الخروج من تون
(١) سلوك بيسي
اتفقت الآنسة بيسي دوراند مع ألكساندر فون هومبولت في الرأي حول نقطةٍ ما؛ بل وفاقت، في الحقيقة، ذلك الرجلَ الذائعَ الصِّيت في الإصرار على صحةِ قوله الذي يرى أن تون هي واحدةٌ من أجمل ثلاث بِقاعٍ على الأرض؛ فقد رأت بيسي هذه البلدةَ السويسرية أجملَ الأماكن التي زارتها في حياتها وأكثرَها مثالية. بيد أن هذا الرأي تكوَّن لديها لأسبابٍ اختلفت عن أسباب هومبولت. فقد كان هومبولت رجلًا عاديًّا أثار إعجابَه موقعُ البلدة، والنهرُ السريعُ الجريانِ الكثيرُ الزبَد، والبحيرةُ الخضراء الهادئة، والجبالُ الشاهقة المحيطة بالبلدة من كل اتجاه، والقممُ الجليدية في اتجاه الشرق، والقلعة العتيقة المطلَّة على المشهد كلِّه، والشوارعُ الغريبةُ الشكلِ التي تتصل أرصفتها بالأدوار الأولى لمبانيها.
كانت لبيسي عينٌ خبيرةٌ بهذه الأشياء، بالطبع، وبينما كانت الشلالاتُ والوديان العميقةُ في حدِّ ذاتها محلَّ تقديرٍ منها، كان من الضروريِّ أن يَشغل الفندقُ الذي تُقيم فيه نُزلاءُ من النوع المناسب قبل أن يلقى أيُّ مكان على الأرض رِضاها التام. لم يُهمَّها إن انعزلَت عن كل البشر أو خرجت في رحلات قصيرة بمفردها؛ فقد كانت تهوى الإنصاتَ للموسيقى العذبة للحديث البشري، ولو سنَحَت لها فرصةُ الاستماع لنفسها وهي تتحدث، لظلَّت طوال يومها ترقص طربًا؛ فقد كانت متحدثةً بارعة وحماسية.
حدث ذاتَ مرة أنْ خرَجَت بيسي في جولة في أرجاء سويسرا مع أمِّها (لسببٍ ما كان الناس دائمًا يذكرون اسمَ أمِّ بيسي بعد اسمها هي، وكانت أمُّها سيدةً هادئة الطباع)، وتوقَّفا في بلدة تون وانتَوَيا المكوثَ فيها يومًا، شأنهما في ذلك شأن معظم مَن يمرون بها، ولكن عندما وجدت بيسي الفندق الكبير يعجُّ بالشباب اللطفاء، أخبرت أمها أن الدليل السياحي المحليَّ يُؤكد أن هومبولت قال ذات مرة إن تون واحدة من أجمل ثلاثة أماكن على الأرض؛ ولذا يجب أن يمكثا فيها للاستمتاع بما فيها من جمال، وهو ما شرَعا يفعلانه على الفور. ويجب ألا يُفهَم من ذلك أن بيسي كانت مغرمةً بالشباب على نحوٍ خاص. إذ لم يكن ذلك صحيحًا على الإطلاق. كل ما هنالك أنها كانت تُحب أن يتقدموا لخِطبتها، وهو طُموح جدير بالثناء بلا شك، ومع ذلك كانت ترفضهم دائمًا، وهو ما يُثبت أنها لم تكن دائمًا مغرمةً بشخصٍ ما، كما كان أعداؤها يقولون. الحقيقة أن العالم لم يفهم دوافعَ الآنسة بيسي دوراند فهمًا صحيحًا قط. فهل تُلام على رغبة الشباب في الزواج بها؟ بالطبع لا. ليس ذنبها أن تكون جميلةً ورقيقة، وأن الشباب كانوا دائمًا يُحبون الحديث إليها أكثرَ من أي شخص آخر في الجوار. كان الكثير من الحاقدين عليها مستعدِّين لبذل الغالي والنفيس ليحظَوا بما لبيسي من جمال الوجه والقوام والطبع. فالغيرة من طبع هذا العالم، والناس يستمتعون بالإساءة إلى مَن كُتِب لهم أقدارٌ أفضلُ من أقدارهم. ومع ذلك لا بد من الإقرار بأن بيسي كانت تتميَّز بطريقةٍ خاصة وسرِّية في التعامل مع الناس ربما أوهمَت بعض الشباب الذين تقدموا لخِطبتها في نهاية الأمر بأنها تُفضلهم عن غيرهم. لقد كانت تهتمُّ بشئونهم في عطف، فكان معظم الشباب بعد مدَّة وجيزة من التعرُّف عليها يُفْضون إليها بكلِّ آمالهم وطموحاتهم. وكانت أذناها جميلتين يشبهان الصدفتين كثيرًا ويسمعان مَن يحدثها ويتعاطفان معه؛ لذا يُمكن القول إنه كان من الصعب إلقاءُ اللوم على الشباب كما كان من الصعب إلقاؤه عليها. كل الناس تقريبًا يُحبون الحديث عن أنفسهم، فلا غروَ إذن أن تكون فتاةٌ مستعدةٌ للإصغاء لحديث الناس عن أنفسهم مثل بيسي محبوبةً من الجميع. ومن بين المليارات الذين يقطنون هذا الكوكب، هناك الكثيرُ ممن يُكثرون الكلام والقليلُ ممن يُحسنون الإصغاء، وعلى الرغم من أن بيسي كانت متحدثةً بارعة في بعض الأحيان، فلا شك أن انتصاراتها العديدة كان تُعزى لموهبتها في حُسن الإصغاء أكثرَ من حلاوة لسانها عند الحديث. ينبغي أن تحذوَ السيدات اللاتي يتحدَّثْن كثيرًا عن سلوك بيسي حَذْوَها في ذلك. فعندئذٍ كُنَّ سيجدن عروض الزواج تنهال عليهنَّ بوتيرة أكبر، لو كنَّ يتمتعنَ ولو بدرجةٍ مقبولة من الجمال. وبالطبع، لا جدوى من إنكار دور عينَيْ بيسي في جذب انتباه الشباب. فقد كانتا كبيرتين وسوداوين، يلتمعان في حنوٍّ في اللحظة المناسبة عندما يلتقيان بنظرةٍ حانية واثقة توَّاقة تصعب ببساطة مقاومتُها. وكانت عيناها تُحدقان بهذا الالتماع والحنوِّ في وجه أي شاب عندما يتحدث في أسًى عن آماله في جعل العالم مكانًا أفضل وأكثرَ حِكمةً بوجوده فيه، أو عندما يروي حدثًا شديد الخطورة شارك فيه وبدَت فيه بطولةٌ واضحة منه دون أن يتعمَّد إبرازها. عندئذٍ كانت عينا بيسي يتسعان ويلتمعان في حنوٍّ ويخرج منهما ضوءٌ خافت وهي تسمع كلماتِ محدِّثها في استمتاع شديد. أوَلم تأسر ديدمونة قلب عطيل فقط بالاستماع إلى حديث عن بطولاته كان فيه، بلا شك، مبالغةٌ شديدة؟
كان الشباب في الفندق الكبير في تون يرفلون في الغالب في سراويلَ قصيرة ويُمسك الكثيرُ منهم بعِصيِّ تسلق ذات طرف معدني. وسرعان ما أصبحوا يحبون الجلوس في الشرفة في واجهة الفندق خلال الأمسيات الصيفية المبهجة ليقصُّوا على بيسي قصص هروبهم من الخطر في اللحظة الأخيرة، في حين كان هدير مياه نهر آرا الذي لا ينقطع يُخفِّف من التأثير الدرامي لسردهم. ظل نحوُ ستة شباب يحومون حولها ويتمنَّون الإفضاء إليها بمكنونات نفوسهم، وبينما كانت بيسي تبتسم لهم وتتعامل بلطفٍ معهم جميعًا، سرعان ما اتضح أن أحدهم كان المفضَّلَ لديها، فتراجع الآخرون خائبي الأمل. كانت الأمور تسير على أفضلِ ما يُرام للشابِّ المحظوظ هذا ليوم أو يومين فيبدو في تعامله مع الباقين غرورٌ وتبجُّح، ومن الغريب أنه عندما كان يرحل، لا يناله انتقامُ الآخرين، فكان يلملم أمتعتَه ويرحل فجأةً في كآبة إلى برن أو إنترلاكن، اعتمادًا على ما إذا كان الشرق أو الغرب وِجهتَه النهائية. كان الشباب الآخَرون يحاولون دائمًا ألا يبدوَ عليهم الابتهاجُ بالرحيل المفاجئ لهذا الشاب، في حين كانت تبدأ السيدات الموجودات في الفندق في التلفظ بأمورٍ سيئة عن بيسي، ولا يتورَّعن عن تأكيد أنها لَعوب لا قلب لها. يا لجهلنا بدوافع الآخرين! ويا لسهولة إساءة فهمنا لتصرفاتهم! لم تكن بيسي لعوبًا، بل كانت ذاتَ مبادئَ أخلاقيةٍ راقية وضمير حي وطُموح؛ طموح لم تكثر الحديث عنه لأحدٍ في العالم؛ ولذا فشل العالم في تقديرها، كما يفعل دائمًا مع مَن لا يُودِعونه ثقتهم.
ذاع في الفندق أن بيسي رفضَت ما لا يقلُّ عن سبعة من الشباب الذين كانوا يُقيمون فيه، وبينما أخذ هؤلاء الشبابُ يَحزِمون أمتعتَهم ويغادرون الفندقَ واحدًا تلو الآخر مستقلِّين آخِرَ قطارٍ في الليل أو أولَّ قطار في الصباح، بدأ مالك الفندق يتساءل عن السبب وراء ذلك، خاصة أن كل واحد من النُّزلاء المغادرين كان يُعرِب قبل مغادرته بوقت قصير عن استمتاعه بالفندق ومحيطِه. كان العديد منهم قد أبلغ المالك بتراجعهم عن نيتِهم في مواصلة جولتهم في سويسرا، بالرغم من رضاهم عن تون وكلِّ ما بها. وهكذا بدا أن إعجاب ألكساندر فون هومبولت يوشك على التحوُّل إلى رأيٍ عام يُسعد مالكَ الفندق كثيرًا عندما رحل هؤلاء الشباب عن تون في وجوم ودون سابقِ إنذار، رغم استمرار جمالها بهيًّا لا تشوبه شائبة. وبطبيعة الحال تحيَّر مالك الفندق الطيبُ في الأمر، وأخذ يستقر في وجدانه أن الإنجليز، في نهاية المطاف، يُغيِّرون آراءهم كثيرًا ولا يمكن التنبُّؤ بما قد يُقدِمون عليه.
وكان من بين النزلاء شابٌّ لم تقلَّ حيرته عن حيرة المالك. كان آرتشي سيفرنس من أواخر مَن وقعوا في شِباك بيسي، هذا إن جاز الحديث عن إمكانية وقوعه على الإطلاق. كان شابًّا ذا عزيمة، ليس من عادته التعجُّلُ في أيِّ أمر من الأمور، لكنَّ شخصية بيسي الساحرةَ أسَرَتْه بلا شك، وإن بدا مكتفيًا بالإعجاب بها عن بُعد. ولم يَبْدُ على بيسي بعضَ الشيء الاهتمامُ بأن يُعجَب بها أحدهم عن بُعد، وذات مرة كان يتمشَّى ذَهابًا وإيابًا في الشُّرفة المطلَّة على النهر، فابتسمت له بعذوبةٍ مِن وراء كتابها، فجلس بجوارها. كان جيمي ويلمان قد رحل ذلك الصباحَ، ولم يكن الآخَرون قد علموا بذلك بعد. كان جيمي يستأثرُ باهتمام الآنسة دوراند تمامًا في الأيام القليلة الأخيرة، فلم يترك لغيره فرصةً لمدِّ حبال الوصل، أما الآن بعد أنْ رحل، فقد كانت بيسي جالسةً وحدها في الشرفة، وهو ما لم يكن معتادًا البتَّة.
قالت بيسي بنبرةٍ بالغةِ الرقَّة: «يقولون إنك متسلِّق شهير، وإنك وصلتَ إلى قمة جبل ماترهورن.»
رد آرتشي في تواضُع: «أوه، أنا لستُ شهيرًا؛ بل أبعد ما يكون عن ذلك.» ثم أضاف: «وصلت إلى قمة جبل ماترهورن ثلاث مرات أو أربعًا، لكن النساء والأطفال يتسلَّقونه هذه الأيام؛ لذا فليس ذلك بالإنجاز الفريد.»
قالت وهي تنظر بإعجابٍ إلى بِنْيته القوية: «لا بد أنك تمكَّنتَ من النجاة من بعض الظروف المثيرة.» ثم أضافت: «لقد مرَّ السيد ويلمان بتجرِبة سيئة …»
قاطعها آرتشي: «أمسِ؟» ثم أردف: «فقد سمعتُ أنه غادر هذا الصباح.»
قالت السيدة دوراند في برود: «لا، ليس أمس»، واعتدلَت في جلستها في حين علا وجهَها بعضُ الامتعاض، لكنها نظرَت إلى السيد سيفرنس من طرْفٍ خفي، فوجدَت عليه براءةً ظاهرة جعلَتها تُفسح مجالًا لاحتمال ألا يكون وراءَ تعليقه الأخير غرضٌ مُبْطَن. وهكذا، وبعد توقُّف قصير، واصلت بيسي كلامها قائلة: «كان ذلك منذ أسبوع. كان يتسلَّق جبل ستوكهورن وفجأةً وجد السحاب يُحيط به.»
قال آرتشي: «وماذا فعل جيمي؟ انتظر حتى ابتعد السحابُ عنه، على ما أعتقد.»
ردت بيسي: «اسمع يا سيد سيفرنس، إذا كنت ستَهْزأُ بي، فلن أواصلَ الحديث معك.»
قال آرتشي: «أؤكد لك يا آنسة دوراند أني لا أهزأُ بك. كنت أهزأ بجيمي. لم أعتبر قطُّ ستوكهورن قمةً يصعب الوصول إليها. فارتفاعها نحو ٧١٩٥ قدمًا وبعضَ البوصات حسَبما أظن.»
قالت: «لكن من المؤكَّد يا سيد سيفرنس أنك تعرف جيدًا أن خطورة تسلُّق أيِّ جبل لا ترتبط بالضرورة بمدى ارتفاعه عن سطح البحر.»
قال: «هذا صحيحٌ جدًّا. وأنا واثقٌ أن جيمي نفسَه، والسحابُ يُحيط برأسه، كان قد تجاوز أخطارًا أشدَّ في ارتفاعاتٍ أقلَّ بكثير من ارتفاع قمة ستوكهورن.»
رمقَت بيسي الشابَّ الجالس بجوارها بنظرةٍ متفحِّصة أخرى، لكن مرةً أخرى آرتشي كان يُحدِّق بنظرة حالمةٍ إلى قمة الجبل الذي يتحدَّثان عنه ذاتِ الشكل الغريب الشبيهِ بالجرس. فقمة ستوكهورن تظهر للناظر من شُرفة الفندق في تون شامخةً وحدها ومرتفعةً عن القمم المجاورة بكثير.
عمَّ الصمت بينهما بضع لحظات، وخاطبت بيسي نفسها بأن هذا الشابَّ الشديد الرصانةِ الذي يبدو أنه يُفضِّل التحديق في الجبال على النظر إليها لا يروقها على الإطلاق؛ فسلوكه هذا مغايرٌ للوضع الطبيعي. كان من الواضح أن السيد سيفرنس ينبغي أن يُلقَّن درسًا، وقرَّرت بيسي المفعَمةُ بثقة مبرَّرة في قدراتها كمُعلمة أن تُلقِّنه ذلك الدرسَ الضروري. فربما يكف عن الحديث بهذا الازدراء عن جيمي أو أيٍّ من الآخرين عندما يكتسب بعضَ الخبرة الإضافية. كما أن التقليل من الاعتداد المفرط لأيِّ شاب بذاته للحدود المقبولة يُعدُّ دائمًا خدمةً جليلة للإنسانية. لذا قرَّرت بيسي ألا تُظهر استياءها من حديثه العَفْوي وعدم استئثارها باهتمامِه، وأطلقت العِنان لسحرها، ورسمَت على وجهها الابتسامةَ التي لم يقوَ كثيرون قبل ضحيتها الأخيرة على مقاومتها. لقد كانت ستجعله يتحدث عن نفسه وعن مغامراته. وقد أفلحت هذه الطريقةُ في إخضاع كلِّ مَن سبَقوه.
قالت بيسي في ثقة: «أحب كثيرًا أن أستمع لقصص النجاة في اللحظة الأخيرة.» ثم أردفت: «أعتقد أن الاستماع لقصصِ شجاعة البشر وعزيمتهم في مُواجهة أخطار تسلُّق جبال الألب وانتصارهم عليها أمرٌ ملهم بشدة.»
قال آرتشي: «نعم، إنهم عادةً ما ينتصرون عليها وفقًا لما يصلُنا من روايات، لكننا، كما تعرفين، لا نستمع أبدًا لرواية الجبل نفسِه للقصة.»
استأنفَت بيسي كلامها: «لكن بالتأكيد يا سيد سيفرنس أنك لا تتوقَّع أن يُبالغ متسلقٌ حقيقي في رواية الأحداث عندما يتحدث عما فعله.»
قال آرتشي: «لا، بالطبع لا. أنا لا أقول إنه قد يُبالغ، لكني أعرف حالاتٍ كانت الرواياتُ فيها تُغلَّف بتوهُّج جبَلي من نوعٍ ما لا شك أنه يُجمِّلها كثيرًا. وقد تطرأ على الروايات تغيراتٌ غريبة تجعل مِن صاحبها — واعذريني في اللفظ الجارح — كاذبًا. منذ عدة سنوات جاء صديقٌ لي إلى هنا لتسلُّق بعض الجبال، لكنه وجد في شُرفة الفندق ما جذبه بشدة حتى إنه قرَّر البقاء فيها. من رأيي أن المتسلِّق القابع في الشرفة أكثرُ منا جميعًا عقلانيَّة، وإذا كان خياله خِصبًا، فلن يُضطرَّ إلى التخلف عن رَكْب المتسلِّقين الفعليين وهو يروي قصص مغامراته. هذا الرجل الصَّدوق تعثَّر عثرةً واحدة. لا بد أنكِ تعلمين أنه من العاداتِ القبيحةِ لبعضِ الهُواةِ أن يَسِمُوا أسماءَ قممٍ مختلفة على عِصيِّ التسلق الخاصة بهم، كما لو كان المتسلقون الحقيقيون يستخدمون هذه العِصيَّ فعلًا.»
سألت بيسي في اهتمام بالغ: «عجبًا! ماذا يستخدمون إذن؟»
رد آرتشي: «مَعاول الثلج بالطبع. يوجد في إنترلاكن شخص بارع ربما يمكن أن تُسمِّيه متخصص الوَسْم بالجملة. لديه قوالبُ حديدية بأسماءِ كلِّ القمم في متجره، وإذا أخذتِ عصا التسلق الخاصة بكِ إليه وأعطيتِه بعض الفرنكات فيُمكنه أن يَسِم عليها كلَّ ما يتسع له سطحُها من أسماء القمم، بدءًا من أورتلر إلى مون بلان. كان صديقي ضعيفَ العزم حتى إنه كلَّفه بوسم أسماء كلِّ الجبال التي كان ينوي تسلُّقَها على عصاه التي اشتراها فور وصوله إلى سويسرا. إنهم دائمًا ما يشترون عصا تسلقٍ فور وصولهم. ولم يكن لديه قط وقتٌ كافٍ للعودة إلى الجبال، لكنه بدأ تدريجيًّا يعتقد أنه بالفعل تسلَّق الجبال التي وسَم أسماءها على عصاه بالنار والحديد. إنه رجلٌ صادق، في كل الأمور عدا سويسرا.»
قالت: «لكن لا بد أنك مررتَ ببعض التجارِب البالغة الخطورة في جبال الألب يا سيد سيفرنس. أخبِرني من فضلك عن أصعبِ ما مررتَ به من مخاطر.»
قال: «أنا متأكِّد أنكِ لن تَجِدي ذلك مثيرًا لاهتمامك.»
ردت: «أوه، بل سيُثير اهتمامي. تحدَّث رجاءً، ولا تُجهِدني في محاولة إقناعك. فأنا أتوقُ إلى الاستماع للقصة.»
قال: «إنها ليست قصةً عظيمة؛ لأنها، كما سترَين، لا يُغلفها ذلك التوهجُ الجبلي.»
نظر آرتشي إلى الفتاة، وخطر بذهنه أن تلك اللحظة هي على الأرجح أخطرُ لحظات حياته. لقد مالت نحوه، وأسندت كوعيها إلى ركبتَيها، وذقنها — يا له من ذقن جميل! — إلى راحتيها. وعلقَت عينيها به، فرأى آرتشي بحِكمته الخطرَ الداهم الذي يظهر في عمق هاتين العينين العذبتَين، فحوَّل نظره عنهما، واستنجد منهما بصديقه القديم: جبل ستوكهورن.
وقال: «أعتقد أن أصعب المخاطر التي نجَوتُ منها واجهَني منذ نحوِ أسبوعين. لقد صعدت …»
قاطعَته بيسي بأنفاس منقطعة: «كم دليلًا كان برفقتك؟»
أجابها ضاحكًا: «دون أيِّ أدلة على الإطلاق.»
قالت: «أليس هذا خطيرًا جدًّا؟ ظننت أنه ينبغي أن يكون برفقة المرء دليلٌ دائمًا.»
قال: «الأدلة ضروريون في بعض الأحيان. لكني لم أصطحب دليلًا حينذاك؛ لأني لم أتجاوز في صعودي قلعة تون التي تعلو مكانَ جلوسنا الآن بنحو ثلاثِمائة قدم، ونظرًا إلى أني كنتُ أمضي بمحاذاة الشارع الرئيسي في البلدة، فقد كان تسلُّقي آمنًا تمامًا في كل ظروف الطقس. كما أنه عادة ما يكون في الجوار شرطي.»
قالت الفتاة: «أوه!» وانتصبَت في جِلستها فجأة.
كان آرتشي ينظر إلى الجبال، ولم يرَ الغضب العارم الذي علا وجهَها.
واصل قائلًا: «أتعرفين الدرَج الهابط من القلعة؟ إنه لا يظهر بوضوح، ويعمُّه ظلامٌ شديد عندما يخرج المرء إليه من نور الشمس الساطع. كان أحد الحمقى قد أكل برتقالة هناك، وألقى بقشرتها على الدرج بلا اكتراث. لم أُلاحظ القشرة، وخطوت على جزء منها. ولم أدرِ بنفسي بعدها إلا وأنا متكوِّم أسفلَ الدرج الطويل، وأنا أظن أن كل عظام جسدي قد كُسِرت. أُصِبت بالكثير من الكدمات، لكن لم يلحق بي أذًى بالغٌ، ومع ذلك فقد أصابني رعبٌ لم أعرف له مثيلًا في حياتي، وأتمنى ألا يتكرر ذلك معي.»
هبَّت بيسي واقفة في ترفُّع. وقالت بنبرة جافة: «أنا ممتنَّة لك على رواية القصة يا سيد سيفرنس.» ثم أضافت: «وإذا لم يبدُ عليَّ القدْرُ المتوقَّع من الاهتمام بقصتك، فربما يكون سببُ ذلك أني لم أعتَدْ أن يهزأَ بي أحد.»
قال آرتشي: «أؤكد لك يا آنسة دوراند أني لا أهزأ بكِ، وأن هذه الواقعةَ لم تكن مَثارًا لضحكي على الإطلاق. لا تشمل المخاطر المتربصةُ بالمرء في جبل ستوكهورن عادة قشرةَ البرتقال الملقاة على درَجٍ مظلمٍ شديدِ الانحدار. أرجو ألا تستائي مما قلت. أخبرتُكِ أن قصصي لا يَكْسوها ذلك التوهج الجبلي، لكن الخطر موجودٌ فيها بلا شك.»
كان آرتشي قد هبَّ واقفًا على قدميه، ولكن لم يبدُ في عينَي الآنسة دوراند أيُّ تسامح تجاهه وهي تقول له: «طاب صباحك!» وتدخلُ الفندق، تاركةً إياه واقفًا هناك.
وخلال الأسبوع التالي، لم يحظَ آرتشي بفرصة كافية لمُصالحة الآنسة دوراند، فقد شهد ذلك الأسبوعُ بداية قصة ساندرسون وذروتها ونهايتها. تشجَّع تشارلي ساندرسون برحيل ويلمان المفاجئ، وأصبح رفيقًا لبيسي لا يُفارقها، وبدا كلُّ شيء في صالحه حتى المساء الذي رحل فيه. في ذلك المساء، تمشَّى الاثنان على الممشى المحاذي للضفَّة الشمالية للنهر، والمؤدِّي إلى البحيرة. قالا إنهما في طريقهما لمشاهدة التوهُّج الجبلي على الجبال المكسوَّة بالجليد، لكنَّ أحدًا لم يُصدق ذلك؛ فذلك التوهج تُمكن رؤيته بالوضوح نفسِه تمامًا من الشُّرفة التي في واجهة الفندق. وبصرف النظر عن ذلك، فقد عادا معًا قبل الثامنة بقليل، وبدَت بيسي حينها في أجمل صورة، في حين اكتسى وجهُ ساندرسون بالتقطيب والاكفِهْرار، وبدا في أسوأ حالاته المزاجية. لملمَ أمتعته في حقيبة وغادر إلى برن في قطار الثامنة وأربعين دقيقة. وعندما التقى آرتشي بهما، ابتسمَت له بيسي ابتسامةً خفيفة، في حين حدَّق فيه ساندرسون بغضبٍ كما لو لم يكن قد رأى سيفرنس من قبل.
خاطب آرتشي نفسه قائلًا: «هذه القصة انتهَت على ما يبدو»، وواصل مشيَه نحو بحيرة تون. وأضاف: «أتساءل عما إذا كان الشر المطلقُ هو ما يقودها إلى جذب الشباب للتقدُّم لخِطبتها ثم رفضِهم. أظن تشارلي سيُغادر الآن، ولن نلعب البلياردو معًا من جديد. لا أعرف لماذا يبدو أنهم جميعًا يظنون أن الرحيل هو الشيء المناسب فعلُه. ما كنتُ سأرحل لو كنت مكانَهم. المرأة مثل قمة جبل يصعب الوصول إليها؛ إذا لم تنجح في المرة الأولى فعليك إعادةُ المحاولة. أعتقد أني سأحاول التقدُّم إلى بيسي نحوَ ستِّ مرات. ولن يكون التخلص مني سهلًا عليها مثلما كان الحالُ مع الآخرين.»
وبينما هو غارقٌ في تأمُّلاته تلك، جلس على مقعدٍ تحت الشجر المواجهِ للبحيرة. وتساءل عما إذا كان طلب الزواج قد طُرِح في هذه البقعة. لقد بدَت مكانًا مناسبًا تمامًا لذلك، ولاحظ أن الحصى الذي يفترش الممرَّ كان مبعثرًا بشدة كما لو كان ذلك بفعل الطرَف الحديدي لِعصا رجلٍ مهتاج. ثم تذكَّر أن ساندرسون كان يحمل عصًا ذاتَ طرَفٍ حديدي. ابتسم ونظر حوله، فوجد بجانبه على المقعد دفترَ ملاحظاتٍ صغيرًا مغلفًا بجلد الماعز، له قفلٌ فِضي. لا بد أنه انسلَّ من جيبٍ غيرِ محكَم الغلق لفستان سيدة كانت تجلس في هذا المكان. أمسك آرتشي بالدفتر وقلبه عدة مرات في يديه. من المؤسف أن يُضطرَّ المرء إلى التماس الأعذار لشخصٍ اعتَدْنا الحديث عن مناقبه، لكن لا بد من الإقرار بأنه في تلك المرحلة من حياة سيفرنس فعل شيئًا لم يكن عليه القيامُ به؛ لقد قرأ ما كان في الدفتر، رغم علمِه قبل فتح الصفحة الثانية أن محتواه لم يُكتَب إلا ليقرأه كاتبُه نفسُه. برَّر آرتشي ذلك لنفسه بأنه كان مضطرًّا إلى قراءة الدفتر؛ ليتأكَّد من هُوية صاحبه، وأنه ما فتحه في البداية إلا ليبحث عن اسمٍ مكتوب عليه أو بطاقة مدسوسة بين صفحاته، ومع ذلك لم يكن من شكٍّ أن الشابَّ عرَف من أول صفحة هُويةَ صاحب الدفتر، وكان من الممكن على الأقل أن يسأل الآنسة دوراند عما إذا كان الدفتر يخصها قبل أن يفتحه. على أي حال، لا يُجْدي التكهُّن بما كان من الممكن أن يحدث نفعًا كبيرًا، ونظرًا إلى أن قراءة الدفتر أدَّت مباشرةً إلى الفعلة غيرِ المبرَّرة التي أقدم عليها سيفرنس لاحقًا، كما تؤدي كلُّ زلة دائمًا إلى الانزلاق إلى أُخرَيات، فإننا نوردُ في السطور التالية محتوى الدفترِ الصغير، ليفهمَ قارئُ هذه المأساة الموقفَ بأكمله.
(٢) اعترافات بيسي
«الأول من أغسطس. كتابة اليوميات عادةٌ سخيفة، وأنا واثقة من أني لم أكن لأَشغَلَ نفسي بها إذا كانت ذاكرتي جيِّدة ولو لم أكن بصددِ شيء عظيم. ومع ذلك، لا أنوي لهذا الدفتر أن يكونَ أكثرَ من مجموعةٍ من الملاحظات ستُفيدني عندما أبدأ في كتابة روايتي. ستكون الروايةُ عملَ حياتي، وأنوي استخدامَ كلِّ مواهبي في جعلها فريدةً وواقعية. أعتقد أن رواية «المرأة الجديدة» قد مضى زمانها، وأن الوقت قد حان لقصةٍ من النوع القديم، لكنها في الوقت ذاتِه مكتوبةٌ بواقعية لم يُقدِم عليها قطُّ قدامى الرِّوائيين. يستخدم الرسامُ أو النحات نموذجًا بشريًّا يُصوِّره في شكل لوحة جميلة أو منحوتة رائعة. فلماذا لا يستخدمُ الكُتَّاب أيضًا نماذجَ بشريةً؟ الحب هو الدافع المحرِّك لكل الروايات العظيمة، واللحظة النهائية التي تُتوِّج أيَّ قصة حب هي لحظة طلب الزواج. لم أجد طلبَ الزواج معروضًا بإتقان في أيِّ رواية قرأتُها. يبدو أن الرجال لا يتحدَّث بعضهم إلى بعض عن طلبات الزواج التي يُقدمونها؛ لذا لا يبني الكاتبُ الرجل روايتَه إلا على تجرِبته الشخصية وحدها، فتكون طلبات الزواج التي يكتبها متطابقة، يطلب بطلُه الزواجَ بطريقته هو، سواءٌ أكان قد سبق له تنفيذها أم يُخطط لتنفيذها. أما الكاتبات فيبدو أن خيالهن أكثرُ خصوبة في هذا المضمار، لكنهن يَصِفن طلبَ الزواج على النحو الذي يُردن أن يتلقَّينَه، وليس بشكله الحقيقي. أعتقد أنه من السهل جعلُ الرجل يطلب الزواج. وأعتقد أني موهوبةٌ في ذلك، ولا فائدة من إنكار أني جميلة، وربما كان ذلك مفيدًا. لذا قرَّرت أن أُدوِّن في هذا الدفتر كلَّ طلبات الزواج التي قُدِّمت إليَّ بالكلمات التي يستخدمها مَن يطلب الزواجَ مني بالضبط، ومن ثَم سأكتب طلبات الزواج في روايتي كما حدَثَت في الواقع تمامًا. وسأكتب هنا أيَّ أفكار قد تُساعدني وأنا أكتب كتابي.
الثاني من أغسطس. لن أُدوِّن تاريخ الملاحظات التي أكتبها في هذا الدفتر بعد هذا التاريخ، وبهذا لن يبدوَ كدفترِ يوميات، فأنا أكرهُ دفاتر اليوميات. نحن في تون، وهو مكان جميل. قال هومبولت، أيًّا كان في الحاضر أو الماضي، إن تون تُعَد إحدى أجمل ثلاث بِقاعٍ على الأرض. أتساءل عن اسمَي المكانَين الآخَرين. كانت الخطة أن نقضيَ ليلة واحدة في هذا الفندق، لكني أراه يعجُّ بالشباب، ونظرًا إلى أن كل النساء يَبْدون قبيحاتٍ وثرثاراتٍ بعضَ الشيء، أعتقد أن هذا هو المكان المناسبُ لتنفيذ خُططي. يميل الشابُّ العادي دائمًا إلى الوقوع في الحبِّ في إجازاته؛ فهذا يجعل الوقت يمرُّ سريعًا مفرحًا، وحيث إنني قرأتُ في أحد المصادر أن الرجل بوجهٍ عام يتقدَّم للزواج أربعَ عشرة مرةً خلال حياته، فعليَّ إذن لأغراضٍ متعلقة بعالَمِ الأدب أن أتلقَّى بعض طلبات الزواج هذه. توصَّلتُ إلى فكرةٍ أظنُّها رائعة. سأُرتِّب لتتمَّ طلبات الزواج في إطار مناظرَ طبيعيةٍ خلَّابة، كما يفعل مدير المسرح حسَبما أعتقد. ينبغي أن يطلب أحد الرجال الزواجَ بجانب النهر؛ فعلى كلٍّ من جانبيه مَمْشًى ظَليلٌ رائع، وينبغي أن يطلب آخرُ الزواجَ وسط الجبال، وثالثٌ في البحيرة تحت ضوء القمر على متن أحد قوارب التجديف الجميلة ذاتِ المظلات المخطَّطة، التي تبدو أجنبية، الموجودةِ لديهم هنا. لا أعتقد أن أيَّ روائي فكَّر في ذلك من قبل. هكذا يمكنني أن أكتب وصفًا واضحًا للمنظر الطبيعي بالإضافة إلى الكلمات التي سيستخدمُها الشاب. وإذا لم يُكتَب لكتابي النجاح، فسيكون السببُ في ذلك عدمَ وجود نقَّاد يُجيدون التمييز في إنجلترا.
طلب الزواج الأول. لم يكن هذا الطلب متوقَّعًا. إن اسمه هو صامويل كولدويل، وقد أتى إلى هنا للتعافي. إنه ليس مغرَمًا بي على الإطلاق، لكنه يظن ذلك؛ لذا أعتقد أن النتيجة واحدة. بدأ حديثه بالقول إني الوحيدة التي فهمتُ طموحاتِه الحقيقية، وإنه متأكدٌ أني إذا ارتبطتُ به فلن نسعد معًا فحَسْب، بل سنجلب السعادة للآخرين أيضًا. أخبرتُه بلطفٍ أن أكبر طموحاتي هو أن أكتب رواية ناجحة، فأرعَبه ذلك، فهو يعتقد أن كتابة الروايات عملٌ شرير. كان قد زار جريندلفلد، ويرى أن هواءها أفضلُ لصحةِ صدره. لا أكاد أعتبر ما تقدَّم به طلبَ زواج، وقد فاجأني طلبُه لدرجة أنَّ نصف حديثه كان قد مضى قبل أن أُدرك أنه بالفعل يطلبُني للزواج من صميم قلبه. كما أن الطلب حدثَ في حديقة الفندق، وهو مكانٌ لم يكن متوقعًا، حيث كنا عُرضةً للمقاطعة طوال الوقت.
طلب الزواج الثاني. ريتشارد كينج رجلٌ بالغُ اللطف، وكان بالِغَ الجدِّية أيضًا. يقول إن حياته محطمة، لكنه سيُغيِّر رأيه قريبًا في إنترلاكن التي ذهب إليها وتكتب إليَّ مارجريت دان عنها أنها مكانٌ بهيج للغاية. في المساء الماضي تمشَّينا بالقرب من البحيرة، واقترح أن نخوضَ مياهها. استأجر قاربًا تجدف به امرأتان تجلس إحداهما في مؤخرته وتقف الأخرى في مقدمته، يحركان مجاديفَ ضخمةً تبدو مثل مضارب الكريكيت. لم تفهم المرأتان اللغةَ الإنجليزية، وأخذنا نقطع سطح الماء حتى ظهر القمر فوق الجبال المكسوَّة بالجليد. مال ريتشارد وحاول أن يُمسك يدي وهو يهمس باسمي «بيسي» بصوتٍ خفيض. أعترفُ أني توتَّرت، ولم يُسعفني تفكيري لردٍّ أفضلَ من «سيدي!» التي قلتُها بنبرة مفاجأةٍ واندهاش. وواصل الحديث متعجلًا:
«بيسي، أحدُنا يعرف الآخرَ منذ أيامٍ قليلة فقط، لكني في هذه الأيام القليلة كنتُ كمن يتقلَّب في النعيم.»
أجبتُه وأنا أُلملم شَتاتَ نفسي: «نعم، يقول هومبولت إن تون واحدةٌ من أفضل ثلاث …»
فقاطعني ريتشارد بأن قال ما معناه «اللعنة على تون!» ثم واصل كلامه قائلًا إني بالنسبة إليه بمنزلة العالم بأكمله، وإنه لا يستطيع العيشَ من دوني. فهزَزتُ رأسي ببطء، ولم أردَّ. تحدَّث بطلاقةٍ تَشي بخبرةٍ سابقة في مثل هذه المواقف، لكني رددتُ عليه بأن ما يطلبه مُحال. ضمَّ ذراعيه على صدره وجلس متعكِّرَ المزاج في مؤخرة القارب وقال إنني دمَّرتُ حياته. بدا وسيمًا وهو جالسٌ في مكانه في ضوء القمر وعلى جبينه تقطيبٌ شديد، لكن لم يسَعْني إلا الاعتقادُ أنه تعمَّد الجلوس في ذلك المكان ليسقطَ ضوء القمر على وجهه. ليتني أستطيع كتابة كلماته بالتحديد، فقد كانت طلاقةُ لسانه لافتة، مع ذلك أنا لا أستطيع ذلك لسببٍ ما، ولا حتى في هذا الدفتر. ومع ذلك فأنا واثقةٌ أني عندما أشرع في كتابة روايتي وأفتح هذه الملاحظات سأتذكَّر الكلمات. مع ذلك، كانت نيتي أن أكتب العبارات كما قيلت بالضبط. ليتني أستطيع تدوينَ الملاحظات في لحظة الحديث، لكن يبدو أن الرجل يريد الاستئثارَ بكامل اهتمامك عندما يُقدِّم طلب الزواج.
جاء إلى الفندق اليوم شابٌّ تبدو على هيئته القوةُ والرَّزانة، وقد صبَغ تسلُّقُ الجبال بشَرتَه باللون البرونزي. يبدو أنه سيطلب الزواج بطريقةٍ تختلف كثيرًا عن الجميع. عرَفتُ أن اسمه آرتشيبولد سيفرنس، ويُقال إنه متسلِّقُ جبالٍ عظيمٌ. لو تقدَّم هذا الشاب بطلب الزواج في جبال الألب العالية لكان ذلك شيئًا رائعًا، حيث الجليدُ المتألق يملأ المشهد. أعتقد أني سأستخدم هذه الفكرة في الكتاب.
طلب الزواج الثالث والرابع والخامس والسادس. لا بد أن أعترف باندهاشي من الرجال وإحباطي بسببِهم في الوقت ذاتِه. هل نَفِد الإبداعُ من جَعْبة البشر؟ مَن يرَ ما فعلَه هؤلاء يظنَّهم جميعًا تعلموا طلبَ الزواج على يد المعلمِ نفسِه؛ فكلُّهم يتَّبعون الطريقةَ نفسَها. لقد بدأ هؤلاء الأربعةُ بمناداتي باسمي «بيسي» بنبرةِ مَن يُقدِم على خطوة كبيرة ومهمة في الحياة. خالفهم السيد ويلمان قليلًا بأنْ طلب مني مناداتَه باسم «جيمي»، لكن كل شيء آخر فعَله كان مُماثلًا. أعتقد أن هذا التطابق يُعزى إلى نظام التعليم الحديث. لكني واثقةٌ من أن آرتشي سيتصرف على نحوٍ مختلف. لستُ متأكدة من إعجابي به، لكنه يثير اهتمامي أكثرَ من أيٍّ من الآخرين. كنتُ غاضبة منه بشدة منذ أسبوع. وهو يعي ذلك، لكنه لم يأبَهْ لذلك على ما يبدو. وفورَ تقدُّمِ تشارلي ساندرسون بطلب الزواج، سأنظر ماذا يمكن أن أفعل مع السيد آرتشي سيفرنس.
أُحب اسم آرتشي. يبدو مناسبًا لذلك الشابِّ تمامًا. كنت أتساءل عن نوع المنظر الطبيعي الذي يُناسب طلبَ الزواج الذي سيُقدمه السيد سيفرنس. أعتقد أن أحد الأنهار الجليدية سيكونُ مناسبًا تمامًا؛ لأني أتصور أن آرتشي يكون باردًا وممتعضًا عندما يكون في حالةٍ مِزاجية سيِّئة. أظن البحيرة ستكون هادئةً أكثرَ من اللازم بالنسبة إلى طلب الزواج المقدَّم منه، ولا يمكن سماعُ ما يقوله الرجل على مقربةٍ من الشلال. أعتقد أن وادي كوهليرين سيكون هو المكانَ المناسب؛ فهو مكان جامح ورومانسي للغاية، حيث ينهمر من حوله مائةُ شلال. عليَّ أن أسأل آرتشي ما إذا كان قد سبق له رؤيةُ شلالات كوهليرين. أظنه سيكرهها لأنها ليست بين القمم العالية المكسوَّةِ بالجليد.»
(٣) عرض الزواج الخاص ببيسي
بعد أن قرأ آرتشي دفترَ الملاحظات الذي لم يكن من حقِّه قراءتُه، أغلقه وأحكم قفله ووضَعه في جيبه الداخلي. وبدَت في عينيه نظرةُ تأمُّل وهو يحدِّق في البحيرة الزرقاء.
وخاطبَ نفسه قائلًا: «لا يمكنني إعادته إليها الآن.» ثم أضاف: «ربما ما كان ينبغي لي أن أقرأه. إنها ليست لَعوبًا إذن، لكنها تستخدمُنا نحن المساكينَ كنماذجَ بشرية.» ثم تنهَّد. وواصل حديثه مع نفسه: «أعتقد أن هذا أفضلُ مِن أن تكون لعوبًا، لكني لستُ متأكدًا تمامًا من ذلك. أعتقد أن المؤلِّف معذور إذا أقدم على أيِّ شيء ليضمن نجاحَ شيء مهم ككتابٍ سيكتبه. ربما يمكنني مساعدتُها في تأليف هذا العمل الأدبي الهام. سأُفكر في الأمر. لكن ماذا يمكنني أن أفعل بدفتر اليوميات الصغير هذا؟ ينبغي أن أُفكر في ذلك أيضًا. لا يُمكنني أن أُعطِيَها إياه وأدَّعيَ أني لم أقرأه؛ فأنا لا أُجيد الكذب. يا إلهي! أعتقد أن بيسي قادمة وحدها على امتداد ضفةِ النهر. أغلب ظني أنها اكتشفَت أن الدفتر ليس معها وتعرفُ على وجه الدقة أين فقَدَته. سأضعه حيث وجدتُه وأختبئ.»
ساعد صفُّ الأشجار الذي يمتد بطول الممشى آرتشي في تنفيذ خُطته التي وضعها متعجلًا بنجاح. شعر بأنه لصٌّ متسلل، ولم يكن ذلك الشعور من فراغ، وهو يتسلل وراء الأشجار حتى وصل إلى الطريق الرئيسي. رأى بيسي تنطلق مباشرة إلى المقعد، وتأخذ الدفتر، ثم تعود في اتجاه الفندق دون أن تُجيل نظرَها في الجوار ولو لحظة، فأقنعَت تصرفاتُها المحددة سلفًا آرتشي بأن الشكَّ في أن أحدهم رأى دفترها لم يتسرَّبْ إليها. وأكسب ذلك الشابَّ بعضًا من راحة البال، وانطلق في طريق إنترلاكن نحو تون وهو يُطمئن نفسه بمرور الأمور على ما يُرام. ومع ذلك، فقد كان عقَدَ العزم على الانتقام لضحايا الآنسة بيسي الأبرياء، وظل وهو يمشي يُقلِّب في عقله الخُطةَ تِلوَ الأخرى. سيكون جهل الفتاة بتسرُّب نبأ أساليبها في كتابة الأدب إلى غيرها خيرَ تتمَّةٍ للانتقام.
طوال الأسبوع التالي ركَّز آرتشي انتباهَه بشدةٍ على بيسي، وجديرٌ بالذكر أن اهتمامه بتلك الشابة الجميلة نال تقديرَها وإعجابها فيما بدا. وذاتَ صباح، كانت بيسي تقف في الشرفة مرتديةً ملابسَ مشيٍ جميلةً، وبدا أنها كانت تُراقب السماء لتتوقَّع الطقس، لكنها كانت في الحقيقة تبحث عن مُرافق، هكذا قالت السيدات الثرثارات وهنَّ جالسات تحت المظلات ومنهمكاتٌ في أعمال الإبرة والحديث عن الناس، لكن هذا لم يخطر ببال الشابَّة بالطبع. ابتسمَت في رقَّة عندما رأت آرتشي يخرج من غرفة البلياردو، لكن تلك هي عادتها دائمًا في تحية أصدقائها.
سألها آرتشي بلهجةٍ بريئة لشخصٍ لا يعلم ويريد بالفعل الحصولَ على المعلومة: «هل ستخرجين للتمشي هذا الصباح؟»
تحدثَ لتسمعه السيدات الثرثارات، لكن ما كانت هذه الحيلة لتنطلِيَ عليهن. لقد نظرنَ إليهما شزرًا، وقلن إن من الوقاحة أن يتظاهرَ الاثنان أنهما لم يضربا موعدًا للقائهما هذا.
ردَّت بيسي بنبرةِ تحدٍّ وتبجُّح كمن لا يأبهُ لمن يعرف بالأمر: «نعم، سأسلك الطريق العلوي إلى شلالات كوهليرين. هل سبقَ لك رؤيتُها؟»
أجابها: «كلا. أهي جميلة؟»
قالت: «جميلة! إنها رائعة، على الأقل الوادي رائع، على الرغم من أنك قد لا تعتبرُ الواديَ أو الشلالات تستحق الزيارة.»
قال: «كيف لي أن أعرف وأنا لم أزُرْها؟ هل يُمكنكِ أن تكوني دليلًا لي هناك؟»
قالت: «سيُسعدني جدًّا أن تأتيَ معي لزيارتها، لكن عليك أن تتعهَّد بالحديث عن الوادي والشلالات باحترام.»
«لستُ الرجلَ الذي تحدَّث عن خط الاستواء بقلةِ احترام، كما تعرفين»، هكذا قال آرتشي وقد بدآ المشيَ معًا وسط ازدراءِ السيدات الثرثارات اللاتي قلن إنهنَّ لم يرَيْن قطُّ تصرفًا بمثل هذه الوقاحة في حياتهن. ونظرًا إلى أن حياتهن كانت قد طالت بعضَ الشيء بالفعل، فيُمكنهنَّ تكوينُ فكرة عن بشاعة سلوك بيسي.
مشَيَا أكثرَ من ساعة بامتداد الطريق العلوي المطلِّ على بلدة تون ومن ورائها البحيرة حتى وصَلا إلى امتدادٍ من الأرض يؤدي إلى وادي كوهليرين. وسلكا طريقًا متعرجًا شديدَ الانحدار حتى وصلا إلى أول شلال من مجموعة من الشلالات، كان ماؤه يندفع هادرًا نحو الوادي المحاطِ بغابة كثيفة. مالت بيسي على الدرابزين المتداعي ونظرَت إلى عمق الوادي في حين كان سيفرنس يقفُ بجوارها.
بدَأها الشابُّ بالحديث، ولم يكن الشلال موضوعَ حديثه.
قال: «آنسة دوراند، أنا أحبك. وأطلب منك الزواجَ بي.»
ردت بيسي دون أن ترفع عينَيها عن زَبَد ماء الشلال: «أوه، سيد سيفرنس، أتمنى ألا يكون شيءٌ فعلتُه قد جعلَك …»
قال آرتشي بصوتٍ مخيف طغى على صوت الشلال الهادر: «هل أفهم من هذا أنكِ ترفضينني؟»
رفعَت بيسي نظرها إليه سريعًا، ورأت على جبينه تقطيبًا شديدًا، فابتعدَت عنه قليلًا.
وقالت: «أنا بالتأكيد سأرفضك. لم يمرَّ إلا أسبوعٌ تقريبًا منذ تعرُّفي عليك!»
ردَّ عليها: «ليس هذا مهمًّا. صدِّقيني يا فتاتي، أنا أحبك. ألا تفهمين قولي؟»
قالت: «أفهم قولك جيدًا، لكني لا أحبك. أليست هذه الإجابةُ كافية؟»
قال: «لو كنتِ صادقةً فيها لكانت كافية. لكنها ليست إجابةً صادقة. أنتِ تُحبينني فعلًا. لاحظتُ ذلك منذ عدة أيام، رغم أنك تُحاولين إخفاءَ حبِّك لي، فالأمر واضح للجميع، وخاصة للرجل الذي يُحبك. لماذا تنكرين ما يبدو واضحًا لكل الناظرين؟ ألم أرَ الابتهاجَ على وجهك عندما اقتربتُ منك؟ ألم أرَ على شفتَيك ابتسامةَ الترحيب التي لا يمكن أن يكون لها إلا معنًى واحد؟»
صاحت بيسي في قلق حقيقي: «سيد سيفرنس، هل مسَّك الجنونُ فجأة؟ كيف تجرؤ على الحديث معي هكذا؟»
أمسك بمعصمها ورد عليها: «يا فتاتي، أيُعقَل أن أكون مخطئًا في ظني أنك مهتمَّة بي، وأن يكون الاستنتاج الآخر الوحيد الذي يُمكن التوصلُ إليه من تصرفاتك هو الاستنتاجَ الصحيح؟»
سألته بيسي بصوتٍ مرتجف: «أي استنتاج آخر؟» وحاولَت تخليص معصمها من قبضته الحديدية لكنها لم تستطِع.
أجابها بغضب: «أنَّك كنتِ تتلاعبين بي، وأنك ظللت تستدرجينني بلا معنًى، وأنك كنتِ تتظاهرين بالاهتمام بي في حين لم يكن غرَضُكِ إلا إضافةَ اسمي إلى قائمة طلبات الزواج التي تتلقَّينها. هذا هو الاستنتاج البديل. والآن أخبريني بالحقيقة، هل تُحبِّينني أم إنك تخدعينني؟»
قالت: «أخبرتُك أني لستُ مغرمةً بك، لكني ظننتك رجلًا مهذبًا. والآن عرَفتُ أنك همجي، إني أكرهك. اترك معصمي، أنت توجعني.»
قال: «حسنًا، حسنًا. الآن ظهرت الحقيقة أخيرًا، وسأُبين لك خطورة التلاعب بقلوب البشر.»
أفلت سيفرنس معصمها وأمسك بخصرها. فصرخت بيسي وأخذت تستغيث، في حين أطلق الرجلُ الذي أمسك بها بسيطرة لا فَكاكَ منها ضحكةً هازئة. واستخدم يده الحرة ليُلقي بفرع الصَّنَوبر الضعيفِ الذي يتكوَّن منه الدرابزين المؤطَّر لحافة الجرف. فسقط الفرعُ في التيار واختفى أسفل الشلال.
صرخَت الفتاة واتسعَت عيناها من الرعب: «ماذا ستفعل؟»
قال: «سأقفز معك إلى هذه الهاوية، عندئذٍ سنجتمع معًا إلى الأبد.»
قالت بيسي وهي تنتحب: «أوه آرتشي، آرتشي! أنا أحبك.» وطوَّقَت بذراعَيها عنق الرجل المشدوه، فصدمه بشدة التطورُ المفاجئ للأمور لدرجة أنه وهو يتراجع كاد يُنفِّذ المأساة التي هدَّد بها منذ لحظة.
وقال بتلعثم: «إذن لماذا … لماذا أنكرتِ؟»
أجابته: «أوه، لا أعرف. أعتقد أن السبب أني عنيدة، أو لأن الأمرَ كان واضحًا جدًّا كما قلتَ أنت. ومع ذلك، أنا لا أعتقد أني كنتُ سأقبلُك أبدًا لو لم تُجبِرْني على ذلك. لقد سئمتُ بشدة من طلبات الزواج التقليدية.»
قال آرتشي، وهو يمسح جبينه: «نعم، أعتقد أن الأمر قد أصبح مُملًّا.» وواصل: «أرى مقعدًا في الأسفل، لنجلس هناك ونُناقش الأمر.»
أعطاها يده ونزلت إلى المقعد بخطواتٍ سريعة وخفيفة، وجلسا معًا.
قال آرتشي أخيرًا: «أنت لا تعتقدين حقًّا أني همجيٌّ كما كنتُ أتظاهر، أليس كذلك؟»
التفتت إليه بطَرْف عينها وعلى وجهها ابتسامةُ انتصار وسألته ببساطة: «ألستَ كذلك فعلًا؟»
قال: «أنتِ بالتأكيد لا تظنِّين أني كنت سأُلقي بك من أعلى الجرف، أليس كذلك؟»
قالت: «أوه، سمعتُ وقرأت عن هذه الفعلة كثيرًا. هل كنتَ تتظاهر فقط؟»
أجابها: «نعم. كان ذلك نوعًا من الانتقام فحسب. رأيت أنه ينبغي أن تُعاقَبي على استغلالك لهؤلاء الرجال الآخرين. وكان ساندرسون لاعبَ بلياردو بارع جدًّا. لقد تغلبتُ عليه بصعوبة.»
سألت بيسي بصوت مضطرب: «قلت … قلت إنك تهتمُّ بي. هل كان ذلك ادِّعاءً أيضًا؟»
قال: «كلا. كان ذلك حقيقيًّا يا بيسي، وهذا ما أفسدَ خُطة انتقامي. اسمعي يا عزيزتي، لم يخطر ببالي قط أنك ستنظرين إليَّ؛ فبعض هؤلاء الرجال أفضلُ مني بكثير، ولم يخطر ببالي أن لديَّ فرصةً سانحة. أتمنى أن تُسامحيني، وألا تُصرِّي على الانتقام الحقيقي مني بسحبِ ما قُلتِه.»
قالت: «سأنتقم منك انتقامًا كافيًا يا آرتشي، أيها الشاب المسكين المتوهِّم، طوال حياتك. لكن لا تقل شيئًا آخر عمن تدعوهم بالرجال الآخَرين. لم يكن هناك أحدٌ غيرك قط. ربما أريك يومًا ما دفترًا صغيرًا يشرح كل شيء، على الرغم من أني أخشى أن تُكوِّن رأيًا أسوأ عني إذا رأيتَه. أعتقد أنه من واجبي أن أُرِيَك إياه قبل أن يفوت أوانُ التراجع. هل يمكنني ذلك؟»
قال آرتشي بإصرار: «أرفض رؤيته بشدة، الآن أو في أيِّ وقت آخر.» وجذبَها نحوه وقبَّلَها.
أطلقت بيسي تنهيدةَ ارتياح، وتساءلت عن السبب الذي يجعل فضول الرجال أقلَّ بكثيرٍ من النساء. كانت واثقةً من أنه لو كان قد لَمَّح بأي سرٍّ مماثل ما كان بالها ليهدأَ أبدًا قبل أن تعرفه.