انفجار الديناميت
جلس دوبريه إلى إحدى الطاولات المستديرة في مقهى فيرنون، وأمامه كأسٌ من مشروب الأفسنتين الذي كان يرتشف منه بين الفَينة والأخرى. ونظر إلى الجادَّة من الباب المفتوح فرأى شرطيًّا يرتدي زيَّه الرسمي ويمشي ذَهابًا وإيابًا بانتظامٍ كالبندول. انطلقت منه ضحكةٌ خفيفة لمرْأى ذلك المظهر من مظاهر القانون والنظام. كان هذا المقهى مشمولًا بحماية الحكومة. وكان دوبريه ينتمي إلى فئةٍ من الأشخاص أقسمَت على إخفاء هذا المقهى من الوجود؛ لذا كان الشرطي الذي يُشبه الضباط العسكريِّين يذهب ويَئوب على الرصيف لمنعِ حدوث هذا، بحيث يرى كلُّ المواطنين الشرفاء أن الحكومة تحمي رعاياها. من وقتٍ لآخرَ كان بعضُ الأشخاص يُعتقَلون لإطالة تسكُّعِهم حول المقهى؛ كان هؤلاء أبرياءَ بالطبع، وكانت الحكومة لا تلبثُ أن تُدرك ذلك فتُطلِق سراحهم. من النادر أن يتصرف أيُّ مجرم حقيقي على نحوٍ يَلفت النظر. وكان معظمُ المعتقلين ممن جذبَهم الفضول إلى المكان. وكان يقول أحدُهم للآخر: «هناك أُلقي القبضُ على هيرتسوج الشهير.»
المجرم الحقيقي يدلف إلى المقهى في هدوء، ويطلب مشروبَ الأفسنتين، كما فعل دوبريه. ويظل الشرطي يمشي ذهابًا وإيابًا يُراقب الأبرياء. وهكذا يكون الحال.
كان في المقهى القليلُ من الزبائن؛ إذ كان الناس يخشَون انتقام أصدقاء هيرتسوج. وتوقَّعوا أن يُفجَّر المقهى في أحد الأيام العادية، ففضَّلوا أن يحتَسُوا القهوة أو الكونياك الخاص بهم في مكانٍ آخر عندما يأتي اليوم المنتظَر. وكان من الواضح أن إم سون، مالك المقهى، قد جلَب على نفسه وعملِه المتاعبَ عندما أدلى للشرطة بمعلوماتٍ حول مكان هيرتسوج، رغم أن المقهى أصبح أشهرَ مقاهي المدينة فجأةً، وأنه بات الآن يتمتع بحماية الحكومة.
قلَّما نظَر دوبريه إلى مالك المقهى الجالسِ إلى مكتبه، وهكذا الحال بالنسبة إلى النادل الذي ساعدَ في إخضاع هيرتسوج منذ أسبوع. وبدا أكثرَ اهتمامًا بمراقبة الشرطي الذي ظل يَذْرع المكانَ أمام الباب، ومع ذلك فقد ألقى نظرةً خاطفة ذاتَ مرة على الشرطي الآخر الذي كان يجلس في مؤخَّرة المقهى حيث لا يكاد أحدٌ يراه، يُدقِّق في كلِّ مَن يدخلون، خاصة إذا كانوا يحملون طرودًا من أيِّ نوع. كان المقهى محميًّا جيدًا، وبدا السيد إم سون الجالسُ إلى مكتبه راضيًا عن الحماية التي يحظى بها.
عندما كان الزبائن يَفِدون إلى المقهى كان من النادرِ أن يجلسوا إلى الطاولات المعدِنية المستديرة، بل كانوا يقصدون البار المغطَّى بالزِّنك مباشرةً، ويطلبون مشروباتِهم ويشربونها وهم واقفون، ويبدون متعجِّلين للانصراف. وكانوا يُحيُّون السيد إم سون بالإيماء برءوسهم، وكانوا على ما يبدو من قُدامى المترددين على المقهى الذين يخشَون أن يظنَّهم قد تخلَّوا عنه في مِحنته، ومع ذلك، كان الجميع مرتبطين بمهامَّ تُرغِمهم على سرعة المغادرة. ابتسم دوبريه ابتسامةً فاترة وهو يُراقب ذلك كلَّه. كان هو الرجلَ الوحيد الجالس إلى طاولة. ولم يخشَ الانفجار. لقد كان يعلم أن رِفاقه معتادون على كثرةِ الكلام وقلةِ الفعل. إنه لم يحضر الاجتماعَ الأخير، فقد كانت لديه أسبابٌ قوية للشكِّ في أن الشرطة دسَّت عملاءَ لها بين ظَهْرانَيهم، كما أن صديقه وقائده هيرتسوج لم يحضر اجتماعاتٍ قط هو الآخر. لذا صَعُب على الشرطة الإيقاعُ به. كان هيرتسوج رجلَ أفعالٍ لا أقوال. قال لدوبريه ذات مرة إن رجلًا واحدًا ثابتَ العزم كَتومًا يُمكنه أن يفعل بالمجتمع أكثرَ مما يمكن لكلِّ الجمعيات السرية التي سبَق أن تكوَّنَت، وكانت مسيرته الحافلة دليلًا حيًّا على صحة هذا القول. لكنه الآن في السجن، ولم ينتهِ به المطافُ فيه إلا بغدرِ إم سون. دارت بذهن دوبريه هذه الأفكار، فرمَق مالِكَ المقهى وصرَّ أسنانَه.
قام الشرطي الجالس في مؤخرة منطقة الاستقبال — ربما لشعوره بالوحدة — واتجهَ إلى الباب، وأومأ إلى رفيقه الذي يَمشي ذَهابًا وإيابًا بلا انقطاع. توقفَ الآخَرُ للحظةٍ وتحدثا. وبينما كان الشرطيُّ يعود إلى مكانه، خاطبه دوبريه قائلًا:
«تعالَ لتشرب معي.»
أجابه الشرطي وهو يغمز بعينه: «ليس أثناء العمل.»
قال دوبريه في هدوء: «أيها النادل، أحضِر لي إناءً من البراندي. من نوع «فين شامبين».»
وضع النادل الإناءَ الصغير الموسوم على الطاولة وكأسَين. ملأَهما دوبريه. ونظر الشرطي حوله سريعًا ثم ابتلع محتوى أحدهما سريعًا وتمطَّق. في حين أخذ دوبريه يحسو من الكأس الأخرى على مهل وسأل الشرطي:
«هل تتوقعون حدوثَ أيِّ متاعب هنا؟»
أجاب الشرطي بنبرةٍ واثقة: «لا نتوقع شيئًا.» ثم أردف: «كلُّ ما في الأمر أنَّ هناك كلامًا يدور.»
قال دوبريه: «هذا ما ظننت.»
قال الشرطي وهو يبتسم ابتسامةً خفيفة: «لقد عقَدوا اجتماعًا منذ عدة أيام؛ اجتماعًا سريًّا.» ثم أضاف: «تحدَّثوا كثيرًا. وسيفعلون أشياءَ رائعة. وقد كُلِّف رجلٌ منهم بتنفيذ مهمة معينة.»
سأل دوبريه: «وهل قبضتم عليه؟»
رد الشرطي: «أوه، كلا. إننا نُراقبه فقط. إنه أكثرُ رجال هذه المدينة رعبًا الليلة. نتوقع أن يأتيَ إلينا ويُخبِرَنا بكل شيء عن المهمة، لكننا نأمُل ألا يفعلَ ذلك. فنحن نعلم عن المهمة أكثرَ مما يعلم.»
قال دوبريه: «أظن ذلك؛ لكن لا بد أن هذا كلَّه أضرَّ بعمل إم سون كثيرًا.»
رد الشرطي: «لقد قضى عليه تمامًا في الوقت الراهن. الناس جُبناء. لكن الحكومة ستُعوِّضه من صندوقٍ مالي سرِّي. ولن يخسَر شيئًا.»
سأل دوبريه: «هل يمتلك المبنى بأكمَلِه أم المقهى فقط؟»
رد الشرطي: «المبنى بأكمله. إنه يؤجِّر الغرف العلوية، لكن كل المستأجرين تقريبًا ترَكوا المكان. ومع ذلك أعتبر هذا المكان الأكثر أمنًا في المدينة كلِّها. كلُّهم جُبناء، أعني مفجِّري الديناميت هؤلاء، ولا شك أنهم سيضربون ضربتَهم في مكانٍ ليس عليه حراسة شديدة. إننا نعرفهم جيدًا جميعًا، وفورَ أن يأتيَ أحدُهم للتسكُّع حول المكان ومعاينته خلسةً سيُقبَض عليه. إنهم أكثرُ جُبنًا من أن يُخاطروا بحريتهم بالاقترابِ من هذا المكان. الأمر يختلف عن محاولة أحدهم ترْكَ عُلبةٍ من صفيح متصلةٍ بفتيل إشعال في ركنٍ مظلم دون أن يراه أحد. إن أيَّ أحمقَ يمكنه فعل ذلك.»
قال دوبريه: «أتعتقد إذن أن الوقت مناسبٌ لاستئجار غرفة هنا؟ إنني أبحث عن غرفة في الحي لاستئجارها.»
رد الشرطي: «أفضل ما يُمكنك فعلُه أن تُرتِّب ذلك مع إم سون. يمكنك إبرامُ صفقة جيدة معه الآن، وستكون في أمانٍ تام.»
قال دوبريه: «يُسعدني أنك قلتَ ذلك؛ سأتحدَّث إلى إم سون الليلة وأعايِنُ الغرف غدًا. ما رأيك في كأسٍ أخرى من البراندي؟»
رد الشرطي: «لا، شكرًا لك، عليَّ العودةُ إلى مكاني. فقط أخبر إم سون بحديثنا هذا إن استأجرت غرفةً عنده.»
قال دوبريه: «سأفعل. طابت ليلتك.»
دفع دوبريه فاتورتَه، وأعطى النادل إكراميَّة كبيرة. كان المالك سعيدًا بأن يسمع برغبةِ أحدهم في استئجار إحدى غرفه. فقد كانت هذه بادرةً لبدء انتعاشِ سوقه من جديد، وتحدَّد بينهما موعدٌ في اليوم التالي.
جاء دوبريه في الموعد المحدَّد، وأخذه القائمُ على المكان في جولةٍ بالمبنى. كانت الغرف الخلفية مظلمةً للغاية، والنوافذ على بُعد أقدامٍ قليلة من الحائط المقابل. وكانت الغرف السُّفلية الأمامية مليئةً بالضجيج. قال دوبريه إنه يحبُّ الهدوء لأنه طالب. ولاقَت غرفةٌ أمامية في الطابق الثالث إعجابَه، فاستأجرها. كان يعلم أهمية الحفاظ على وُدِّ القائم على المكان الذي سيتجسَّس عليه في كل الأحوال، فدفع له مبلغًا أكثرَ مما ينبغي بقليل حتى لا يُثير الريبة. فالإفراط ليس أقلَّ سوءًا من التقتير، وكان دوبريه يعرف ذلك جيدًا.
حرَص على أن تكون لنافذته إطلالةٌ مباشرة على الباب الأمامي للمقهى، ولكنه بعد أن أصبح وحده الآن وأغلَق عليه بابه، تفقَّد الموقع بدقةٍ أكبر. كانت فوق الباب الأمامي للمقهى مظلةٌ تحجب رؤيته للرصيف والشرطي الذي لا يَفْتُر عن المشي ذَهابًا وإيابًا عليه. عقَّد ذلك الأمرَ. لكنه تذكَّر أنها تُرفَع عند غروب الشمس. كانت فكرته الأولى عند استئجار الغرفة أن يُسقِط الديناميت من نافذة الطابق الثالث إلى الرصيف، لكنه كلما فكَّر في هذه الخطة قلَّ اقتناعُه بها. كانت كالأشياء التي يمكن لأيِّ أحمقَ فعلُها كما قال الشرطي. كان الأمر يتطلب بعضَ التفكير. كما أن أسوأ ما قد ينتج عن إسقاط الديناميت على الرصيف أن ينفجر أمام المقهى وربما يقتل الشرطيَّ المتجول أو أحد المارة الأبرياء، لكنه لن يقتل العجوز سون ولا النادلَ الذي تطوَّع بالمساعدة في القبض على هيرتسوج.
كان دوبريه رجلًا منظَّمًا. كان صادقًا إلى حدٍّ كبير في قوله إنه طالب. وهو الآن قد عكَف على دراسة الحالة كما لو كانت مسألةً رياضية.
أولًا: لا بد من تفجير الديناميت داخل المقهى. ثانيًا: ينبغي تنفيذُ المهمة ببراعةٍ تمنعُ إثارة الشكوك حول الفاعل الحقيقي. ثالثًا: لن يكون الانتقامُ انتقامًا بحقٍّ إذا تسبَّب في مقتل الرجل الذي أشعل فتيلَ الانفجار أو خلَّف دليلًا يؤدي إلى القبض عليه.
جلس دوبريه إلى طاولته، ووضع يدَيه في جيبيه، ومد ساقيه، وقطَّب حاجِبَيه، واستعدَّ للتفكير في حلٍّ للمعضلة. من السهل أن يحمل إلى المقهى حقيبةَ يدٍ مليئةً بالمواد المتفجرة. كان معروفًا في المكان، لكن ليس بوصفه صديقًا لهيرتسوج. لقد كان زَبونًا ومستأجِرًا، ولهاتين الصفتين كان مأمونَ الجانب. لكنه لا يستطيع ترك الحقيبة هناك، وإذا ظل معها فسيرتدُّ انتقامُه عليه. يمكنه أن يُسلِّم الحقيبة للنادل ويُخبِرَه أنه سيأخذها في وقتٍ لاحق، لكن النادل سيتساءل حينئذٍ حول سبب عدم تركِه الحقيبةَ للقائم على المبنى ليُرسلها إلى غرفته، هذا إلى جانب أن النادل كان شديدَ الارتياب. لقد كان يُدرك وضعَه المؤسِف. ولم يكن يجرُؤ على ترك مقهى فيرنون الآن بعد أن أصبح رجلًا مستهدَفًا. فهو في مقهى فيرنون يتمتَّع بحماية الشرطة، أما إذا غادره إلى أيِّ مكان آخَر فلن يتمتَّع بأيِّ حماية تفوق حمايةَ أيِّ مواطن عادي؛ لذا ظل في مقهى فيرنون باعتباره أهونَ الشرَّين. لكنه كان يُراقب كلَّ مَن يدخله بتمحيصٍ فاق فيه الشرطيَّ نفسه.
أدرك دوبريه أيضًا وجود صعوبة أخرى في خطة حقيبة اليد. إن الديناميت يجب إشعالُه بفتيلٍ أو بآلية كآلية الساعة. والفتيل يُصدِر دُخانًا، ولن يلبثَ مَن يلمس بيدِه حقيبةً بها آلية كآلية الساعة أن يشعر بحركةٍ بداخل الحقيبة. ومَن يسمع لأول مرة صوت اهتزاز ذيلِ الأفعى ذات الجرس الذي يُشبه صوتَ اهتزاز حبَّات البازلَّاء الجافة في قرنها يبتعد من فورِه بالغريزة، ولو لم يعرف شيئًا عن الأفاعي. إلى أيِّ مدًى إذن قد يتسبَّب نادلٌ شديد الارتياب، أعصابه متحفِّزة للاستجابة إلى الصوت الهادئ القاتل الذي تُصدِرُه آلية الديناميت، في إفساد كلِّ شيء فورَ لمسه الحقيبةَ بيده؟ نعم، أقرَّ دوبريه في نفسِه على مضضٍ بأن فكرة الحقيبة ليست عمَليةً. وكان يرى أن نتيجتها الموتُ أو السَّجن.
ما العمل إذن بعد أن استبعد فِكرتَي الفتيل وآلية الساعة؟ هناك نوعٌ من القنابل ينفجر بالاصطدام، وكان دوبريه قد صنَّع عددًا منها بنفسه. يمكن لأيِّ رجل أن يقف في منتصف الشارع ويَقذفها إلى داخل المقهى من الباب المفتوح. لكنه قد يُخطئ المدخَل. كما أن الشارع حتى ساعةِ إغلاق المقهى يكون مُضاءً تمامًا كما في النهار. ثم إن الشرطي كان يُراقب كل المارة في منتصف الطريق بعناية. فسلامتُه الشخصية هي أيضًا تعتمد على ذلك. وكيف يمكن أن يهرب الرجل الذي سيقذف القنبلة من منتصف الشارع عند تحقيق النتيجة المرجوَّة؟ لو لم تكن الجادَّة بهذا الاتِّساع لأمكنَ لأي شخص أن يُطلق قنبلة مزوَّدة بديناميت من غرفة أمامية على الجانب الآخر من الشارع إلى المقهى كما يفعلون باستخدام المدافع، لكن هناك …
فجأة صاح دوبريه: «يا إلهي!» ثم أضاف: «وجدتُها!»
ضم ساقَيه الممدودتين، وتوجَّه إلى النافذة وفتحها، وحدَّق في الرصيف بالأسفل لوهلة. عليه أن يَقيسَ المسافة أثناء الليل، بل في وقتٍ متأخِّر منه؛ هكذا خاطب نفسَه. اشترى بَكرة سلكٍ لونُه أشبهُ ما يكون بلون واجهة المبنى. وفتح نافذته، وبعد منتصف الليل أخرج السلكَ ودلَّاه، فقدَّر أنه يصل إلى أعلى باب المقهى تقريبًا. انسلَّ إلى الأسفل بهدوءٍ وخرج من المبنى دون أن يُغلق البابَ بالمزلاج. كان الباب المؤدي إلى الغرف عند أقصى طرَف المبنى، في حين كان باب المقهى في المنتصف بين نافذتَين كبيرتين. وعندما وصل إلى مقدَّمة المبنى، أوشك خفَقانُ قلبه على التوقف عندما جاء من عند باب المقهى صوتٌ يقول:
«ماذا تريد؟ وماذا تفعل هنا في هذه الساعة المتأخرة؟»
كان الشرطي قد أصبحَ جزءًا لا يتجزَّأ من الرصيف في ذهن دوبريه حتى نسيَ أنه يمكث عليه ليلًا ونهارًا. شهق دوبريه دون صوت، ثم عاد قلبُه إلى الخفقان.
وقال في هدوء: «كنت أبحث عنك.» وضيَّق عينيه فلاحظ أن السلك كان يتدلَّى فوق رأس الشرطي على بُعد قدمٍ واحدة تقريبًا وهو يقف في المدخل المظلم.
واصل دوبريه كلامه: «كنت أبحث عنك. ألا تعرف أي … أيَّ صيدلية مفتوحة في هذه الساعة المتأخرة؟ لديَّ ألمٌ حادٌّ في أسناني يمنعني النوم، وأريد أن أشتريَ شيئًا يُسكِّنه.»
رد الشرطي: «أوه، الصيدلية التي عند المنعطف تظلُّ مفتوحة طوال الليل. اقرع الجرس الموجود على اليمين.»
قال دوبريه: «يؤسفني أن أُزعِجَهم لسببٍ تافهٍ كهذا.»
رد الشرطي متفلسفًا: «هذا هو ما خُلِقوا لأجله.»
قال دوبريه: «هل تُمانع في الوقوف عند الباب الآخر حتى أعود؟ سأعود بأقصى سرعة. لا أريد أن أترك الباب مفتوحًا بلا حماية، ولا أريد غلْقَه لأن القائم على المبنى يظنُّني في الداخل، ويخشى فتح الباب لأي شخص يقرع الجرس في وقتٍ متأخر. أنت تعرفني بالطبع؛ رقم غرفتي هو ١٦.»
رد الشرطي: «نعم، تذكَّرتُك الآن، على الرغم من أني لم أعرفك في أول الأمر. سأقف عند الباب حتى تعود.»
ذهب دوبريه إلى الصيدلية عند المنعطَف واشترى قِنينةً من قطراتِ تسكين ألمِ الأسنان من الشابِّ الناعس الذي كان خلف المنضدة. أيقظه وطلب منه توضيحَ كيفية استخدام العلاج. ثم عاد وشكر الشرطيَّ وصعد إلى غرفته. وبعد ذلك بلحظات كان السلك قد قُصَّ من عند النافذة وسُحب إلى الداخل في هدوء.
جلس دوبريه يلتقط أنفاسَه لعدة لحظات.
وخاطب نفسه: «يا لك من أحمقَ! خطأ آخرُ كهذا أو خَطآن يكفيان للقضاء عليك. هذه نتيجةُ تركيز التفكير كلِّه على جزءٍ واحد من المهمة. لو كان السلك قد انخفض قدمَين إضافيتين للامسَ أنفه. أنا متأكد أنه لم يرَه؛ فأنا نفسي لم أكَد أراه وأنا أبحث عنه. من الجيد أني أُلهِمتُ أن أطلب منه حراسة الباب الجانبي. لكن عليَّ فيما بعدُ أن أفكِّر جيدًا في كلِّ خطوة قبل تنفيذها. كان هذا درسًا قيِّمًا.»
ومع مواصلته للتجهيزات هالَه عددُ الأشياء التي عليه أن يُفكر فيها لتنفيذ خُطته التي بدَت له بسيطة، وأدرك أن إغفال أيٍّ منها قد يُهدِّد المهمة بالكامل بالفشل. كانت خُطته بسيطةً جدًّا. كل ما كان عليه فعلُه هو ربط عَبْوة ديناميت في طرَفِ سلكٍ طولُه مناسب، ثم، ليلًا وقبل أن يفتح المقهى أبوابَه، إلقاؤها من نافذته بحيث تدخل العبوة من الباب المفتوح وترتطم بسقف المقهى وتنفجر. فكَّر في بداية الأمر أن يُمسك طرَف السِّلك بيده من النافذة المفتوحة، ولكنه عندما أنعمَ التفكير أدرك أنه إذا حدث في خِضَمِّ الارتباك الطبيعي لحظةَ التنفيذ أن سحب السلك أكثرَ من اللازم أو مال به إلى الأمام أكثر من اللازم، فقد تصطدم العبوة بواجهة المبنى فوق باب المقهى، أو بالرصيف. لذا ثبَّت مِسمارًا متينًا في عتبة النافذة وربطَ به طرَف السلك. كان قد جعل العبوة المتفجرة حساسةً للصدمات لدرجة كبيرة حتى أدرك أنه إذا ربطَ السلك حولها وألقاها في ظُلمة الليل فقد تنفجر عند شدِّ السلك بعنف، أي أن يحدث الانفجارُ في الهواء فوق الشارع. لذا، ثبَّت زنبركًا لولبيًّا بين العبوة والسلك ليمتصَّ الصدمة الناتجة عن اندفاع العبوة عندما يشتدُّ السلك وبهذا يمنع انفجارَها قبل الأوان. رأى أن أصعبَ ما في المهمة هو اعتماد كلِّ جزء فيها على ثَبات أعصابه هو ودقَّة توجيهه في اللحظة الحاسمة، وأن أبسط خطأٍ في الحساب قد يُسبب انحرافَ العبوة إلى اليمين أو اليسار وعدم دخولها من الباب. لم تكن لديه إلا فرصةٌ واحدة، ولا مجال للتدريب قبل التنفيذ. ومع ذلك، قال دوبريه المتفلسف في نفسه بأن الناس لو سمَحوا للتفاصيل الفنية الصغيرة بإعاقة مَساعيهم، لما تحقَّق في هذا العالم شيءٌ يستحق العناء. كان متيقنًا بأنه سيرتكب خطأً ما صغيرًا يُفسد كل خططه، لكنه قرَّر أن يبذل قصارى جهده ويقبل النتائجَ وأن يتمالك نفسه بقدر المستطاع.
وبينما وقف أمام النافذة في الليلة المشئومة ممسِكًا بالعبوة حاول أن يتذكر هل أغفل أيَّ شيء أو ترك أيَّ أدلة دون أن يُخفِيَها أم لا. لم ينبعث من غرفته ضوء، لكنَّ نار المدفأة كانت مشتعلة، وألقَت بظلالٍ مهتزَّة على الحائط المقابل.
تمتم قائلًا: «ثَمة أربعةُ أشياءَ عليَّ فِعلُها؛ أولًا: سحْب السلك، ثانيًا: إلقاؤه في نار المدفأة، ثالثًا: نزع المسمار، رابعًا: غلقُ النافذة.»
أسعده أنْ لاحظ أن نَبْض قلبه لم يتسارع عن المعدل الطبيعي. وخاطب نفسَه وهو يتنهَّد: «أعتقد أني متمالكٌ لأعصابي، لكن عليَّ ألا أُبالغ في ذلك عندما أنزل إلى الأسفل. ثَمة الكثيرُ من الأشياء التي ينبغي أن أُفكر فيها في الوقت ذاتِه.» أجال نظرَه في الشارع لأعلى ولأسفل. كان الرصيف خاليًا. انتظر حتى مرَّ الشرطي من أمام الباب. سيأخذ عشْرَ خُطوات قبل أن يعكس اتجاهَ مشيِه في المنطقة التي يحرسها. وبينما كان ظهر الشرطي لباب المقهى، ألقى دوبريه بقنبلته في ظلمة الليل.
ثم تراجع على الفور وراقب المسمار. تماسك المسمارُ عندما شدَّ السلك. وبعد لحظة اهتزَّ المبنى بأكمله كرجلٍ ثملٍ يترنَّح، ويهز كتفَيه. فزِع دوبريه عندما سقطت على طاولته قطعةٌ كبيرة من الجصِّ محدِثةً دَويًّا عاليًا. وجاء من الأسفل صوتٌ كالرعد المكتوم. اهتزت الأرض تحت قدمَيه بفعل الانفجار. وتهشَّم زجاج النافذة، وشعر بأن بالهواء يصطدم بصدره كما لو كان أحدهم قد ضرَبه عليه.
نظر إلى الخارج للحظةٍ. ووجد أن الانفجار أطفأ مصابيح الشارع في الجهة المقابلة. وعمَّ أمام المقهى ظلامٌ دامس، بعد أن كانت الجادة كلُّها مليئةً بالضوء منذ لحظة. وارتفعت من أسفل المبنى سحابةٌ من الدخان.
قال دوبريه في نفسه، بينما كان يسحب السلك بسرعة: «أربعة أشياء.» لقد وجَد طرَفه مهترئًا. ونفَّذ الأشياء الثلاثة الأخرى بسرعة أيضًا.
عمَّ صمتٌ غريب، لكن صوت الانفجار لم يزل يرنُّ في أذنه رنينًا ثقيلًا. انسحقَ الجِصُّ تحت حذائه مصدِرًا صوتًا واضحًا وهو يمشي نحو باب الغرفة ويمدُّ يدَه نحوه. شد البابَ لفتحه فوجد في ذلك بعضَ الصعوبة. كان محكم الغلق بشدة لدرجة أنه ظنه كان مغلقًا بالقفل، ثم ارتعدَ من الخوف عندما تذكَّر أن الباب لم يكن مغلقًا بالقفل طوالَ وقوفه أمام النافذة ممسكًا بالعبوة.
خاطب نفسَه: «لا بد أني أغفلت شيئًا آخَر كهذا وسيُؤدي إلى انفضاح أمري، يا تُرى ماذا يكون؟»
وفي النهاية تمكَّن من فتح الباب. كانت أضواء الردهة مطفأة، فأشعل عودَ ثقاب، ونزل إلى الأسفل. ظن أنه سمع بعضَ الأنين. وعندما نزل وجد القائم على المبنى مُكومًا في إحدى الزوايا.
سأله دوبريه: «ما الخطب؟»
صاح الرجل: «أوه، يا إلهي! يا إلهي! كنت أعلم أنهم سيفعلونها. لقد ابتلع الانفجارُ المكانَ كلَّه!»
قال دوبريه: «انهض، أنت لم يُصِبك مكروه، وتعالَ معي ولنرَ هل يُمكننا تقديم أي مساعدة.»
قال الرجل وهو يئن: «أخشى أن يقعَ انفجار آخر.»
قال دوبريه: «هذا هُراء! لا يقع انفجاران متتاليان أبدًا. هيا بنا!»
وجدا صعوبةً في الخروج، وفي النهاية خرجا من فتحة في الجدار وليس من الباب. كانت الرَّدهة السفلية قد دُمِّرَت.
توقَّع دوبريه أن يجد حشدًا من الناس، لكنه لم يجد أحدًا. لم يُدرك قِصَر الوقت الذي انقضى منذ وقوع الكارثة. كان الشرطيُّ جاثيًا على يدَيه وركبتيه في الشارع يُحاول النهوض ببطء كمن يُفيق من حُلمٍ ما. هُرِع دوبريه إليه وساعده في النهوض.
سأله دوبريه: «هل أُصِبت؟»
ردَّ الشرطي وهو يفرك رأسه مرتبكًا: «لا أعلم.»
قال دوبريه: «كيف حدث ذلك؟»
رد الشرطي: «أوه، لا تسأَلْني. فجأةً صدر صوتٌ كالرعد، ولا أتذكَّر بعد ذلك إلا أني كنتُ مُلقًى على وجهي في الشارع.»
سأل دوبريه: «هل رفيقك في الداخل؟»
رد الشرطي: «نعم؛ هو وإم سون وزبونان.»
قال دوبريه بنبرةِ إحباط: «ماذا عن النادل؟ ألم يكن في الداخل؟»
لم يُلاحظ الشرطي نبرة الإحباط، فأجابه:
«أوه، والنادل بالطبع.»
قال دوبريه بنبرةِ رضًا: «حسنًا، لندخل لمساعدتهم.» بدأ الناس الآن يحتشدون، لكنهم ابتعَدوا بعض الشيء عن المقهى. وقالوا بأصواتٍ ذاهلة: «ديناميت! ديناميت!»
جاءت فرقةٌ من الشرطة فجأةً من مكانٍ ما. وأبعَدوا المحتشدين إلى الوراء لمسافةٍ أكبر.
سأل رئيس الشرطة: «ماذا يفعل هذا الرجل هنا؟»
أجاب الشرطي: «إنه صديقٌ لنا، إنه يسكن في المبنى.»
قال رئيس الشرطة: «حسنًا.»
قال دوبريه: «كنتُ على وشك الدخول للبحث عن صديقي الضابط الذي كان في المقهى يُمارس عمله.»
قال رئيس الشرطة: «حسنًا، تعالَ معنا.»
وجَدوا الشرطي فاقدَ الوعي تحت الركام وقد انكسرت إحدى ساقيه وكلتا ذِراعيه. وساعد دوبريه في حمله إلى عربة الإسعاف. وكان إم سون يتنفَّس عندما وجَدوه، لكنه مات في الطريق إلى المستشفى. أما النادل فقد مزَّقه الانفجار إلى أشلاء.
شكر رئيسُ الشرطة دوبريه على مساعدته.
اعتُقِل كثيرون، لكن مُفجِّر مقهى فيرنون لم يُعرَف قط، ورُجِّح في النهاية أن أحد الأوغاد ترك حقيبةً مملوءة بمادة متفجرة مع النادل أو المالك.