انتقام بعد الموت
من المؤسف أن يموتَ رجلٌ قبل أن يَرويَ عطشَ انتقامٍ كان يتملَّك روحَه. مات ديفيد ألين وهو يصبُّ لعناتِه على برنارد هيتون والمحامي جراي؛ وكان للمحامي الذي رَبِح القضيةَ نصيبٌ من كراهية ديفيد يفوق نصيبَ الرجل الذي سينتفع بربحِ القضية. لكن لو كان للَّعناتِ أن تُصَب، لكان الأحرى أن يصبَّها ديفيد على عناده هو وغبائه.
لِنَعُد بالزمن عددًا من السنوات، حتى نعرفَ ما جرى. خالف الابنُ الوحيد للإقطاعيِّ هيتون عاداتِ عائلته. واستشاط الإقطاعي غضبًا لذلك، كما كان متوقَّعًا. فقد كان سليلًا لعائلةٍ من الإقطاعيِّين كان من عاداتهم الإفراطُ في شرب الخمر، وركوب الخيل، وبذاءة اللِّسان، فجُنَّ جنونه عندما رأى ابنه الوحيد ينكبُّ بمحض اختياره على قراءة الكتب وشرب الماء البارد، وتفتر همتُه عن المشاركة في أيِّ رياضة رجولية تُمارَس في الريف، ويعزف عن معاقرة خمرٍ معتَّق مُخزَّن في القبو. قبل ذلك الوقت كانت هذه البلايا تقعُ على رجالٍ يستحقُّونها، وكانوا يحاولون التعامل معها قدْر استطاعتهم. لكن الإقطاعي هيتون لم يُحسِن التعامل مع بليَّتِه، وعندما ابتُعِث ابنه في رحلة استكشاف علمي حكومية حول العالم، أفرط الإقطاعيُّ في الشرب أكثرَ من ذي قبل، وازداد لسانُه بذاءة، وامتنع عن ذكر اسم ابنه.
وبعد عامين عاد ابنُه الشاب، لكن الأبواب كانت موصدة أمامه. ولم تكن له أمٌّ لتُدافع عنه، ولم يكن وجودُها لِيُحدِث فارقًا يُذكَر على الأرجح؛ إذ لم يكن الإقطاعيُّ رجلًا تُجدي مناقشتُه نفعًا أو يمكن إثناؤه قِيدَ أنملةٍ عن رأيٍ حزمَه. لقد رسم لحياته مسارًا ثابتًا ولم يَحِد عنه، متخِذًا من خمره رفيقًا. سافر الشابُّ إلى الهند، وهناك تعرَّض لحادثِ غرق. لكنه نجا وعاد في نهاية المطاف إلى إنجلترا، على عادة الكثيرين ممن يتعرَّضون لحوادث مشابهة في العودة لتكدير صفو الأبرياء الذين يحلُّون محلَّهم. ولم يزَل الخلافُ محتدمًا حول ما إذا كان الاختفاء المفاجئ لرجلٍ يُعَد مصدرًا أكبرَ للإزعاج أو ظهوره من جديدٍ بعد مُضيِّ السنين.
إن كان الحزن قد عرَف طريقه إلى قلب الإقطاعيِّ العجوز على الوفاة المفترَضة لابنه الوحيد، فهو لم يُبدِه. وقد تضاعف كرهُه الذي كان يُضمِره لابنه ذي الطِّباع الغريبة، وانتقل لابن أخته ديفيد ألين، الذي أصبح الآن الوريثَ الشرعي لممتلكاته وما تُدِره من دخل. كان ألين الابنَ المعْوِزَ لأختِ الإقطاعي التي تزوجَت زيجةً غير موفقة. ومن غير المعقول أن يتضور جوعًا مَن هو وريثٌ لِتَركة كبيرة، لكن هذا ما كانت عليه حال ديفيد، وهذا ما حزَّ في نفسه. ولم يقبل المقرِضون اليهودُ إقراضَه بضمان التركة التي كان من المتوقَّع أن يرِثَها، تحسُّبًا لوصول الابن، فلم يسَعِ ديفيد ألين إلا انتظارُ وفاة الرجل، وهو يَرْزح في الفقر ويشعر بالمرارة.
وأخيرًا جاءت اللحظة التي كان ينتظرها. لقد مات الإقطاعي العجوز، كما ينبغي لرجلٍ نبيل، نتيجةَ سكتةٍ دماغية وهو جالسٌ في كرسيِّه ذي الذِّراعين ممسكًا بمرفقِه قنينةَ شراب. وتسلَّم ديفيد ألين إرثَه المنتظر، وكان أول ما أقدم عليه تسريحَ جميعِ الخدَم، الذكور والإناث على حدٍّ سواء، وتعيين بدائلَ لهم يَدينون له وحدَه بالولاء. ونَدِم المقرِضون اليهودُ على عدم ثقتهم به في السابق.
أصبح ديفيد ألين الآن ثريًّا، لكن صحته كانت متدهورةً وكتفاه مَحْنيَّتَين، ولم يكن له صديقٌ على وجه الأرض. وكان يرتاب في العالم كلِّه، وكان قلقًا طوال الوقت وكأنه كان يتوقَّع أن يُنزِل به القدَرُ ضربةً مفاجئة في أي لحظة؛ وهذا ما جرى فعلًا.
في يومٍ صحوٍ من أيام شهر يونيو، مرَّ بغرفة الحارس رجلٌ صبَغَت حرارةُ الشمس وجهه بلونٍ برونزي، ومضى في الجادة المؤدِّية إلى المدخل الرئيسي للمنزل. وطلب محادثةَ صاحب المنزل، فطُلب منه الانتظار في إحدى الغرف.
وبعد بعضِ الوقت جاء ديفيد ألين بكتفَيه المحنيَّتَين ليستقبلَ ضيفه، ولما رآه ظل يُحدِّق فيه من تحت حاجبيه الكثَّين. وما إن دخل الغرفة، حتى هبَّ الغريب واقفًا ومد يده ليُصافحه.
قال الغريب: «أنت لا تعرفني بالطبع. أعتقد أنه لم يسبق أن جمعَنا لقاء. أنا ابنُ خالك.»
تجاهل ألين اليدَ الممدودة للمصافحة.
وردَّ قائلًا: «ليس لي ابنُ خال.»
قال الغريب: «أنا برنارد هيتون، ابن خالك.»
قال ديفيد: «لقد مات برنارد هيتون.»
قال الغريب: «أستميحك عذرًا، إنه لم يَمُت. كنت سأعرف؛ فأنا هو.»
قال ديفيد: «أنت تكذب!»
جلس هيتون ثانيةً بعد أن كان واقفًا منذ دخول ابن عمتِه، وظل ألين واقفًا.
قال الوافد الغريب: «اسمع.» ثم أضاف: «لا يُكلِّف التهذيب شيئًا، و…»
قاطعه ألين: «لا يُمكنني أن أكون مهذبًا مع مدَّعٍ.»
قال هيتون: «أنت محق. يصعب ذلك. ومع ذلك، إذا كُنتُ مدعيًا، فلن يَضيرَك التهذيب، أما إذا تبيَّن أني لا أدَّعي شيئًا، فقد تجعلُ تلك اللهجةُ التي تُخاطبني بها الترتيباتِ المستقبليةَ أكثرَ صعوبة عليك. والآن، هلا تتكرم بالجلوس؟ فأنا لا أُحب أن أتحدث إلى شخصٍ واقف وأنا جالس.»
رد ألين: «هلا تتكرَّم أنت وتخبرني بما تُريد قبل أن آمُرَ خدَمي بطردك؟»
قال هيتون: «يبدو لي أنك ستُصعب الأمر على نفسك. لكني سأحاول تمالُكَ أعصابي، وإذا أمكنني ذلك فسيكون هذا بمنزلة إنجازٍ بالنسبة إلى عائلتنا. أتطلب مني أن أخبرك بما أريد؟ حسنًا، سأفعل. أريد الغرفَ الثلاث التي في الطابق الأول من الجَناح الجنوبي لي؛ تلك الغرف الثلاث المتجاورة. لاحظ أني على الأقلِّ أعرف المنزل. كما أريد أن تُقدَّم لي وجباتي هناك، ولا أريد أيَّ إزعاج في أيِّ وقت. وفوق ذلك أريد منك أن تدفع لي كلَّ عام مبلغًا من المال، لنقُل خَمسمائة أو سِتَّمائة، من إيرادات الترِكة. أعمل حاليًّا على بحثٍ علمي فريد من نوعه. يمكنني العملُ لجنيِ المال بالطبع، لكني لا أريد أن أنشغلَ على الإطلاق بالمسائل المالية. ولن أتدخلَ بأيِّ نحوٍ في استمتاعك بالتركة.»
رد ألين: «أنا متأكد من أنك لن تفعل. هل تَخالُني أحمقَ لدرجةِ أن أوافق على إيواءِ وإطعام أولِ متشرد لا يجد عملًا يأتي إليَّ مدعيًا كونَه ابنَ خالي المتوفَّى؟ الجأ إلى القضاء واقصُص قصتك هذه لتُودَع في السجن كأمثالك من المحتالين.»
قال هيتون: «بالطبع لم أتوقَّع أن تُصدِّق ما أقول على الفور. لو كنت تُجيد الحكم على الأشخاص لعرَفت أني لستُ متشردًا. لكن هذا ليس المهم. اختَر ثلاثة من أصدقائك. وسأعرض عليك أمامهم ما لديَّ من براهينَ وألتزم بقرارهم. ما من حلٍّ أكثرَ عدلًا من هذا، أليس كذلك؟»
قال ألين: «قلتُ لك الجأ للقضاء.»
رد هيتون: «سأفعلُ بكل تأكيد. لكن إذا فَشِلَت السبُل الأخرى. ليس مِن الحكمة أن ألجأ إلى القضاء إذا كانت هناك وسيلةٌ أخرى متاحة. لكن ما جَدْوى اتخاذِ هذا الموقف السخيف؟ فأنت تعلم أني ابنُ خالك. يمكنني التعرفُ على كل غرفة في المكان وأنا معصوبُ العينين.»
رد ألين: «أي خادمٍ مطرود يُمكنه ذلك. لقد ضِقتُ ذَرعًا بك. أنا لستُ رجلًا يُمكن ابتزازُه. هل ستُغادر المنزل بنفسك أم ستجعلني أطلب من الخدم طردك؟»
قال هيتون وهو يهمُّ بالوقوف: «أعتذر عن إزعاجك.» ثم أردف: «لكن أهذا ردُّك الأخير؟»
قال ألين: «قطعًا.»
فقال هيتون: «إلى اللقاء إذن. أراك في فيليبي.»
راقبه ألين وهو يبتعد في الجادة، وخطَر له أنه لم يتصرف على نحوٍ دبلوماسي.
توجَّه هيتون من فوره إلى المحامي جراي، وعرَض عليه الموقف. وأخبر المحاميَ بمطالبه المتواضعة، وطلب منه أن يتخذ التدابير التي تَحول دون إذاعةِ خبر الخلاف إذا رضَخ ابنُ عمته لمطالبه قبل بدءِ إجراءات الدعوى.
قال المحامي: «اعذرني فيما سأقول، لكن هذا يبدو ضعفًا.»
رد هيتون: «أعرف ذلك.» ثم أضاف: «لكنَّ دفوعي قويةٌ إلى درجةٍ تجعل هذا الضعف الظاهريَّ مقبولًا بالنسبة إليَّ.»
هز المحامي رأسه رافضًا. إذ كان يعرف أنْ لا شيء مضمون في القانون. وسرعان ما أدرك أن التسوية مُحالة في هذه القضية.
وصلَت القضية إلى المحكمة، وجاء الحكم لصالح برنارد هيتون تمامًا.
امتقَع وجه ديفيد ألين وشحب كالمحتَضَر، وأدرك أنه بات مرةً أخرى مفلسًا تمامًا لا يمتلك قَدمًا مربَّعةً واحدة من الأرض. وغادر قاعةَ المحكمة مُطَأطئًا رأسَه، ولم ينبس بكلمةٍ لمن كانوا يدافعون عنه. وهُرِع هيتون في أثره، حتى لحق به على الرصيف.
وقال لخَصمِه المهزوم: «كنت أعلم أن النتيجة ستكون كذلك.» ثم أضاف: «لم يكن ثَمة نتيجةٌ أخرى ممكنة. ولا أريد أن أُلقِيَ بك في الشارع صِفرَ اليدين. سأمنحك ما منعتَه عني. وسأُخصص لك راتبًا سنويًّا قيمته ألف جنيه.»
كان ألين يرتعش، ورمق ابنَ خاله بنظرةٍ واحدة أودع فيها كلَّ ما كنَّه له من كراهية مريرة.
وصاح فيه: «لقد نجحتَ أيها المخادع!» ثم أضاف: «أنت ومحاميك الشرير جراي. أقول لك إن …»
وفجأة قطع حديثَه دمٌ اندفع من جوفه إلى فمه، ثم سقط على الرصيف صريعًا. لقد فقد أرضَه وحياته في اليوم ذاتِه.
أسِفَ برنارد هيتون لما حدَث بشدة، لكنه واصل أبحاثه في المنزل، وصبَّ تركيزه على شئونه الشخصية. لم يكن له من الأصدقاء تقريبًا سوى المحامي جراي الذي ذاع صيتُه بعد أدائه اللافتِ في القضية الشهيرة. أفصح له هيتون عن بعض آماله، وأخبره بما تعلَّمه خلال السنوات التي غاب فيها عن العالم عندما كان في الهند، وقال إنه إذا نجح في الجمع بين غيبيَّات الشرق وعلم الغرب، فسيُخلَّد اسمه في التاريخ ولن يخبوَ صيتُه أبدًا.
وحاول المحامي — الذي كان رجلًا عمَليًّا — أن يَثنِيَ هيتون عن مواصلة أبحاثه الفريدة، لكن دون جدوى.
قال جراي: «ليس من وراء هذا طائل.» ثم أضاف: «لقد أفسدَتك الهند. مَن يَخُضْ في هذا المجال باستفاضة يفقِدْ صوابه. العقل أداةٌ هشَّة. فلا تعبث بها.»
رد هيتون مصرًّا: «لكن ستكون الاكتشافاتُ العظيمة في القرن العشرين في هذا المجال، كما كانت أعظمُ اكتشافات القرن التاسع عشر متعلقةً بالكهرباء.»
قال جراي: «ليس هذا كذاك. فالكهرباء مادةٌ لها وجود مادي.»
قال هيتون: «حقًّا؟ أخبرني إذن ممَّ تتكون؟ كلنا نعرف كيف تُولَّد، ونعرف بعضًا مما تفعل، لكن ما كُنهُها؟»
قال المحامي ضاحكًا: «سأطلب منك ستة شلنات وثمانية بنسات نظيرَ الإجابة عن هذا السؤال.» ثم أردف: «على أيِّ حال، هناك الكثيرُ مما لم يُكتشَف بعدُ عن الكهرباء. فلتلتفِتْ إلى ذلك ودَعْك من ترَّهات الهند هذه.»
ورغم غرابة ذلك، نجح برنارد هيتون في أبحاثه نجاحًا مبهرًا بعد عدةِ محاولات فاشلة كاد بعضُها يُودِي بحياته. يجب أن يُخاطر المخترعون والمكتشفون بحياتهم كالجنود، لكنهم لا ينالون المجدَ الدُّنيوي مثلهم.
في البداية، لم تتجاوز مساعيه غيرُ المرئية حدودَ منزله وممتلكاته في أول الأمر، لكنها بعد ذلك امتدَّت إلى حدودٍ أكبر، وكانت دهشته بالغةً عندما التقى ذاتَ يوم بروح الرجل الذي كان يكرهه.
قال ديفيد ألين: «آه، يبدو أنَّ عمرك لم يَطُل كثيرًا لتستمتعَ بما ربحتَه بالطرق الملتوية.»
رد هيتون: «لقد أخطأتَ في هذا العالم كما كنتَ مخطئًا في العالم الآخر. أنا لم أمُت.»
سأل ألين: «لماذا أنت هنا وفي هذه الهيئة إذن؟»
رد ألين: «أعتقد أن إخبارك لن يَضير. ما كنتُ أريد اكتشافه، عندما رفضتَ الإنصاتَ لي، هو كيفية الفصل بين الروحِ وحاملِها، الجسد؛ أعني، بصورةٍ مؤقَّتة وليست دائمة. جسدي يقبعُ الآن على ما يبدو نائمًا في غرفةٍ مغلَقة في منزلي؛ إحدى الغرف التي توسَّلتُ إليك أن تمنحَني إياها. وخلال ساعةٍ أو ساعتين سأعود وأستردُّه من جديد.»
قال ألين: «وكيف لك أن تستردَّه أو تتركَه؟»
سعد هيتون لملاحظة اختفاء الضَّغينة التي كانت أكثرَ ما ميَّز ألين فيما مضى، ولم يرَ خطرًا في إعطاء أيِّ معلومات لروحٍ انفصلَت عن جسدها من وجهة نظر العالم، فمضى يشرح الموضوع الذي تملَّك من عقله كلِّه.
وبعد أن فرغ هيتون من الشرح، قال ألين: «هذا مثيرٌ جدًّا.»
ثم افترقا.
انطلق ديفيد ألين من فوره إلى المنزل الذي لم يكن قد رآه منذ اليومِ الذي غادرَه فيه لحضور المحاكمة. ومرَّ بالغرف التي كان يألفُها بسرعة حتى دخل الغرفة المغلقة الموجودة في الطابق الأول من الجناح الجنوبي. وكان جسدُ هيتون على السرير، وقد خلا وجهُه من أيِّ لون تقريبًا، لكنه كان يتنفَّس بانتظام، ولو كانت الأنفاسُ ضعيفةً تصعب ملاحظتها، كحركةٍ ميكانيكية داخل تمثال من الشمع.
لو كان في الغرفة حينئذٍ مُشاهد، لرأى عودةَ اللون ببطء إلى الوجه النائم وهو يبدأ في الاستيقاظ تدريجيًّا، ثم الجسدَ وهو ينهض من على السرير.
شعر ألين وهو في جسمِ هيتون بعدمِ ارتياح شديد في أول الأمر، كما يشعر الرجل إذا ارتدى بِذْلةً مقاسُها لا يُناسبه. كما أزعجته الحدود التي فرَضَتها عليه سُكْنى جسمٍ بشري من جديد. أجال نظرَه في الغرفة متفحصًا. ووجدَ أثاثها بسيطًا. ووجد على مكتبٍ في زاوية الغرفة مخطوطةَ كتابٍ مُعدٍّ للطباعة، مسطور بدقة وتنظيم يميزان رجلَ العلم. ووجد أعلى المكتبِ ورقةً ملصَقة على الحائط مُعَنونةً كالتالي:
«ما يجب عليك فعله إذا وجدتَني هنا في حالةٍ تشبه الموت.» وكانت تحتَ العنوان تعليماتٌ مكتوبة بوضوح. كان من الواضح أن هيتون لم يضَع ثقته في أحد.
إذا عزمتَ على الانتقام، فيجدر بك أن تجعل انتقامك كاملًا بقدر الإمكان. أخذَ ألين المخطوطةَ ووضعها في المدفأة، وأشعل النار بعودِ ثقاب. وبذلك قضى على فرصةِ غريمه في ذُيوع صيته بعد وفاتِه، وتخلَّص أيضًا من دليلٍ كان من الممكن في ظروفٍ معينة أن يُثبت جنون هيتون.
فتَح ألين الباب، وهبط الدرَج، فصادف خادمًا أخبرَه أن الغداء جاهز. ولاحظ أن الخادم كان واحدًا ممن كان قد سرَّحَهم، فأدرك أن هيتون كان قد أعاد تعيينَ كلِّ الخدم القدامى الذين تقدَّموا لاستعادة وظائفهم بعد أن ذاعَت نتيجةُ المحاكمة. وقبل أن يفرغ من تناوُل الغداء لاحظَ أن بعضًا من خدمه هو أيضًا ما زالوا في وظائفهم.
قال ألين للخادم: «استدعِ حارسَ حيوانات الصيد للقائي.»
حضَر براون الذي كان يعمل في الضَّيعة لعشرين عامًا لم تنقطع إلا في الأشهر القليلة التي طردَه فيها ألين من عمله.
سأله ألين: «ماذا لديَّ من المسدسات يا براون؟»
أجابه براون: «سيدي، لديك مسدسا المنازَلةِ اللذان يخصَّان الإقطاعيَّ العجوز، وهما قديمان بعضَ الشيء يا سيدي، ولديك مسدَّساك أنت، وذلك المسدس الأمريكي الدوار.»
قال ألين: «وهل يعمل المسدس الدوار جيدًا؟»
رد براون: «أوه، نعم، سيدي.»
قال ألين: «أحضِره لي إذن ومعه بعض الطلقات.»
عندما عاد براون حاملًا المسدسَ الدوار، أخذه سيده وتفحصه.
قال براون متوترًا: «توخَّ الحذر يا سيدي.» ثم أضاف: «تعلم سيدي أنه ينطلق بسهولة.»
سأل ألين: «أنه ماذا؟»
«مسدس دوار ينطلق بسهولة يا سيدي.» هكذا رد براون، وحاول أن يكتمَ اندهاشه من سؤال سيده عن سلاحٍ من المفترض أنه كان يعرفه جيدًا.
قال ألين: «أرِني ما تعني»، وأعاد إليه المسدس.
وشرح براون أن المسدس يُطلق النار بمجرد سحب الزناد.
قال ألين: «والآن أطلِق النار على النافذة الخلفية، ولا تأبَهْ للزجاج.» ثم أردف: «لا تقف فاغرًا فاك هكذا، افعل ما أطلبُه منك.»
أطلق براون النارَ من المسدس، وانكسرت من زجاج النافذة قطعةٌ صغيرة على شكل الماسة.
سأل ألين: «كم مرةً يُمكن إطلاقُ النار من المسدس دون إعادة تلقيمه؟»
رد براون: «سبع مرات يا سيدي.»
قال ألين: «جيد جدًّا. لقِّمه بطلقةٍ بدلًا من التي أطلقتَها، واتركه معي. واعرِف موعد القطارِ المتجهِ إلى المدينة وأخبرني.»
سيُستشهَد بواقعةِ غرفة الطعام هذه في المحاكمة لإثبات جنون برنارد هيتون، لكنها لن تُفلِح. وسيَشهد أيضًا براون بأن طباعَ سيده ذلك اليوم كانت غريبة.
وجد ديفيد ألين في جيوب برنارد هيتون كل ما احتاج إليه من نقود. واستقلَّ القطار حتى وصَل إلى محطته، ومنها استقل عربة أجرة مباشرةً إلى مكتب محاماة السادة جراي وليسون وجراي، متعجِّلًا للَّحاق بالمحامي قبل أن يُغادر المكتب.
أبلغ موظفَ الاستقبال بأن السيد هيتون يودُّ مقابلة السيد جراي الأكبر للحظاتٍ قليلة. ثم طلب من ألين الدخولَ إليه.
قال الموظف: «أنت تعرف الطريق يا سيدي.»
تردَّد ألين.
ثم قال: «فلتتقدَّمْني، رجاءً.»
كان الموظف مدرَّبًا تدريبًا جيدًا، فلم يُظهِر مفاجأته، بل تقدمه إلى باب السيد جراي.
قال المحامي مرحبًا: «كيف حالك يا هيتون؟» ثم أردف: «تفضَّل بالجلوس. أين كنت كلَّ هذا الوقت؟ وكيف تسير تَجارِبُك الهندية؟»
قال ألين: «بخير حال، بخير حال.»
ما إن سمع المحامي صوته حتى رفع رأسه يُحدق فيه فجأة، ثم بدا عليه الاطمئنانُ فواصل كلامه قائلًا:
«لا تبدو كما كنتَ في السابق. أعتقد أنك أبقيتَ نفسك في المنزل وقتًا أطولَ من اللازم. ينبغي أن توقف أبحاثك وتخرجَ للصيد هذا الخريف.»
قال ألين: «هذا ما أنوي فعله، وأرجو أن تُرافقني.»
قال المحامي: «يُسعدني ذلك، على الرغم من أني لا أُجيد الصيد.»
قال ألين: «أود أن أتحدث معك للحظاتٍ قليلة على انفراد. هل تُمانع في غلق الباب حتى لا يُقاطِعَنا أحد؟»
قال المحامي وهو يُدير المفتاح في الباب لغلقه: «لن يُقاطعنا أحد هنا.» ثم عاد إلى مقعده وأضاف: «ليس هناك أمرٌ خطير، أليس كذلك؟»
قال له ألين وهو يسحب كرسيَّه ليكون بين جراي والباب، والطاولة تفصل بينه وبين جراي: «بل الأمر خطير، هل تُمانع إن جلستَ هنا؟» وكان المحامي يُراقبه في قلق، لكن لم يساوره تخوفٌ جِدِّي بعد.
قال ألين: «والآن، هلا أجبتَني عن سؤال بسيط؟ إلى مَن تتحدث الآن؟»
بلَغَت دهشة المحامي المدى وكرَّر مستفهمًا: «إلى مَن …؟»
قال ألين: «نعم، إلى مَن تتحدث؟ اذكر الاسم.»
قال المحامي: «هيتون، ما خطبُك؟ هل أنت مريض؟»
قال ألين: «ها قد ذكرتَ اسمًا لتوِّك، لكن نظرًا إلى كونك وغْدًا ومحاميًا، لا يمكنك تقديمُ إجابة مباشرة عن سؤال بسيط جدًّا. أنت تظن أنك تتحدث إلى ذلك البائس برنارد هيتون. صحيح أن الجسم الذي أمامك هو جسم هيتون، لكن الرجل الذي يُحدثك الآن هو ديفيد ألين، الذي احتَلْتَ عليه ثم قتلتَه. اجلس. إذا تحركتَ فستكون في عداد الأموات. لا تُحاول الاقتراب من الباب. هناك سبعُ رصاصاتٍ مميتة في هذا المسدس يُمكنني إطلاقُها كلها في أقلَّ من سبع ثوانٍ؛ لأن هذا المسدس لا يتطلب أكثرَ من سحب الزناد. وستحتاج إلى عشر ثوانٍ على الأقل للوصول إلى الباب؛ لذا اثبت مكانك ولا تُحرك ساكنًا. سيُفاجئك مدى حِكمة هذه النصيحة، حتى لو أتت ممَّن قد تعتقده رجلًا مجنونًا. سألتني منذ دقيقةٍ عن سَير التجارِب الهندية، وأجبتك أنها سارت على خير حال. وبالفعل غادر برنارد هيتون جسدَه هذا الصباحَ، وسكنتُه أنا ديفيد ألين. هل تفهم ذلك؟ أعترف بأن وضعًا كهذا قد يصعب على عقلٍ قانونيٍّ فَهمُه.»
رد جراي بنبرة عدمِ تصديق: «آه، إنه ليس كذلك على الإطلاق.» ثم أضاف: «أفهم الوضع جيدًا. الرجل الذي أراه أمامي هو شبحُ ديفيد ألين، أو روحه أو حياته، أو أيًّا ما تودُّ أن تُطلق عليه، في جسم صديقي برنارد هيتون. روح صديقي تهيم الآن في بحثٍ غيرِ مُجدٍ عن جسدها المفقود. ربما كانت موجودةً في هذه الغرفة الآن، لا تعرف كيف لها أن تستصدر أمرًا قانونيًّا روحانيًّا بطردك.»
قال ألين: «أنت تُظهِر سرعةً في الفهم لم أتوقَّعْها منك.»
رد عليه جراي: «شكرًا»، رغم أنه خاطب نفسه قائلًا: «لقد مسَّ الجنونُ هيتون! الجنون التام، كما توقَّعت. وهو مُسلَّح. الوضع أصبح خطيرًا. لا بد أن أُسايِرَه.»
ثم خاطبه مجددًا: «شكرًا. والآن هل لي أن أعرفَ ماذا تريد أن تفعل؟ إنك لم تأتِ إلى هنا للحصول على مشورة قانونية. لم تكن أحدَ عملائي قط، لسوء حظي.»
قال ألين: «كلا. لم آتِ لتقديم المشورة أو لتلقِّيها. أنا هنا معك وحدنا — تذكَّر أنك أمرتَ بعدم مقاطعتنا — فقط للانتقام لنفسي منك ومِن هيتون. اسمع، سيُدرك عقلُك الفذُّ وجاهةَ الخُطة. أنا سأقتلك في هذه الغرفة. ثم سأسلِّم نفسي. وسأغادر هذا الجسدَ في سجن نيوجيت ثم سيعود إليه صديقُك، أو لا يعود، حسَبما يريد. قد يترك الجسمَ الخاليَ من الروح ليموت في الزنزانة أو يَسكنه فيُعدَم شنقًا بتهمة القتل. هل ترى الآن كمالَ خُطة انتقامي منكما؟ هل تعتقد أن صديقك سيريد سُكْنى جسده مرة أخرى؟»
قال المحامي: «هذا سؤال وجيه»، وكان في الوقت ذاتِه يُزحزح كرسيَّه بحركاتٍ غير ملحوظة ويحاول مدَّ يده وراءه محاولًا الوصولَ إلى زرٍّ كهربائي على الحائط دون أن يلحظه زائره. ثم واصل كلامه قائلًا: «هذا سؤالٌ وجيه، وأريد بعض الوقت للتفكير فيه من كلِّ جوانبه قبل أن أُعطِيَك إجابة.»
قال ألين: «يُمكنك الحصولُ على الوقت الذي يكفيك. لستُ في عجَلةٍ من أمري، وأودُّ منك أن تُدرك موقفك قدْر الإمكان. اسمح لي أن أخبرك بأن الزرَّ الكهربائي على اليسار قليلًا وأعلى قليلًا من مكان يدِك الآن. أقول لك ذلك لأن عليَّ أن أُضيف — من واجبي ناحيتك — أن لحظةَ لمسك إياه سينتهي الزمنُ بالنسبة إليك. سأُطلق النار فورَ لمسك للزر العاجي.»
أسند المحامي ذراعَيه أمامه على الطاولة، وبدَت في عينيه للمرة الأولى نظرةُ قلقٍ وارتباك سرعان ما تبدَّدَت منهما بعد لحظةٍ أو لحظتين من الخوف الشديد عندما استعاد زِمامَ أعصابه مجددًا.
قال في النهاية: «أودُّ أن أسألك سؤالًا أو سؤالين.»
قال ألين: «اسأل ما تريد. لستُ في عجلة من أمري، كما قلت من قبل.»
قال جراي: «أشكرك على تَكْرارك لذلك. إذن، السؤال الأول هو: هل أثَّرَت سُكناك لعالمٍ آخرَ بصورة مؤقتة على قُدرتك على التفكير المنطقي؟»
رد ألين: «لا أظن ذلك.»
قال جراي: «آه، كنت آمُل أن يكون تقديرك للمنطق قد تحسَّن خلال … دَعنا نُسمِّه مدَّة غيابك؛ لم تكن منطقيًّا جدًّا … لم تكن قابلًا للدخول في نقاش منطقي في السابق.»
قال ألين: «كنتُ أعلم أن هذا رأيك.»
قال جراي: «كان هذا رأيي؛ ورأي مستشارك القانوني نفسِه، بالمناسبة. حسنًا، والآن دعني أسأَلْك لماذا تُكِنُّ لي هذا البغضَ المرير؟ لم لا تقتل القاضي الذي حكَم ضدَّك، أو أعضاء هيئة المحلَّفين الذين أجمَعوا على إصدار الحكم لصالحنا؟ لم أكن سوى أداة، وهم أيضًا.»
قال ألين: «حِيَلي الشيطانية هي التي أدَّت إلى ربحك للقضية.»
قال جراي: «هذا قول فيه إطراءٌ لكنه غيرُ صحيح. كانت القضية سهلةً جدًّا. لكنك لم تُجِبني. لمَ لا تقتل القاضيَ وأعضاءَ هيئة المحلَّفين؟»
قال ألين: «سيُسعدني ذلك إذا تمكنتُ منهم. أترى الآن أني منطقي تمامًا؟»
قال المحامي: «تمامًا، تمامًا.» ثم أردف: «أودُّ أيضًا أن أسألك سؤالًا آخر. ماذا سلَبتُك حيلي الشيطانية؟»
رد ألين: «سلَبتَني ممتلكاتي، ثم حياتي.»
قال جراي: «أنا أُنكر التهمتَين، لكني سأُقِر بهما مؤقتًا. أولًا دَعْنا نتحدث عن مسألة ممتلكاتك. فقد كانت مهددةً أصلًا بعودة برنارد هيتون في أي وقت.»
قال ألين: «بعودة برنارد هيتون الحقيقي، نعم.»
قال جراي: «حسنًا إذن. ها أنت قد استعدتَ ممتلكاتك الآن، ونظرًا إلى أن لديك الآن شكلَ هيتون الخارجي، فلا يمكن أن يُشكِّك أحدٌ في حقوقك. وأصبحَت ممتلكاتك الآن مضمونةً لك في وضعك الآن، أما في السابق فكان وضعك لا يضمنُها لك. هل تفهمني؟»
قال ألين: «أفهمك تمامًا.»
قال جراي: «دعنا ننتقِلِ الآن إلى مسألة حياتك. كان جسدُك في السابق ضعيفًا ومَحنيًّا ومريضًا، جسدًا انهارَ بفعلِ انفعالٍ استثنائي كما اتضَح. أما جسدك الآن فهو قويٌّ ومُعافًى، ويبدو أن سنواتِ عمره لم يزَل يبقى منها الكثير. هل تُقِر بصحة كلِّ ما قلتُ في المسألتين؟»
قال ألين: «أُقِر بذلك.»
قال جراي: «إذن للتلخيص، فوضعُك الآن فيما يتعلق بحياتك وممتلكاتك أفضلُ، من كافة النواحي، من الوضعِ الذي سلَبَك إياه خُبثي … أم قلتَ عبقريتي؟ … بل قلتَ حِيَلي. لماذا تُنهي كلَّ هذا بسرعة؟ لماذا تودُّ قتلي؟ لِمَ لا تعيش حياتَك في ظروفٍ أفضل، وفي ترفٍ وصحة، وبذلك تنتقم من برنارد هيتون أشدَّ انتقام؟ إذا كنتَ منطقيًّا حقًّا، فلتُظهِر ذلك الآن.»
قام ألين ببطءٍ ممسكًا بالمسدس بيُمناه.
وصاح: «أيها المحتال البائس!» ثم أردَف: «أيها المحامي الحقير … المخادِعُ إلى النهاية! إنك تتخلى عن صديقك بكلِّ بساطة لتُطيل عمرك البائس! أتظن نفسَك تُخاطب الآن قاضيًا منحازًا أو محلَّفين سُذَّجًا لا عقلَ لهم؟ أنتقم من هيتون؟ قد انتقمتُ منه بالفعل. لكن لم يتبقَّ في انتقامي إلا موتُك. هل أنت مستعدٌّ له؟»
صوَّب ألين المسدس على جراي، ووقف جراي هو الآخر وقد شحب وجهُه. وركَّز عينيه على الرجل الذي كان يظنه مجنونًا. زحفت يده على الحائط. وعمَّ صمتٌ مشوبٌ بالتوتُّر بينهما. لم يُطلق ألين النار. تحركت يد المحامي ببطء إلى الزر الكهربائي. وأخيرًا شعر بالحافة المصنوعة من الأبنوس وضغطَت أصابعُه على الزر بسرعة. وفي وسط الصمت، جاء الرنين المهتز للجرس الكهربائي من الأسفل. وقطع الصمتَ فجأةً الصوتُ الحاد لإطلاق رصاصةٍ من المسدس. وجثا المحامي على ركبة واحدة رافعًا إحدى ذراعيه أمامه كمن يُحاول اتقاءَ هجوم وشيك. ثم انطلق صوتُ إطلاق النار من المسدس مرة أخرى، فوقع جراي على وجهه. واخترقَت الرصاصاتُ الخمسُ المتبقية جسمًا فارقته الحياة.
علَت في الغرفة طبقةٌ من الدخان الأزرق كما لو كانت الروحَ الراحلة من الرجل الذي استلقى على الأرض بلا حَراك. وكثرَت الأصواتُ المنفعلة خارجَ الغرفة، وحاول أحد المحتشدين بالخارج كسر الباب بثقلِ جسده ولكنه أخفقَ في ذلك.
مشى ألين إلى الباب، وأدار المفتاح وفتَحه. وقال: «لقد قتلتُ رئيسَكم.» وسلَّم المسدس إلى أقربِ رجل موجهًا أخمصَه إليه. وقال: «أنا أستسلم! اذهبوا وأحضروا ضابطًا.»