شبح الأوراق النقدية
لم ينقص هيكوري سام إلا صفةٌ واحدة ليُصبح شخصًا مثاليًّا. كان ينبغي أن يكون شديدَ الجُبن. لكنه في الحقيقة كان متغطرسًا مختالًا، يتباهى طَوال الوقت بذِكر الرجال الذين قتلَهم، والصعوبات التي واجهها بنجاح، وكان يسرد قصصَ بسالته، ومن سوء الحظ أنه كان يُصوِّب على الهدف مباشرةً ولا يُخطئ إلا نادرًا، إلا إذا كان أكثرَ ثمالةً من المعتاد. لو أمكن القولُ إن ذلك المجرم الهمجي قد سيطر عليه غِرٌّ بريء من الشرق وأجبره على تنفيذ ما يطلبه مهدِّدًا إياه بمسدَّس دوار جديد تزينه الزخارف؛ إذ قد بدا ذلك المتبجِّح المتفاخرُ من نوع الرجال الذين يتقهقرون إذا ما واجهَهم خطرٌ حقيقي، لكان ذلك مبهجًا، ولكن، ومع الأسف، لم يعرف هيكوري الجُبن قط، ولم يخشَ الرجال أو أسلحتهم مهما كان عددُهم وعَتادُهم. كان يُقبِل على قتال عشَرةٍ ونيِّف من الرجال إقبالَه على قتالِ رجل واحد؛ بل إنه ذات مرة واجهَ وحده فرقةً من جيش الولايات المتحدة في فورت كونتشو، حينها تراجع للخلف ببراعة موجهًا وجهه نحوَ العدو وفرض سيطرته عليهم بمسدسيه ذوَيِ الطلقات السبع اللذَين بدَوَا مصوَّبَين إلى كل الاتجاهات في الوقت ذاتِه، فبث الرعب في نفوس كل رجال فرقة العدوِّ جاعلًا كلًّا منهم يشعر أنه دونَ غيره تحت تهديد السلاح، وأنه سيكون أولَ من يُصرَع لو بدأ بالفعل إطلاقَ النار.
ظهر هيكوري سام فجأةً في سولت ليك، ولم يمضِ وقتٌ طويل حتى أثبت أنه بالفعل شرِّير المنطقة. عارضَ بعضٌ من كبار القوم ادِّعاءَ سام المتغطرس، لكن العمر لم يمتدَّ بما يكفي للحفاظ على شهرتهم المستحَقَّة في إثارة المتاعب. وهكذا تسيَّد هيكوري سام القومَ في سولت ليك، وكان الجميع مستعدِّين لدفع فاتورته بدلًا منه أو قَبول دعوته لتناوُل الشراب؛ بل ومتحمِّسين لذلك.
كانت حانة ذا هيدز التي يُديرها مايك دافلين المكانَ الرئيسي الذي يلجأ إليه سام للترويحِ عن نفسه في سولت ليك. لم تكن نيةُ مايك أن يُسمِّيَ حانته بهذا الاسم، فقد سماها في البداية باسم ذا شيدز على غِرار قبوٍ صغير لتخزين الخمور كان يُديره في بداياته في فيلادلفيا، لكنَّ راعيَ بقرٍ خفيفَ الظل، كان يهتم بالمظهر الخارجي للأشياء، بدَّل الحرف الأول من الكلمة من اللافتة وسُمح بالإبقاء عليها كما هي. ولم يعترض مايك. كان مايك شديدَ الاهتمام بشئون السياسة عندما كان في فيلادلفيا، لكنَّ اتجاهًا مفاجئًا نحو الفضيلة انتشرَ في المدينة منذ عدة سنوات فسقط دافلين ضحيةً له واضطُرَّ إلى الرحيل فجأةً إلى الغرب الذي لا مكانَ فيه للسياسة، وينظر فيه المجتمع إلى الشخص البارع في خلطِ المشروبات بوصفه شخصًا مميزًا. لم يعترض مايك حتى عندما عرَف أن اسم ذا هيدز لم يُرضِ الشباب الذين كانوا يُريدون للمكان اسمًا ملائمًا، ولم يعترض أيضًا عندما بدَءوا يُسمُّون المكان باسمٍ مرادفٍ أقصرَ يبدأ بالحرفِ نفسِه.
كان مايك رجلًا يُجيد التكيُّف مع الظروف، ويمزج المشروبات، ويتجنَّب المتاعب. كان يحمي نفسَه بالامتناع عن حملِ المسدَّس والاعتراف بأنه ما كان ليستطيعَ التصويبَ بدقةٍ حتى على حانته نفسِها من مسافة عشرين ياردة. فلم تسمح سُكْنى مدينةٍ هادئة مثل فيلادلفيا بالتدريب على استخدام الأسلحة. وعندما كان الشبابُ يبدَءون في إطلاق النار داخل حانته متأثرين بما تبثُّه في نفوسهم الخمرُ من حماس، كان مايك يختبئُ تحت منضدته من فوره حتى تنقشعَ سحبُ الدخان. ثم كان يُرسل إلى زبائنه بعد أن يُفيقوا من الثَّمَل فاتورةً بثمن الزجاج والقناني المكسورة وغير ذلك من الأضرار التي قد تلحقُ بالمكان وكانوا يدفعون له دائمًا. اكتسب مايك عن استحقاقٍ محبةَ أهل سولت ليك لدرجةِ أنه لو ترشَّح لعضوية الكونجرس الأمريكي لانتُخِب بسهولة — هذا إن تجرَّأ على العودةِ ثانيةً إلى الشرق. لكنه كان يتجنَّب الانخراطَ في السياسة، كما قال بنفسه.
كان لرُعاة بقرِ مزرعةِ بولر عادةٌ مبهجة في المجيء إلى سولت ليك في أيام صرف الرواتب وغَلْق مداخلِ البلدة. ولم تُضِرَّ هذه الزيارات المنتظِمةُ بأحد، بل بدَت ممتعةً بشدةٍ للكثير من الشباب. لقد كان هؤلاء يمتَطُون جِيادَهم وينطلقون بها بأقصى سرعةٍ في الشارع الوحيد في المنطقة كفرقةِ خيَّالة، ويرفعون عَقيرتهم بالصِّياح ويُلوحون بأسلحتِهم في خُيلاء.
لم تكن أولى غَزواتهم لسولت ليك سِوى إنذار، وهكذا كان يراها كلُّ السكان المسالمين فكانوا يلزَمون بيوتَهم ويحتمون بها على الفور. وأثناء عودتهم كانوا يُصيبون كلَّ مَن يجدونه في طريقهم في ساقه أو ذراعه بتصويبٍ لا يُخطئ. ولم يقتلوا أحدًا من المارَّة سوى في مراتٍ نادرة، فلم يَحدث أن لقيَ شخصٌ مصرعَه على أيديهم إلا بطريق الخطأ، وكان هؤلاء الشبابُ يأسَفون لذلك بشدة، ويعتذرون بصدقٍ لِذَويه الأحياءِ فيَقْبَلون اعتذارَهم بطيبِ خاطرٍ في أغلب الأحيان. ولم تخلِّف هذه الحالاتُ القليلة أحقادًا ولا سعى أحدٌ بعدَها للثأر، فلو قُتل رجلٌ لما عزا أحدٌ ذلك إلا لحظه العثر، وهكذا ينتهي الأمر، وندر أن يُفكر أحدٌ في الانتقام.
يُعزى ذلك إلى حدٍّ كبير إلى أن أغلب أفراد ذلك المجتمع كانوا من الرُّحَّل، ولم يكن لأغلبهم أقاربُ في الجوار، وعلى الرغم من أن الضحية قد يكون لها أصدقاء، كان من النادر أن يعتزَّ أحدٌ بصديقه المجنيِّ عليه لدرجة أن يهبَّ غاضبًا لما أصابه إذا اخترقت رصاصةٌ جسمَه. أما الأقاربُ فكان التعامل معهم في الغالب أصعبَ من التعامل مع الأصدقاء في حالات الموت المفاجئ، وكان هيكوري سام يعي ذلك جيدًا، فعندما اضطُرَّ إلى إطلاق النار على أصغَرِ الأخوَين هولَت في حانة مايك، توجَّه من فورِه وعلى مضضٍ إلى أخيه الأكبر جون فقتلَه هو الآخَر قبل أن يَصِلَه خبرُ أخيه. وشرح سام لمايك عند عودته أنه لم يُضمِر شرًّا لجون هولت، لكنه قتله فقط لحفظ السلمِ العام؛ لأنه لو لم يفعل لكان من المؤكد أن يسحب جون سلاحه وعلى الأرجح كان سيُطلق النار على عددٍ من المواطنين عندما يسمع خبرَ موت أخيه؛ إذ كان يجمع الأخَوَين وُدٌّ بالغٌ لم يُعرف سببٌ له.
عندما كان هيكوري سام جديدًا بعض الشيء على سولت ليك، كان يسمح لرعاةِ بقر مزرعة بولر بغلقِ منافذ البلدة دون أن يُبديَ أيَّ معارضة. كان من عادتهم، بعد أن يتمَّ لهم غلقُ عاصمة مقاطعة كايوتي كما أرادوا، أن يقصدوا حانة ذا هيدز ويُنفقوا مكاسبهم التي اكتسَبوها بصعوبةٍ على الخمر التي يُقدِّمها لهم مايك. وكانوا أثناء ذلك أيضًا يُغيِّرون شكل سقف الحانة. إذ كان للكثيرِ من رعاة البقر هؤلاء هوايةُ تدوير بنادق وينتشيستر التَّكرارية الخاصة بهم حول سبَّاباتهم ثم إطلاق النار منها لحظةَ اتجاهِ ماسورتها إلى أعلى. وكانوا يتَبارَون في إطلاقِ أكبر عددٍ من الرصاصات في أقلِّ مساحة ممكِنة من سقف الحانة ويعتبرون مَن تكون له الغلَبةُ في ذلك خبيرًا، ويُعفى من دفعِ ثمن مشروباته.
كان من الممكن أن يجعل مشهدٌ كهذا الكثيرَ من الرجال يجزعون، بيدَ أنه لم يُؤثِّر في هيكوري سام، الذي اتكأ على منضدة الشراب وأخذ ينظر إلى ما يجري شزَرًا معتبرًا إياه لعبًا صِبيانيًّا.
قال الفائز: «ربما تعتقد أنه يمكنك أن تفعلها.» ثم أضاف: «أُراهنك على دفع ثمنِ مشروباتك أنه لا يُمكنك.»
قال هيكوري سام في هدوء وترفُّع: «ليس عليَّ المحاولة.» ثم أردف: «ليس عليَّ ذلك، لكني سأُخبرك بما يُمكنني فعلُه. يُمكنني إصابةُ رجل في قلبه بمسدسي هذا.» وأبرز مسدَّسه ذا السبع طلقات، وواصل: «وأنا أقف هنا في حانة ذا هيدز وهو يخرج من المصرف.» وكان في سولت ليك — نظرًا إلى تطورها — فرعٌ لمصرف مقاطعة كايوتي على مسافةٍ ما في الشارع، على الجانب المقابلِ لجانب الحانة.
صاح الفائز: «أنت تكذب»، فأمسك كلُّ الرجال ببنادقهم وتأهَّبوا للمتاعب.
فما كان من هيكوري سام إلا أن ضَحِك، ومشى إلى الباب مختالًا، وفتحَه، ثم سار إلى منتصَف الشارع المهجور.
وصاح بأعلى صوته: «أنا رجلٌ خطير منذ زمن بعيد.» ثم أضاف: «أنا أشدُّ رجالِ مقاطعة كايوتي، ولا يُمكن لِحَفنة من المكسيكيِّين التافهين من مزرعة بولر غلقُ هذه البلدة وأنا فيها. هل تسمعون؟ سولت ليك مفتوحةٌ على مِصراعَيها، وها أنا ذا أقف في الشارع لأُثبِت ذلك.»
كان في إعلانه فتْحَ البلدة بعد أن أعلنَ غلقها جمعٌ منهم يتألَّف من خمسة عشرَ رجلًا إساءةٌ كافية، وفوق ذلك كان وصفه إياهم بحَفنةٍ من «المكسيكيين» التافهين إهانةً لا تُغتفَر. إذ لا يقلُّ ازدراءُ راعي البقر للمكسيكيِّين عن ازدرائه للهنود الحمر. انطلقَت صيحة تبثُّ الرعب في النفوس وخرج الخمسة عشر رجلًا من الحانة وامتَطَوا جِيادهم في انتفاضةٍ كالإعصار. وانطلقوا في الشارع بسرعة الإعصار أيضًا، يدورون بالأحصنة على مسافةٍ من المصرف المغلق مؤقتًا، ثم ينطلقون بأقصى سرعة ويُطلقون النارَ بكثافة في اتجاه هيكوري سام الذي أقعى خلفَ برميل ويسكي فارغٍ كان أمام الحانة وأمسك بمسدَّس في كل يدٍ من يديه.
أثبت سام صحةَ ما ادَّعاه بإصابة الفائز في قلبِه وهو قُبالةَ المصرف، فسقط على وجهِه واضطرَب رفاقه. ثم وقف سام على قدمَيه وأطلق النارَ من مسدَّسَيه غيرَ آبهٍ للطلقات الطائشة، فقتل مَن كان في المقدمة ومعه ثلاثة من الجياد، فتحوَّل هجومهم عليه على الفور إلى هزيمةٍ ساحقة. وبعد ذلك عاد إلى حانة ذا هيدز وأغلق الباب. وكان مايك غائبًا عن الأنظار.
علم الشبابُ أنْ لا قِبَل لهم بمواصلة القتال. فلم يهجموا على الحانة، بل انتشَلوا جثثَ مَن سقط منهم، ثم شرَعوا، بعد أن ذهب عنهم الثَّمَل، في العودة إلى مزرعة بولر بوتيرةٍ أبطأ كثيرًا من وتيرةِ قدومهم منها.
وعندما تأكد رحيلُهم، خرج مايك من مخبئه بحذر، وكان سام يطرق على منضدةِ الشراب بقوة مهدِّدًا بالمرور إلى ما وراء منضدة الشراب وإعداد شرابه بنفسه إن لم يُقدَّم له.
أوضح سام لدافلين قائلًا: «أنا رجلُ قانون ونظام، ولن أسمحَ لبعض الهمج من مزرعة بولر بغلق هذه البلدة وعرقلة سَير التجارة. يجب على الجميع احترامُ دستور الولايات المتحدة ما ظلَّ سلاحي يعمل، يُمكنك أن تُراهن على ذلك بحياتك!»
أقرَّ مايك سريعًا بصحةِ ما قال، وسأله ماذا يريد، وكان في غمرة هياجه قد نسي أنَّ سام لا يشرب إلا مشروبًا واحدًا لا يُغيره وقد كان يشربه مباشرةً دون تخفيف.
وفي اليوم التالي جاء العجوز بولر بنفسه من مزرعته ليرى إن كان هناك ما يُمكن فعله حِيالَ تلك المعركة التي وقَعَت مؤخرًا. ساءه بشدةٍ أن يفقد اثنَين من أفضل رجاله في شجارٍ سخيف كالذي دار، وأثار تقزُّزَه أن يُقتَل أيضًا ثلاثةٌ من خيوله المدرَّبة. كان بولر نفسُه في شبابه أحدَ الشباب المشاغبين هؤلاء، أما الآن بعدما جلب له عملُه في تربية الماشية الثراء، فقد تاق إلى رؤية الحضارة تشقُّ طريقها نحو الغرب بخُطًى أوسعَ مما هي عليها الآن. أخطأ باللجوء إلى رئيس الشرطة، كما لو كان ذلك الرجل ذو المكانة الرفيعة والراتبِ الزهيد سيُقدِم على محاولة اعتقال هيكوري سام الذي يُصوب فيصيب.
علاوةً على ذلك، وحسَبما أفاد رئيسُ الشرطة وصدَق في قوله، فقد كان رُعاة البقر هم البادئين بالعُدوان، وإذا لم يتمكَّن خمسةَ عشر منهم من التغلُّب على رجلٍ واحد مختبئ خلف برميل ويسكي فارغ، فالأحرى بهم إذن أن يلزموا منازلَهم آمنين في المستقبل، ويتدرَّبوا على استخدام المسدَّسات في ساحةٍ للتدريب على الرِّماية في هدوءٍ وسلام. وبطبيعة الحال لم يكن من المتوقَّع أن تمتدَّ يدُ القانون الطائلة، المتمثِّلة في رئيس الشرطة المسالِم، لتنالَ من غريمهم بعدما حاولَ العديدُ منهم النَّيلَ منه بالفعل وفَشِلوا، خاصةً إذا كان غريمهم شخصًا يُعاقر الشرابَ مباشرةً دون تخفيف، ويُجيد التصويب ببراعةٍ كهيكوري سام.
ولما وجد بولر في الجانب التنفيذيِّ من القانون تباطؤًا وإحجامًا عن اتخاذ أيِّ إجراءات، استشار محاميَه الخاص الذي كان الدارسَ الوحيد في الجوار لعمل كوك الذي يعلق فيه على آراء ليتلتون القانونية. وشك المحامي في وجود أيِّ حلولٍ قانونية في ظل الوضع الحاليِّ للمجتمع في سولت ليك. ولم يُسدِ مشورةً قانونية قاطعة، لكنه تقدَّم باقتراحٍ مفاده أن الخطة الأسلم هي أن يُحاصر هيكوري سام ثم يُبادَ من على وجه الأرض. لم يكن ذلك حلًّا قانونيًّا بالطبع، لكنه لو نُفِّذ دون أخطاء لكان حلًّا فعالًا.
ذاعت تفاصيلُ الحديث الذي دار بين بولر ورئيس الشرطة في سولت ليك سريعًا، وأثارت سخطًا شديدًا بين السكان، خاصة المتردِّدين على حانة ذا هيدز. كان اللجوء للقانون بسبب واقعةٍ تافهة كالتي جرَت في اليوم السابق بمنزلة إهانةٍ للمكان. أما سام الذي كان يحتفل بانتصاره عند مايك فقد سمع الخبرَ بامتعاض مرير لكنه صامتٌ بعض الشيء؛ إذ كان قد تجرَّع عددًا من كئوس الشراب يكفي لِعَقدِ لسانه. لولا التصرُّفُ غيرُ المبرَّر الذي أقدم عليه بولر لجنَح سام إلى وأدِ الخصومة راضيًا؛ إذ كان رجلًا سمحًا، أما الآن فلا بد من عقابٍ صارم وفوري. قرر سام أن يُرسل صاحب المزرعة الثريَّ لمؤانسة رجلَيه المقتولَين.
وهكذا، عندما امتطى بولر حصانه بعد زيارته للمحامي التي لم تُثمر شيئًا، وجد هيكوري سام يُسيطر على الشارع بمسدَّسَيه. فتبادلا إطلاق النار بلا نتيجة؛ إذ كان ثَمَل سام قد جاوز المدى حينئذٍ، وكان صاحب المزرعة قليلَ التدريب على إطلاق النار. كان من النادر في سولت ليك أن يحترق كلُّ هذا البارود دون أن يُخلِّف ضررًا أكبر مما لحق بزجاج النوافذ القريبة في الجوار. عاد بولر إلى مكتب المحامي، وبعد ذلك أجرى حوارًا مع مدير المصرف. ثم غادر البلدة بهدوء، ولم يتعرَّض له أحد؛ إذ كان سام حينئذٍ يبثُّ مايك حزنه على عدم دقة تصويبه، ثم غلبه النوم تدريجيًّا في أحد أركان الحانة.
وفي صباح اليوم التالي، عندما استيقظ سام وبدأ يزول عنه ثَمَله، أرسل إلى المزرعة رسالةً تُفيد بأنه سيُطلق النار على العجوز بولر حالَما يراه، وفي الوقت ذاتِه اعتذر عن خَرقِه أثناء إطلاق النار في المرة السابقة، وتعهَّد بألا يتكرر ذلك العرضُ المزعج ثانيةً. ثم أمهَرَ رسالته بتوقيعه: «مرعب سولت ليك، ونصير القانون والنظام».
وأُشيع أنه عندما عاد العجوز بولر إلى مكتب المحامي كتب وصيَّتَه وشهد عليها مديرُ المصرف. واعتُبِر ذلك برهانًا على قوةِ عزم هيكوري سام ودقةِ تصويبه، وكان سام مُحقًّا في فخره بتسبُّبِه في انشغال المحامي بهذا العمل.
مرَّ أسبوع، ثم عاد العجوز بولر إلى سولت ليك، فوجد هيكوري سام في انتظاره، ولم يكن المجرمُ العتيد ثَمِلًا هذه المرة؛ إذ لم يكن قد احتسى أكثرَ من ستِّ كئوس من الويسكي القويِّ صباحَ ذلك اليوم.
وعندما وصل إلى حانة ذا هيدز خبرُ اقترابِ العجوز بولر من البلدة وحده ممتطيًا حِصانَه، راهن سام فورًا على ثمن المشروبات أنه لن يُطلق إلا طلقةً واحدة ليُكفِّر إلى حدٍّ ما عن الفوضى التي أحدثَها المرةَ الفائتة بلا جدوى. ووقف المحتشدون في أماكنَ آمنةٍ يترقبون نتيجة المنازلة الوشيكة.
وقف سام بحزمٍ في منتصف الشارع يحمل بيُمناه مسدسًا إبرةُ أمانه مسحوبةٌ استعدادًا للإطلاق، وكانت وقفتُه حينئذٍ راسخةً كمن يُقاتل من أجل قضية عادلة، وبثقة مَن يُمكنه إصابةُ علامة الآس في ورقة لعب على مسافةٍ أطول بعشر ياردات على نحوٍ لا يمكن لأيِّ رجل في المقاطعة فعلُه.
وجاء العجوز بولر يقود حِصانَه على مهلٍ في الشارع كما لو كان في مزرعته. وعندما أصبح تقريبًا في مرمى نيران مسدَّسِ سام، رفع يديه فوق رأسه، وترك اللِّجام يقع على رقبة الحصان. تقدَّم إلى الأمام على هذه الهيئة الغريبة، فذُهِل المحتشِدون وبدا على سام الحرَج.
صاح العجوز: «أنا لا أحمل سلاحًا.» ثم أضاف: «جئت لأتحدثَ في الأمر وأُنهِيَه.»
صاح سام، ساخطًا لاحتمالِ فوات فرصة الإيقاع بضحيَّته في نهاية المطاف: «فات أوانُ الحديث.» ثم أضاف: «اسحب سلاحك، أيها العجوز، وأطلِق النار.»
رد بولر وهو يُواصل التقدم ولا يزال يرفع يديه: «ليس معي سلاح.»
صاح سام: «ما هذه إلا خدعة»، ورفع يُمناه وأطلق النار.
مال العجوز ببطء إلى الأمام، كبرجٍ متهاوٍ، ويداه ما زالتا فوقَ رأسه، ثم سقط برأسِه من على حِصانه إلى الأرض، واستقرَّ بلا حَراك، وجهُه على الأرض وذِراعاه مفتوحتان.
على الرغم من الخوف الشديد الذي أثاره المجرمُ العتيد، انطلقَت صيحةُ ذعرٍ لا إرادية من بين المحتشدين. لم يكن القتلُ في حدِّ ذاته محلَّ اعتراض، أما إطلاق النار على رجلٍ أعزل يرفع يديه فوق رأسه خاضعًا هو ما كان يُعتبر جريمةَ قتل، حتى في هذه السهول.
نظر سام حولَه بوحشية، وحدَّق في الجمهور الذي تقهقرَ اتقاءً لشرِّه، وارتفع الدخانُ من ماسورة مسدسه التي ما زالت في يده موجَّهة إلى الأسفل.
قال سام: «كان ذلك كلُّه خدعة. كان في حذائه سلاحٌ ناري. رأيتُ أسفله بارزًا منه. لذا أطلقتُ النار.»
قال مايك عندما استقرَّت نظرةُ هيكوري الشرسة عليه: «أنا لا أقول شيئًا، فالأمر ليس مِن شأني.»
صاح هيكوري: «بل هو من شأنك.»
قال صاحب الحانة محتجًّا: «عجبًا، أنا ليس لي أيُّ علاقة به.»
قال هيكوري: «هذا صحيح. لكن أصبحَت لك علاقةٌ به الآن. وإلا لماذا انتخبناك قاضيَ تحقيق، أخبِرْني؟ عليك أن تُسرع في اختيار أعضاء هيئة المحلَّفين وتُصدر حكمًا مفاده أن الوفاة كانت عرَضيةً أو شيئًا من هذا القبيل. أصدر أيَّ حكم يمنع حدوث أيِّ متاعبَ في المستقبل. أنا أومن بالقانون والنظام، وأريد أن أرى الأمور تجري على ما يُرام.»
قال مايك: «لكنَّ المحلَّفين لا يجتمعون عندما يتعلق الأمر برعاة البقر.»
قال سام: «حسنًا، رعاة البقر شأن مختلف. ليس أمرهم بالجلل. ومع ذلك، ينبغي أن يجتمعَ المحلَّفون، حتى وإن كان الأمرُ متعلقًا برُعاة البقر، هذا إذا كنا متحضِّرين. أفضل شيء أن يُقيَّد كل شيء في السجلَّات بوضوحٍ ونظام. فليُساعِدْني بعضكم أيها القوم في حمل الجثة، وسيجمع مايك هيئةَ محلَّفيه بسرعة شديدة.»
أفضل وسيلة لإحلال النظامِ محلَّ الفوضى توليةُ الأمر لرجل نشيط منسجِم مع العامة. بدأت الأمورُ تعود إلى نِصابها، وتطلَّع المحتشدون إلى سام لتلقِّي التعليمات. بدا عالِمًا بالإجراءات اللازمة في هذا الظرف، وشعَر الحاضرون بجهلهم وقلة خبرتهم مقارنةً به.
أُسجِيَت الجثة على منضدةٍ في غرفةٍ خلفية بالحانة، وجلس المحلَّفون والمشاهدون على ما استوعب المكانُ من مقاعد، في حين اتخذ هيكوري سام نفسُه موقعًا مرتفعًا فوق برميل حيث أمكنَه الإشرافُ على الإجراءات، إن جاز التعبير. وشعر الحاضرون أن سام لم يُضمِر للمتوفَّى شرًّا، وامتنُّوا له لذلك.
قال قاضي التحقيق وهو ينظر إلى سام في تردُّد ويرسم على وجهه تعبيرًا يُوحي باستعداده التامِّ للتراجع لو تبيَّن أن ما يقوله غير ملائم: «أعتقد أنه ينبغي أن نستدعيَ المحاميَ إلى هنا. فهو يعرف كيف ينبغي أن تجري هذه الأمور، وهو الوحيد في سولت ليك الذي يمتلك نسخةً من الكتاب المقدَّس ليُقسِم عليها المحلَّفون. أعتقد أنهم ينبغي أن يُقسموا.»
وافقه سام: «هذه فكرة جيدة.» ثم أردف: «فليسرع أحدُكم باستدعائه، وليجعله يُحضر كتابه المقدَّسَ معه. أهم شيء أن تجري هذه الأشياء على نحوٍ منظَّم ومناسب وحسَبما يقتضي القانون.»
كان المحامي قد سمع بالكارثة التي وقعت، فانطلق إلى الحانة من فوره ومعه كتابُه المقدَّس وبعض الأوراق. لم يَعُد ثَمة أدنى شكٍّ الآن في معرفة سام بالإجراءات المناسبة، خاصة عندما تبيَّن أن المحاميَ يتفقُ معه تمامًا في أن إجراء التحقيق في ظلِّ هذه الظرف بات أمرًا مبررًا ويتماشى مع الإجراءات المتبَعة في حالات سابقة. ووجد المحلَّفون أن السيد بولر الراحل «مات بطريق الخطأ»، وهي العبارةُ التي اقترَحها المحامي متهكمًا عندما وجد أن الحكم سيكون «الموت العرَضي»، واستحسنها المحلَّفون فاعتمدوها على الفور.
عندما اختُتمت الإجراءات على هذا النحو المبهِج وبحكم مُرضٍ لجميع الأطراف، تنحنحَ المحامي ثم قال إن موكله الراحل كان قد كتب وصيته مؤخرًا، ربما لهاجسٍ انتابه يُنبئه بقرب نهايته، وإن موكله طلب منه إعلانَ وصيته حالَما تسنح الفرصة بعد وفاته. ولما بدا الوقت مناسبًا تمامًا الآن، اقترح المحامي بعد استئذان قاضي التحقيق أن يقرأ الجزءَ من الوصية الذي كان السيد بولر يتمنَّى أن يُذيعه لأكبرِ عدد ممكن من الناس.
أجال مايك نظرَه في تردُّدٍ بين المحامي وسام الجالس فوق البرميل في مستوًى مرتفع عن جميع المحتشدين.
فقال هيكوري: «بكل تأكيد.» ثم أردف: «نودُّ جميعًا أن نسمعَ الوصية، على الرغم من أني أظنها ليست من شأننا.»
لم يُعقِّب المحامي على هذا التعليق، لكنه اكتفى بالانحناء أمام المحتشدين، ثم بسط ورقةً وشرع في قراءتها.
أوصى السيد بولر بكلِّ ممتلكاته لابنِ أخيه في الشرق، باستثناء خمسين ألفَ دولار من الأوراق النقدية المودعة في مصرف مقاطعة كايوتي في سولت ليك. كانت لدى الموصي أسبابٌ للشك في أن مجرمًا يُدعى هيكوري سام (الذي كان لا يُعرَف اسمه الحقيقي أو كنيته) يسعى لقتله. وإذا نجح هذا المسعى، يئول كلُّ هذا المبلغ لمن يتمكَّن من إزالة هذا المجرم من على وجه الأرض، سواءٌ أكان شخصًا واحدًا أو عدة أشخاص. وإذا ألقى رئيس الشرطة القبضَ على المذكور هيكوري سام فحوكم وجرى إعدامُه، يُقسَّم المبلغ بين رئيس الشرطة ومَن ساعده في القبض عليه. أما إذا أقدم أيُّ رجل على إطلاق النار على المذكور هيكوري سام وقتله على مسئوليته الخاصة، تكون الخمسون ألف دولار ملكًا له وحده، ويُسلِّمها له مديرُ المصرف — الذي أبدى السيد بولر ثقته التامة فيه — فور أن يُثبِت قاتلُ هيكوري سام إتمامه القتلة على النحو الذي يقبله مديرُ المصرف. وفي كل الأحوال يتحكم مدير المصرف تمامًا في صرف الأموال، ويمكنه أن يُسلمها دفعةً واحدة أو يقسمها بين مَن ينجحون في تخليص هذا العالم المضطرب من أحد أكثر الأشخاص إثارة لاضطراباته.
ساد بعد قراءة الوصية صمتٌ ذاهل قطَعه تهكُّمٌ صاخب وضحكة تحدٍّ أطلقها الرجلُ الجالس على البرميل. ضحك طويلًا لكن أحدًا لم يضحك معه، ولمَّا لاحظ ذلك خفَتَ ضحكُه الذي كان إلى حدٍّ ما مصطنَعًا وآليًّا. طوى المحامي أوراقه بطريقة منظمة. ونظر بعضُ المحلَّفين إلى وجه القتيل الذي كان قد وضع خطة مالية للثأر لنفسه بعد وفاته، فكادوا يرَون نظرة شرٍّ في عينيه وشفتيه المفتوحتين على نصفِ اتساعهما. وسرَت بين المجتمعين همساتٌ خالطها الذُّهول. وقال كل رجل للآخر بصوت خفيض: «خمسون ألف دولار.» مع الضغط على مخارج الحروف على نحوٍ جعل المبلغَ يبدو أكبر. قفزت إلى ذهن كلِّ الرجال الخاطرةُ نفسُها؛ ثروة صغيرة سهلة المنال شريفةُ المصدر لا تتطلب سِوى ضغط السبابة على الزناد وتوجيهِ ماسورة المسدس إلى الهدف الصحيح.
كان المحامي قد انصرف في هدوء. واستفاق سام من ثَمَله لدرجةٍ لم يعهَدْها منذ أيام عديدة، فنزل من على البرميل، ووضع يده على أخمص مسدسه ومشى جانبيًّا نحو الباب موليًا ظهره للحائط. لم يُحرك أحدٌ ساكنًا لإيقافه، بل جلسوا جميعًا يراقبونه كالمنوَّمين مغناطيسيًّا. لم يَعُد في نظرهم رجلًا، بل تجسيدًا لمبلغ من المال يمكن جَنْيُه في لحظة؛ مبلغ عمل الآلاف بكدٍّ طوال حياتهم لجنيِه، وندرَ أن أفلح أحدُهم في ذلك.
فاقت سرعة يد سام في إطلاق النار سرعةَ عقله في التفكير في المشاكل، لكن عقله بدأ يُدرك شيئًا فشيئًا أنه الآن يُواجه خطرًا لا يُجدي مسدسُه نفعًا في اتِّقائه. كان الجميع تقريبًا حتى ذلك الحين أصدقاءَه، أما الآن فقد أصبح العالَم كلُّه ضدَّه؛ إذ أصبح لديه دافعٌ بالغُ القوة لمعاداته، دافع يتفهَّمه هو نفسُه. إنه كان مستعدًّا لقتل أيِّ شخص نظيرَ جزء من مبلغ الخمسين ألف دولار، ما أمكنَ تنفيذُ ذلك بدرجةٍ معقولة من الأمان على نفسِه. لماذا إذن قد يتورَّع أيُّ رجل عن قتله بعدما خُصصت مكافأة كهذه لمن يقتله؟ وبينما كان سام يتراجع بين من كانوا أصدقاءه، رأَوا في عينيه ما لم يرَوه من قبل، لم يكن خوفًا بالتحديد، بل نظرةَ ارتياب متوجسة من الجنس البشري بأكمله.
عندما خرج سام من الحانة استنشق الهواء العليل بحريةٍ أكبرَ من جديد. عليه الآن أن يهرب من سولت ليك وبسرعة. يمكنه أن يُقرِّر خطوته التالية فور أن يصبح وسط البراري. ظل ممسكًا بمسدسه في يده دون أن يجرؤ على وضعه في مكانه. أثارت كلُّ نأمةٍ تصدر حوله فزعَه، وخشي الوقوف في العراء، لكنه لم يستطع أن يُولي ظهرَه للجدار طوال الوقت. كان حصان القتيل بولر المسكين، المجهَّز للركوب على نحوٍ تام، يأكل العشب المجاور للطريق. كانت سرقةُ الجياد بالطبع تَصِم مَن يُقدِم عليها أكثرَ من القتل، لكن لم يكن من بدٍّ منها؛ فالفرار مستحيل دون الحصان. سرق سام الحصانَ بسهولة شبهِ تامة وامتطاه.
لم يكَدْ يمتطي الحصان حتى دوَّت طلقة من ناحية الحانة. فاستدار بسرعة فوق صهوة الحصان لكنه لم يرَ أحدًا، لم يرَ سوى خيطٍ رفيع من دخان كالذي ينبعث من المسدس عند إطلاق النار منه يرتفع في الهواء ويتبدَّد فوق الباب المفتوح. أطلق سام النار مرتين نحو الباب المفتوح، وبعد هذا التهديد وجَّه حصانه نحو الحقول المفتوحة وانطلق بسرعة، وكان قد ابتعد كثيرًا عن سولت ليك عندما جنَّ الليل. عَقَل حصانَه واستلقى على العُشب لكنه لم يجرؤ على النوم. فقد خشي أن يكون مُطاردوه على مسافة قريبة من مرقده؛ إذ كان متيقنًا من أنهم سيَقْتفون أثره فورَ عِلمهم برحيله عن سولت ليك. فالمكافأة كانت كبيرة جدًّا بحيث تستحق العناء.
ثمة عدوٌّ لا يسَع حتى أقوى الرجالِ وأشجعَهم إلا الاستسلامُ له: ألا، وهو الأرَق. لم يَغْمض للمجرم العتيد جَفنٌ طوالَ الليل حتى أسفرَ نورُ الصباح. كانت أعصابه قد انهارت، ودهَمه الخوف ربما لأول مرة في حياته. بثَّ خَواءُ البراريِّ الوحشةَ في نفسه بدلًا من أن يُشجعه، وتاق لرؤية أيِّ إنسان، بالرغم من علمه أنه لو رأى إنسانًا الآن فقد يُضطَر إلى قتاله. خاطب نفسَه بأن عليه أن يجد رفيقًا، وتمنى أن يجد أيَّ شخص في مأزق يُضاهي خطورةَ مأزقه، بحيث يُراقب الرفيقُ المكانَ خاصةً في الليل، لكن ذلك الرفيق لا بد أن يكون جاهلًا بالمكافأة المالية المرصودة لمن يقتله، أو أن تكون هناك مكافأةٌ مرصودة لمن يقتل ذلك الرفيق نفسَه. لن يجد رجلٌ بريء فائدةً في التيقُّظ لمراقبة المكان بحرص، أما المذنب، عند علمه بملابسات الأمر، فسيُقدم على مقايضة حريته بحياة سام. رأى المجرم أن الخمسين ألف دولارٍ تفعل أيَّ شيء، لكنه كان الوحيدَ من الستين مليون نسَمةً القاطنين بهذا البلد الذي لا يُمكنه جَنْيُ ذلك المبلغ! فكرة الرفيق مستحيلةٌ إذن، بريئًا كان أم مذنبًا، ومع ذلك لم يكن هناك غِنًى عنه إذا أراد الهائم الطريد أن يحظى ببعض النوم.
اضطرب الحصانُ لانعدام المياه، ودهم سامَ نفسَه الجوعُ والعطش معًا. لا بد أن يكون مكانُ توقفه التالي قريبًا من مجرى ماء، ومع ذلك ربما كان مرورُ ليلته الأولى بأمانٍ يرجع إلى حقيقة أن مَن يطارده كان سيبحث عنه بطبيعة الحال قرب أيِّ مجرى مياه، وليس في البراري المفتوحة.
بعد ذلك بعشَرة أيام، أيقظ أحدُهم مايك دافلين في الثالثة صباحًا، الذي فتح عينَيه فوجد بجوار سريرِه رجلًا بدا من إنهاكه وهُزاله كهيكلٍ عظمي حيٍّ يُمسك بشمعة في إحدى يديه ويوجِّه بالأخرى مسدسًا إبرةُ أمانه مسحوبة نحو رأس مايك.
قال الشبح بصوتٍ أجش: «انهض وأحضر لي شيئًا آكلُه وأشربه. أحضِر لي شيئًا أشربه أولًا، وأسرع في ذلك. ولا تُحدِث ضجيجًا. هل في المنزل أي شخص آخر؟»
قال مايك وهو يرتعش: «كلا.» ثم أضاف: «انتظر هنا يا سام، وسأُحضر لك شيئًا. كنت أظنك انضمَمتَ إلى الهنود الحمر أو شددتَ الرِّحال إلى المكسيك أو باد لاندز منذ وقت طويل.»
قال سام: «ليس المكان هنا بأقلَّ سوءًا من باد لاندز. سأذهب معك. لن أتركَك تغيب عن نظري، ولا تُحاول خداعي؛ فأنت تعرف ما قد يحدث لك إذا حاولت.»
قال مايك متذمرًا وهو ينهض: «لا بد أنك تثقُ بي، يا سام.»
رد سام: «أنا لا أثقُ في أحد. مَن الذي أطلق عليَّ النار وأنا أرحل؟»
قال مايك بلهجة احتجاج: «أقسم لك إني لا أعرف. لم أكن في الحانة في ذلك الوقت. ويُمكنني أن أُثبت ذلك. أنت لا تبدو على ما يُرام يا سام.»
قال سام: «يا لك من متلكِّئ، أنت أيضًا ما كنت ستبدو على ما يُرام لو لم يغمَضْ لك جفنٌ لأسبوع وتضوَّرتَ جوعًا. أسرِع.»
أكَل سام ما قُدِّم له كوحش كاسر، وعلى الرغم من أنه في البداية احتسى كأسًا كبيرة من الويسكي والماء، فقد قلَّل الشربَ الآن. ووضع المسدس على الطاولة بالقرب من كوعه وجعل مايك يجلس أمامه. وعندما فرَغ من تناول وجبته بشراهة، أبعدَ الطبق عنه ونظر إلى دافلين.
قال سام: «عندما قلتُ إني لا أثق بك يا مايك، كنت أكذب. فأنا أثقُ بك، وسأُثبت ذلك. عندما يكون من مصلحتك أن تُصادق رجلًا، فإنك ستصادقه دائمًا.»
قال مايك دون أن يفهم ما قاله سام جيدًا: «صحيح.»
قال سام: «اسمعني الآن يا مايك، واحرص على أن تفعل ما أطلبه منك بالضبط. اذهب إلى مسكن مدير المصرف وأيقظه كما أيقظتُك أنا. لن يخاف عندما يرى أنك أنت مَن أيقظته. وأخبِرْه بأني عندك في الحانة، وأني جئتُ لأسرق الخمسين ألف دولار المكافأةَ من المصرف. قل له إني يائسٌ ولا يمكن الإيقاعُ بي دون أن يلقى دُزينةٌ من الرجال حتفَهم، وليس هذا كذبًا كما تعرف. قل له إنك تورَّطتَ معي في خُططي، وإني أنا وأنت سنذهب إلى المصرف ونُسيطر عليه تحت تهديد السلاح. أخبره أن الوسيلة الوحيدة للإيقاع بي هي خِداعي. وسيتمُّ ذلك بأن يفتح هو باب المكان الذي فيه النقودُ وتدفعني أنت إلى داخله وتُغلق الباب. لكن ما إن يفتح هو البابَ سأُطلق عليه الرصاص، وسأقتسم النقود معك. لن يشكَّ فيك أحد؛ إذ لن يعرف أحدٌ أنك كنت هناك إلا مديرُ المصرف الذي سيكون ميتًا. لكن، إذا أقدمتَ على خطوة واحدة غير ما قلتُ لك، فستكون الرصاصة الأولى من نصيبك. مفهوم؟»
فتح مايك عينَيه على اتساعهما وهو يسمع تفاصيلَ الخطة تتكشَّف أمامه. وقال: «يا إلهي! يا لدهائك يا سام!» ثم أردف: «لماذا لم تُفكر في ذلك قبل الآن؟ فمدير المصرف في أوستن.»
قال سام: «وماذا يفعل هناك بحقِّ الجحيم؟»
رد مايك: «أخذَ الأموال معه ليُودِعَها في فرع المصرف في أوستن. غادر في اليوم التالي لرحيلك، فقد قال إن الفرصة الوحيدة لنجاتك هي أن تستوليَ على هذه الأموال. كان من الممكن أن تفعل ذلك في ليلةِ رحيلك، لكن ليس بعدها.»
سأل سام بارتياب: «ما تقوله لي صحيح، أليس كذلك؟»
قال مايك مؤكدًا: «يشهد الرب إني أقول لك الحقيقة.» ثم أضاف: «يُمكنك التأكدُ من ذلك بنفسك في الصباح. لن يوقفك أحد. أنت فقط متعَب للغاية من قلة النوم، يمكنني ملاحظة ذلك. اصعد واخلد للنوم. وسأراقب أنا المكان، ولن يعرف أحدٌ أنك هنا.»
أرخى هيكوري سام كتفيه عندما سمع بنقل الأموال، وأطلَّت من عينيه شِبْهِ المغمضَتين نظرةُ يأس. جلس على حاله هذا للحظاتٍ قليلة دون أن يُنفذ نصيحة مايك، ثم طرد عن نفسه الخمولَ بصعوبة.
وقال في النهاية: «كلا، لن أخلد للنوم. كنتُ أريد أن أجعلك ثريًّا يا مايك، لكن ذلك أسهلُ من المتوقع. قطِّع لي بعض الشرائح من هذا اللحم البارد وضعها بين قطعٍ من الخبز. أريد منها ما يكفي لثلاثة أيام، وزجاجة ويسكي.»
نفَّذ مايك ما طلبه منه سام، واعتنى بحصانه كذلك بِناءً على طلبه. كان لم يزَل الظلامُ عميمًا، ثم جاءت تباشير نور الصباح من الشرق على استحياء. كان حِصان بولر خاملًا ومنهكًا كراكبه. وبينما امتطاه سام، منحنيًا كرجل عجوز، ومضى في طريقه، أسرعَ مايك إلى غرفة نومه، وفتح نافذتها دون أن يُحدِث ضجيجًا، وصوَّب بندقيةً محشوة نحو ظهر الرجل الآخذ في الابتعاد. لو استجمع الشجاعة الكافية لإطلاق النار لاستطاع قتل الحصان وراكبه معًا على الأرجح، لكنَّ يده ارتعشت، وتجمعت قطراتُ العرق على جبينه. علم أنه لو أخطأ الهدفَ هذه المرة، لتيقن سام من هُويَّة مَن أطلق النار بما لا يدعُ مجالًا للشك. أسند البندقية على إفريز النافذة وأبقى عينَيه على الماسورة، لكنه لم يستجمع الجُرأة الكافية لسحب الزناد. وفي النهاية، ابتعد سام بالحصان حتى اختفى، ومع اختفائه ضاعت فرصةُ مايك في الثراء. فسحب مايك البندقية إلى الداخل، وأغلق النافذة على مهل وهو يُصدر تنهيدةَ ندمٍ طويلة.
عندما وصلَت إلى سيدني بولر البرقيةُ التي علم منها أن عمه مات وأنه سيَرِثُ مزرعته، انطلق من ديترويت في اتجاه الغرب. كانت سنُّه أصغرَ من السن التي مات فيها عمه على نحوٍ مأساوي بثلاثين عامًا، وكان يُشبه الرجلَ العجوز كثيرًا، وكان ذلك الشبه يُثير لدى مَن يُلاحظه مزيدًا من الاستغراب عندما يتذكر أن أحد الشبيهين عاش حياته كلَّها في إحدى المدن، في حين أن الآخر أمضى معظم أيامه في السهول المفتوحة. التقى الشابُّ برئيس الشرطة عند وصوله متوقَّعًا أن تكون خطواتٌ جادة قد اتُّخِذت للقبض على القاتل. لكن رئيس الشرطة أكد له أنه لم يكن هناك ما هو أمضى أثرًا مما فعَله القتيلُ نفسه عندما أوصى بخمسين ألفَ دولار لمن يقتل هيكوري سام. لم يتخذ رئيسُ الشرطة أي إجراءات؛ فقد كان واثقًا من أن خبَر مقتل سام سيصله في يوم قريب.
وفي هذه الأثناء، لم يُسمَع من المجرم خبرٌ ولا عُثر له على أثر منذ رحيله عن سولت ليك على ظهر حصان القتيل. رأى سيدني فيما يجري تراخيًا في إنفاذ العدالة، لكنه لم يقل شيئًا، وعاد إلى مزرعته. وبينما لم يُبدِ رئيس الشرطة مبالاةً بالأمر، كان رعاة البقر التابعون للقتيل في حالةِ نشاطٍ شديد. لقد غادروا المزرعة جميعًا وأخذوا يُفتشون السهول بحثًا عن القاتل، وأخطَئوا بأن أوغَلوا في السهول أكثرَ من اللازم. توقعوا أن يفرَّ سام إلى باد لاندز، شأنهم في ذلك شأن مايك، وانطلقوا بسرعة كبيرة ولمسافات بعيدة لإيقافه. وتعذَّر عليهم جميعًا تحديدُ إن كان دافعهم في ملاحقة سام الرغبةَ في الحصول على حصةٍ من المكافأة، أم الولاء لرئيسهم القديم، أم كراهية هيكوري سام نفسِه. على أي حال، كانت مطاردةً حثيثة، استحثَّتْهم فيها غرائزُ الصيدِ الكامنةُ لديهم.
وفي الصباح الباكر خرج سيدني بولر من المزرعة وانطلق إلى البراريِّ المفتوحة. كانت الشمسُ مشرقة، ومع ذلك لم يزَل الصباحُ باردًا. وقبل أن يبتعد رأى حِصانًا بلا راكب يقترب من المزرعة. وعندما اقترب الحصانُ أكثرَ فأكثر، رآه فصَهَل وفي النهاية غيَّر مساره وتوجَّه إليه مباشرة. ثم رأى على ظهر الحصان رجلًا بدا له نائمًا أو ميتًا. تدلَّت يده مرتخيةً بجانب كتفِ الحصان وظلت تتأرجح مع خُطاه، في حين كانت رأسُ الرجل متوسدةً عُرفَ الحصان. اقترب الحصان من سيدني وقرَّب منه خطَمَه وصهَل بصوتٍ ضعيف، كما لو كان يعرفه.
هزَّ سيدني كتف الرجل وقال: «يا هذا! ما الأمر؟ هل أنت مصاب؟»
استيقظ المجرم على الفور وانتصب على ظهر الحصان ونظر إلى سيدني وفي عينيه ذعرٌ لرؤية الشبَه. رفع يُمناه لكن من الواضح أن المسدس كان قد سقط منه بعد أن غلبَه التعب ودوَّخَته الوجبة الدسمة فنام. فقفزَ من على الحصان بحيث وقف الحصان حائلًا بينه وبين العدو المفترَض، ثم سحب المسدس الآخر وأطلق النارَ على سيدني من خلف الحصان الذي قفز مضطربًا. وقبل أن يتمكَّن من إطلاق رصاصة أخرى أنزل سيدني، الذي كان رياضيًّا، مقبضَ عصاه الغليظ على مِعصَم يد المجرم التي كانت تُمسك بالمسدس، وصاح:
«لا تُطلِق النار أيها الأحمق، لن أُوذِيَك!»
ولما سقط المسدس على الأرض قفز سام بشراسة نحوَ رقبة الشاب، فتراجع الشابُّ ووجَّه لمهاجمه ضربةً فاقت قوتُها ما أراد. أصاب مقبض العصا المصنوعُ من الرصاص صُدغَ سام فسقط على الأرض كمن أُصيب بطلق ناري. انتاب سيدني القلقُ من تأثير ضربته، ففتح قميصَ الرجل المغشي عليه، وحاول إعانته على النهوض وشرب بعض الويسكي من زجاجة وجدها في جيبه. ولما لم يجد من جهوده جدوى أصابه الذُّعر، فامتطى الحصان وذهب إلى الإسطبلات لطلب المساعدة.
عندما خرج رئيسُ عمال الإسطبلات يستقبله، صاح: «يا إلهي يا سيد بولر، هذا حصان عمك. أين وجدته؟ أوه، جيري، أيها الحصان العجوز.» وربَّت على الحصان فصهَل في حنو، وواصل: «لقد أساءوا استخدامك، فعُدتَ إلى بيتك تطلب الرعاية. أين وجدتَه يا سيد بولر؟»
رد الشاب: «في البراري، وأخشى أن أكون قد قتلتُ الرجل الذي كان يركبه. يعلم الرب إني لم أقصد ذلك، لكنه أطلقَ النار عليَّ، فضربتُه ضربة فاقت قوَّتها ما أردت.»
هُرِع سيدني مع رئيس العمال إلى حيث كان راكب الحصان جيري مستلقيًا على العشب.
انحنى رئيس العمال على الجسد الراقد، ممسكًا في يده مسدسًا توخيًا للحذر، ثم قال: «لقد مات.» ثم أردف: «لقد نال جزاءه، شكرًا للرب. هذا هو الرجل الذي قتل عمَّك. تخيَّل أن يُقتَل بعصا رجلٍ من رجال الحضر، وتخيَّل أن الأموال التي رصدها عمُّك للانتقام منه قد عادت إلى العائلة من جديد!»