خطأ في الإرسال
انتصَر الرأي العامُّ وثبَتَت وجاهتُه. لقد تهافتَت حُجَّة الجنون، وحُكِم على ألبرت بريور بالإعدام شنقًا حتى الموت، وليتغمَّدْه الربُّ برحمته. اتفق الجميع على أن الحُكم كان عادلًا، ومع ذلك فقد صار الجميع يذكرونه بعد الحكم عليه ويقولون: «يا له من مسكين!»
كان ألبرت بريور شابًّا انساق بشدةٍ وراء نزواته حتى أهلَكَته. كانت أسرته بالكامل — أبوه وأمُّه وأخوه وأختاه — قد تركَته يفعل ما يحلو له حتى ظنَّ أن العالم كلَّه سيكون على المنوال نفسه. بيد أن العالم كان له رأيٌ آخَر. ولسوء الحظ كان أولُ مَن عارض إرادته العنيدة امرأةً؛ بل فتاة. لقد رفضَت أن يكون بينها وبينه أيُّ صلة، وأخبرَته بذلك. فثارت ثائرته بالطبع، ولكن لم يأخذ رفضها له على محملِ الجِد. فما من فتاةٍ عاقلة يمكنها الإصرار على رفض شابٍّ مثله بكل ما يحمل المستقبلُ له. لكنه عندما سمع بخِطْبتها لعامل التلغراف الشابِّ بوين، تخطَّت ثورتُه كلَّ الحدود. وقرَّر أن يُهدِّد بوين حتى يجعلَه يترك المكان، وذهب إلى مكتب التلغراف لهذا الغرض، غير أن بوين كان يعمل في المناوبة الليلية، فلم يكن موجودًا. ابتسم عاملُ المناوبة النهارية وقال — دون أن يعرف تَبِعات قوله — إن بوين على الأرجح سيكون موجودًا في باركر بليس، حيث تعيش الآنسة جونسون مع عمِّتها؛ إذ كان والداها متوفَّيَين.
صرَّ بريور أسنانه وانصرف. ووجد الآنسة جونسون في المنزل، لكنها كانت بمفردها. كان المشهد كلُّه عاصفًا، وانتهى بمأساة. أطلق عليها النارَ أربع مرات، وترك الرصاصتين المتبقيتَين لنفسه. لكنه كان جبانًا ووغدًا، وعندما حان الوقت لإطلاق الرصاصتين على نفسه، تراجعَ وآثر الهرب. وعندئذٍ وجَّهت إليه الكهرباءُ ضربتَها الأولى. لقد ساعدت في إرسال أوصافه إلى أرجاء البلاد، فأُلقِي القبضُ عليه على بُعد خمسةٍ وعشرين ميلًا من منزله. واقتِيدَ إلى بلدته في المقاطعة، ثم أُلقي به في السجن.
حزم الرأيُ العام أمره، ودائمًا ما يُثبت رُجحانَه ووجاهته. وكان أول مظهر واضح من مظاهره تجمُّعًا مخيفًا من المواطنين الساخطين خارج السجن. تهامسَ المحتشدون مُصرِّين على موقفهم بدلًا من رفع عَقيرتهم بالعبارات الغاضبة، ولكن هذا بالتحديد ما جعلهم أكثرَ خطورة. رفع رجلٌ من بين الحشد قبضتَه نحو السماء، وتدلَّى منها حبل. ولما رآه المحتشدون أصدَروا صيحةً متزامنة تُشبه عويلَ قطيعٍ من الذئاب، وانقضُّوا على بوابات السجن يطرقون عليها بقوة. وأخذوا يصيحون: «أعدِموه! أعطِنا المفاتيح يا مدير السجن!»
كان رئيس الشرطة المهتاجُ يعرف واجبه، لكنه تردَّد في أدائه. فمن الناحية النظرية، كان قِوام الحشد مجموعةً من الغوغاء الخارجين عن القانون، لكن الواقع العمَلي كان يقول إنهم كانوا من أهل بلدته وجيرانه وأصدقائه، وقد أثار ارتكابُ جريمةٍ نَكْراء سخطَهم. كان يمكنه أن يأمر بإطلاق النار عليهم، وأغلب الظن أن الأمر كان سيُطاع. كان من الممكن أن يُقتَل واحد أو اثنان أو دُزينة منهم، وكانوا يستحقُّون هذا المصير من الناحية النظرية، لكن من أجل ماذا كانت مذبحةٌ قانونية تمامًا كهذه ستقع؟ لإنقاذ، لبعض الوقت فقط، حياة لا قيمة لها لبائسٍ يستحق أيَّ مصير قد يحمله له المستقبل. لذا، كفَّ رئيس الشرطة يدَيه، وتأسَّف لوقوع أزمة كهذه خلال مدَّة تولِّيه لمنصبه، ولم يفعل شيئًا؛ بينما تعالى الطرْقُ الصاخب الذي أحدثَه المحتشدون بشدة حتى سمعه السجينُ المرتجف في زنزانته، وتفصَّد منه عرَقٌ بارد عندما أدرك مطلب المحتشدين. كانت جرعةً من القِصاص في صورته الخام.
سأل مدير السجن: «ماذا أفعل؟» ثم أضاف: «أأُعطيهم المفاتيح؟»
رد رئيس الشرطة بيأس: «لا أعلم ما العمل.» ثم أردف: «هل تعتقد أنه سيُجدي الحديثُ معهم؟»
رد مدير السجن: «على الإطلاق.»
قال رئيس الشرطة: «يتعيَّن عليَّ أن أطالبهم بالتفرُّق، وإذا رفضوا ذلك، عليَّ أن آمُرَ بإطلاق النار عليهم.»
قال مدير السجن بتجهُّم: «هذا هو القانون.»
سأل رئيس الشرطة: «ماذا كنتَ ستفعل لو كنت مكاني؟» وكان من الواضح أن ذلك المسئول الصارمَ لم يُنتخَب بالتصويت الشعبي في هذه المقاطعة.
رد مدير السجن: «أنا؟» ثم أضاف: «كنتُ سأُسلِّمهم المفاتيح وأتركهم يشنقونه. سيُريحك هذا من المتاعب. أما إذا أمرتَ بإطلاق النار عليهم، فمن المؤكد أنك ستقتل الرجالَ الذين يحثُّونهم على العودة إلى المنزل الآن. دائمًا ما يكون وسط الغوغاء رجلٌ بريء، ويكون هو الشخصَ الذي يتعرَّض للأذى في كل مرة.»
قال رئيس الشرطة: «حسنًا إذن، يا بركنز، أعطِهم أنت المفاتيح، لكن أرجوك لا تُخبرهم أني مَن أخبرك بذلك. سيندمون غدًا على ما يفعلون. تعرف أني منتخَب، أما أنت فمُعيَّن، وليس عليك أن تقلق حيال ما يقوله الناس.»
قال مدير السجن: «لا تقلق، سأتحمل المسئولية.»
لكنه لم يعطِهم المفاتيح. كان الطرْق والصياح قد توقَّفا. لقد وقف شابٌّ ذو وجه شاحبٍ وعينَين حَمْراوين فوق الحائط الحجري المحيط بالسجن. ثم رفع يده فعمَّ الصمت على الفور. أدرك الجميع أنه بوين، عاملُ التلغراف الليلي، خطيب الضحية.
قال بصوتٍ واضح وصل إلى أبعدِ أذن في الحشد: «يا سادة، لا تفعلوا هذا. لا تُلطِّخوا اسم بلدتنا الطاهرَ بوصمةٍ لا تَنْمحي أبدًا. لم يسبق قط أن تعرَّض أحدٌ في هذه المقاطعة ولا في هذه الولاية للتنكيل الجماعي حتى الموت، حسَب علمي. لو ظننتُ أن ذلك الوغد البائس القابع وراء هذه الأسوار سيهرب، أو أن أمواله ستُنجيه، لسبَقتُكم أنا إلى تحطيم هذه الأبواب وإخراجه لشنقه على أقربِ شجرة؛ وأنتم تعرفون عني ذلك.» وهنا علَت الصيحات والهتافات. ثم واصل: «لكنه لن يهرب. ولا يمكن لأمواله أن تُنقذه. سيُعدَم شنقًا بالقانون. لا تظنوا أنني أطلب الرحمة به؛ بل أطلب القِصاص منه!» وهز بوين قبضتَه ملوِّحًا نحو السجن. وقال: «منذ سمع هذا الوغد صيحاتكم، استحالت حياتُه جحيمًا. وسيُبقيه جُبنه في هذا الجحيم إلى أن تحمله أرجلُه المرتعشة إلى المشنقة. أريده أن يبقى في جحيمه هذا إلى أن يهويَ إلى الجحيم الآخَر، إن وُجد. أريده أن يُعاني بعض الشقاء الذي سبَّبه. إذا شرَعْنا في التنكيل به فسينتهي أمرُه ويموت في لحظة. لكني أريد أن يموت هذا القاتلُ ببطء بحكم القانون وعذابه الذي لا رحمة فيه.»
ارتعدَ لهذه الكلمات حتى أغلظُ المحتشدين قلبًا، وأدركوا جميعًا من رؤيتهم لوجه بوين الذي ارتسمَت عليه ملامحُ غضبٍ كاد يتخطَّى حدودَ الآدمية أنَّ تعطُّشَه للانتقام يفوق تعطشَهم له بكثير. فانفضَّ الجمعُ تأثُّرًا بكلماته. وألقى حاملُ الحبلِ الحبلَ من فوق سور السجن ليستقرَّ في ساحته ونادى على رئيس الشرطة قائلًا: «اعتنِ بهذا الحبل أيها العجوز، فستحتاج إليه.»
تفرَّق المحتشدون، وتوجَّه رئيس الشرطة إلى بوين ووضع يدَه على كتفه بحنوٍّ.
وقال: «بوين، يا بني، أنت شخصٌ يُعتمَد عليه. وأنا مَدين لك. لقد أخرجتَني من مأزقٍ عصيب. إذا وقعتَ في مأزقٍ في أي وقت يا بوين، فالجأ إليَّ، وإذا كان ما ستحتاج إليه عندئذٍ هو الأموالَ أو النفوذ، فيمكن أن تحصل منها على كلِّ ما يكفيك.»
رد بوين باقتضاب: «شكرًا.» ولم يكن هذا الكلام يُناسب المزاج الذي كان فيه.
وجرَت الأمور كما توقَّع بوين، فلم تُفلح كلُّ أموال عائلة بريور ونفوذها في إنقاذ القاتل، وحُكِم عليه بالإعدام شنقًا في السادسة من صباح الحادي والعشرين من سبتمبر، وهكذا هدَأ سخط الرأي العام.
غير أنه ما إن أُعلِن الحكم وبات مصيرُ الشاب محتومًا، حتى طرأ على الرأي العامِّ تغيُّرٌ غريب. فبدا أنه انحرفَ عما كان عليه. وظهر بالطبع الكثيرُ من التعاطف مع عائلة الجاني. ثم كان هناك تعاطفٌ كبير مع الجاني نفسِه. وعاب الناسُ على فكرة إعدام أيِّ رجل من الأساس. وبدأت السيدات يُرسِلْن الزهورَ إلى زنزانة الجاني المُدان. ففي نهاية المطاف لن تعودَ السيدة جونسون إلى الحياة بشنقِ هذا الشخص البائس. وغابت السيدة جونسون من ذاكرة الجميع ولم يَعُد أحدٌ يتحدث عنها سوى رجلٍ واحد ظل يَصرُّ أسنانه غيظًا من سرعة تقلب الرأي العام.
ثُم أُرسِلَت عرائضُ الالتماس، وتولَّت الكنيسة الزِّعامةَ في تنسيقها. وتوسلَت النساء من أجل أن يوقِّع الناس عليها، وقد كان. فوقَّع كلُّ رجل وامرأة عليها. وفعل الجميع هذا فيما عدا رجل واحد، وحتى هذا الرجل نفسه ذرفَت إحداهن أمامه دموعَها تستجدي توقيعَه، وتُذكِّره بأن الانتقام الحقيقي هو انتقام الرب.
قال بوين كامدًا: «لكن للرب أدواته، وأُقسِم لك يا سيدتي إنكم إن نجَحتم في استصدارِ العفو عن هذا القاتل، فسأكون أنا الأداةَ التي يُنْفِذ بها الربُّ انتقامه.»
قالت السيدة متوسلة: «أوه، لا تقل هذا.» ثم أردفت: «سيكون لتوقيعك أثرٌ كبير. لقد كنتَ كريمًا مرةً عندما أنقذته من تنكيل المحتشدين به حتى الموت، فلتكن كريمًا مرة أخرى بإنقاذه من حبل المشنقة.»
ردَّ عليها: «لن أوقِّع أبدًا. وإذا سمحتِ لي، أود أن أخبرك أنَّ طلب توقيعي في حدِّ ذاته إهانةٌ. إذا استصدرتم العفوَ عنه فستُحوِّلونني أنا إلى قاتل؛ لأني سأقتله عند إطلاق سراحه ولو بعدَ عشرين عامًا. تتحدَّثون عن التنكيل الجماعي به حتى الموت، ولكن ما تفعلونه الآن هو الذي يدفع إلى ارتكاب ذلك الجُرم. يبدو أن الناس كلَّهم مؤيِّدون لك الآن، عارٌ عليهم، لكن جريمة القتل التالية سيتبعها تنكيلٌ جماعي حتى الموت إذا نجحتم اليوم في مسعاكم.»
تنهَّدَت السيدة وهي تترك بوين، وبثَّ فسادُ الطبيعة البشرية في نفسها كآبةً متوقَّعة.
كانت عائلة بريور ثريةً وذات نفوذ. وكان وراء ابنِها الحيِّ كثيرٌ من الداعمين، في حين لم يكن وراء ضحيتِه القتيلة من طالبي القِصاص إلا قلَّة. انهالت على الحاكم عرائضُ التماس العفو من كل أرجاء الولاية. ورغم صلاح الرجل، كانت عيناه تَرنُوَان إلى إعادة انتخابه، ولم يعرف ما عليه فعلُه. لو كان لأحدٍ أن يُخبره بدقةٍ رياضية عددَ الأصوات التي سيكتسبها أو سيفقدها إذا أقدمَ على هذا الأمر أو ذاك، لاتَّضحَ له المسار الذي سيسلكه، لكنَّ مستشاريه أنفسَهم لم يكونوا متيقِّنين مما يجب فعلُه. خطأٌ واحد في أمر بسيط كهذا يكفي لِخَسارته الانتخابات. دارت بعضُ الشائعات بأنه سيُخفِّف الحكم إلى السجن مدى الحياة، ثم دُحِضَت تلك الشائعات.
دفَع الناس بأن السجن مدى الحياة عقابٌ كافٍ للشاب، وبدا دفعُهم هذا عادلًا، لكنهم جميعًا كانوا يعرفون في صميمِ قلوبهم أن تخفيف الحكم لن يكون سِوى بدايةٍ لمعركة، وأن الحاكم الجديد سيتعرَّض لضغوطٍ كبيرة للعفو عن الشاب.
لم يبدر عن الحاكم أيُّ ردِّ فعل حتى العشرين من سبتمبر. وعندما كان بوين ذاهبًا إلى عمله في ليل هذا اليوم، صادف رئيس الشرطة.
وسأله: «هل صدر أمرٌ بالعفو عنه؟» هز الرجل رأسه نافيًا وحزينًا. لم يكن قد سبَق له إعدامُ رجلٍ شنقًا، ولم يُرد أن تكون هذه هي البداية.
وقال: «كلا.» ثم أردف: «وحسَبما سمعتُ بعد ظهيرة اليوم من غير المحتمل أن يصدر أيُّ عفو. قرَّر الحاكم في نهاية المطاف أن القانون لا بد أن يأخذَ مجراه.»
قال بوين: «يُسعدني سَماعُ ذلك.»
قال الآخر: «لكنه لا يُسعدني.»
إلى رئيس شرطة مقاطعة برنتنج، برنتنجفيل
لا تَمضِ قُدمًا في إعدام بريور. لقد خُفِّف الحكم. وأرسلتُ المستندات الخاصةَ بذلك بالبريد المسجَّل الليلة. يُرجى الردُّ على هذه الرسالة وتأكيدُ فَهمِها.
ذرَع بوين الغُرفةَ مقطبًا حاجِبَيه. لم يُساوره شكٌّ فيما عليه فعلُه، لكنه أراد التفكير جيدًا فيه. دقَّت آلة التلغراف فالتفَت إليها، ونقَر مجيبًا. كانت البرقية الجديدة موجَّهةً إليه هو مِن زميله العامل في العاصمة، وكانت تطلب منه أن يوصل البرقية إلى رئيس الشرطة دون تأخير، ثم يُؤكِّد ذلك لمكتب العاصمة؛ إذ إن حياة رجلٍ تعتمد على ذلك، وهنا انتهت البرقية. وأجاب بوين بأن البرقية ستُوجَّه إلى رئيس الشرطة على الفور.
إلى رئيس شرطة مقاطعة برنتنج، برنتنجفيل
امضِ قُدمًا في إعدام بريور. لن يُرسَل أمرٌ بالعفو عنه. يُرجى الردُّ وتأكيدُ فَهمِ هذه الرسالة.
من المؤسف أن ضمير بوين لم يُؤنِّبه ولو قليلًا على ما فعل. قد نميل إلى الظنِّ أنه عندما يتعمَّد رجلٌ ارتكاب جريمة، ينبغي أن يتردَّد وأن يشعر بندمٍ مؤقَّت على الأقل، حتى لو مضى في تنفيذ جريمته. أما بوين فقد انصبَّت أفكارُه على الفتاة المقتولة، وليس على الرجل الحي. وأيقظ الساعيَ النائم.
وقال له: «خذ هذه إلى السجن وابحث عن رئيس الشرطة. وإذا لم تجده هناك فاذهَب إلى مسكنه. وإذا وجدتَه نائمًا فأيقِظْه. وأخبره أن هذه البرقية تستوجبُ ردَّه. وأعطه ورقةً خالية، وعندما يملؤها أحضِرْها لي، واحذر أن تُعطي الرسالةَ لأحدٍ غيرِه.»
رد الفتى: «لقد فهمتُ يا سيدي»، وانطلق تحت حُجُب الليل. وعندما عاد سريعًا أدرَك بوين دون أن يسأله أنه وجد رئيس الشرطة المسهَّد في السجن. وجاء ردُّه على الحاكم مكتوبًا بيدٍ مرتعشة كالآتي: «أفهم أن الإعدام سيمضي حسَبما تقرَّر. إذا غيرتَ رأيك فأرسِل إليَّ سريعًا رجاءً. سأُرجِئ التنفيذَ حتى آخرِ لحظةٍ يسمح بها القانون.»
لم يُرسِل بوين هذه الرسالة، لكنه أرسل غيرها. وبينما انهمكَ في ذلك أطلقَ ضحكة، فانتبه لنفسِه وتوقَّف عن ذلك؛ لأن ضحكته بدَت غريبة. وخاطب نفسه قائلًا: «أتساءل هل ما زلتُ في كامل قُواي العقلية.» ثم أردف: «أشكُّ في ذلك.»
مضَت ساعاتُ الليل ثقيلةً. وبعد منتصفه جاء رجلٌ يُمثِّل مؤسسة صحفية لإرسال رسالةٍ طويلة. تولى بوين إرسالها وهو يخشى أن يذكر متلقِّيها لمرسلها العفوَ الصادر في العاصمة. كان يعلم كيف تنتشر الأخبارُ الهامة على نحوٍ ميكانيكي في خطوط التلغراف على يدِ رجال اعتادوا تولِّيَ تلك المهمة منذ سنين. على أيِّ حال، لن يستطيع كلُّ ما في العالم من نُحاس وزنكٍ إرسالَ الرسالة إلى برنتنجفيل إلا من خلاله، إلى حينِ مجيء عامل المناوبة النهارية، وعندئذٍ سيكون الأوانُ قد فات.
أطال ممثِّلُ المؤسسةِ الصحفية البقاءَ، وسأله عما إذا كان عاملُ تلغرافٍ واحد فقط سيكون في المكتب بعدَ تنفيذ الإعدام.
وأضاف: «سأودُّ إرسالَ الكثير من الأشياء وأريد أن يحدثَ هذا بسرعةٍ شديدة. بعض الصحف قد تُصدِر أعدادًا استثنائيَّة. كنت سأجلب معي عاملًا إضافيًّا، لكننا ظننَّا أن العفو سيصدر، ولو لم يعتقد رئيسُ الشرطة ذلك.»
قال بوين دون أن يرفع رأسه عن الآلة: «عامل المناوبة النهارية سيكون هنا في السادسة، وسأعود أنا لمعاونته بعد أن أحتسيَ كوبًا من الشاي، وسنتولى إرسالَ كلِّ ما تريد.»
قال الرجل: «شكرًا لك. إن هذا أمرٌ يبعث على الكآبة، أليس كذلك؟»
رد بوين: «بلى.»
قال الرجل: «ظننتُ الحاكم سيرضخ للضغوط؛ ألم تظنَّ ذلك؟»
رد بوين: «لا أعرف.»
قال الرجل: «إنه داهيةٌ عجوز. كان سيَخسَر في الانتخابات القادمة إذا أصدرَ عفوًا عن هذا الرجل. لا يريد الناسُ أن يرَوا حادثةَ تنكيلٍ برجل حتى الموت، والحاكم الضعيف المتردِّد هو صديق القاضي لينتش. حسنًا، طابت ليلتك، وأراك في الصباح.»
رد بوين: «وليلتك.»
طغى نورُ الصباح تدريجيًّا على النور المنبعِث من مصابيح غرفة التلغراف، وبدأ بوين يلتقطُ أنفاسه مع قَرْع جرس الكنيسة.
جاء زميل بوين، عامل المناوبة النهارية، بعد السادسةِ بعشرِ دقائق.
وقال: «حسنًا، لقد أعدَموه.»
كان بوين يبحث عن بعضِ الأوراق ضمن الأوراق الموجودة على مكتبه. وطوى اثنتَين منها ووضعَهما في جيب معطفه الداخلي. ثم قال:
«سيأتي رجلٌ يعمل بالصِّحافة إلى هنا ومعه الكثيرُ من الرسائل التي يودُّ إرسالها. أرسِلْها بأقصى سرعة ممكنة وسأعود لمساعدتك قبل أن ينالَ منك التعب.»
بينما كان بوين يمشي باتجاه السجن صادفَ بعضًا ممن حَظُوا بفرصةِ مُشاهدة الإعدام بأنفسِهم. كانوا يتناقشون حولَ عقوبة الإعدام، وتساءل بعضهم وهم يتثاءبون عن سبب اختيار هذا التوقيت الغريب لتنفيذ الحكم الذي شاهَدوه لتوِّهم. وبينما كان بوين بين البوابة الخارجية وباب السجن التقى برئيس الشرطة، الذي بدا وجهُه مكفهرًّا وشاحبًا في نور الصباح الوليد.
قال بوين قبل أن يُحيِّيَه الآخر: «جئتُ لتسليم نفسي.»
رد رئيس الشرطة: «تسلِّم نفسك؟! لأيِّ جُرم؟»
رد بوين: «القتل، حسَبما أفترض.»
قال رئيس الشرطة بحزم: «ليس هذا وقتًا مناسبًا للمزاح، أيها الشاب.»
رد بوين: «أيبدو أني أمزح؟ اقرأ هذا.»
قرأ الرجل الرسالة مرتين، وبدَت على وجهه المبتئس وهو يقرؤها ملامحُ عدم التصديق أولًا، ثم الرعب. ترنَّح متراجعًا إلى الجدار، واستند إليه بذِراعه اتقاءً للسقوط أرضًا من الصدمة.
وقال لاهثًا: «بوين، هل … هل تقصد أن … أن تُخبرني … أن تلك الرسالة قد وردَت إليَّ الليلةَ الماضية؟»
رد بوين: «نعم.»
قال الرجل: «وأنك … أنك منعتَ وصولها؟»
رد بوين: «نعم … وأرسلتُ إليك رسالةً مزيفة.»
سأل رئيس الشرطة: «وأني قد شنقتُ رجلًا معفوًّا عنه؟»
قال بوين: «لقد شنقتَ قاتلًا … نعم.»
صاح رئيس الشرطة: «يا إلهي! يا إلهي!» واستدار نحو الجدار وأسندَ إليه ذراعه، ثم وضع وجهه عليه وأجهش بالبكاء. انهارت أعصابُه تمامًا. لم يكن قد ذاق طعم النوم في الليلة الماضية، ولم يسبق له على الإطلاق إعدامُ أيِّ شخص.
وقف بوين مكانه حتى أفاق رئيسُ الشرطة من وَقْعِ الصدمة. والتفتَ إليه ساخطًا يُحاول ستر خجله من انهياره وراء عباءةٍ من الغضب.
قال رئيس الشرطة: «وجئتَ إليَّ الآن أيها الماكر لأني قلتُ لك إني سأُساعدك إذا وقعتَ في مأزق يومًا ما؟»
رد الشاب: «لا يُهمني المأزق أو غيره، لقد جئتُ إليك لأسلِّم نفسي. أنا مُصِر على موقفي. أنا لا أتذمَّر. ولن تُرسل عرائض لالتماس العفو عني. ماذا ستفعلون بي؟»
قال رئيس الشرطة بتلعثمٍ وهو على وشك على الانهيار مجددًا: «لا أعرف يا بوين، لا أعرف». لم يكن يريد إعدامَ رجلٍ آخَر، ولا سيما إذا كان صديقًا له. ثم أردف: «عليَّ استشارةُ الحاكم. سأغادر على متن أولِ قطار. لا أظنك ستحاول الهرب.»
قال بوين: «سأحضر إلى هنا عندما تحتاج إليَّ.»
عاد بوين لمساعدة العامل المناوبة النهارية، وغادر رئيسُ الشرطة إلى العاصمة على متن أول قطار.
ثم حدث أمرٌ غريب. لأول مرة حسَبما نتذكَّر، أجمعَت الصحفُ على امتداح تصرُّف حاكمِ الولاية، وكال له أعضاءُ حزبه المديحَ، وأقرَّت صحفُ المعارضة على مضضٍ بأنه كان أكثرَ حزمًا مما ظنُّوا. وتغيَّر الرأيُ العام تمامًا.
قال الحاكم مرتبكًا: «أستحلفك بكلِّ ما تُوقِّره، أخبرني يا رئيس الشرطة، مَن الذين وقَّعوا على كلِّ هذه العرائض؟ إذا كانت الصحفُ تريد إعدامَ الرجل، فلماذا إذن لم تكتب ذلك من قبل وتُجنِّبني كلَّ هذا القلق؟ والآن كم عددُ مَن يعرفون بأمر هذه الرسالة التي مُنع وصولها؟»
قال رئيس الشرطة: «أنت وموظَّفوك هنا و…»
قال الحاكم: «لن ننبس بكلمةٍ عن الأمر.»
واصل رئيس الشرطة كلامه: «وأنا وبوين في برنتنجفيل. لا يوجد أيُّ أحدٍ آخر.»
قال الحاكم: «حسنًا، لن يُفصِح بوين بشيء خوفًا على نفسه، وأنت لن تقولَ شيئًا.»
رد رئيس الشرطة: «بكل تأكيد.»
قال الحاكم: «إذن، فلنُبقِ الأمرَ في طيِّ الكتمان. سيظل السرُّ مَصونًا ما لم يُحاول الصحفيون نبشَه. لم يُوثَّق شيءٌ في السجلات، وسأحرق أيَّ مستَندٍ يؤدي إلى كشفِه.»
وهكذا سار الأمر. وثبتَت وجاهةُ الرأي العام مجددًا. وأحرزَ الحاكمُ نصرًا مؤزرًا بإعادةِ انتخابه، واعتبره الناس رجلَ حزمٍ وحَسْم.