ملحمتا هوميروس عند علماء فقه اللغة
علماء فقه اللغة هم «عُشاق اللغة» وكل شيء عن اللغة يُثير اهتمامهم، ولكن ليس اللغة من ناحية كونها مَلَكةً بشريةً عامَّة؛ فعلماء اللغويات يَضطلِعون بذلك. إن علماء فقه اللغة الكلاسيكيِّين مهتمون تحديدًا باللغتَين اليونانية واللاتينية، أو بما يمكننا أن نَستنتِجه بشأنهما من العدد الضخم من الصفحات المكتوبة التي لا تزال باقية. غير أنَّه من السهل أن ينسى علماء فقه اللغة أننا لا نعرف شيئًا عن اللغتَين اليونانية واللاتينية بطريقةٍ مباشرة، وإنما نتعامَل دومًا مع تجسيدٍ مكتوبٍ يستند إليهما. فالكتابة هي نظام يُعبِّر عن اللغة باستخدام رموزٍ مكتوبة وهي ليست — بأي حال من الأحوال — وسيلةً علميةً لتجسيد الخطاب الشفَهي. وعلى ذلك فإن البَون شاسعٌ جدًّا بين الكتابة والخطاب الشفهي، كما يُدرك مثلًا أيُّ أَحدٍ يدرس اللغة الفرنسية، ثم يسافر إلى باريس.
وهكذا لم يُكتب للخطاب الشفهي اليوناني القديم واللاتيني البقاء، لكن «النصوص» بَقِيَت، وأصل كلمة «نصوص» بالإنجليزية هو كلمة لاتينية تعني «شيءٌ منسوج». يُسيء كثيرون فهم ملحمتَي هوميروس بعجزهم عن تذكُّر أنها نصوص وأن النصوص مكتوبةٌ برموز؛ أمَّا الخطاب الشفهي، فعلى العكس، ليس مُرمَّزًا (رغم أنه قد «يكون» هو نفسه رمزًا). ويُحتمل في النصوص أن تبقى إلى الأبد، أمَّا الخطاب الشفهي فسريع الزوال. النصوص هي أشياءُ مادية وعُرضة للفساد والإفساد والخطأ. أمَّا الخطاب الشفهي فغير مادي ويختفي على الفور. لقد مات هوميروس منذ زمنٍ بعيد، لكن نصوصه سوف تبقى إلى الأبد.
من أين أتت «نصوص» هوميروس؟ هذا هو السؤال الذي يرغب عالم فقه اللغة في التوصُّل إلى جواب له أكثر من أي شيءٍ آخر.
(١) ما المقصود بالنص الهوميري؟
من السهل العثور على نصوص القصائد الهوميرية؛ فهي تُطبع باستمرار منذ أول إصدارٍ مطبوع لها في فلورنسا في عام ١٤٨٨، بعد أعوام فقط من اختراع الطباعة بواسطة الحرف الطباعي القابل للحركة. ولأنَّ النصَّ شيء مادي، فإن له شكلًا مُعينًا: ليس فقط نسيج ولون الورق أو الجلد، وإنما الاصطلاحات التي تُشكَّل بها الرموز. كانت الإصدارات المطبوعة الأولى مُعَدةً بخطوط تُحاكي شكل الكتابة اليدوية في المخطوطات البيزنطية من العصور الوسطى، وهو نظام لضَبْط التَّهْجِئَة (أي: «طريقة للكتابة») تَغيَّر كثيرًا منذ الأزمنة القديمة، يشتمل على الكثير من الاختزالات والأحرف المُزدوَجة التي يُدمَج فيها أكثر من حرف في رمزٍ واحد. بالتأكيد لم يكن أفلاطون يستطيع قراءة النص المطبوع الأول لأعمال هوميروس، ولا يستطيع الباحث المعاصر ذلك دون تدريبٍ خاص، وحتى الأستاذ الجامعي الذي أمضى حياته بكاملها في تدريس ودراسة اللغة اليونانية القديمة.
عند قراءة نص قديم كهذا، تحدث عملية تبادل المعنى من الشيء المادي إلى العقل البشري بطريقة مختلفة عما يحدث عندما نقرأ ملحمتَي هوميروس بقواعد الكتابة (ضَبْط التَّهْجِئَة) اليونانية بطريقة بورسون، أو بالترجمة الإنجليزية.
يهتمُّ علماء فقه اللغة اهتمامًا شديدًا بالكيفية التي ربما كان يتمُّ بها هذا الأمر. في ظاهر الأمر أن القارئ اليوناني في القرن الثامن قبل الميلاد كان يفكُّ رموز كتابته «سماعيًّا». ولهذا السبب لم يشعر اليوناني القديم، سواء كان رجلًا أو امرأة، بالحاجة إلى تقسيم الكلمات إلى مقاطع أو إلى تقسيم السطور أو الأبيات، أو إلى علامات تشكيل، أو علامات لتحديد الفقرات، أو علامات اقتباس؛ لأنَّ الرموز بالنسبة إليه (ولها في حالات نادرة) كانت تُعَبِّر عن فيض متَّصل من الأصوات. وبعد ألف سنة من تأليف ملحمتَي هوميروس، ظل الإغريق لا يُقسِّمون كلماتهم (في اللغة اللاتينية، غالبًا ما كانت الكلمات تُقسَّم منذ أقدم العصور).
حينما نقرأ اللغة اليونانية المعاصرة (أو الإنجليزية)، في المقابل، فإننا نفك رموز النص «بالنظر». ونهتم اهتمامًا بالغًا بتحديد الموضع الذي تنتهي فيه إحدى الكلمات والموضع الذي تبدأ عنده أخرى؛ فهيئة النص دلالية، أي إنها تحمل معنًى، ومثال ذلك عندما يخبرنا حرفٌ كبير أن «جملةً ما تبدأ هنا»، أو عندما تُطلِعنا نقطة على أن «جملةً ما تنتهي هنا»، أو عندما تقول لنا مسافةٌ ما إن «الكلمة تنتهي هنا.» صحيحٌ أن نص ملحمتَي هوميروس الذي بين أيدينا يَنحدِر مباشرةً من نص إغريقي قديم، ولكننا نتلقَّى النص بطريقة مختلفة.
عندما يسعى علماء فقه اللغة المعاصرون إلى استعادة «نص أصلي» أقرب ما يمكن من ملحمتَي هوميروس، كما يزعم المُحرِّرون، فهم في الحقيقة لا يقصدون مطلقًا أنهم سوف يُعيدون بناء نصٍّ أصلي، لربما كان هوميروس سيعترف به. بل إنهم يُقدِّمون تخريجًا للكيفية التي قد يُفسَّر بها نصٌّ أصلي تبعًا للقواعد الحديثة. فما يبدو أنه «قواعد كتابة (ضَبْط التَّهْجِئَة)»، أو بكلمات أخرى «الطريقة التي يُكْتَب بها شيءٌ ما»، في نصٍّ حديث لملحمتَي هوميروس، هو في الحقيقة توضيحٌ تحريري للمعنى والتراكيب النحوية للجمل. ولو قدَّم لنا المُحرِّرون ملحمتَي هوميروس الأصليتَين، كما كانتا حقًّا، لما استطاع أحدٌ قراءتها.
(٢) النصوص الأقدم
أحد سبل العثور على مصدر شيءٍ ما، أي على أصله، هو اقتفاء أثره، وكأنك تمضي في عكس التيار حتى تجد منبع الماء. هذا المصدر في الفيزياء يُمكن أن يكون بدايات نشأة الكون، ولكن هذا النبع في الدراسات الهوميرية هو أول نصٍّ لملحمتَي هوميروس على الإطلاق. أحيانًا يعتقد الناس أنه كان يُوجد نصوصٌ أُولى «كثيرة»، ولكن التباينات في نُسخ ملحمتَي هوميروس الباقية التي بين أيدينا قليلة جدًّا، مما يدعو إلى القول أنه لا يُمكن أبدًا أن يكون قد وُجِد أكثر من نصٍّ أول واحد، وهو النص الذي نبحث عنه. إن إدراك أنه كان يُوجد نصٌّ أول لملحمتَي هوميروس، أي إنه ذات يوم كان يُوجد نصٌّ واحد فقط لا غير من ملحمة «الإلياذة» وملحمة «الأوديسة»، لهو أمرٌ جوهري للدراسات الهوميرية الحديثة. دعونا نَرَ ما سيحدث عندما نرتحل عكس التيار، بحثًا عن الفترة الزمنية التي خرج فيها ذلك النص للوجود.
اعتقد البعض أن كل كتاب من «الكتب» الأربعة والعشرين المُكوِّنة لكلٍّ من «الإلياذة» و«الأوديسة» يُمثِّل المقدار الذي يصلُح لأن يُوضع بصورةٍ مناسبة على لفيفة، بَيْد أن اللفائف كانت أطول بكثير وتستوعب «كتابَين» أو ثلاثة بسهولة؛ وكثيرٌ من اكتشافاتنا من البرديات التي تحوي ملحمتَي هوميروس كان عبارة عن لفائفَ احتوت على كتبٍ عديدة. أمَّا أصول تقسيم الملحمتَين إلى أربعة وعشرين كتابًا لكل ملحمةٍ منهما فهي غير جلية، ولكن لعلَّ المُختصِّين بالمكتبات ابتغَوا الإشارة إلى أن هذه القصائد الكلاسيكية اشتملَت على المعرفة البشرية من الألف إلى الياء؛ أو أن الكتب شكَّلَت تقسيماتٍ مُساعِدة يُمكن حفظ كلٍّ منها في الذاكرة كوحدةٍ واحدة (ومع ذلك يظل التساؤل قائمًا: لماذا التقسيم على أساس كتابٍ واحد لكل حرف من الأبجدية؟) أو أن التقسيم يسَّر الفهرسة في الموزيون، وتعني باللغة اليونانية القديمة «المعبد المُكرَّس للميوزات (ربَّات الإلهام)»، في الإسكندرية في القرن الثالث قبل الميلاد (ولكن لماذا الأربعة والعشرون حرفًا بأكملها؟) وتُوجد دلائل تشير إلى أن التقسيم كان سابقًا على الحِقبة الإسكندرية، ولكن لا يمكننا التيقُّن من توقيت حدوث التقسيم على وجه التحديد. في أواسط القرن الخامس قبل الميلاد كان هيرودوت لا يزال يشير إلى القصائد مستخدمًا مُسمَّى «حادثة»، وليس باستخدام مُسمَّى «كتاب».
والمُرجَّح أن معظم النَّظْم المكتوب — والذي نحسب أنه كان كذلك — كان يجري على ألواح سريعة الزوال ومتكررة الاستخدام كهذه، وإن كان لا بد وأن بداية النصوص الهوميرية ذات الطول الهائل كانت على لفائفَ من ورق البردي مباشرةً. ويرجع السبب في بقاء معظم الأدب الإغريقي إلى أنه، في وقتٍ ما، نُقِل ما كان مكتوبًا على ألواح إلى أوراق البردي، تلك المادة المُعمِّرة السهلة النقل على نحوٍ مدهش.
أتاح مُجلَّد المخطوطات للقارئ البحث عن الأشياء بتقليب صفحات النص، كما نفعل هذه الأيام، في حين أنه كان من المُعْضِل البحث عن شيءٍ ما في لفيفة. كان تصميم مجلد المخطوطات يُشَكِّل ما هو أشبه بفاصل بين الأدبيات القديمة والحديثة. فما لم يُنقَل العمل من ملفوفة البردي إلى مجلد المخطوطات في القرون المسيحية الأُولى، ومن ثَمَّ يتخطَّى حاجز تغيُّر التصميم، كان يُفقَد: ومثال ذلك المجموعة الكاملة لكتابات الشعراء الغنائيِّين اليونانيِّين المجهولِين، التي لم يُقرأ منها إلا نذرٌ يسير في القرون المسيحية الأولى، ومن ضمنهم الشاعران الشهيران صافو وألكايوس (اللذان لم ينجُ من أعمالهما إلا بضعة أبيات، أغلبها من بردياتٍ عُثِر عليها في مصر). ولعلَّنا نعيش في الوقت الحاضر انفصالًا مماثلًا بين حفظ المعلومات في نُسخٍ مطبوعة وبين حفظها في ملفاتٍ إلكترونية، ومن ثَمَّ يُنقَل قدرٌ كبير بينما يظل قدرٌ كبير آخر غير منقول؛ وعليه فمن المُستبعَد أن تظل مكتباتُنا الورقية الحالية قائمة، إلا في صورة آثار، في غضون مائة عام من وقتنا هذا. ويَصدُق القول نفسه على عشرات المليارات من الشرائح الفوتوغرافية الشفَّافة من مقياس ٣٥ ملليمترًا، التي ستَندثِر إن لم تُحَوَّل إلى شكلٍ رقمي.
(٣) الإسكندريون
بطريقةٍ ما حقَّق العلماء الإسكندريون التوازن في نصِّ ملحمتَي هوميروس وضبطوه، بل إنهم أَنشَئوا صيغة «الفولجاتا» أو الصيغة «الشائعة» التي نُقلت فيما بعدُ من البردي إلى مُجلَّدات المخطوطات. ويأتي أفضل الدلائل لدينا على المُشكلات التي واجَهَها الإسكندريون من الشذرات العديدة من قصائد هوميروس والتي كُتِبَت لها النجاة على بردياتٍ وُجِدَت في مصر (في الغالب الأعم على أغلفة مومياوات لتماسيح مقدَّسة)، أكثر بكثير مما يُنسَب لأي مؤلِّف آخر. فما يقرب من ثلث كل الشذرات الأدبية التي عُثر عليها في مصر لهوميروس؛ وتُظهِر أجزاء من «الإلياذة» ثلاث مراتٍ أكثر من أجزاء «الأوديسة». ولا يزال يُوجد ما يَقرُب من أربعين شذرة من القرن الثالث وأوائل القرن الثاني قبل الميلاد، وغالبًا ما تحتوي هذه الشذرات على «أبياتٍ دخيلة» لا وجود لها في نص الفولجاتا. المُثير للانتباه أن التبدُّل في النصِّ يسير باتجاه الإضافة فقط؛ إذ لا نجد أبياتًا تسقط. ففي الأغلب الأعم تُكرَّر «الأبيات الدخيلة» بيتًا أو أبياتًا تُوجَد في موضعٍ آخر أو تكون عبارةً عن تنويعاتٍ محدودة لأبياتٍ موجودة في مواضع أخرى، أو توليفات لأجزاء من أبيات تظهر في مواضعَ أُخرى، ولا تُحدِث بأي حال من الأحوال تغييرات في السرد بإضافة شخصيات أو أحداث، رغم أنه في حالةٍ متطرِّفة تَحتوي شذرة بردي من القرن الثالث قبل الميلاد على ثلاثين بيتًا مزيدًا من بين تسعين بيتًا محفوظًا.
إننا نودُّ بالتأكيد أن نَعرف مصدر هذه الأبيات وعلاقتها بأي نصٍّ سابق، ولكن يَتعيَّن علينا أن نعتمد على التكهُّنات. أحيانًا ما يَتصوَّر المُعلِّقون أنه لا بد وأن يكون «إبداعًا رابسوديًّا (الرابسوديون في التراث الشعري الإغريقي يُقصد بهم رواة الملاحم)» هو المسئول عنها، كما لو أن شاعرًا مؤديًا أضاف أبياتًا جديدة تَسلَّلَت إلى النص. على أي حال، ليس المهم ما يُقال، وإنما ما يُكتَب. فقد كان تدوين نص من قصائد هوميروس يُعدُّ من المَهامِّ الجِسام، وليس شيئًا كان يقوم به شاعرٌ مُؤدٍّ في كل مرة يُكرِّر بيتًا أو يُعيد صياغته. ويَتصوَّر آخرون أن «الأبيات الدخيلة» تعكس تعدُّدية أساليب التعبير التي اعتدناها في أشكال التراث الشفهي، كما لو أن النُّسَّاخ دوَّنوا «الإلياذة» و«الأوديسة» مَرَّةً بعد أُخرى من مُنشدِين مُختلفِين في مرَّاتٍ مختلفة، فيُبدِّلون في مرة هذه الكلمة، وفي مرة أخرى تلك الكلمة، ويُضيفون بيتًا هنا أو آخر هناك، ونطاق التباينات محدودٌ جدًّا بحيث لا يدعم أيَّ تَصوُّر من هذا القبيل. إنَّ «الأبيات الدخيلة» لا بدَّ وأن تنتُج عن تدخُّلٍ من الناسخ وأن تَعتمد على الدراية الوثيقة للناسخ بالنص، حتى يتذكَّر ويُسجِّل صياغات لجمل وأبياتٍ كاملة مرتبطة بالنص وهو يصنع مخطوطته. والتحريفات من هذا النوع شائعة في أيِّ تقليدٍ نصي.
ومن ثَمَّ فإن «الأبيات الدخيلة» لا تدلُّ على وجود نُسخٍ أصليةٍ متعدِّدة للقصائد. ولعلَّ من الأمور البالغة الأهمية في محاولة فهم ملحمتَي هوميروس حقيقةً عدم وجود خطوط أصلٍ مُتوازية لنصوص «الإلياذة» و«الأوديسة»، كما هو كائن، على سبيل المثال، في حالة القصيدة اليونانية «ديجينيس أكريتاس» التي تعود إلى العصور الوسطى (حوالي ١٠٠٠ ميلاديًّا)، أو ملحمة «النيبلونْجِن» الألمانية (حوالي ١٢٠٠ ميلاديًّا)، أو الملحمة السنسكريتية «مهابهاراتا» (حوالي ٤٠٠ ميلاديًّا). فهذه الأعمال باقية في نُسخٍ متعدِّدة ومُتمايزة، وأحيانًا بلغات وأوزانٍ شعريةٍ مختلفة، وأحداث وشخصياتٍ مختلفة، حتى إنه لا يتسنَّى لك مطلقًا القول إن نُسخةً ما هي «الأصلية». على النقيض، فإن النسخ الأصلية من «الإلياذة» و«الأوديسة» كانت بالفعل موجودة، وليتنا نتمكن من استرجاعها. ورغم أنه ليس في مقدورنا ذلك، فإن علماء فقه اللغة مُستمرُّون في جهودهم الحثيثة.
يبدو أنَّ العلماء/الشعراء/المُحرِّرِين الإسكندريِّين بخاصة هم الذين عكسوا عملية إضافات النُّسَّاخ على النص بحذف الأبيات الدخيلة لوضع النص الشائع. ومع ذلك فما نعرفه بالفعل عن جهدهم لا يجعل من الميسور فهم الكيفية التي وقع بها هذا التوحيد القياسي. من التعليقات على هوامش النصوص نعرف أن العلماء الإسكندريِّين ابتكروا العديد من الرموز التي ما زالت تُستخدَم إلى يومنا هذا، ومن ضمنها رمز «أوبيلوس»، وهو عبارة عن علامةٍ مرجعية على شكل خطٍّ في الهامش الجانبي (− أو ÷) للتدليل على أن الأبيات المشار إليها مشكوك فيها لسببٍ ما. ومع ذلك لم تكن الأبيات المشار إليها برمز أوبيلوس تُحذف فعليًّا من أي نصٍّ بعينه، بقَدْر ما نستطيع أن نستنتج من التعليقات المُدوَّنة على هوامش النص. ومع ذلك، غالبًا ما يطلق العلماء على النص الشائع تَسمية «نص أرسطرخس». بحلول القرن الأول الميلادي كانت «الأبيات الدخيلة» قد اختفَت من شذرات البردي، كما لو أن حُجية طبعة أنتجها الموزيون قد حلَّت محل النسخ العشوائية السابقة. ولعلَّ استبدال الكتاب اعتمد على عمل أو صنيعٍ ملكي؛ إذ صنع الموزيون النسخة الرسمية (تحت إشراف من أرسطرخس أو آخرين) وسرعان ما سادت حجية هذه النسخة. وفيما بين عامَي ١٥٠ قبل الميلاد و٧٠٠ ميلاديًّا لدينا حوالي ٩٠٠ شذرةٍ برديةٍ هوميرية يظهر فيها تفاوُتٌ طفيف.
ما زال يُوجد نحو ٤٨٠ بيتًا من ملحمتَي هوميروس تعود إلى ما قبل الحِقبة الإسكندرية، واقتُبسَت في أعمال مؤلِّفين آخرين؛ أي فيما قبل حوالي ٣٠٠ قبل الميلاد. وعلى الرغم من أن الاستِشهادات من قِبَل كُتَّاب القرن الرابع الميلادي، مثل أفلاطون (٢٠٩ أبيات) وأرسطو (٩٨ بيتًا)، أحيانًا ما تختلف عن النص الشائع (الفولجاتا) الإسكندري، فإن هؤلاء الكُتَّاب على ما يبدو كانوا يقتبسون من الذاكرة بطريقةٍ خرقاء، وقَدْر التفاوت ليس كبيرًا بأي حال. ولا يُوجد لدينا من حِقبة ما قبل عام ٤٠٠ قبل الميلاد إلا بضعة استشهادات. فيَستشهد هيرودوت بأحد عشر بيتًا، يتطابَق كل واحدٍ منها مع النص الشائع (الفولجاتا) الإسكندري، بيتًا ببيتٍ، وكلمةً بكلمة، وحرفًا بحرف. وينطبق الشيء نفسه على البيت الوحيد الذي استشهد به ثوكيديديس من «الإلياذة»، والأبيات الأربعة الكاملة عند أرسطوفانيس، والاثنَي عشر بيتًا الكاملة عند المُؤرِّخ كسينوفون (٤٢٧–٣٥٥ قبل الميلاد).
(٤) لوح بيليرفونتيس: حُجج فريدريش أوجست وولف
يُقال إنَّ حتى هوميروس لم يُخَلِّف قصائده مدوَّنةً، بل تناقلها الرواة اعتمادًا على الذاكرة وجُمِعَت معًا أخذًا من الأناشيد، ولذلك تَحتوي على كثيرٍ من التناقُضات. (مقالة «ضد أبيون» الجزء ١، الفصل ٢، الفقرة ١٢)
ويَمضي يوسيفوس ليقول إنه نظرًا لأنَّ الإغريق كانوا حديثِي عهد بالكتابة، فإنَّ مِن المُستبعَد أن تكون أناشيد هوميروس بالغة الطول قد رأت النور بنفس الصورة التي بين أيدينا. لا بد وأنها صِيغت من قصائدَ محفوظةٍ أقصر، ودُوِّنَت فيما بعدُ، ثم جُمِعَت في «الإلياذة» و«الأوديسة».
من الواضح في قصة لوح بيليرفونتيس أن هوميروس قد تلقَّى عن مصدرٍ شرقي — إضافةً إلى قصةٍ شرقية — فكرة «الرسالة القاتلة» المأخوذة من الحكايات الشعبية. تظهر الفكرة في القصة التوراتية عن داود وأوريا الحيثي، الذي يُرسِله داود إلى الخطوط الأمامية في الجيش ومعه رسالة تَحوي أمرًا بتعريضِه لخطرٍ مميت (إذ أراد داود أن يتزوج بثشبع زوجة أوريا: سفر صموئيل الثاني، الإصحاح ١١: الآية ١٥). يبدو أن اسم بيليرفونتيس مأخوذ عن اسم إله الشرق الأدنى بعل إله الريح. يبعث الملك الليكي ببيليرفونتيس في مواجهة مخلوق الكِمِّير، وهو تنويع على أسطورة عن قاتل تنِّين وُجدَت بالفعل على ألواحٍ طينية يرجع تاريخها إلى حوالي عام ١٤٠٠ قبل الميلاد من مدينة أوغاريت التي كانت تُعدُّ مركزًا تجاريًّا دوليًّا على الساحل السوري بالقرب من قبرص: يقع إقليم ليكيا على الطريق الساحلي غرب أوغاريت (خريطة ١). والكِمِّير هو وحشٌ شرقي، ربما كان حيثيًّا. وهكذا جاءت الفكرة مع القصة. لم يعرف هوميروس شيئًا عن «الكتابة»: وهو المطلوب إثباته. في زمن هوميروس، كان قد مضى على كتابة الكلام البشري أكثر من ألفَي عام في الشرق الأدنى، ونحن نتساءل كيف ظل هوميروس جاهلًا بالأمر، حتى إنه يشير إلى الكتابة مرةً واحدة في ٢٨ ألف بيت وبطريقةٍ مُشوَّشة. إن غياب الكتابة في عالم هوميروس لَخيرُ شاهد على انحصار وإقليمية المجتمع الهيليني بعد سقوط الحضارة الميسينية في حوالي ١١٥٠ قبل الميلاد، ودليل على العُزلة الهيلينية عن مراكز الحضارة القديمة.
يبدأ الشكل الحديث للمسألة الهوميرية على يد فريدريش أوجست وولف؛ لأنه أدرك المشكلة بجلاء: إذا كان هوميروس لا يعرف شيئًا عن الكتابة، فكيف حُفظَت قصائده بالكتابة؟ وذهب وولف، مفترضًا كما فعل كثيرون (دون سبب وجيه) أن هوميروس عاش حوالي عام ٩٥٠ قبل الميلاد، عندما لم تكن الكتابة معروفة في اليونان (وهو افتراضٌ آخر من قِبله)، إلى أن قصائد هوميروس لا بد وأن تكون قد حُفظَت على هيئة أناشيدَ قصيرةٍ بما يكفي لأن تُحفظ عن ظهر قلبٍ دون الاستعانة بالكتابة. واعتقد وولف أن الأجيال قد تناقَلَت القصائد في هذه «الصيغة الشفهية» إلى أن دُوِّنَت عندما ظَهرَت الكتابة لاحقًا. ورأى وولف أنه في القرن السادس قبل الميلاد، في عهد الطاغية الأثيني بيسيستراتوس، جمع مُصحِّحون مهرة النصوص المكتوبة الأقصر وصاغوا ملحمتَي «الإلياذة» و«الأوديسة» الرائعتَين (تعتريهما بعض العيوب بالطبع) كما نعرفهما.
كان نموذج وولف متزامنًا مع — ومُستلهَمًا من — الاكتشاف الذي حدث في أواخر القرن الثامن عشر والذي مفاده أن البانتاتيُك (وتعني اللفائف (أو الكتب) الخمسة) التوراتية — وهي الأسفار الخمسة الأولى للكتاب المقدَّس — تشكَّلت من ثلاثة أو أربعة عناصر نصية مُزِجَت ببراعة، ولكن بطريقة تنقصها السلاسة على أيدي المصحِّحين، ولا شك في أن ذلك قد حدث أثناء سبْي الطبقة الحاكمة اليهودية وإبعادهم من أورشليم إلى بابل (٥٨٦–٥٣٨ قبل الميلاد). وعلى الرغم من نسبَتها إلى موسى — الذي ربما يكون قد عاش في أواخر العصر البرونزي حوالي عام ١٢٠٠ قبل الميلاد — فإن البانتاتيُك ترجع إلى حِقبةٍ متأخرة جدًّا بما لا يصح معه إسنادها إليه بأي سبيل يُعتدُّ به. في فترةٍ ما من القرن السادس قبل الميلاد، جلس علماء دين يهود في غرفة وأمامهم لفائفُ مختلفة، بانتقائهم شيئًا من هنا وشيئًا من هناك، مزج هؤلاء المُصحِّحون نصوصًا متباينة كانت موجودة من قبلُ ليصنعوا النسخة التي بين أيدينا اليوم. فأطلق البعض على الرب اسم يهوه (من الواضح أنها كانت رُوحًا بركانية من [جبل] سيناء)، ودعاه آخرون إلوهيم (المرادف في اللغات السامية لكلمة «آلهة»). ولهذا السبب يَحمل كلا الاسمين في سفر التكوين، وتلك فرضيةٌ يتفق عليها كل علماء العصر الحديث بشأن المصادر التي نشأ منها نص البانتاتيُك.
كان دليل وولف على نظريته معقدًا؛ فبعض الملامح الظاهرية المتصلة باللهجات تعكس على ما يبدو معالجةً أو تنازعًا أثينيِّين للنص، وهو ما يتفق مع نظريةٍ مفادها أن النص «الشائع» الإسكندري كان قد جاء من أثينا. وبحسب شيشرون، الذي عاش في القرن الأول قبل الميلاد، أي قبل يوسيفوس بنحو ١٠٠ عام، كان الطاغية الأثيني بيسيستراتوس (٦٠٥؟–٥٢٧ قبل الميلاد) «أول من جمع كتب هوميروس بالترتيب الذي بين أيدينا، تلك التي كانت قبل ذلك مختلطةً» (كتاب «في الخطابة» ٣، ١٣٧). يبدو أن شيشرون يقصد أن «الكتب» — أي لفائف البردي — كانت تُتداول من قبل بمعزِلٍ عن بعضها وَمِن ثَمَّ كان من المُمكن أن تُلقَى بترتيبٍ مختلف في كل مرة، حتى عهد بيسيستراتوس. عاش شيشرون بعد بيسيستراتوس بنحو ٦٠٠ سنة، إلا أنه اعتمد على مُعَلِّقٍ هيليني، ربما كان يعرف شيئًا ما.
يبدو أن ملاحظات شيشرون تتَّفق مع الزعم الذي يعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد والوارد في المحاوَرة الأفلاطونية «هيبارخوس» (التي ربما تكون منسوبة لأفلاطون خطأً)، وهو تراث سبق وأن أشرنا إليه. في محاورة «هيبارخوس» يُشير سقراط إلى هيبارخوس ابن بيسيستراتوس بأنه «أكبر أبناء بيسيستراتوس وأكثرهم حكمة، الذي كان — كواحد من ضمن براهينَ عديدةٍ فائقةٍ على الحكمة التي أبداها — كان أول من جلب قصائد هوميروس إلى بلدنا هذا وألزم رجالًا يُدْعَون «الرابسوديِّين» (وتعني رواة الملاحم الشعرية) في مهرجان عموم أثينا (المهرجان الأثيني الرئيسي) بأن يُلقوها بالتتابع، رجل يَعقُب آخر كما لا يزالون يفعلون في زماننا هذا» (أفلاطون، محاورة «هيبارخوس» المنسوبة كذبًا إلى أفلاطون، ٢٢٨ب). إن كانت ثَمَّةَ حاجة إلى قاعدةٍ لتَضبط الطريقة التي ينبغي أن تُقْرأ بها القصائد، فلا بد وأنه كان يُوجد أوقات كانت تُقرأ فيها بشكلٍ آخر خلاف ذلك، أي دون اتِّباع ترتيب. وكانت هذه المعلومة تعني لوولف أن القصائد حتى ذلك الوقت لم تكن تُشكِّل وحدةً واحدة، وإنما وُجدَت أولًا في قِطَعٍ قصيرة ملائمةٍ للحفظ عن ظهر قلب، وهو ما فَرضَته معيشة هوميروس في زمنٍ لم يكن يعرف القراءة ولا الكتابة.
ارتأى وولف أنه في حين أن معظم القصائد التي دَخلَت في تشكيل المؤلَّف الجامع المُستحدَث في القرن السادس قبل الميلاد — والذي يُعرَف في الوقت الحاضر باسم «تنقيح بيسيستراتوس» — كانت من تأليف هوميروس، فإن بعض القصائد كانت من تأليف من يُطْلَق عليهم «الهوميروسيِّين»، أي «سليلِي هوميروس»، الذين قِيل في مصادرَ متعدِّدةٍ إنهم كانوا يَعيشون في جزيرة خيوس. ويأتي على ذكرهم بِنْدار الذي كان يعيش في أوائل القرن الخامس قبل الميلاد. ومع ذلك فليس ثَمَّةَ شيءٌ حقيقيٌّ معروف عن الهوميروسيِّين، باستثناء أنهم ألقَوا قصائد هوميروس ورَوَوا حكايات عن حياته. ومن المُرجَّح أن يكون وجودهم على جزيرة خيوس هو أصل القصة القائلة إن هوميروس نفسه — الذي ليس معروفًا عنه أي شيء البتَّة — جاء من جزيرة خيوس. وطرح وولف نظريةً مفادها أن بيسيستراتوس ربما تلقَّى القصائد القصيرة من الهوميروسيِّين والتي جُمِّعَت بعد ذلك في شكل القصائد التي بحَوزتِنا في الوقت الحاضر.
خلاصة القول: لا يُمكن أن يكون لديك قصائدُ طويلة مثل «الإلياذة» و«الأوديسة» دونما كتابة، بصرف النظر عن المزاعم المُبالَغ فيها بشأن مهارات التذكُّر لدى الشعوب القديمة. ولأنَّ عالم هوميروس هو عالمٌ من دون كتابة، فلا يمكن أن تأتي القصائد — الموجودة في صورةٍ مكتوبة — مباشرة من هذا العالم. لا بد بطريقةٍ ما أن تكون نتاج التطور. ولم يَعُد يُنسب شكلها الحالي ولا محتواها إلى شخصٍ ما كان يُسمى هوميروس إلا بقَدْر ما يُنسَب إلى موسى كتابة الأسفار الأولى من الكتاب المُقدَّس (التي تصف موت ودفن موسى). إنَّ الإسنادات الباطلة — أي نَسْب العمل إلى غير كاتبه — مُتشابهة. قد يختلف الباحثون بشأن موقع هوميروس على مُنحنى التطوُّر الذي يبدأ في عالمٍ أميٍّ يجهل الكتابة وينتهي بالقصائد التي بحَوزتنا، ولكن في نظر وولف فإن موقع هوميروس كان في بداية المُنحنَى كمُبتدِع للقصائد القصيرة التي صنع منها المُصحِّحون الأثينيون «تنقيح بيسيستراتوس» في القرن السادس قبل الميلاد، الذي يُعتبر الأساس الذي استند إليه النص الذي مَرَّ عَبْر الإسكندرية وصار نصَّ الفولجاتا «النص الشائع» الحديث.
إنَّ الأمر برُمَّته هو مؤامرةٌ تنطوي على إقحام فقرةٍ مدسوسة على النص، وتنقيحه، وتعدُّد مؤلفيه!
كشأن هذه الملاحظات، كان تفسير وولف متبحِّرًا ومنطقيًّا وبارعًا، إلا أنه، كشأن هذه الملاحظات أيضًا، كان خاطئًا تمامًا. لقد وضع يده على المشكلة الجوهرية — ألا وهي قصيدةٌ مكتوبة من عصر لم يَعرف القراءة ولا الكتابة — بيْد أن قلة في وقتنا هذا هم من يعتقدون أن القصائد الهوميرية ظَهرَت للوجود كتنقيحاتٍ تحريرية لنصوصٍ موجودة سلفًا، مثلما كان ظهور البانتاتيُك التوراتي من دون شك. وقد دُعي أنصار وولف مُحلِّلِين؛ لأنهم سعوا إلى تفكيك نصوص هوميروس إلى عناصرها الأساسية المكونة لها، وأنتجوا نظريات مثيرة للاهتمام وبراهين معقدة، ولكن لأن افتراضاتهم كانت خاطئة، كان جهدهم بدرجةٍ كبيرة مضيعة للوقت. فبشكلٍ ما، تتألف النصوص الهوميرية من أناشيدَ أقصر، ولكنها ليست نصوصًا منقحةً. إنها قصائدُ أصليةٌ مُوحَّدة وُضعَت من موادَّ مُتوارَثة على يد ذكاءٍ بشريٍّ منفرد، كما أثبت الكاليفورني ميلمان باري في أوائل القرن العشرين.
(٥) نظرية الصيغ الشفاهية: حُجج ميلمان باري
عاشَ ميلمان باري (١٩٠٢–١٩٣٥) حياةً رومانسية ومات في ريعان شبابه وهو في الثالثة والثلاثين (يُرجَّح أنه مات مُنتحِرًا). برهن باري من خلال دراساتٍ أسلوبيةٍ ثاقبة للنصوص الهوميرية على أنَّ أسلوب هوميروس الأدبي كان متفردًا وغير معروف لدى الشعراء من أمثال شاعر القرن الثالث قبل الميلاد اليوناني الأصل الإسكندري المولد أبولونيوس الرودسي، مُؤلِّف ملحَمة «أرجونوتيكا»، أو شاعر القرن الأول قبل الميلاد الروماني فيرجيل، مُؤلِّف ملحمة «الإنياذة»، أو شاعر القرن السابع عشر الإنجليزي جون ميلتون، مُؤلِّف ملحمة «الفردوس المفقود». أثبت باري — من وجهة نظرٍ أسلوبية — أن هوميروس نَظَم مستعينًا بوحداتٍ أكبر من «الكلمة»، وأن هذه الوحدات تشتمل باصطلاحاتنا على مقاطع، وأبياتٍ كاملة، ومجموعاتٍ من الأبيات، بل وحتى أنماطٍ سرديةٍ أكبر. وضع باري حدًّا فاصلًا بين وجهة النظر القديمة من أن الشعر العظيم يُنظَم باستخدام كلماتٍ جميلةٍ متأنية تُنتَقى بدقة لتلائم اللحظة وبين وجهة النظر الحديثة القائلة إن في مقدور الشعراء أن يُمارسوا سحرهم بوسائلَ أخرى. كانت نظرياته أكثر تأثيرًا من نظريات أي ناقدٍ أدبيٍّ آخر من القرن العشرين، ليس فقط فيما يتعلَّق بكيفية فهمنا لهوميروس، ولكن فيما يتعلق بكيفية فهمنا للأدب نفسه، من ناحية أصوله وطبيعته.
(٥-١) النعت الثابت
بدأ باري بالمعضلة القديمة المتعلِّقة بالنعت الثابت في قصائد هوميروس، تلك العبارات الثابتة التي تلحق بأسماءٍ معينة يلاحظها على الفور كل قارئ، والتي تَسترعي الانتباه وتثير الحيرة. لماذا يُوصف آخيل بأنه «ذو القدمَين السريعتَين» حتى عندما يكون جالسًا، وهيكتور بأنه «ذو الخوذة اللامعة»، وهيرا بأنها «ذات العيون الواسعة كالمَها»، والبحر بأنه «داكن كالخمر»؟ انتبه كثيرون لهذا الأمر، لكن باري كان أول من لاحظ أن هذه النعوت الثابتة كانت تتغيَّر ليس تبعًا للسياق السردي، أي ما كان يحدث في القصة، وإنما تبعًا لوضع اسم البطل ضِمن نَظْم البيت. بعبارةٍ أُخرى، لبَّى النعت ضرورات الوزن الشعري، وليس متطلبات السرد.
وترجمتها:
يُعِين نمط النعوت الشاعر على صياغة البيت الموزون عن طريق توفير وحداتٍ جاهزة القوالب أكبر من الاسم أو مما نعتبره «كلمات». ويتَّسم النمط المُتضمَّن في البيت الموزون بالاسترسال مع الاعتدال: فيتَّسم بالتفصيل بسبب النعوت المُتنوِّعة المُخصَّصة لمواضعَ مختلفةٍ في البيت، وبالاعتدال لأنه عادةً ما يُوجد نعتٌ واحدٌ مُنفرِد لأي موضعٍ مُعيَّن في البيت.
ولما كانت النعوت لا تَتبدَّل وفقًا للسياق السَّردي، وإنما وفقًا للضرورات العَروضية، فإن علينا أن نوائم فهمنا للقيمة الدلالية للنعت، أي ما «يَعنيه». لا شك في أن النعوت المُتبايِنة المُتكرِّرة لأوديسيوس تُخبرنا بشيء عن شخصيته الأساسية، وتربطه بقَدْرٍ أكبر من الحكايات عن أعمالٍ بارعة وتدميرٍ لمدن، وأحيانًا ما تتلاءم مع السياق بصورةٍ جيدة على نحو يبعث على الدهشة، إلا أنها لا تمضي بالسرد قُدُمًا. ففيما يتعلق بحركة السرد، فإن تراكيب الاسم والنعت جميعها تعني فحسب «أوديسيوس». ومن هنا، كان لدليل باري تأثيرٌ مباشر على إدراكنا لما هو «شعري» في شعر هوميروس. علينا أيضًا أن نُسلِّم بأن المنظومة المُعقَّدة من التعبيرات الجاهزة المُمثَّلة في تراكيب الاسم المضاف إليه النعت، واستخدامها «المُعتدل»، لا يمكن أن يكون عمل شاعرٍ منفرد، وإنما يجب أن يكون قد ظهر إلى الوجود بمرور الزمن عن طريق التطوُّر. ومن ثَمَّ، فلا بد أن لغة هوميروس الشعرية «تقليدية»، وهي كلمةٌ ذات أهميةٍ مِحورية في هذا النقاش.
في المقابل، فإن لغة، وليكن مثلًا، ويليام بتلر ييتس الشعرية ليست «تقليدية»؛ لأن ييتس يستخدم كلمات للتعبير عمَّا في سريرته، وليس لاستكمال البيت. بالطبع قد يقول قائل إنَّ اللغة في مجملها تقليدية، وإلا فستكون كلامًا بلا معنى، بيْد أن اللغة الهوميرية هي نوعٌ خاص من اللغة التقليدية؛ إذ تُوجَد في إطار فرضية ستة مقاطع رئيسيةٍ طويلة يتبعها مقطعان قصيران أو مقطعٌ واحدٌ طويل، والمقطع السادس يتبعه دائمًا مقطعٌ منفرد. ولا شك في أن هوميروس وييتس قد عالَجا مسألة استخدام الصفات بطريقةٍ مختلفة. كان ييتس شاعرًا «كتابيًّا» بينما كان هوميروس شاعرًا «شفاهيًّا». كانت النعوت عند ييتس غير تقليدية، ولكن عند هوميروس هي جزء من الآلية التي بها يُنْشِئ أبياته ويُولِّد سرده. فهي تُمكِّن الشاعر من إنجاز بيته بإلقاءٍ شفهي والمضي في سرد قصته، وهي ليست جزءًا أساسيًّا لا غنى عنه من القصة نفسها. تستند «نظرية التأليف الشفاهي» أو «نظرية الصيغ الشفاهية» على أدلة مِن دراسة باري للنعوت الثابتة، إلا أن التطبيق المنهجي لطريقته على النص الهوميري أدى إلى حَيرةٍ كبيرة ومعضلاتٍ منطقية ما زالت تعوق الدراسات الهوميرية.
(٥-٢) الصيغ المُدبَّجة والمشاهد النمطية
إنَّ البرهان على «شفاهية» هوميروس هو وجود الصيغة المدبجة، التي هي أداة لا قيمة لها عند الشاعر المُلم بالقراءة والكتابة. يمكننا تحديد الصيغ المدبجة في تعبيرات بخلاف تراكيب الاسم المضاف إليه النَّعت، فمثلًا أُضيفت تعبيرات مثل «مخاطبًا إياه» بلا قيمة تُضيفها إلى عبارة «أوديسيوس الإلهي، قوي التحمُّل»، أو إلى عبارة «أجاممنون ملك الرجال»، أو إلى عبارة «آخيل العظيم ذو القدمين السريعتين» حتى يُستكمَل البيت. والكثير من الأبيات الكاملة هي أيضًا عبارة عن صيغ مدبجة، مثل «حين بدَت بشائر الفجر ذي الأصابع الوردية …» ويتكرَّر واحد من كل ثمانية أبيات كاملة في المتن الهوميري في موضع آخر. وارتأى باري أن كل القصائد الهوميرية تتبَع على هذا النحو نسق الصيغ المدبجة، وتتشكَّل من عبارات، رغم أننا لا نملك دومًا ما يكفي من الحديث المنقول المحفوظ كي نرى الصيغ المدبَّجة بوضوح. فلا يمكن تفسير أساس الصيغة المدبجة للأسلوب الهوميري إلا عن طريق حديث منقول طويل جدًّا. كان باري متيقنًا من أن هوميروس قد نظَم قصائده دون الاستعانة بالكتابة عن طريق حديث منظوم متوارَث معتمد على مثل هذه الصيغ المدبجة. والمفارقة أن وولف وباري قد اتفقا تمامًا على هذه النقطة؛ إذ رأى كلاهما أن هوميروس قد نظَمَ قصائده دون الاستعانة بالكتابة.
تظلُّ المجموعة الميدانية السلافية الجنوبية لباري — المُجمَّعة على أسطوانات وأشرطة من الألومنيوم، التي لم يُنْشَر إلا جزء منها والمُخَزَّنة حاليًّا في مكتبة وايدنر في جامعة هارفرد — هي أضخم مجموعةٍ ميدانية على الإطلاق لما نُطلق عليه في الوقت الحاضر «الأغنية الشفاهية». بعد وفاة باري بوقتٍ طويل، عاد لورد إلى جنوب البلقان في الخمسينيات من القرن الماضي لإجراء تسجيلاتٍ حديثة. وفي بعض الأحيان كان يُسجِّل نفس الأنشودة من نفس المُنشدِين، تلك التي كان هو وباري قد سجَّلاها قبل ما يقرب من ثلاثين عامًا. عند تحليل النسخ المكتوبة للأناشيد السلافية الجنوبية، نجد أنها تندرج غالبًا ضمن الأبيات العشارية الإيقاع، مع أن البيت الشِّعري السلافي الجنوبي لا يضاهي البيت الشعري اليوناني القديم من ناحية التعقيد، ولا يتوافر إلا قرائنُ محدودةٌ على الاسترسال والاعتدال في استخدام النعوت اللذَين وجَدهما باري في القصائد الهوميرية. لم تُولِّد دراسات باري — التي نُشرَت كأوراقٍ بحثيةٍ قصيرة في دورياتٍ مُتخصِّصة في أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات من القرن الماضي — انطباعًا يُذكَر حتى عام ١٩٦٠، عندما نشر ألبرت بي لورد كتابه «مغني الحكايات»، وهو توليفة من نظريات باري مضاف إليها جهدٌ متعمق من قِبله. أَتذكَّر الحماسة الشديدة التي قرأتُ بها هذا الكتاب لأول مرة في عام ١٩٦٢.
أَولى لورد اهتمامًا بالغًا بحياة «الجوسلاري» وبيئتهم الاجتماعية، اللتَين لا تنفصمان عن التراث الذي جرى فيه الإنشاد. فلمَّا كان أحد الصبية يرغب في أن يصير منشدًا، كان من شأنه أن يتدرَّب على يد منشدٍ خبير. وباستماعه إليه وتدرُّبه منفردًا، كان التلميذ يتعلم تدريجيًّا، بطريقةٍ لا شعورية، اللغة الشعرية الموزونة المُتميِّزة «للجوسلار» (عازف الجوسلا). وإذا كان مثابرًا ويتمتع بالموهبة، كان في مقدوره أن يصبح هو نفسه «جوسلارًا»، وربما حتى من العظماء.
إن أصغر وحدة ذات معنًى هي البيت ذو الإيقاعات العشرة بأكمله وليس وحداتٍ مكتوبةً يفصل بعضها عن بعض مسافةٌ بيضاء، كما هو الحال في النص الذي تقرؤه الآن. عندما يتصدى هؤلاء المنشدون للأمر، فإنهم في الواقع لا يُنشِدون أبدًا نفس الأنشودة حرفيًّا، «كلمةً بكلمة»، وإنما يظلون قريبِين من نفس تعاقُب الموضوعات، رغم أنهم قد يُدبِّجون هذه الموضوعات، أو يختصرونها، أو يتوسعون فيها. كان الموضوع الواحد عبارة عن «كلمة»، أي وحدةٍ ذات معنًى وتعبير. أولًا حدث هذا الأمر، ثُم ذاك. فعند «الجوسلار» كان تعاقُب الموضوعات هو الأغنية، «كلمةً بكلمة».
يُعَد البيتان نوعًا من تسجيل الخروج؛ إذ يُخبِران المستمع أن مشهد الوليمة المألوف قد انتهى الآن.
رغم السمات المتكررة لمشهد الوليمة في القصائد الهوميرية، فإن هذا المشهد يَحمل معانيَ مختلفةً جِد الاختلاف في وليمة الخُطَّاب التخريبية في قاعات أوديسيوس، والوجبة المسحورة على جزيرة الإلهة سيرس المسماة بجزيرة أيايا، وفي وليمة الزفاف في قصر مينلاوس اللطيف في إسبرطة. وهكذا فإن «الوليمة» تُمثِّل نوعًا من «الكلمة»، وهي وحدة تعبير، تتخذ معانيَ مختلفة حسب سياقها. ومن المشاهد النمطية المتكررة الأخرى اجتماع الآلهة، واجتماع البشر، والتسلُّح، والقتال، والتَّرحال، والمُبارَزات، والتضرع، والتَّعَرُّف، والرسل، والأحلام، والإغواء، وارتداء الثياب. كل هذه المشاهد يمكن أن تمتد أو تتقلص حسب ضرورات السرد، وفي عالم الواقع حسب المقتضيات التي يتطلبها الأمر ممن يُقدِّم عرضًا ترفيهيًّا حيًّا مباشرةً أمام جمهورٍ من المُشاهدِين. في ترتيب القصة تُماثِل المشاهد النمطية الكلمات التي تُستخدم لصياغة الجمل في الآداب الحديثة؛ فعدد الكلمات محدود، ومحددٌ سلفًا، بيْد أنه ليس ثَمَّةَ حدٌّ للأشياء التي باستطاعتك قولها.
(٥-٣) أسلوب الصياغة الشفاهية
لا يُوجد تَكرارٌ حرفيٌّ للأغنية الشفاهية، على حد تعبير لورد؛ لأنه لا يُوجد نصٌّ ثابت، وكان في حقيقة الأمر يقصد أنه لا يُوجد نصٌّ على الإطلاق. فالنص هو شيءٌ مادي به علاماتٌ رمزية عُرْضة للتحوير والتحريف والنَّسخ غير الأمين، وهو ما يبحثه عالِم فقه اللغة، ويبحث أيضًا ما يتعلق بالنصوص التي لم تظهر بعدُ للوجود. كان «الجوسلار» يُعيد نظم أغنيتِه في كل مَرَّةٍ كان يُغنِّيها فيها، مستعينًا بموارد تقنية الغناء الإيقاعي النظمي الخاصة به وتحكُّمه في المشاهد النمطية والحبكات التقليدية. وبالقياس، لا بد وأن هوميروس قد فعل شيئًا مماثلًا، حسبما اعتقد باري. فقد كان هوميروس شاعرًا شفاهيًّا، أي كان «جوسلارًا».
كانت دراسات باري الأسلوبية مثالية، كما أن مقارنة باري/لورد بين التأليف الشفاهي في البلقان المُعاصرة وفي العالم القديم تُعَد استخدامًا وجيهًا ومقنعًا لعلم دراسة الإنسان. وقد ثبت عدم صحة فرضيات وولف، وبناءً عليه فإن من حذَوا حَذوه كانوا مُضلَّلين. لا يُمكننا أن نضع قلمًا في يد هوميروس؛ فذلك من شأنه أن يكون أمرًا مثيرًا للسخرية، وكأنك تطلب من جون كولترين (أشهر مُرتجِلي موسيقى الجاز والساكسفون) أن يُدوِّن كل تلك النوتات الموسيقية على ورقة. لا بد وأن شخصًا آخر هو من صاغ النص المكتوب. ولهذا تُعتبر القصائد الهوميرية نصوصًا شفاهية مُمْلاة؛ أي إنها لم تُصَغ من نصوص سابقة أقصر لمؤلفين مُتعدِّدين. ولكن إذا كانت كل قصائد هوميروس ناتجةً عن صِيَغٍ مُدبَّجة — وهو الدليل على «شفاهية» قصائد هوميروس — فأين الذكاء والعبقرية الشعرية لهوميروس الذي لا مثيل له؟ وعلى ذلك استبعد أتباع وولف هوميروس من المعادلة بقولهم: لم «يكتب» هوميروس «الإلياذة» مثلما لم «يكتب» موسى سِفْر التكوين. واستعاد باري دور الشاعر هوميروس ودَحَض النص المُملَى، ولكنه في ذلك بدا أنه — بنفس القَدْر — يسلب فرصة هوميروس في الإبداع والعظمة. فإن كانت لغته كلها مُتوارَثة، وتتألف من صِيغٍ مُدبَّجة وتعبيراتٍ مُصاغة ومَشاهدَ نمطية، إذن ألم يكن هوميروس ناطقًا بلسان «التراث» أكثر من كونه مُبدِعًا عبْر موهبته وجهده؟
لقد ثبَت أن العمل على تحديد الصيغة المُدبَّجة لا يُجدي نفعًا. فمن الواضح أن حقائق الصفحة المطبوعة، التي يعمل عليها علماء فقه اللغة، ببساطةٍ ليست هي نفسها حقائق الكلام البشري. فالصيغة المدبَّجة المُراوِغة، التي تبدو للوَهلة الأولى واضحة، كعبارة «آخيل ذو القدمَين السريعتَين» مثلًا، ثم تنحرف تدريجيًّا عن سياقها، هي فحسب تسلك المسلك ذاته الذي تسلكه «الكلمات» في الكلام العادي، والتي تُراوِغنا حدودها الفعلية وتعريفاتها أيضًا، ومع ذلك نستخدمها بسهولةٍ تامة. إننا ندرك أن سعينا لفهمِ الشعر الهوميري هو أيضًا سعيٌ لفهم الكلام البشري، إلا أنه لا أحد يُدرك، أو لا أحد لديه نظرياتٌ مُقنِعة بشأن الكيفية التي يعمل بها الكلام؛ فهو قدرةٌ بشريةٌ غريزية.
أيًّا ما كانت التفاصيل، لا يمكننا أن نشكَّ في أن هوميروس كان يتحدث لغةً متميزة لها مفرداتها وإيقاعها ووحدات المعنى الخاصة بها، مماثلة للكلام العادي بَيْد أنها مُغايرة له. وقد أظهَرَت أبحاثٌ علميةٌ حديثة كيف أن أنماط الكلام، وليست أنماط التعبير المكتوب، تُوضِّح الأسلوب الهوميري أفضل توضيح. لقد أنتج هوميروس شِعره، بطريقةٍ ما، في إطار قواعد وقيود وإمكانات هذه اللغة المتميِّزة. طبقًا لمُماثَلة باري، فلا بدَّ وأن الخطاب في «اللغة اليونانية الهوميرية»، بأشكاله الغريبة ومزيج لهجاته، قد اكتُسب عن طريق الاستيعاب وكأنه لغةٌ عادية، من قِبل شخصٍ شابٍّ عن شخصٍ أكبر سنًّا. امتلك الخطاب الهوميري إيقاعًا متأصِّلًا، نظمًا كان المُغنِّي يشعر به ولكنه لم يكن يفهمه بطريقةٍ واعية. فعندما يُنشِد المغنِّي، فإنه يتكلم بهذه اللغة المتميزة، التي لم تكن وحداتها «كلمات» وإنما «صيغٌ مدبَّجة»، على الأقل في كثير من الأوقات.
إنَّ القول إن أسلوب الصياغة النمطية يُحِدُّ من قدرة الشاعر على التعبير هو بالتالي كالقول إنَّ الكلمات تُحِد مما يُمكننا قوله. فالإيقاع يدفع السرد، واستَقرَّت الكلمات ومجموعات الكلمات في مواضعَ مُعيَّنة في الإيقاع، الذي عادةً ما ينقطع في مواضعَ معيَّنة، بخاصة في التفعيلة الثالثة. وتنسجم مجموعات الكلمات، أو الصيغ المدبَّجة، على نحوٍ جيد قبل وبعد هذا الانقطاع حتى يتسنى لأبياتٍ كثيرة أن تُشَكِّل نفسها، إذا جاز التعبير، ما إن تَستوعِب أسلوب مجموعات الكلمات. ومن ثَمَّ يمكن للمرء أن يتحدَّث بهذه اللغة. وسوف يفهمك اليونانيون الآخرون، رغم أنهم لا يستطيعون هم أنفسهم التحدُّث بهذه اللغة؛ فالناطقون المعاصِرون باللغة الإنجليزية يستطيعون، إذا ما درسوا مسرحيات شكسبير، أن يتابعوا معظمها، ولكن ليس كلها، على خشبة المسرح وهم لا يتحدثون الإنجليزية بهذه الطريقة. إن شكسبير ليس شاعرًا شفاهيًّا، ولكن العلاقة بين لغة المؤدِّي ولغة جمهوره المعاصر تُشبه العلاقة بين لغة هوميروس ولغة جمهوره من القدماء.
أظهر وولف كيف أنه لم يكن من الممكن لهوميروس أن يصوغ «الإلياذة» و«الأوديسة»؛ لأنه عاش في عالَمٍ خلا من الكتابة وأن وحدها الكتابة هي التي جعلت نَظْم القصائد مُمكنًا. وأظهر باري كيف أنه كان من المُمكن جدًّا لهوميروس أن يصوغ قصائده دون الاستعانة بالكتابة، مثلما فعل «الجوسلاري». لقد أثبت أسلوب هوميروس في الصياغة النمطية أنه كان شاعرًا شفاهيًّا، ووريثًا لتراثٍ مديد من نظْم الشعر الشفاهي. أصر باري ولورد على نشأة القصائد الهوميرية عبر الكلام المُمْلى، ولكن كيف كان هذا مُمكنًا، إذا لم يكن ثَمَّةَ كتابة في عالم هوميروس؟ لم يتناول باري ولا لورد هذه المسألة أبدًا.
(٦) الملحمتان الهوميريتان في السياق: الخلفية التقنية والتاريخية لصياغة النصوص الأولى
أدَّت تقنية الأبجدية اليونانية، تلك التقنية الثورية الاستثنائية التي غيَّرَت مجرى التاريخ، إلى جعل النصوص الهوميرية مُمكنة؛ إذ كانت الأبجدية اليونانية هي أول نظام للكتابة يَسمح بإعادةِ إنشاءٍ تقريبية لجَرْس الصوت البشري. وفي السنوات الأخيرة علِمنا الكثير عن نشأة هذه التقنية. رغم طولهما وما تطلَّباه من جهدٍ مُضن، يبدو أن «الإلياذة» و«الأوديسة» كانتا أول نصوصٍ مكتوبة في الأبجدية اليونانية، حسب علمنا، بيْد أن نصوصًا مُعقَّدةً كهذه لم تظهر من العدم أو دون سوابقَ تاريخيةٍ واضحة. وعلى الرغم من أن غالبية المعلومات المباشرة عن هذه السوابق قد فُقدَت، يُمكننا أن نستخلص الكثير عبر الدراسة المقارنة وعبر شهاداتٍ شحيحة ومتفرِّقة.
عندما نتأمَّل الكتابة القديمة، نجد أنه كان يُوجَد محيطان؛ المصريون الذين كانوا يستخدمون البردي ومريدوهم الثقافيون على الساحل الشرقي للبحر المتوسط، وسكان بلاد ما بين النهرَين الذين كانوا يستخدمون الطين، الذين كان لديهم الثقافة الأقدم والعالَمية بحق. يَنبع التقليد النصي (لا الفكري) للقصائد الهوميرية من المحيط المصري. يتميَّز البردي بالمرونة، وسهولة التخزين، وقوة التحمل، وإمكانية نقله، ووفرته، وإلى حدٍّ ما يُمكن إعادة استخدامه. وفي المقابل، كان الطين في العصر البرونزي هو الوسيلة المعتادة للكتابة خارج محور مصر/بلاد الشام (أعني ببلاد الشام كنعان وسوريا، هذا الشريط من الأرض الممتد من فينيقية الشمالية إلى غزة، ثم داخليًّا إلى وادي البقاع في الشمال الذي تُحيط به سلال جبال لبنان وجبال لبنان الشرقية وإلى صحراء النجَف في الجنوب). وقد نُقشَت آداب بلاد ما بين النهرَين الخاصة بالسومريِّين والأكَّديِّين الساميِّين (الألفية الثالثة قبل الميلاد)، والبابليِّين (الألفية الثانية قبل الميلاد)، والآشوريِّين (الألفية الأولى قبل الميلاد)، والأدب الأناضولي للحيثيِّين الهندو-أوروبيِّين (الألفية الثانية قبل الميلاد) جميعها على الألواح الطينية. كذلك استخدم الكِرِيتيُّون في العصر البرونزي الطين. كان الطين متعدِّد الاستعمالات، ومتاحًا بأي مكان، ولا يُكلِّف شيئًا، وإذا سخنتَه بالنار يمكن أن يدوم للأبد، بيْد أن الطين ليس مُناسِبًا لتدوين قصائدَ بالِغة الطول. فملحمة «جلجامش»، التي تُعَد بكل المقاييس أطول عملٍ أدبي ظلَّ باقيًا من ثلاثة آلاف عام من حضارة بلاد ما بين النهرَين التي كانت تَعرف القراءة والكتابة، والتي لها أهميةٌ عظيمة لفَهم نشأة القصائد الهوميرية، يوازي طولها حوالي ثلاثة كتب من «الإلياذة». وعلى الرغم من أن نسخةً طويلة من ملحمَة «جلجامش» باقية من المحفوظات الآشورية في مدينة نينوى، التي دُمِّرَت سنة ٦١٢ قبل الميلاد، نُقشَت على اثنَي عشر لوحًا، فإن معظم الأعمال الأدبية لبلاد ما بين النهرَين مُصمَّمة لكي تكون ملائمة لأن تُكتب على لوحٍ واحد؛ ومن ثَمَّ فإن نسق الكتابة المسمارية له دورٌ مهم فيما يتعلَّق بقالب الأعمال الأدبية وقِصَرِها.
كانت النصوص السحرية المصرية تُنقَش على البردي في أعمدةٍ رأسية ضيقة تمتد بلا كلل من أعلى إلى أسفل، ومن اليمين إلى اليسار. أمَّا النصوص المصرية العادية فكانت تُكتب في صفوفٍ أفقية مُنسَّقة في أعمدةٍ واسعة تُقرأ من اليمين إلى اليسار، وهو ما يُعَد سلف الصفحة المطبوعة الحديثة. وكذلك كتب ورثة هذا التقليد في الكتابة، بمن في ذلك العبرانيُّون الساميُّون، من اليمين إلى اليسار في أعمدةٍ واسعة. فكنتَ تُمسك رَقَّ أو لفيفة البردي بيدك اليسرى وتَفرده من أسفل الرق بيدكَ اليُمنى. وكان المصري يجلس على الأرض، ويَفرد إزاره المصنوع من الكتان ويشُده بين فخذَيه المنبسطتَين، وكاحلَيه المتقاطعَين، ويستخدم سطح الإزار كدعامة للبردية وهو يكتب عليها بريشة قلم، أو يقرأ منها. في اليونان لم تكن الطبقة المثقَّفة ترتدي إزارًا، ولكنهم كانوا يجلسون على مقاعد، حيث كانوا، مع ذلك، يَفردون البردي عبر ركبتَيهم؛ إذ لم يكن يُوجد مناضد للكتابة في العالم القديم.
أما خارج مصر، فكان البردي يُستخدم قبل اليونانيِّين من قِبَل الساميِّين الغربيِّين، أولئك الذين لم يكونوا مُنتظمِين في مجموعةٍ محدَّدة وكانوا يتحدثون بلغةٍ سامية وعاشوا بحذاء الساحل الشرقي للبحر المتوسط وفي الوديان الداخلية (كان الساميُّون الشرقيون هم من يستخدمون الطين في الكتابة، وكانوا يعيشون في بلاد ما بين النهرَين). استخدم الساميُّون الغربيون كذلك ألواحًا مطوية مكسوةً بالشمع، مثل لوح بيليرفونتيس، وهي وسيلة تشاركوا فيها مع بلاد ما بين النهرَين، ولكن ليس مع مصر (إذ استخدم المصريُّون لوحاتٍ طبشورية مسطحةً للنصوص المؤقَّتة). وخارج مصر، حيثما كان ينمو نبات البردي، كان البردي على الدوام سلعةً مُستورَدة، ومع ذلك استُخدم في أغلب الوثائق في منطقة شرق البحر المتوسط بصفةٍ أساسية أو حصرية من أقدم العصور. ومن الواضح أن تصنيع البردي كان صناعةً تصديرية مُهمةً في مصر. وقد حل اللوح المطوي الذي امتد عبْر عصر الساميِّين الشرقيِّين الذين كانوا يستخدمون الطين والساميِّين الغربيِّين الذين كانوا يستخدمون البردي، واليونانيِّين، ثُم الرومان، محلَّه كوسيلة للكتابة.
كان سكان جزيرة قبرص — التي تقع على بُعدِ ٧٥ ميلًا فقط قُبالة ساحل مدينة أوغاريت — شركاءَ طبيعيِّين في التجارة والثقافة مع فينيقيةَ ومكانًا لإعادة شحن البضائع المتَّجهة إلى منطقة قِلِيقية على الساحل الجنوبي للأناضول (تركيا المعاصرة) وإلى جزيرة رودس، والجزيرة اليونانية الكبيرة عوبِية، وإلى أقصى الغرب. كان يسهل الوصول إلى مصر في الجنوب عن طريق البحر. وكانت المدينة الفينيقية جُبيل في لبنان المعاصرة شبه مُستعمَرةٍ مصرية منذ القرن الثالث قبل الميلاد وما تلاه، وكانت تُوفِّر منتجات الأخشاب — «أَرْز لبنان» المذكور في الكتاب المقدس — لمصر على مدى تاريخها. وكانت الفنون الزخرفية والدينية مُستقاة بشكلٍ كبير من المصريِّين، وكذلك كان حال الفنون الكنعانية.
كحال اليونانيِّين الهندوأوروبيِّين، كان الفينيقيون الساميون بحارةً رائعِين. وفي أواخر العصر الحديدي، وتحت ضغطٍ عسكري من القوة الإمبريالية الاستعمارية الآشورية في إقليم ما بين النهرَين الشمالي، استعمروا شمال إفريقيا، وإسبانيا، وصقلية، وجُزرًا عدة في غرب البحر المتوسط، بما في ذلك سردينيا، في الفترة ذاتها تقريبًا التي استوطن فيها اليونانيون جنوب إيطاليا وشرق صقلية. وقد ظهر هؤلاء «الفينيقيُّون» على نحوٍ متكرِّر في «أوديسة» هوميروس، حيث يُصوَّرون كتجارِ رقيق جشِعِين يمخُرون أعالي البحار ببضاعتهم.
منذ وقتٍ مبكر، تشارك الفينيقيون مع أبناء عمومتهم الكنعانيِّين نظامًا متميزًا للكتابة يشتمل على نحو اثنتَين وعشرين علامة. كان ذلك النظام الذي تشيع تسميته «أبجدية»، في حقيقة الأمر، نظام كتابة مقطعية غريبًا. كانت كل علامة فيه ترمز إلى ما نُطلق عليه حرفًا ساكنًا إضافةً إلى حرفٍ متحركٍ غير محدد. بتعبيرٍ أدق، كانت كل علامة تُشير إلى صوتٍ كلامي يُوصف بأنه حائل أو تعديل لمرور الهواء من الفم (الحرف الساكن)، دون توضيحٍ لدرجة اهتزاز الأحبال الصوتية (الحرف المتحرِّك)، فعليك أنت — من تتكلَّم بلغتك الأصلية — أن تضيف ذلك الصوت، أثناء القراءة، حسب السياق وحسب معرفتك كناطق بتلك اللغة. من الناحية العملية، لا يمكنك أن تنطق شيئًا مكتوبًا «بالأبجدية الفينيقية» إلا إذا كنتَ فينيقيًّا. بالإضافة إلى ذلك فإن القلَّة الشديدة للعلامات — اثنان وعشرون أو خمس وعشرون علامة — زادت من الغموض بصورةٍ هائلة؛ فالكتابات السامية الغربية القديمة، رغم كونها مكتملة ومقروءة، عادةً ما تكون غير مفهومة.
رغم ما يبدو من أن الكتابة السامية الغربية تعتمد — على نحوٍ ما — على الكتابة الهيروغليفية المصرية، التي لم يَرِد بها أيضًا أي معلومات عن كيفية اهتزاز الأحبال الصوتية (ولهذا السبب فهي غير منطوقة)، فإن تركيبها مغاير للكتابة المصرية؛ وذلك لأن «كل» العلامات في الكتابة السامية الغربية تتسم بأنها صوتية (تعتمد على النطق)، في حين أن «بعضها» فقط صوتي في الكتابة المصرية. قد تكون أصول نوعية الكتابة السامية الغربية مرتبطة على نحوٍ ما بالكتابة الكريتية الإيجية، التي ظهر فيها، في نفس وقت الكتابة السامية الغربية تقريبًا، نظامٌ مقطعيٌّ صوتيٌّ في أغلبه يُسمى النظام الخطي باء، هذا الذي كانت تُدوَّن به اللغة اليونانية. غير أن العلامات المقطعية للنظام الخطي باء تُتيح معلومات عن الأصوات المُؤلَّفة من حروف علة وخمس علامات ترمز إلى حروفٍ متحركةٍ خالصة. وكان النظام الخطي ألِف السابق عليه، الذي لم تُحلَّ رموزه، ويرجع تاريخه إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد، على ما يبدو، نظامًا صوتيًّا أيضًا. ورغم أن الفلسطينيِّين في غزة كانوا فيما يبدو ميسينيِّين من جزيرة كريت، لم يُعثر على أي نماذج للكتابة الإيجية في فِلَسطِين.
فضَّل الساميون الغربيون كثيرًا ورقَ البَردي المصري كعنصرٍ أساسي للكتابة، مما نتج عنه ضياع كتاباتهم الأدبية بأَسرِها فيما عدا الكتاب المُقدَّس العبري، الذي كُتب له البقاء؛ لأنَّ اليهود اعتبروا أن نجاتهم كشعب والنقل الأمين للنص المادي الملموس شيئًا واحدًا. لم يَتبقَّ في الشام نصوص على موادَّ صلبة إلا حوالي تسعين نصًّا مكتوبًا من الكتابات السامية الغربية التي يرجع تاريخها إلى حوالي ١٠٠٠–٣٠٠ قبل الميلاد (واكتُشف عددٌ أكبر بكثير في قرطاج في شمال أفريقيا). في المقابل ما زالت آلافٌ من الكتابات الأبجدية اليونانية موجودة على الحجر وعلى موادَّ أخرى. وعلى الرغم من أن اليونانيِّين كانوا يستخدمون البردي أيضًا — وهي عادةٌ مُستمَدة من الشام — كانت الكتابة تُؤدِّي فيما بينهم دورًا اجتماعيًّا مختلفًا عن الدور الذي كانت تؤدِّيه بين الساميِّين الغربيِّين.
إنَّ الاستخدام الشائع، رغم عدم دقته، لكلمة «أبجدية» لوصف كلٍّ من الأبجدية اليونانية والكتابة السامية الغربية التي قامَت عليها الأبجدية اليونانية، وكذلك الحال في «الأبجدية الفينيقية» أو «الأبجدية العبرية»، من شأنه أن يحجب التغيُّر التاريخي الهائل والجائح الذي حدث عندما انتَقلَت الكتابة من الساميِّين الغربيِّين إلى اليونانيِّين. ونحن نُحدد تاريخ لحظة تحوُّل وتبدُّل التقنيات هذه عن طريق البحث عن أقدم الكتابات اليونانية التي تستخدم حروفًا أبجدية، تلك التي تعود إلى حوالي عام ٧٧٥ قبل الميلاد، ثم العودة — وهو مجرَّد تخمين — إلى الوراء نحو جيل. ولأن ما يصل إلينا من حِقبة ما بعد عام ٧٧٥ قبل الميلاد يوازي قطرات وَشَلٍ من الكتابات، ثم جدولًا، ثم نهرًا، ثم محيطًا من الكتابات، يبدو من المُستبعَد أن تكون الأبجدية قد بَلغَت اليونان قبل دليلنا الأول على وجودها هناك بوقتٍ طويل. وهذا النهج في التفكير يُدرج اختراع الأبجدية اليونانية في حوالي عام ٨٠٠ قبل الميلاد، «وهو التاريخ المضمون الوحيد الذي نستخلصه في استكشافنا لتاريخ القصائد الهوميرية». فلا بد وأن تأتي القصائد الهوميرية بعد عام ٨٠٠ قبل الميلاد؛ لأنَّ القصائد الهوميرية هي نصٌّ مكتوب، والنصوص هي أشياءُ ماديَّة عليها علامات. ولم يَتسنَّ ظهور نصوص هوميروس إلا بفضل الأبجدية ولولاها لما أمكَنَ أن تظهر قصائده للوجود.
حفظت خمسة عشر لوحًا أوغاريتيًّا القصةَ التي تدور حول انتصار إله الريح بعل (السيد/الرب) على عَدُوَّيه الإله «يم» (أي «البحر») والإله «مُوت» (الموت)، ابن الإله إيل (أي «الرب»). وتُطلعنا الألواح على سجن الإله بعل في العالم السُّفلي، وتحرير أخته/زوجته عنات له من هناك، وعن فوز بعل بالمُلك على الآلهة والبشر. يشغل القِسم الخاص بقصة «بعل وعنات» ستة ألواحٍ متعدِّدة الأعمدة وقد يبلغ عدد أبياته ٣٠٠٠ بيتًا، وهي أطول قصيدة في أرشيف المحفوظات وإحدى أطول القصائد التي وصلتنا من الشرق القديم، ويُوازي طولها تقريبًا ملحمة «جلجامش» الآشورية (إلا أنه لا يُوجد ما يؤكد أن الألواح متصلة كوحدةٍ واحدة). يُنسب تاريخ القصيدة إلى فترة حكم ملك يُدعى نيقمادو الذي حكم أوغاريت فيما بين ١٣٧٥ و١٣٤٥ قبل الميلاد، على الرغم من أن المدينة دُمِّرَت حوالي عام ١٢٠٠ قبل الميلاد. وتُسجِّل ألواحٌ أخرى أساطيرَ مقاربة للأخبار والأحداث التي نجدها في الكتاب المقدس، وتستند إلى حكايات ورواياتٍ شبه أسطورية لشخصياتٍ تاريخية.
وفي حين أن النظام السامي الغربي للكتابة كان يتبع نهجًا سائدًا في اللغات السامية الغربية، التي تستند كلماتها — وإن اختَلفَت من ناحية الصوت والوظيفة النحوية — إلى هيكلٍ ثابت من حروفٍ ساكنة، إلا أنه ببساطة لم يناسب الشعر اليوناني، المُفعَم بأصوات حروف العلة (الحروف المتحركة) المتقاربة التي تُنشِئ الإيقاع الشعري. وبالاستناد إلى مُكتشَفات الكتابات الشعرية سداسية التفعيلات بالغة القِدم وغير المتوقَّعة، يمكننا القول أن الأبجدية اليونانية كانت منذ البدء تُستخدَم لهذا الغرض فقط، وهو تدوين رموز إيقاعات التفعيلات السداسية اليونانية.
ولعلَّ أحد الساميِّين ممن يُجيدون لغتَين، والمُلِم بالكتابة السامية الغربية ووريث التقليد العريق المُتمثِّل في إنشاء نصوص عن طريق الإملاء، قد حاول لأول مرة تدوين رموز أغنيةٍ يونانية. وبإجرائه تعديلاتٍ فنيةً على الكتابة السامية الغربية حتى تستوعب أصوات الكلام اليوناني المختلفة تمامًا، وضَع نوعَي الرموز وقاعدة التهجئة التي لا تُنتهك، وهو ما يَسَّر إمكانية تدوين نص القصائد الهوميرية. لقد اخترع أول أبجديةٍ حقيقية، أول كتابة في مقدور شخصٍ غير ناطق بتلك اللغة أن ينطقها، وهو نظامٌ صار هو السائد في وقتنا الحاضر في الكوكب بأَسره ووَجَّه الحضارة البشرية في اتجاهٍ مُعيَّن. وأعرب كثيرون عن اندهاشهم من أن أداةً بهذا القدْر من الفاعلية قد نَبعَت من إطارٍ جمالي وليس اقتصاديًّا؛ بيْد أنه تُوجد براهينُ قوية على أن الأمر حدث على ذلك النحو. وعلى الرغم من أن جهاز الكمبيوتر قد اختُرع بهدف التنبُّؤ بالمواضع التي من شأن قذائف المدفعية أن تَسقُط فيها، فقد أدَّى فيما يبدو إلى ظهور استخداماتٍ أخرى.
(٧) الإنشاد الشفاهي يصبح نصًّا مكتوبًا
إنَّني أجهر بالقول بألَّا يُوجد ابتهاجٌ يعدل عندي السرور الذي يتملك جمعًا من الناس بأَسرِه، وضيوف المأدُبة وهم يستمعون إلى «مُغنٍّ» وهم ينتظمون جلوسًا جميعهم، وبجوارهم موائدُ مكدَّسة بالخبز واللحم، وساقي الخمر يسكب النبيذ من الإناء ويدور حاملًا إياه ويَصبُّه في الكئوس. هذا، فيما يبدو لذهني، هو أجمل الأشياء في الوجود. (الأوديسة، الكتاب ٩، الأبيات ٥–١١)
تبوأ مثل هؤلاء الرجال مكانةً خاصة في المجتمع اليوناني، تَوازي مكانة القادة الدينيِّين في المجتمعات القديمة الأخرى، الذين حل «المُنشدون الملحميون» محلهم بموجب تطورٍ اجتماعيٍّ استثنائي في اليونان القديمة. فلا غرْوَ أن تكون الأبجدية قد اختُرعَت لتحويل الغناء إلى نصوصٍ مكتوبة؛ إذ إنَّ المُنشدِين الملحميِّين، هم من كانوا يُحددون القيم الأخلاقية في المجتمع اليوناني، وليس الكهنة.
من المحتمل أن تكون لفظة «رابسودي» تعني «المغني حامل الصولجان»، إلا أن اليونانيِّين منذ القدم أعطَوها المعنى الاشتقاقي «الذي يرتقُ (أي يصل) الأغاني بعضها ببعض» وقد حذا حَذوَهم الكثير من المُحدِّثِين. ليس الرابسوديون بأي حال مُنحدرِين من «المُغنِّين» — الذين كانوا يُنشئون أغنيتهم بصورةٍ جديدة في كل مرةٍ يؤدُّونها فيها — وإنما من مُخترع الأبجدية اليونانية، الذي أتاحَت قاعدة التهجئة التي استحدثها وابتداعه لفئتَين من الرموز التدوين المقارب للأصوات الفعلية للشعر اليوناني. كان الرابسوديون، على عكس المُغنِّين، يُجيدون القراءة والكتابة وكانوا يتفاخَرون، كشأن المُعلمِين الأوائل، بقدرتهم على تِبيان النصوص، ولا سيما نص القصائد الهوميرية. ويَسخَر أفلاطون بتعريضٍ خبيث من تلك الادعاءات في محاورته المسماة «محاورة أيون» التي ترجع إلى القرن الرابع قبل الميلاد. لا يثق أفلاطون بالرجال على شاكلة أيون، الذين يتفاخَرُون بإتقانهم المتحذلق ﻟ «نصٍّ» ما ويحسبون أن الحقيقة تكمن في «نص»:
خلافًا للشاعر الشفاهي — الذي هو عبارة عن فنانٍ ترفيهي — يُعتَبر الرابسودي شكلًا قديمًا من الباحثِين. فهو لا يُلقي النص على الأسماع فحسب، وإنما يُبيِّنه، ويستخدمه كأساس للتعليم. تعليم ماذا؟ هكذا يستطرد أفلاطون متسائلًا.
من المهم ألا نَخلط بين «الشعر الشفاهي»، وهو ما يُغنيه المُنشد الملحمي/المغني، وبين النص الهوميري، الذي أملاه منشدٌ ملحمي/مُغنٍّ ويحفظه الرابسودي عن ظهر قلب ويُلقيه على الأسماع. فقد أدَّي اختلاط الاثنَين معًا إلى قدْرٍ هائل من الالتباس في الدراسات الهوميرية الحديثة، حتى إنَّ البعض يظنون أن هوميروس قد غنى شيئًا شبيهًا بالنصوص التي بين أيدينا من «الإلياذة» و«الأوديسة» خلال حياته العملية، أو أن «القصائد عينها» قد «حُفظَت عن ظهر قلب»، وإن لم تكن قد كُتبَت، ثم أنشَدَها شعراءُ آخرون ولاحِقون أثناء حياتهم العملية. عندئذٍ سيكون من الممكن أن يكون أشخاصٌ مختلفون في أماكنَ مختلفة وأوقاتٍ مختلفة قد كتبوا «الإلياذة» أو «الأوديسة»، مثلما تُوجَد الملحمة الشعرية الفرنسية «أنشودة رولان»، التي ترجع إلى العصور الوسطى، في نسخٍ عديدةٍ مُتباينة. ومع ذلك فإن «الإلياذة» و«الأوديسة» التي بين أيدينا هي، حسب نموذج باري/لورد، نُسخٌ فريدة من نوعها خرجت إلى حيِّز الوجود مرةً واحدة عندما أملى شاعرٌ أنشودته على ناسخ في ظل ظروفٍ غير اعتيادية. وقد ناقشنا فيما سبق استحالة تجاوُز حاجز نصِّ الفولجاتا الإسكندرية لإيجاد «النص الصحيح» للقصائد الهوميرية، ولكن يُمكننا أن نكون على يقينٍ تامٍّ من أن ذلك النص كان بالفعل موجودًا فيما مضى.
لا نَملك إلا التخمين بشأن الأشكال السابقة أو اللاحقة للأغاني الشفاهية حول غضبة آخيل أو عودة أوديسيوس إلى الديار، ولكن يُمكننا أن نكون مُتيقِّنِين من أن هذه الأُنشُودات، سواءٌ أنشدها هوميروس أو شخصٌ آخر، لم تكن تحوي إلا قدْرًا ضئيلًا من التشابه مع «الإلياذة» و«الأوديسة» بصورتَيهما المعروفة لدينا. وتظلُّ هاتان القصيدتان المَلحميتان لغزًا مبهمًا في تاريخ الأدب، بسبب طولهما الهائل؛ إذ يبلغ طول «الإلياذة» حوالي ١٦ ألف بيت و«الأوديسة» حوالي ١٢ ألف بيت. يمتدُّ متوسط طول الأغنية الشفاهية، وفقًا لدراسات باري وللدراسات الميدانية الحديثة، لنحو ٨٠٠ بيت، ما يعادل تقريبًا طول كتابٍ واحد من «الإلياذة». وكما سنرى في الجزء الثاني من هذا الكتاب، تتشكَّل القصائد الهوميرية من عناصرَ أقصر كهذه، تلك التي ربما كانت قائمة بذاتها بشكل أو بآخر يومًا ما. ويظل المغني الشفاهي، على أي حال، مقيدًا بمدى انتباه وتركيز جمهوره وبقدراته الصوتية وقوة تحمُّله.
ما الغرض الذي يُمكن أن تكون قد نُظمَت من أجله قصائدُ مكتوبة بهذا الطول الهائل؟ على الرغم من مئات السنين من الدراسات الحديثة، علينا أن نعترف بأننا لا نعرف. ولا بوسعنا أيضًا أن نتصوَّر. قطعًا ليس من أجل القُراء الذين يقرءون بداعي التنوير أو المتعة؛ لأنه ما كان ممكنًا أن يوجد قُراء كهؤلاء عندما كان هوميروس، الذي يجهل عالَمُه الكتابة، على قيد الحياة. بيْد أنه يبدو أن القصائد كانت موجودةً مكتوبةً منذ بزوغ فجر معرفة الأبجدية في القرن الثامن قبل الميلاد.
لا شك أن هوميروس، تلك الشخصية التاريخية، بوصفه «مُنشدًا ملحميًّا» مُحترفًا، قد أنشد مراتٍ عديدةً عن غضبة آخيل وعن عودة أوديسيوس للديار، إلا أنه يبدو أن النسخ النصية التي بحوزتنا محكومة بظروف نُقلَت في ظلها القصص من عالم الأغنية الشفاهية غير المنظور والسريع الزوال إلى عالم النص المكتوب المنظور والمحسوس. يُؤدي الطول الفائق والصعوبة والتعقيد الواضحان للغة هذه النسخ النصية — وهي الأمور التي تزعج القارئ العصري، ودائمًا ما ينتج عنها إطالة السرد — إلى تمييزها كأعمالٍ ترفيهية عن الأغاني الحقيقية التي أُنشدَت في الواقع أمام جمهورٍ حقيقي. فلا بد وأن يعتمد شكل القصائد وطولها على الظروف الفريدة التي نشأَت في ظلها النصوص. في تجربة باري ولورد، ساعدَت عملية الإملاء على إلقاء قصيدةٍ أطول وأكثر توسعًا. فمع تحرُّر «الجوسلار» من تحديات وقيود الأداء المباشر، وعدم استعانته عندئذٍ بموسيقى مصاحِبة، وتسبُّب الوتيرة البطيئة للكاتب في بطئه، صار في استطاعته أن يُطيل أمد الحكاية كما شاء. ومثلما رأينا، استحثَّ باري عبدو مجيدوفيتش، مُنشِدَه المُفضَّل، من أجل إملاء أنشودةٍ تُماثِل في طولها «الأوديسة». لا وجود للكتابة في زمن هوميروس، ومع ذلك فإن قصائده قد كُتبَت، وهو ما اعترض عليه وولف منذ ٢٠٠ عام.
(٨) بقايا التأليف الشفاهي في نصوص هوميروس
إن الانحرافات والمخالَفات التي استند إليها المحلِّلون القدماء في حُججهم تُعَد هي ذاتها الأثر الذي يتعذر محوه الذي خلَّفه التأليف الشفاهي لهذه القصائد ووضْع نصها عن طريق الإملاء. فعلى سبيل المثال، يعصف زيوس من السُّحُب، فلا يكون من شأن فتاةٍ أَمَة إلا أن تخرج وتلاحظ كم هو غريبٌ انبعاث البرق من سماء بلا سحب (الأوديسة، ٢٠، ١٠٢–١١٩). يقتل ديفوبوس هيبسينور، الذي يستمر في إطلاق الأنين (الإلياذة، ١٣، ٤٠٢–٤٢٣). في نهاية الكتاب السادس عشر من «الإلياذة»، يضرب أبولو باتروكلوس بطريقةٍ غامضة على الظهر والكتف، حتى إن دروعه تتطاير بعيدًا، تاركًا إياه عاريًا وأعزل. وبعد قتل هيكتور له، يعود و«ينزع عن باتروكلوس أسلحته المجيدة» (الإلياذة، ١٧، ١٢٥). ومن المستغرَب أيضًا عبارة زيوس التي تأتي بعد ذلك «وأَخذتُ درعه [الضمير يعود على باتروكلوس] عن كتفَيه» (الإلياذة، ١٧، ٢٠٥). ويُقتل الجندي الطروادي ميلانيبوس ثلاث مرات عبْر تسعة كتب. ويُقتل مينلاوس بيلامينيس، قائد البافلاجونيِّين (الإلياذة، ٥، ٥٧٦–٥٧٩)، ولكن بعد ذلك بثمانية كتب يحمل بيلامينيس ابنه القتيل من ساحة المعركة (الإلياذة، ١٣، ٦٤٣–٦٥٩). يرى العرَّاف ثيوكليمينوس فألًا على الشاطئ (الأوديسة، ١٥، ٤٩٥–٥٣٨)، ولكن عندما يتكلَّم عنه مستحضرًا إياه، يزعم أنه كان على متن سفينة (الأوديسة، ١٧، ١٦٠-١٦١). يستفيض أوديسيوس في ذكر تفاصيل خطةٍ معقَّدة بموجبها سوف يُجْلي تليماك الدروع عن القاعة، عند إشارةٍ معينة، مُختلقًا المبرِّرات للخُطَّاب وتاركًا فقط أسلحة لهما، ولكن عندما تحين تلك اللحظة لا يكون ثَمَّةَ إشارة، ويُزيلان كل الدروع (الأمر الذي سيندمان عليه عمَّا قريب)، ثم يَختلقان المبررات للخادمة. ولعل أكثر الأمور خضوعًا للدراسات هي مسألة البعثة إلى آخيل، حيث يُشار فجأةً إلى هذه المجموعة، بعد أن يُرسل أجاممنون ثلاثة أبطال ورسولَين إلى خيمة آخيل، بصيغٍ نحوية «مُثنَّاة» (الإلياذة، ٩، ١٦٥–١٩٨؛ تحتوي اللغة اليونانية على عددٍ مثنى — عندما يُشار إلى شيئَين فقط — بالإضافة إلى المفرد والجمع انظر: مشهد «البعثة إلى آخيل»، الكتاب ٩، الفصل ٤).
إنَّ مثل هذه الحالات الغريبة (إلى جانب حالاتٍ أخرى عديدة) هي بالضبط نوعية الاختلالات التي يسفر عنها الجمع الميداني للأغنية الشفاهية في العصور الحديثة. يبلغ عدد الأسماء الشخصية في الملاحم الهوميرية ما يُقارب ١٠٠٠ وحوالي ٥٠٠ من أسماء الأماكن، وهي من السمات البارزة الدالة على أسلوبه، وسيكون من دواعي دهشتنا لو أنه كان في مقدور هوميروس التمييز بين كل تلك الأسماء دون أن تختلط في ذهنه. بدراسة النص يُمكننا أن نرى الاختلاف بين المكان الذي كان فيه ثيوكليمينوس والمكان الذي قال إنه كان فيه، ولكن في الإلقاء الشفاهي لا يُمكن لأحد أن يلاحظ مثل تلك التباينات، أو يُلْقي لها بالًا. في حالة البعثة إلى آخيل، بدا في ظاهر الأمر أنه ورَد في رواية سابقة أن بطلَين فقط، هما أوديسيوس وأياس، هما من ذهبا إلى خيمة آخيل. ولم يُحدِّث هوميروس صيغة المُثنَّى التي يستخدمها لِتتناسب مع الرواية الجديدة التي يرويها.
والعجيب في أمر مثل تلك التناقُضات أن المُصحِّحِين اللاحقِين، بمن فيهم الإسكندريُّون، لم يَتناوَلوها بالتصحيح على الإطلاق. وتُنوقل المخطوط الأصلي عبر النُّسَّاخ الذين أرادوا المحافظة على النص المُتلقَّى. ويتجلى إكبارٌ مماثل للنص المُتلقَّى من الصيغ النحْوية المتقادمة والمهجورة، التي يختص بها القرن الثامن قبل الميلاد. فقد أجرى الكتبة الأتيكيُّون ما لا يعدو أن يكون تنقيحاتٍ سطحيةً على نص الفولجاتا، إلا أنهم بتاتًا لم يُحدِّثوا أو يُكيِّفوا الصياغة لِتتوافق مع أسلوب التعبير الأتيكي في المواضع التي كان بمقدورهم أن يصنعوا فيها ذلك. إن الصيغ النحْوية المتقادمة والمهجورة التي يتعين على كل دارس للغة اليونانية أن يتعلمها حتى يقرأ القصائد الهوميرية تُبرهن على أن القصائد الشفاهية قد صارت نصوصًا في وقتٍ مبكر جدًّا؛ إذ لو كانت قد بقيت شفاهيةً حتى الحِقبة الكلاسيكية (كما يُقال في بعض الأحيان)، لتلاشَت الصيغ المهجورة، كما هو الحال في حالاتٍ أخرى للتراث الشفهي.
ولكن متى، على وجه التحديد، صاغ هوميروس قصائده؟ على هذا السؤال الذي كثُر الجدل بشأنه، يُمكننا أن نُعطي إجابةً نوعًا ما.
(٩) زمن النصوص الهوميرية
ما هي أول المصادر الخارجية التي تُورد ذكر هوميروس، أو تُلمح إلى وجوده بأي طريقةٍ أخرى؟ هيرودوت، كما طالعنا، يذكر هوميروس مراتٍ عدةً ويقتبس أحد عشر بيتًا من أبياته. وهو أيضًا أول من تكلم عن «الرابسوديِّين»، فيما يتصل بواقعة حَدثَت في مدينة سيكيون (في شبه جزيرة بيلوبونيز الشمالية) حوالي عام ٥٧٠ قبل الميلاد. لم يكن الأداء الرابسودي نظمًا شفاهيًّا حيًّا، ولكنه كان معتمدًا على حفظ نصٍّ محددٍ مكتوب (إن كان ذلك ما يعنيه هيرودوت)، والجلي أنه في أوائل القرن السادس قبل الميلاد كان الإلقاء بالاستعانة بالنصوص المكتوبة يحلُّ محلَّ التقليد الشفاهي.
قبل هيرودوت بجيل، عمَد زينوفانيس (حوالي ٥٦٠–٤٧٨ قبل الميلاد)، ذلك الفيلسوف المتمرِّد على المعتقدات السائدة، المؤمن بالوحدانية القادم من كولوفون، وهي مُستعمَرةٌ يونانية على ساحل آسيا الصغرى، إلى استنكار وثنية هوميروس اللاأخلاقية بقوله: «لقد نسب هوميروس وهيسيود كل ما هو مُخزٍ وشائن في عالم البشر، من سرقة وزنا وتحايُل، إلى الآلهة» (شذرة ١٠ ترقيم ديلز-كرانز)، مُبرهنًا بقوله على الدور البارز لهوميروس في الثقافة اليونانية منذ القرن السادس قبل الميلاد، وهو تأثيرٌ يصل إلى حد أن زينوفانيس يرى أنه ينبغي مقاوَمَتُه. مما لا شك فيه أن نصوصًا كاملة «للإلياذة» و«الأوديسة» كانت موجودة في القرن السادس قبل الميلاد، عندما وضع هيبارخوس، ابن الحاكم الأثيني بيسيستراتوس (٦٠٥؟–٥٢٧ قبل الميلاد)، نظامًا ثابتًا لعرض الأحداث الواردة في القصائد في مهرجان عموم أثينا، ذاك الاحتفال الوطني الأثيني الذي جرى تعديله (لا يزال في هذا الشأن مزيد من التفاصيل سنتناولها لاحقًا).
فيما يبدو أن «الترنيمة الهوميرية إلى أبولُّو»، التي ربما تكون في صورتها الراهنة إعادة صياغة لنصوص قصيدتَين أقدم مجهولتَي المؤلِّف أُمليَتا على النُّسَّاخ، قد أُدِّيَت على جزيرة ديلوس في عام ٥٢٢ قبل الميلاد، برعاية بوليكراتس، طاغية ساموس الشهير. تحكي الترنيمة الطويلة ذات الخمسمائة والخمسة والأربعين بيتًا، وهو ما يقارب طول كتابٍ من كتب ملحمتَي هوميروس، أولًا، الأساطير المتعلقة بميلاد أبولو على جزيرة ديلوس، ثم بعد ذلك تأسيس عبادة أبولو في منطقة دِلفي. وتزعم الترنيمة أنها من نَظم «الرجل الكفيف من جزيرة خيوس»، وهو ما يُقصد به تمامًا الإشارة إلى هوميروس. كان مصدر أسطورة إصابة هوميروس بالعمى هو الشاعر الأعمى ديمودوكوس في «الأوديسة». إنَّ الزمن التاريخي لهذه «الترنيمة» مُتأخِّر جدًّا عن زمن هوميروس مما لا يصح معه نسبتها إليه، ولكن زعمها المتفاخر يُبرهن مجددًا على مكانة هوميروس السامية في القرن السادس قبل الميلاد.
ويبدو أن الشاعر بالغ القِدم كالينوس من أفسوس في آسيا الصغرى هو أول من ذكر هوميروس بالاسم، إن كنا نُصدِّق كلمات باوسنياس (القرن الثاني الميلادي) من أنه «كان لدى سكان مدينة ثيفا (طيبة) قصائد بشأن هذا الموضوع [حرب السبعة ضد طيبة]، وأنه عندما انتهى كالينوس إلى الحديث عن هذه القصائد، نسَبها إلى هوميروس». عاش كالينوس في أواسط القرن السابع قبل الميلاد. لا بدَّ وأن باوسنياس يشير إلى «ثيبايس»، وهي قصيدةٌ غير متيقَّن من مؤلِّفها، وهي مفقودة في الوقت الحاضر (لعلها «كانت» من تأليف هوميروس). عاش كالينوس بعد ١٥٠ عامًا فقط من تاريخ اختراع الأبجدية اليونانية حوالي عام ٨٠٠ قبل الميلاد، وهي التقنية التي أتاحت وجود هوميروس والقصائد الهوميرية.
تأتي هيلين بعقارٍ قويّ على الرغم من أن الكُتيبات تدعو هوميروس شاعرًا أيونيًّا، عاش وعمل في آسيا الصغرى، فإن التحليلات التي أُجريت حديثًا للدلائل النصية والتاريخية تُحدد نشاطه في جزيرة عوبية المديدة التي تعانق الساحل الشرقي لبَرِّ اليونان الرئيسي (خريطة ٢). وثَمَّةَ سماتٌ اصطلاحية معيَّنة تتَّصف بها لهجته قد تَسِمها بأنها «غرب أيونية» والتي يتكلَّم بها العوبيون (سكان جزيرة عوبية)، في مقابل اللهجة «شرق الأيونية» لساحل آسيا الصغرى. كان سكان جزيرة عوبية هم أكثر المُجتمعات اليونانية تقدمًا وثراءً إبَّان العصور المُظلمة (أو الحديدية) اليونانية حوالي ١١٥٠–٨٠٠ قبل الميلاد، في الفترة بين انهيار العصر البرونزي واختراع الأبجدية اليونانية. وحسب اكتشافاتٍ أثَريةٍ حديثة في ليفكاندي، وهو الاسم الحديث لمُستوطنةٍ قديمة عند طرف سهل ليلانتين المتنازَع عليه بقوة (خريطة ٢)، كان العوبيون هم اليونانيِّين الوحيدين من برِّ اليونان الرئيسي الذين حافظوا على التواصُل، على نحوٍ مباشر أو عبْر وسطاء، مع قبرص وساحل الشام وحتى مصر أثناء العصور المظلمة. فداخل بناءٍ هائلٍ طويلٍ ضيق له بروزٌ مزخرف عند أحد أطرافه، بُني حوالي عام ١٠٠٠ قبل الميلاد، وليس له مثيل في أي مكان في اليونان، عَثر علماء التنقيب الأثري على مقبرة محرقة مُحاربٍ نادرة، بالإضافة إلى ذبائح خيول وحُلًى ذهبية في مقبرة دَفْن قريبةٍ لامرأة. لسنا على يقين من وظيفة هذا المبنى الفريد، ولكن في إطار مثل هذا بالضبط، لو كان هذا المبنى هو منزل الحاكم الكبير، فلنا أن نتخيَّل المُنشِدِين الملحميِّين وهم يمارسون عملهم في هذا العصر الذي لم يكن قد عرف القراءة والكتابة.
سَحبَت الجارية أولًا أمام الاثنَين مائدةً جميلة ذات أرجلٍ لَازَوَرْدية جيدة الصقل، ووَضعَت عليها سلةً من البرونز ومعها بصلة، لإعطاء مذاق لشرابهما، وعسلًا فاتح اللون وخبزًا من الشعير المبارك بالإضافة إلى كأسٍ جميلة أحضرها الشيخ المُسن من منزله، كأسٍ مُرصَّعة بحلياتٍ ذهبيةٍ ناتئة، ولها أربعة مماسك وحول كلٍّ منها زوج من الحمام يلتقم الحَب، وبالأسفل قاعدةٌ مزدوجة. وكان من العسير على أي رجل أن يرفع تلك الكأس عن المائدة وهي مَلأَى، ولكن نيستور الشيخ المُسن كان يرفعها بسهولة. (الإلياذة، ١١، ٦٢٨–٦٣٧)
عثر هاينريش شليمان (١٨٢٢–١٨٩٠)، الأب المؤسِّس لعلم الآثار المختص بالعصر البرونزي اليوناني، على كأس في أحد القبور العمودية في مدينة ميسينيا (موكناي) يُضاهي وصف هوميروس، وأشار إلى أن الكأس قد تكون إرثًا ميسينيًّا. «نقش كأس نيستور» النادر هو دُعابة ويُعبِّر على الأرجح عن مباراة كلامية للتغلب على الآخر بالكلام كانت تُلعَب في حفل لشرب الخمر في إسكيا في القرن الثامن قبل الميلاد. ادَّعى أحدهم مازحًا أن هذه الكأس الرودسية الفخارية المتواضعة هي «كأس نيستور» الشهيرة المذكورة في «الإلياذة». ومن الأشكال المُوثِّقة للكتابة الأبجدية القديمة «صيغة اللعنة»، التي تبدأ بعبارة مثل: «مَن يَسرق هذه الكأس …» سيحدث له شيءٌ سيئ. فيبدأ متناوِل الشراب الثاني لعنة كهذه «مَن يشرب من هذه الكأس …» عندئذٍ يلفظ متناول الشراب الثالث حُكمه: أن يُقاسي علاقةً جنسيةً ممتعة! مزحةٌ جيدة.
لا بد أننا نشعر بالذهول حين نفطن إلى أن واحدة من أقدم نقشَين يونانيِّين «طويلَين» في العالم، في التقنية المُقدَّر لها أن تُغيِّر الحياة البشرية إلى الأبد، ليست تسجيلًا لغزوٍ عسكري، ولا لمقياس للحبوب، ولا لنذير سوء، وإنما الترميز الأبجدي لمُزحة مخمور مُصاغة بوزن سداسي (وافتتاحية نثرية) تشير بطريقةٍ مُقنَّعة إلى نفس نسخة «الإلياذة» المعروفة لنا في العصر الحاضر. إنَّ أقدم نقشٍ كتابي في العالم الغربي هو إشارةٌ أدبية، وكأننا نحيا في حلم.
لذلك كانت الأبجدية اليونانية تُستخدم منذ أقدم العصور لتدوين الشعر المَلحمي. ولمَّا كانت نصوص هوميروس لا يُمكن أن تسبق زمنيًّا الأبجدية اليونانية، ولأنه لا يُوجد شيءٌ موصوف في القصائد الهوميرية يأتي زمنيًّا بعد عام ٧٠٠ قبل الميلاد؛ ولأن من المحتمل أن نقش كأس نيستور يُشير إلى نصٍّ من نصوص «الإلياذة»، وبسبب الظروف الاجتماعية والتاريخية التي تعكسها القصائد (طالع الفصل التالي)، وبسبب الكثير من الصيغ النحْوية بالغة القِدَم، إذن لا بد وأن النصوص الأولى من القصائد الهوميرية تنتمي إلى القرن الثامن قبل الميلاد. في أي وقت من القرن الثامن؟ يضعه الكثير من الباحثِين في النصف الثاني، وذلك من أجل منح الأبجدية فرصةً حتى «تنضج» وتصير مُتطوِّرة بما فيه الكفاية لتشكيل ما وصلَنا من نصوص. ولكن الأبجدية لم تبدأ كوسيلةٍ بدائية صارت أكثر تطورًا بمرور الوقت. فقد ظَهرَت الأبجدية اليونانية وسط تقليدٍ يعتمد على تسجيل النصوص عن طريق الإملاء، لربما كان عمره يبلغ ١٠٠٠ عام في أيام هوميروس. كما أن وضع هوميروس في النصف الثاني من القرن الثامن قبل الميلاد لا يأخذ في الاعتبار على نحوٍ كافٍ عدم معرفة هوميروس بتقليد الكتابة الذي أتاح وجود نصوصه، والذي لا يُشير إليه مطلقًا. ونظرًا لأن الشعر الشفاهي يعكس الظروف المُتغيِّرة بسرعة، ولأن الكتابة مفيدة للغاية في بناء الحبكات (ويتَّضح ذلك مرارًا في أدب ما بعد هوميروس)، فلا بد وأن نصوص هوميروس قد تشكَّلَت في وقتٍ قريب لاختراع الأبجدية حوالي عام ٨٠٠ قبل الميلاد، قبل أن تصبح أهمية الكتابة ومنفعتها أمرًا شائعًا. وقد ذَكرَت أسطورةٌ يونانية أن رجلًا يُسمى بلاميدس اخترع الأبجدية اليونانية، وربما يكون قد فعل. وتقول الأساطير الإغريقية إن بلاميدس كان عوبيًّا عاش في نوبليوس، «مدينة السفن» (ليس مدينة نافبليو (ناوبليون) الواقعة ضمن إقليم بيلوبونيز). ولأنَّ الأساطير غالبًا ما تحتفظ بأسماءٍ حقيقية، فقد يكون بلاميدس هو اسم ناسخ القصائد الهوميرية، عدا أننا لا نستطيع أن نُثبت هذا الأمر.
ساند شخصٌ ما يمتلك ثروةً وسلطانًا عظيمَين أمر صياغة هذه النصوص في أوائل القرن الثامن قبل الميلاد. فقد كانت تكلفة البردي وحده هائلة، وكان المشروع في مجمله مطمحًا مجنونًا، مثلما يحدث أحيانًا في مستهل ظهور تكنولوجيا جديدة. فمثلًا، مجمع المعابد الحجري الأبعد شأوًا في مصر — الذي يحيط بهرم الملك زوسر المُدرَّج والذي أُقيم حوالي ٢٦٠٠ قبل الميلاد — هو أيضًا الأقدم. كان إملاء القصائد عملًا مجهدًا وباهظ التكلفة، إلا أن التجار العوبيِّين كان لديهم الوسائل ومن خلال علاقاتهم الشرقية استجلبوا تكنولوجيا الكتابة. من المُرجَّح أن تكون «الإلياذة» و«الأوديسة»، وكذلك قصائد هيسيود من مقاطعة بيوتيا المجاورة، قد دُوِّنَت على جزيرة عوبية، وكانت بحوزة العوبيِّين في بادئ الأمر.
ماذا كان يمكن أن تكون دوافع ناسِخنا لصياغة نصوص بهذا الطول والتعقيد اللذَين لم يَسبِق لهما مثيل؟ ماذا فعل ناسخنا — الذي كان مدعومًا بثروة وهدفٍ غير معلوم — بالنصوص ما إن صارت بين يدَيه؟ إن كان هو مخترع الأبجدية، إذن فقد كان هو الإنسان الوحيد في العالم القادر على قراءة النصوص الأُولى، إلى أن استطاع آخرون تعلُّم أسرار طريقته. نحن نعرف أن نصوص هوميروس قد صارت أساس التعليم اليوناني بحلول القرن السادس قبل الميلاد؛ فمن القابل للتصديق أنها كانت أساس التعليم اليوناني بدءًا من وقت اختراع الأبجدية.