التحوُّل
لو طحنتَ سكَّر الخروع مع كميَّة مساوية من كلورات البوتاسيوم، لكانت النتيجةُ مركَّبًا أبيضَ يبدو غيرَ ضارٍّ وحلوَ الطعم وقد يفيد في بعض الأحيان في علاج احتقانِ الحلق. لكنك لو غمَستَ قضيبًا زجاجيًّا في كمية صغيرة من حمض الكبريتيك ولمستَ فحَسْبُ الخليطَ الناتج الذي يبدو غيرَ ضارٍّ بالطرَف المبتلِّ للقضيب، لتَحوَّلَ الطبق الذي يحتويه فورًا إلى أتون من النيران الهادرة يلفظ نافورةً من الكرات النارية ويملأ الغرفة بسحابة من دخانٍ أسودَ كثيفٍ خانق.
غريبٌ جدًّا هذا الخليطُ المُلغز الذي نُسميه بالطبيعة البشرية، فلا يتطلب الأمر أكثرَ من القليل من الظروف غير المناسبة لتحويل مُواطن هادئ مسالمٍ ملتزم بالقانون إلى مجرم تملأ قلبَه الرغبةُ في الانتقام ولا يَنِي في سعيِه إليه.
كان متجرُ صناعة الساعات المملوكُ للأخَوَين ديلور يقع في شارعٍ ضيق صغير متفرِّع من طريق رو دي رين الواسع، بالقرب من محطة مون–برناس الهائلة. وكانت نافذةُ العرض مليئةً بساعات رخيصة، ومن زنبرك فولاذي مثبَّت في الحافة العلويَّة لباب المتجر تدلَّى جرسٌ كان ينطلق رنينُه كلما دخل شخصٌ المتجر؛ فقد كان الأخوان صانعَي ساعات يعملان بنفسَيهما، وينهمكان معظمَ الوقت في غرفة في مؤخَّرة المتجر، ولم تكن التجارةُ رائجةً في الحي بما يكفي لِيُعيِّنا لهما مساعدًا. عمل الأخَوان في تلك الغرفة الصغيرة في سلام لمدة عشرين عامًا، وعرَف مواطنو ذلك الحي الباريسي عنهما الثراءَ الفاحش. وفي الحقيقة كانا راضِيَين بحالهما، وامتلكا من المال أكثرَ مما يسدُّ حاجاتهما المحدودة، ويسمح لهما بالإسراف المفرط بعضَ الشيء في المقهى المجاور من وقتٍ لآخَر. كانا دائمًا يُخصِّصان القليل من المال للكنيسة، وللأعمال الخيرية، ولم يسمع أحدٌ أيًّا منهما يُسيء بالقول إلى أيِّ شخص، ولا أحدهما للآخَر. وعندما كان رنين الجرسِ الموضوعِ على نحوٍ مضبوط ينطلق بحيث يُعلن عن قدوم زَبون محتمَل، كان أدولف يترك عمله ويُحوِّل انتباهه إلى المتجر، في حين كان ألفونس يُواصل عمله بلا انقطاع. كان من المفترض أن أدولف هو الأكثر براعةً في الجوانب التِّجارية من العمل، وكان ألفونس الأمهرَ في صناعة الساعات. كانا يمتلكان غرفةً فوق المتجر، ومطبخًا صغيرًا يعلو غرفةَ العمل الواقعة خلف المتجر، لكنَّ واحدًا منهما فقط كان يشغل غرفة النوم العُلوية، واعتاد الآخَرُ النومَ في المتجر؛ إذ كان من المفترض أنَّ معروضاتهما تُمثل إغراءً لا يُقاوَم لأي لصٍّ يريد سرقةَ عددٍ من الساعات. وقد تناوبَ الأخوان على حراسة الكنوز القابعة في الأسفل كلَّ أسبوع، لكن لم يسبق أن أزعجَ نومَهما لصٌّ في العشرين سنةً الماضية.
وذات مساء، كانا على وشك إغلاق المتجر والتوجُّه إلى المقهى معًا، فانطلق رنينُ الجرس، وخرج أدولف لمعرفة المطلوب. فوجد في انتظاره شخصًا رثَّ الهيئة مهترِئَ المنظر، فظنه على الفور اللصَّ الذي انتظراه طويلًا ولم يأتِ. وقد زاد من شكوكِ ديلور عينا الرجل الحائرتان اللتان كانتا تَجوبان المكانَ وتُفتشان كل ركن وكوَّةٍ فيه ولا تستقرُّ في المرة الواحدة على بقعة أكثرَ من ثانية. كان الزائر غيرُ المرحَّب به على ما يبدو يُعاين المكان، وأيقنَ أدولف أنه لن يُقدم على فعل أيِّ شيء معه في ذلك الوقت تحديدًا، بصرف النظر عما سيحدث فيما بعد.
بعد نظرةٍ مختلسة إلى باب الغرفة الخلفية، أخرج الرجلُ من تحت معطفه صُرَّة صغيرة ملفوفةً بغِلاف ورقي، وبعد أن فك الخيط عنها ببعض التعجُّل، ظهرت قطعة نُحاسية من ساعة. ناولها لأدولف وقال: «كم ستتكلَّف صناعة دُزينةٍ من مثلِ هذه القطعة؟»
أمسك أدولف بالقطعة وأخذ يتفحصها. كان في شكلها بعضُ التقعُّر، وبين تُروسها زنبركٌ متين. ضغط أدولف على الزنبرك، لكن أجزاء القطعة لم تكن مُحكَمة التثبيت ببعضها البعض لدرجة أنه عندما أفلتَ مِفتاح الزنبرك، انفكَّ انضغاطُ الزنبرك بسرعة كبيرة وأصدرَت التروس صوتَ احتكاك.
قال أدولف: «صناعتُها رديئة جدًّا.»
رد الرجل، بنبرة رجلٍ متعلِّم بالرغم من مظهره الذي ينمُّ عن فقرٍ شديد: «هذا صحيح.» ثم واصل كلامه قائلًا: «لذلك جئتُ إليك لتصنعَها ببراعةٍ أكبر.»
سأل أدولف: «فيمَ تُستخدَم؟»
تردَّد الرجلُ للحظة. ثم قال في النهاية: «إنها جزء من ساعة.»
قال أدولف: «لا أفهم تكوينها. لم أرَ ساعةً صُنِعت بهذا الشكل قط.»
رد الزائر في نفادِ صبر: «إنه ملحَقٌ يُستخدَم في التنبيه.» ثم أضاف: «ليس من المهم أن تفهمه. كل ما أريد أن أعرف هو هل بإمكانك استنساخُه، وبأي ثمن.»
سأل أدولف: «لكن لماذا لا تجعل آليةَ التنبيه جزءًا مضمَّنًا في الساعة؟ سيُكلِّفك ذلك أقلَّ بكثير من صنعها وحدها ثم إلحاقها بالساعة.»
أعطى الرجل إيماءةً تنمُّ عن استيائه.
وقال في فظاظة: «هلا تجيب عن سؤالي؟»
رد أدولف، ببراءة طفلٍ لم يتسلَّل إلى عقله شكٌّ في حقيقة الرجل، ظانًّا إياه مجردَ لص، وآمِلًا أن يُرعبه بالتلميح له بما يمتلكه هو من دهاء: «لا أظنك تريد لهذا الجزء أن يكون جزءًا من ساعة. في الحقيقة أعتقد أنه يُمكنني تخمينُ سبب قدومك إلى هنا.»
نظر إليه زائرُه نظرةَ تهديد، ثم بدا أنه يقيس المسافةَ بين مكان وقوفه والرصيفِ بنظرةٍ خاطفة ويُفكر في الهرب.
قال أدولف: «سأستشير أخي في الأمر.» غير أنه قبل أن يستدعيَ أخاه، لاذ الرجلُ بالفرار على الفور، وترك الآلية في يدِ صانع الساعات الحائر.
عندما سمع ألفونس قصةَ هذا الزَّبون، فاق أخاه في التيقُّن بخطورة الموقف. كان الرجل لصًّا بلا شك، ولم يكن الجزء من الساعة الذي أتى به إلا ذريعةً لدخول المكان واستكشافه. دفع القلقُ الأخوَين إلى إغلاق المتجر، وبدلًا من الذَّهاب إلى المقهى المعتاد توجَّها من فورهما إلى مركز الشرطة بأقصى سرعة، وأعرَبا هناك عن شكوكهما وأدليا بأوصاف المجرم المزعوم. وبدا أن قصتهما قد أثارَت انتباهَ الضابط بشدة.
سألهما: «هل أحضرتما الآلة التي عرضها عليكما؟»
قال أدولف: «كلا. إنها في المتجر.» ثم أردف: «إنها لم تكن سِوى ذريعةٍ لدخول المتجر، أنا متأكد من ذلك، فهذه القطعة لم يصنعها أيُّ صانع ساعات.»
رد الضابط: «ربما.» ثم أردف: «هلا تذهب لإحضارها؟ ولا تقل كلمةً عما حدث لأيِّ شخص تَلْقاه، ولُفَّ الآلةَ في ورقةٍ وأحضِرْها إلى هنا بأسرعِ وأهدَأِ ما يُمكنك. لولا أني لا أريد جذب الانتباه، لأرسلتُ معك أحد رجالي.»
قبل طلوع الصباح كان الرجلُ الذي أعلن أن اسمه جاك بيكار قد قُبِض عليه، لكن لم يؤدِّ تحمُّسُ السلطات لأكثرَ من ذلك بكثير. أقسم أدولف ديلور بأغلظِ الأيمان إن بيكار هو نفسُه الرجل الذي زار متجرَه، لكن المحتجَز لم يجد صعوبةً في إثبات أنه كان في مقهًى على بُعد ميلَين في وقت وجود الزائر في متجر ديلور، واضطر أدولف إلى الإقرار بأن المتجر كان مظلمًا بعضَ الشيء عندما جرَت المحادثة حولَ آلية الساعة. دافع محامي بيكار عنه باقتدار، وحاجَجَ بأنه حتى لو كان الرجل في المتجر كما قال ديلور وتفاوض حول آلية الساعة كما زُعم، فليس في ذلك فعلٌ إجرامي إلا إذا أثبتَ الادِّعاءُ أنه كان ينتوي استخدامَ ما اشتراه في غرضٍ غيرِ شريف. وإلا لقُبِض على مَن يدخل المتجرَ لشراء مسمارٍ لساعة يدِه. فأُطلق سراح بيكار، مع أن رجال الشرطة كانوا متيقنين من أنه أحدُ المطلوبين لديهم، وقرَّروا مراقبةَ تحركاته المستقبلية عن كثب. لكن المشتبَه به أعفاهم من عناء مراقبته وشد الرحال إلى لندن بعد يومين، وظل هناك.
لأسبوعٍ بعد ذلك لم ينَم أدولف مِلءَ عينَيه في المتجر، فرغم أنه كان يأمُل أن تكون الإجراءاتُ التي اتُّخذت ضدَّ اللصِّ قد أفزعَته حتى غادر البلاد، كان كلَّما نام حلم بلصوصٍ فيستيقظ عدةَ مراتٍ خلال الليالي الطويلة.
وعندما حان دورُ ألفونس في النوم في المتجر، أمَلَ أدولف أن يحظى بنومٍ غير متقطِّع في الغرفة العلوية، لكن الأقدار لم تكن في صفِّه. فبعد منتصف الليل بقليل هبَّ من سريره وسقط على الأرض، وشعر باهتزازِ البناية كما لو كان هناك زلزالٌ يهزُّ باريس. أقعى على يدَيه ورُكبتيه ذاهلًا يزأر في أذنيه رعدٌ خالطه صوتٌ حادٌّ لانكسار زجاج. توجَّه إلى النافذة لا يدري أمستيقظٌ هو أم لم يزَل نائمًا، فوجد النافذة مهشَّمة. كان القمر يسكب نوره على الشارع المهجور، ولاحظ سحابةً من الغبار والدخان ترتفع من مقدمة المتجر. تحسَّس طريقَه في الظلام حتى وصل إلى الدرَج فهبَطه، وهو يُنادي على أخيه، لكنَّ الجزء السفلي من الدرَج كان الانفجارُ قد حطَّمَه، فسقط على الرُّكام المتجمِّع أسفلَ منه، واستلقى في مكانه مصدومًا والدخانُ الخانق يُحدق به من كل اتجاه.
عندما استعاد أدولف بعضَ وعيه، أدرك أن رجلَين كانا يُساعدانه في الخروج من بين أطلالِ المتجر المحطَّم. كان لا يزال يُغمغِم باسمِ أخيه، فيأتيه الردُّ منهما بنبرةٍ مطمئنة أن كلَّ شيء على ما يُرام، ومع ذلك خامرَه هاجسٌ أن ما يُقال له ليس الحقيقة. شبَّكا ذراعَيهما في ذراعَيه ليُعيناه على الوقوف، ومشى بين الركام مترنحًا وهو يشعر أنه قد فقَدَ قدرتَه على التحكُّم في أطرافه. لاحظ اختفاءَ مقدمة المتجر بالكامل، ورأى من الفتحة الكبيرة أن حشدًا قد تجمَّع في الشارع وأن رجال شرطة كانوا يدفعونهم بعيدًا. تساءل في نفسه لماذا لم يرَ كلَّ هؤلاء الأشخاص عندما نظر من النافذة المهشمة. وعندما همَّ الرجلان بأخذه إلى عربة الإسعاف أبدى مقاومةً طفيفة وقال إنه يريد أن يذهب لمساعدةِ أخيه النائم في المتجر، لكنهما استخدَما القليل من القوة لوضعه في العربة التي انطلقَت به إلى المستشفى.
لعدةِ أيام ظن أدولف نفسَه يحلم، وأنه سيستيقظُ بعد مدَّة ويعود إلى حياته القديمة المبهِجة بكدِّها. أخبرَته الممرضة بأنه لن يرى أخاه مرةً أخرى، وأضافت للتسرية عنه أن أخاه مات ميتةً سريعة لا ألمَ فيها، وأن جنازته كانت واحدةً من أكبر الجنائز التي شهدها ذلك الحيُّ الباريسي، وذكرت أسماءَ الكثير من كبار المسئولين الذين حضَروها. أدار أدولف وجهه نحو الجدار وأخذ ينشج. إنه سيُمضي ما تبقى من حياته فيما كان يظنُّه حلمًا مزعجًا عابرًا.
وعندما عاد إلى شوارع باريس بعد أسبوع، كان قد فقد امتلاءَ جسمِه المعهود. وقد هَزُل وشحَب لونُه، وتدلَّت ملابسه فوق عظامه كما لو كانت ملابسَ رجلٍ آخر، ونبتَت له لحيةٌ قصيرة كثيفة في الأسبوعَين الماضيَين بعد أن كان دائمًا حليقًا تمامًا. جلس في المقهى صامتًا، ولم يتعرَّف عليه إلا القليلُ من أصدقائه في البداية. سمعوا أنه قد تلقَّى تعويضًا كبيرًا من الحكومة، وأنه الآن يمتلكُ من المال ما يكفيه ليُمضي ما تبقى من حياته دون حاجة إلى العمل، واعتبروه رجلًا محظوظًا. لكنه جلس في مكانه خائرَ القُوى لا يأبهُ لعبارات التعازي أو التهنئة التي أمطَروه بها. وقد مرَّ أمامَ المتجر مرة. فرأى واجهته مغلقةً بألواح خشبية، والنوافذ العلوية وقد زُوِّدت بزجاج جديد.
جاب شوارعَ باريس بلا هدف، قال عنه البعضُ إنه مجنون، وإنه يبحث عن أخيه، وقال آخَرون إنه كان يبحث عن القاتل. وذات يومٍ دخل مركزَ الشرطة الذي تقدَّم فيه بالبلاغ المشئوم.
وسأل الضابطَ المسئول: «هل قبضتُم على الفاعل بعد؟»
لم يعرفه الضابط، فسأله: «مَن تقصد؟»
قال: «أعني بيكار. أنا أدولف ديلور.»
رد الضابط: «لم يكن بيكار مَن اقترف الجريمة. فقد كان في لندن وقتَ حدوثها، وما زال هناك.»
قال أدولف: «عجبًا! لقد قال إنه كان في شمال باريس عندما كان معي في الجنوب. إنه كاذب. إنه هو مَن فجَّر المتجر.»
قال الضابط: «أعتقد أنه خطَّط لهذا، لكن من نفَّذه شخصٌ آخر. إن اسمه هو لاموين، وقد سافر إلى بروكسل في صباح اليوم التالي ومنها إلى لندن عبر أنتويرب. إنه يعيش مع بيكار في لندن في الوقت الحالي.»
سأل أدولف: «إذا كنتَ تعرف ذلك، فلمَ لم يُقبَض على أيٍّ منهما؟»
قال الضابط: «معرفةُ الفاعل نقرة والقدرة على إثبات جُرمه نقرةٌ أخرى. لا يُمكننا القبض على هذين الوغدين من إنجلترا فقط للاشتباهِ فيهما، وسيحرصان على ألا تطأَ أقدامُهما فرنسا لبعض الوقت.»
قال أدولف: «أنت تنتظرُ الدليل إذن؟»
رد الضابط: «نعم ننتظر الحصولَ على دليل.»
سأل أدولف: «وكيف تتوقَّعون الحصول عليه؟»
قال الضابط: «لقد وضَعناهما تحت المراقبة. إنهما هادئان تمامًا الآن، لكن ذلك لن يدومَ طويلًا. فبيكار كثيرُ القلق. وربما نتمكَّن من القبض على أحدهما قريبًا فيعترف بالجريمة.»
قال أدولف: «ربما أمكنني المساعدة. سأذهب إلى لندن. هلا تعطيني عُنوان بيكار؟»
قال الضابط: «ها هو عُنوانه، لكني أظن أنه مِن الأفضل ألَّا تتدخَّل في القضية. أنت لا تُجيد لغة المكان، وقد تُثير شكوكه فحسبُ إذا تدخَّلت. ومع ذلك، أبلِغْني إذا علمتَ بجديد.»
اختفى من عيني أدولف التعبيرُ الصادق الصريح الذي كان يُميزهما وحلَّ محله فيهما نظرةُ مكرٍ راقت للضابط الفرنسي. فقد اعتقد أن ما بدا فيهما قد يُفيد فيما بعد، ولم يكن مخطئًا في ذلك.
راقب ديلور باب المنزلِ اللندنيِّ ببراعةٍ كبيرة وحرَص ألا يرتابَ أحدٌ في نواياه. رأى بيكار يخرج منه وحدَه عدة مرات، ومرةً واحدة بصحبة واحدٍ من أمثاله افترض ديلور أنه لاموين.
وذات مساء، بينما كان بيكار يعبر ميدان ليستر، أقبل عليه غريبٌ وبدَأَه بالحديث بلغته. فنظر حوله فجأة فألفاه متشردًا مثيرًا للشفقة ثيابه شديدةُ الاهتراء.
سأله بيكار بصوتٍ مرتعش: «ماذا قلت؟»
قال ديلور بنبرة تذلُّل: «هلا تساعد فقيرًا من أبناء بلدك؟»
قال بيكار: «ليس معي نقود.»
قال ديلور: «ربما يُمكنك مساعدتي في الحصول على عمل. لا أجيد اللغة لكني عاملٌ ماهر.»
قال بيكار: «كيف لي أن أساعدك في الحصول على عمل؟ أنا نفسي لا أجد عملًا.»
قال ديلور: «أنا مستعدٌّ للعمل بلا مقابل إن استطعتُ الحصولَ على مكانٍ أنام فيه وطعامٍ أقتات عليه.»
قال بيكار: «ولِمَ لا تسرق؟ لو كنت جوعانَ لسرقت. ممَّ تخاف؟ السجن؟ إنه ليس أسوأَ من التشرد في الشوارع جائعًا، أعرف ذلك، لأنني قد جرَّبت الخيارَين. ما صَنعتُك؟»
قال ديلور: «أنا صانع ساعات وحِرفي على أعلى مستوًى، لكني رهنت كلَّ أدواتي. وجئت من ليون مشيًا على قدمي، لكن لم يَعُد هناك عملٌ في مهنتي.»
نظر إليه بيكار في ارتيابٍ للحظات قليلة.
ثم سأله أخيرًا: «لماذا جئتَ إليَّ؟»
قال ديلور: «رأيتُ أنك من أبناء بلدي، وقد ساعدني الفرنسيون من وقتٍ لآخر.»
قال بيكار: «لنجلس على هذا المقعد. ما اسمك؟ ومنذ متى أنت في إنجلترا؟»
قال ديلور: «اسمي أدولف كارييه، وأنا في لندن منذ ثلاثة أشهر.»
قال بيكار: «أوه، أنت هنا لمدة طويلة كهذه؟ كيف كنتَ تعيش طوال هذا الوقت؟»
رد ديلور: «كنتُ أعيش فقيرَ الحال كما يُمكنك أن ترى. في بعض الأحيان أحصل على بعض البقايا من المطاعم الفرنسية، وأنام أينما أمكنَني ذلك.»
قال بيكار: «حسنًا، أعتقد أن بإمكاني مساعدتك بحيث تكونُ في حالٍ أفضل من هذا. تعالَ معي.»
أخذ بيكار ديلور إلى منزله ودخل مستخدمًا مفتاحَ الباب الأمامي. لم يَبدُ أن أحدًا غيرَه ولاموين يسكن المنزل. أخذه إلى الطابَقِ العُلويِّ وفتح بابًا مؤدِّيًا إلى غرفة خالية تمامًا من الأثاث. وتركه فيها، ثم هبط إلى الطابق السفلي ثانيةً وعاد إلى العلويِّ بعد وقتٍ قصير يحمل في يده شمعةً مشتعلة، وتبعه لاموين يحمل فراشًا.
قال بيكار: «سيكفيك ذلك الليلة، وغَدًا سنجد إن كان بإمكاننا الحصولُ لك على أي عمل. هل يمكنك صناعةُ الساعات؟»
أجاب ديلور: «أوه، نعم، أنا أصنع ساعاتٍ جيدة.»
قال بيكار: «جيد جدًّا. أعطني قائمةً بالأدوات والموادِّ التي تحتاج إليها وسأجلبها لك.»
كتب بيكار في دفتر ملاحظته الأغراضَ التي أملاها عليه أدولف، في حين راقب لاموين الموظفَ الجديد عن كثبٍ دون أن ينبس بكلمة. وفي اليوم التالي وُضِع في الغرفة طاولةٌ وكرسي، وبعد الظهر أحضر بيكار الأدوات وبعضَ ألواح النُّحاس.
ارتاب بيكار ولاموين بعضَ الشيء في موظَّفِهما الجديد في البداية، لكنه مضى في عمله باجتهادٍ ولم يحاول التواصلَ مع أي شخص. وبعد مدَّة وجيزة تبيَّن لهما أنه عاملٌ ماهر، وشخص هادئ بريء ساذَجٌ لا يُؤذي أحدًا؛ لذا كلَّفوه بمهامَّ أخرى مثل تنظيف غُرفِهم أو الذَّهاب لشراء الجِعَة أو احتياجات الحياة الأخرى.
عندما أنهى أدولف صناعةَ أولِ ساعة لهما، أخذها إليهما وعرَضها عليهما بتفاخُر مُبرَّر. وكان بها قرص يُشبه الساعة تمامًا لكن بعقرب واحد.
قال بيكار: «لِنرَها وهي تعمل، اضبِطْها بحيث ينطلق جرسُها بعد ثلاثِ دقائق.»
فعل أدولف ما طُلب منه، ثم تراجع عندما بدأَت الساعة تدقُّ بصوتٍ لا يكاد يُسمَع. أخرج بيكار ساعته ووجد أن المطرقةَ الصغيرة سقطَت على الجرس في الدقيقة الثالثة بالضبط. فقال بيكار: «هذا مُرْضٍ تمامًا، والآن هل يمكن أن تصنع التاليةَ بحيث يكون فيها تقعُّر طفيف، بحيث يتسنى لأي رجل ربطها تحت معطفه دون جذبِ أيِّ انتباه؟ هذا الشكل يُفيد عند المرور من الجمارك.»
قال ديلور: «يُمكنني صناعتُها بأيِّ شكل تريد، ويمكنني أن أجعلها أقلَّ سُمكًا من هذه إذا أردت.»
قال بيكار: «جيد جدًّا. اذهب وأحضر لنا بعض الجِعَة، سنشرب نخبَ نجاحك. هاك النقود.»
أطاعه أدولف كعادته، لكنه تأخَّر في العودة بعضَ الشيء هذه المرة. ولما نفد صبرُ بيكار على تأخُّره أغلظ له في القول عند عودته، وأمرَه بالصعود إلى الطابق العلوي والانكباب على عمله. فاستجاب أدولف بخنوع، وتركهما مع الجِعَة.
قال بيكار: «تفقَّدْ هذه الساعةَ وتأكَّد من فَهمِ طريقة عملها يا لاموين.» ثم أردف: «اضبِطْها على نصف الساعة.»
أدار لاموين عقرب الساعة إلى الرقم ٦ في القرص، وشغَّل آليةَ عمل الساعة، ثم شربا الجِعَة على صوت دقاتها المنتظمة.
قال لاموين: «يبدو أنه يفهم صنعته جيدًا.»
وافقه بيكار: «نعم.» وأردف: «مفعولها قويٌّ هذه الجِعَة الإنجليزية. ليتَ لدينا بعضًا من الجِعَة الفرنسية الجيدة؛ فهذه الجعة تبعث على الدُّوار.»
لم يُعلق لاموين، وظل يومئ بالموافقة في كرسيِّه. وألقى بيكار بنفسه على فِراشه في أحد أركان الغرفة، وعندما انزلق لاموين من كرسيِّه تلفَّظ بلعنة وظلَّ في مكانه حيث سقط.
وبعد عشرين دقيقة انفتحَ البابُ برفق، وأطل أدولف برأسه يستطلعُ الموقف بدقةٍ ويُفتش الغرفة الساكنة بوصةً بوصة، وجاست عيناه الثاقبتان بسرعةٍ في الغرفة وامتلَأتا بالابتهاج المختلط بالشرِّ عندما رأى كلَّ شيء يجري حسَب خُطتِه. دخل في هدوء وأغلق البابَ من خلفه بخِفَّة. كانت في يده لفةٌ كبيرة من الحبل المتين الرفيع. اقترب من الرجلَين النائمين مشيًا على أطراف أصابعه، ونظر إليهما للحظةٍ متسائلًا عما إذا كان العقار قد أحدث فيهما مفعولَه بما يكفي ليُواصل هو ما خطَّط له. وعندئذٍ وجد إجابةً لسؤاله إجابة فورية مفزعة. انطلق جرسٌ فجأةً بصوتٍ مفزع مفاجئ بَدا عاليًا لدرجةٍ تكفي لإيقاظ الموتى، فانتفض فزعًا حتى كاد يرتطم بالسقف. وأسقط لفة الحبل من يده وتمسَّك بالباب في خوفٍ شديد، واشتد نبض قلبه حتى كاد يختنق، وحدَّق بعينين مِلؤُهما الرعب في الساعة التي صدر منها جرس التنبيه غير المتوقَّع. وبعد أن استعاد زِمام نفسه تدريجيًّا، حوَّل اتجاهَ نظره إلى النائمَين، فوجد كِلَيهما ثابتًا لم يتحرَّك من موضعه، وكانت أنفاسهما تتردَّد بشدة كما كانت.
سيطر أدولف على أعصابه، ثم وجَّه انتباهَه أولًا إلى بيكار باعتباره الأخطرَ بين الاثنين تحسُّبًا لاستيقاظه وهو غيرُ مستعد. فربط مِعصمَيه معًا بإحكام ثم كاحليه فرُكبتَيه فكوعيه. وبعد ذلك فعل بلاموين المِثل. وبصعوبةٍ كبيرة وضع بيكار في وضع الجلوس على كرسيِّه وربطه فيه بعدة لفاتٍ من الحبل. كان حريصًا على إحكام كلِّ شيء لدرجةِ أنه بالغ في ذلك بعضَ الشيء، فجعلهما يبدوان كمومياوَين جالستَين محاطتين بالحبل. بعد ذلك ثبَّت الكرسيَّين في الأرض لدرجةٍ يتعذر معها تحريكُهما، ثم تراجع وحدَّق متنهدًا في الرجلَين الجالسين في منظر كئيب، في حين تدلَّت رأساهما بعشوائيةٍ على صدرَيهما الملفوفين بالحبل، فأصبحا أشبهَ بدُميتَين ساكنتين ترمزان للموتى.
مسح أدولف العرقَ الذي انسال على جبينه، ثم حوَّل انتباهَه إلى الآلة التي كانت قد أفزعَته عند دخوله الغرفة. وتفحَّص آليتها بدقة للتأكُّد من أن كل شيء فيها على ما يُرام. توجَّه إلى الخِزانة وأزال لوحًا من أسفلها فكشَف عن مخبأٍ من تحته، أخذ منه برفقٍ عددًا من خراطيش الديناميت كان النائمانِ قد سرَقاها من منجمٍ فرنسي. ورتَّب خراطيش الديناميت هذه على شكل بطارية بربطها معًا. ورفع مِطرقةَ الآلة، وضبط العقربَ بحيث ينطلق الجرسُ بعد ضبطِ الآلة بستِّين دقيقة. ووضع ذلك كلَّه على طاولةٍ صغيرة، ووضع الطاولة بما عليها أمامَ الرجُلين النائمَين وعلى مسافةٍ قصيرة منهما. وبعد أن انتهى من ذلك جلَس على كرسيٍّ ينتظر في صبرٍ استيقاظَهما. كانت الغرفة في مؤخرة المنزل، وسادها سكونٌ مزعِج فلم تتسرَّب إليها نأمةٌ من الشارع. تناقصَ طولُ الشمعة المشتعِلة حتى اضطربَ لهبُها ثم انطفأ، لكن أدولف ظلَّ جالسًا مكانه ولم يُشعِل شمعةً أخرى. لم يزَل الظلام يعمُّ نصفَ الغرفة، فقد نفَذ إليها نورُ القمر من النافذة، فذكَّر أدولف أنه لم يَمضِ شهرٌ منذ كان يُطالِع شارعًا آخرَ مُضاءً بنور القمر في باريس في حين كان أخوه يرقد مقتولًا في الغرفة السُّفلية. مرَّت الساعاتُ ثقيلة، وجلس أدولف بلا حَراكٍ كالرجلَين المربوطين أمامه. ظل نورُ القمر يُغير اتجاهَه ببطء حتى سقط أخيرًا على بيكار المربوط في وضع الجلوس، وبينما أخذ القمر يغوص في الأفق، ظل نورُه يرتفع حتى لمس وجهَ بيكار. فحرَّك رأسَه إلى أحد الجانبين ثم إلى الخلف، ثم تثاءب متنفسًا بعمق، ثم حاول المقاومة.
صاح قائلًا: «لاموين، أدولف. ما هذا بحق الجحيم؟ أنا هنا. أنقِذني! لقد تعرضتُ لخيانة.»
قال أدولف بهدوء: «صه! لا تصرخ بصوتٍ عالٍ هكذا. وإلا ستوقظ لاموين الجالسَ بجوارك. أنا هنا، انتظر حتى أُشعل شمعة، فنورُ القمر كاد يختفي.»
قال بيكار: «أدولف، أيها الشيطان، أنت متواطئٌ مع الشرطة.»
قال أدولف: «كلا، لستُ كذلك. سأشرح كلَّ شيء بعد قليل. كُن صبورًا.» وأشعل شمعةً، ونظر بيكار فوجَد لاموين مقيَّدًا مثله وقد بدأ يستيقظُ ببطء.
نظر لاموين إلى شريكه دون أن يفهم ما يحدث، وقال بغضب:
«لقد أصبحتَ خائنًا يا بيكار، لقد أبلغتَ الشرطة، عليك اللعنة!»
قال بيكار: «اهدَأْ أيها الأحمق. ألا تراني مقيدًا بشدةٍ مثلَك؟»
قال أدولف: «ليس هناك خائن، ولم يُبلغ أحدٌ الشرطة، ولا حاجةَ إلى ذلك. في ليلةٍ كهذه منذ شهرٍ يا بيكار، تمزَّق جسدُ رجل طيبٍ صالح في انفجار، رجل لم يمَسَّك أنت ولا غيرَك بسوء. أنا أخوه. أنا أدولف ديلور الذي رفضَ صناعةَ آلتِك اللعينة. لكني تغيرتُ كثيرًا منذ ذلك الحين، لكن ربما يُمكنك التعرفُ عليَّ الآن، أليس كذلك؟»
قال بيكار: «أُقسم بالرب إني لم أفعَلْها. فقد كنتُ في لندن في ذلك الوقت. يُمكنني إثباتُ ذلك. لا حاجة إلى تسليمي للشرطة، حتى لو اعتقدتَ أنه يُمكنك ترهيبُ هذا البائس ليفتريَ عليَّ كذبًا.»
قال أدولف: «فلتُصلِّ للرب، الذي تستخفُّ باسمه، أن تقع في يد الشرطة التي تخشاها قبل أن أنتهيَ أنا منك. الشرطة أمَلُك الوحيد، ولو بدا ذلك لك غريبًا، لكن سيكون على الشرطة المجيءُ سريعًا لو كانوا سيُنقِذونك. اسمع يا بيكار، لقد عشتَ على هذه الأرض نحو خمسةٍ وثلاثين عامًا. لكن الساعة القادمة من حياتك ستكون بالنسبة إليك أطولَ من كل هذه السنوات.»
وضع أدولف كبسولة القدح في مكانها وشغَّل الآلية. وللحظاتٍ قليلة لم يُسمَع في الغرفة سوى صوت الدقات الخافتة، وظل الرجلان المقيَّدان ينظران إلى قرص الساعة بعيون مفتوحة، في حينِ بدآ يُدرِكان موقفهما فتسلل الرعبُ ببطءٍ إليهما.
تواصلت الدقات متواترةً بلا انقطاع. شحب وجهاهما، وانسال العرَقُ بشدةٍ من على جبهتَيهما. وفجأةً رفع بيكار عَقيرته بصرخة مدوِّية.
فقال أدولف في هدوء: «توقَّعتُ ذلك.» ثم أضاف: «لا أعتقد أن أحدًا سيتمكَّن من سماعك، لكني سأُكمِّمكما تجنبًا لأي مخاطر.» وبعد أن فرغ من ذلك، قال: «ضبطتُ الساعة على ستين دقيقة، مرَّ منها سبعُ دقائق. لم يزَل هناك ما يكفي من الوقت للتأمُّل والتوبة. وضعتُ شمعة هنا ليُنير لهبُها قرص الساعة. عندما تصلان إلى حالةٍ من السلام النفسي، صلِّيَا لأرواحِ مَن أرسلهم أيٌّ منكما إلى العالم الآخر دون أن يَحظوا بفرصةٍ للاستعداد.»
غادرَ ديلور الغرفة بهدوءٍ كما دخلها، وحاول الرجلان الهالكان الصراخَ قدر استطاعتهما عندما سَمِعا المفتاح يدور في الباب.
ولم تتبيَّن السلطاتُ إن كان ذلك الانفجار قد أدَّى إلى قتل رجلٍ واحد أم رجلين.