوليو ٢٠٠٣م.
٧  Hot & Cold Media Spin Cycle: A Challenge to Journalists Who Cover Global Warming. Senate Floor Speech, Sen. Inhofe, October 25, 2006.
٨  “Global Warming “Consensus” in Freefall,” Senate Floor Speech, January 8, 2009.
٩  “Climate of Fear: Global warming alarmists intimidate dissenting scientists into silence,” op-ed, Wall Street Journal, April 12, 2006.
١٠  “Hey, Nobel prize winners, answer me this”, Heartland Institute, March 15, 2008, at www.globalwarmingheartland.org/Article.cfm?artd=23004.
١١  “Freedom, not climate, at risk,” op-ed, Financial Times, June 13, 2007.
١٢  الميكرون أو الميكرومتر واحد على مليون من المتر، أو واحد على ألف من الملِّيمتر. والملِّيمتر حوالي عرض حرف في هذا الهامش.
١٣  وهذا يفسر مصطلح «الجسم الأسود». الجسم الأسود شيء مثالي يمتصُّ كل الفوتونات التي تسقط عليه، وتنبعث منه فوتونات بأطوال موجات يمكن تحديدها بدرجة حرارته. في درجة حرارة الغرفة، يبدو مثل هذا الشيء أسود في عين الإنسان.
١٤  الشدة المشعة (الطاقة في الثانية) في وحدة المساحة تساوي ، حيث ثابت ( ) وتقاس درجات الحرارة بدرجات كلفين، درجات فوق الصفر المطلق، وتساوي درجة الحرارة المئوية زائد ٢٧٣٫١٥.
١٥  جوزيف فوريه Joseph Fourier (١٧٦٨–١٨٣٠م): رياضي وفيزيائي فرنسي. (المترجم)
١٦  هذه القيمة منخفضة عن القيمة على الأرض. رغم أن كوكب الزهرة أقرب إلى الشمس، إلا أنه مغطًّى بغطاء سميك من السحب، تعكس نسبة أعلى بكثير (حوالي ٧٠٪) من فوتونات الشمس مما تعكسه الأرض. هذا الانعكاس الزائد يقلل الطاقة الممتصة أكثر مما يرفعها قرب المسافة من الشمس. ونتيجة لذلك، تكون الطاقة الممتصة من الشمس أقل في زحل من تلك الممتصة في الأرض.
١٧  أن أربور: مدينة في ولاية ميتشجان وهي ولاية أمريكية في منطقة البحيرات العظمى. (المترجم)
١٨  تناولت النماذج البسيطة المذكورة سابقًا متوسط التوازن بين الطاقة الواردة والمنبعثة على الأرض كلها، وينبغي أن تكونا متساويتَين ليحدث التوازن. يختلف الأمر بالنسبة لموضع معين: لا يتطلب الأمر أن يكون هناك توازن بين الأشعة الواردة والمنبعثة؛ لأنه يمكن أن يفقد أيضًا طاقة بالانتقال الأفقي إلى الأماكن القريبة. ومع ذلك فإن التقييم ليس مهمًّا للدورات الموسمية واسعة النطاق التي ناقشناها هنا.
١٩  بعد أن تفاوض ممثلو الدول حول المعاهدة ووقعوها، دخلت حيز التنفيذ، أو صارت ملزمة قانونًا، بعد أن أخذ عدد كافٍ من الدول الخطوة الثانية للتصديق عليها، معبرة بشكل رسمي عن الالتزام بتعهدها. تحدد كل معاهدة عدد الدول التي ينبغي أن تصدق عليها لتدخل حيز التنفيذ. بعد الوفاء بهذا العدد، تصبح المعاهدة ملزمة قانونًا، لكن بالنسبة لمن صدَّقوا عليها فقط.
٢٠  كلٌّ من «الاتفاقيات» و«البروتوكولات» معاهدات. الاتفاقية، نموذجيًّا، اتفاق عام يقدم إطارًا لاتفاقات أكثر خصوصية يتم التفاوض حولها في بروتوكولات في ظل الاتفاقية. في هذه الحالة، تفاوضت أطراف هذه الاتفاقية الإطارية حول بروتوكول كيوتو لتطوير الأهداف والمبادئ الموجودة في الاتفاقية الإطارية.
٢١  فاوضت بضع دول صغيرة من أجل تعهدات متميزة بشكل خاص: كان هدف زيلاند، مثل هدف روسيا، الحفاظ على الانبعاث عند مستوياته الأساسية؛ وسمح للنرويج بزيادة ١٪ عن مستواها الأساسي، وأستراليا بزيادة ٨٪، وأيسلندا بزيادة ١٠٪.
٢٢  ذا هوج The Hague: العاصمة الفعلية لنيوزيلندا. (المترجم)
٢٣  لاحظ أن الهدف قِيس بالانبعاث نسبة إلى حجم الاقتصاد الأمريكي، وليس الانبعاث ذاته. ينمو مستوى الانبعاث المسموح به في ظل هذا الهدف مع نمو الاقتصاد، وهكذا إذا نما الاقتصاد بما يزيد عن ١٨٪، فسوف يزيد الانبعاث الكلي في ظل هذا الهدف. أكثر من ذلك، المعدل المنشود للتحسين ليس طموحًا خاصًّا حيث إنه تقريبًا يساوي الخفض في كثافة غازات البيوت الزجاجية الذي تحقق في تسعينيات القرن العشرين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤