ملحمتا هوميروس عند المؤرخين
يرغب عالم فقه اللغة في معرفة أصل أول نص «للإلياذة» و«الأوديسة» (ولكنه لا يريد على الإطلاق أن يعرف عن بداية التقليد الذي جسَّدَته تلك النصوص، والذي لا بد أن يكون بالغ القِدم). يُشارك المؤرخ عالم فقه اللغة اهتمامه الشديد بمعرفة الزمن الذي صِيغت فيه الملاحم المكتوبة، ولكنه يرغب في أن يستخرج من نصوص هوميروس أكبر قدْرٍ ممكن من المعلومات عن حياة الناس وما كانوا يُفكرون فيه. لقد أنشد هوميروس «الإلياذة» و«الأوديسة»، وصاغ شخصٌ ما نصًّا من أنشودته. ولكن ماذا كان مقدار اعتماد عالم الملاحم العتيق هذا على الخيال الشعري وما مدى عكسه للعالم الحقيقي، الذي — ذات يوم — عاش فيه شاعرٌ حقيقي؟ هذا هو التحدي الذي يواجه المؤرخ.
(١) هوميروس والعصر البرونزي
كانت القلعة في ميسينيا متوافِقةً على نحوٍ جيد مع بأس أجاممنون كما وصفه هوميروس، وعلى النقيض كانت ميسينيا في الحِقبة الكلاسيكية قريةً بائسة. وبدا أن الجهود اللاحقة المبذولة من قِبَل باري ولورد تُثبت التساوي بين عالم هوميروس واليونان الميسينية؛ لأن تلك الجهود فسَّرَت الكيفية التي أمكن بها لهوميروس عبر التقليد الشفاهي أن يَرِث معرفته بأحداثٍ وقعت قبل ٤٠٠ سنة.
لا يعرف هوميروس شيئًا عن بيروقراطيات القصر التي كانت تدعمها الكتابة المقطعية التي ندعوها النظام الخطي باء، والتي نقشها كتَبةٌ محترفون على ألواحٍ طينية. فالصورة التي يقدمها هوميروس للزعماء المُحاربِين المُستقلِّين الذين يعيشون، مثل أوديسيوس، في إيواناتٍ مستطيلةٍ ذات سقفٍ مائلٍ خالية من الزخرفة وأرضياتٍ ترابيةٍ مدكوكة لا تتَّفق مع الأنظمة الملكية المُنظَّمة في مدن ميسينيا، وكنوسوس، وبيلوس، وطيبة في العصر البرونزي، حيث كان الملوك يعيشون في إيواناتٍ مُربَّعة ذات أسقفٍ مسطحة وأرضياتٍ حجرية وزخارفَ جَصيةٍ مُتقَنة على الحوائط، ومن تلك الإيوانات كانوا يُديرون دفَّة اقتصادٍ متطورٍ وهرَمي.
وأخيرًا، يظهر أيضًا ثلاثة أسماء في لوحٍ منقوش بالنظام الخطي باء عُثر عليه في طيبة في المدخل الخاص بالبيوتيِّين في قائمة السفن في الكتاب الثاني من الإلياذة. وهذه الأسماء الثلاثة هي على العكس غير معروفة بتاتًا، ولعلها حُفِظت في لغة صياغةٍ مُدبَّجةٍ ما، ومُرِّرَت بهذه الطريقة.
من الجليِّ أن مثل تلك التوصيفات تشتمل على طبقات، كما لو أن بضعة أشياء أو ممارسات من الأزمنة السابقة، ومن العصر البرونزي ذاته، قد جُمِّدَت في لغة المُنشدِين الملحميِّين المُصاغة شفهيًّا والشديدة التنميق. يمكن تفسير العديد من المخالفات في الأوزان الشعرية في النص الشائع بأنها نتيجة لإعادة بناءٍ للصيغ اللفظية التي لربما كانت دارجة في العصر البرونزي. ومن ثَمَّ فلا بد وأن التقليد الغنائي يعود إلى أواخر العصر البرونزي، وربما قبل ذلك بكثير.
أمَّاه، لِمَ تعترضين على السماح للمُنشِد الطيِّب أن يُدْخِل السرور على الناس بأي طريقة يختارها؟ إن اللائمة لا تقع على «المُنشدِين»، وإنما حسب ظني على زيوس، الذي يُقدِّر للبشر الأحياء المشقَّات، لكل واحد حسبما يشاء. لا يمكن لأحد أن يغضب إن أنشد الرجل عن هلاك الدانانيِّين؛ لأن الرجال يُثنون كل الثناء على تلك الأنشودة التي تطرق أسماعهم حديثًا. (الأوديسة، ١، ٣٤٦–٣٥٢)
(٢) عالم هوميروس و«الدولة المدينة» الكلاسيكية القديمة
تتركز «الدولة المدينة» حول إله أو آلهة يُجسِّدون قوتها وحيويتها ويكفلون نجاحها. ويُتقرَّب شعائريًّا من الآلهة بأن يكون لها مناطقها أو معابدها. ويُوجد في «الإلياذة» معبدٌ واحدٌ قائم بذاته، حيث يُصوِّر هوميروس (الإلياذة، ٦، ٢٩٧) الملكة الطروادية على رأس موكب لوضع ثوب على ركبتَي الإلهة أثينا. يحدث هذا المشهد بين جنبات معبدٍ ترعاه كاهنة بحوزتها مفتاح، وهي الإشارة الواضحة الوحيدة في القصائد الهوميرية إلى ممارسةٍ عقائديةٍ شائعة في «الدولة المدينة» الكلاسيكية القديمة. فقد كانت واسطة العِقد في مهرجان عموم أثينا في مدينة أثينا هو تقديم ثوبٍ جديد لتمثال الإلهة أثينا في معبد البارثينون. ولكن طروادة، التي كان يحكمها ملك بالوراثة، ليست دولة مدينةٍ يونانية على الإطلاق، وقد تعتمد ممارسة تقديم الثوب على نموذجٍ أدبيٍّ شرقي. فعلى مدار ٢٠٠٠ سنة قبل هوميروس، كانت شعوب بلاد ما بين النهرَين والمصريون يعتنون يوميًّا بثياب التماثيل في المزارات المقدَّسة ويُبدِّلونها بانتظام. ومع ذلك لا تزال تلك التفصيلة تنسجم تمامًا مع أقدم المعابد القائمة بذاتها ظهورًا في اليونان، التي ترجع إلى أوائل القرن الثامن قبل الميلاد (في مدينة بيراكورا بالقرب من مدينة كورنث وعلى جزيرة ساموس).
تُوجد إشارات أخرى في القصائد الهوميرية تُلمِح إلى أن «الدولة المدينة» في طور النشوء. فعندما يُعرب هيكتور عن أنه «لا عارَ يلحق بمن يموت وهو يقاتل لأجل بلده؛ إذ ستأمَن زوجته وأطفاله من بعده، ودُوره ومبانيه لن يصيبها ضرٌّ» (الإلياذة، ١٥، ٤٩٦–٤٩٨)، إنما يُعرب عن الولاء لمحيطٍ عام وكذلك لمحيطٍ خاص. في «الأوديسة»، يحكم ألكينوس، ملك الفياشيِّين، مدينةً مُسوَّرةً مُشيَّدة على شبه جزيرة، حيث لا يُوجد معابد، وإنما أماكنُ مُخصَّصة للآلهة.
(٣) هوميروس وعصر التوسع الاستعماري
وهبَني آريس وأثينا شجاعة، وقوة تشقُّ صفوفَ الرجال. وكلما كنتُ أتخيَّر أفضلَ المُحاربِين لنصب شرَك، باذرًا بذور الوبال على الأعداء، لم تكن روحي الفخورة أبدًا تهاب الرَّدى، وإنما كنتُ دومًا أول من يَنطلِق متقدمًا وأُجهِز برمحي على كل من كان يتراجَع هاربًا قُدَّامي من أعدائي. هكذا كنتُ في الحرب، بَيْد أن الكد في الحقل لم يَكُن لِيروق لي، ولا رعاية منزل، يُنشِئ أطفالًا صالحِين. كنتُ دومًا مشغوفًا بالسفن ذات المَجاديف والحروب والرماح المصقولة والسهام، وما إلى ذلك من أمورٍ خطيرة يقشعرُّ فزعًا منها الآخرون. (الأوديسة، ١٤، ٢١٦–٢٢٦)
ولكونه بحَّارًا ذا خبرةٍ واسعة، يستطرد أوديسيوس في تفصيل كيف هاجم مصر نفسها، وكيف أُسر، ثم سُلِّم إلى الفينيقيِّين الذين كانوا يَنْوون استعباده. يُقلِع الفينيقيُّون من مكانٍ ما في بلاد الشام ويُبحِرون في اتجاه الريح نحو ليبيا، ولكن سفُنُهم تتحطَّم جرَّاء العواصف في جنوب جزيرة كريت. ويصل أوديسيوس إلى ثيسبروتيا، وهو إقليم في أقصى شمال كريت على البر الرئيسي قُبالة إيثاكا، وهو أمرٌ مُستبعَد الحدوث على أرض الواقع.
في نهاية العصر الحديدي، في أواخر القرن التاسع وأوائل القرن الثامن قبل الميلاد، كان الفينيقيون خصومًا لليونانيِّين عِرقيًّا وثقافيًّا، أو عاشوا معهم جنبًا إلى جنب؛ إذ كان كلا الفريقَين يستغلُّ الثروات المعدنية وغير ذلك من ثروات قارة إفريقيا، وجزر صقلية، وسردينيا، وقبرص، وإيطاليا، وإسبانيا، وفرنسا. أنشأ الفينيقيون مدينة كيتيون في جنوب شرقي قبرص في فترةٍ ما في القرن التاسع قبل الميلاد على مَقرُبةٍ من مدينة سالاميس اليونانية في الشمال الشرقي. كان الفينيقيون يعيشون في مدينة كوموس على الساحل الجنوبي لجزيرة كريت منذ منتصف القرن التاسع قبل الميلاد أيضًا؛ ربما على نفس المسار الذي ذكَره أوديسيوس في حكايته المكذوبة. وفي القرن الثامن قبل الميلاد أقاموا معبدًا حجريًّا ثلاثي الجوانب في مدينة كوموس على الطراز السامي الشامي. وقد عُثر على كتاباتٍ فينيقيةٍ قديمة جدًّا، ربما من أواخر القرن التاسع قبل الميلاد، على جزيرة سردينيا. وكان صانعو جواهر فينيقيون يعيشون بالقرب من مدينة كنوسوس حوالي عام ٩٠٠ قبل الميلاد، وهو ما يستند إلى اكتشافاتٍ مادية ونقشٍ واحدٍ طويل. نَستنتِج من الأدلة الأثرية أن التوسُّع الفينيقي بدأ في أوائل القرن التاسع قبل الميلاد، ولا شك أن ذلك كان ردًّا على ضغوط مُورست من قِبل الآشوريِّين الأشداء الذين كان يحكمهم آشور ناصربال الثاني (حكم من ٨٨٣–٨٥٩ قبل الميلاد)، الذين هَزَموا في ذلك الوقت الآراميِّين الذين كان موطنهم شمال سوريا (إذ كانت مملكة آرام تقع في دمشق والمناطق المحيطة بها)، ثم زحفوا عبْر مدينة كركميش على نهر الفرات إلى البحر المتوسِّط واحتلُّوا الموانئ الشامية.
تتوافق تصويرات هوميروس للتنافس والعداء الفينيقي-اليوناني — رغم وجود مَودَّةٍ عارضة (إذ كانت مُربِّية إيومايوس فينيقية) — توافقًا دقيقًا مع الدلائل الأثرية على أنَّ الفينيقيِّين واليونانيِّين عاشوا معًا على جزيرة إسكيا في خليج نابولي في القرن الثامن قبل الميلاد. وبطبيعة الحال يأخذ اليونانيون في اقتباس كتابتهم من كتابة الفينيقيِّين. وفي حين أننا لا نستطيع أن نَتتبَّع رحلات أوديسيوس الشهيرة والأسطورية على الخريطة، إلا أن هيسيود في ملحمتِه «ثيوجونيا» (سلالة الآلهة) يُعيِّن مقام سيرس على جزيرةٍ قُبالة الساحل الإيطالي (ثيوجونيا، ١٠١٥-١٠١٦)، ويُرجِع المؤرخ ثوسيديديس موقع وحشتَي البحر الأسطوريتَين سيلا وكاريبديس (أو تشاريبدس) إلى مضيق مِسينا الخَطِر بين جزيرة صقلية وبَرِّ إيطاليا (الكتاب ٤، الفصل ٢٤). كذلك يَعتبر ثوسيديديس (في الكتاب ١، الفصل ٢٥) أن فياشيا هي جزيرة كورسيرا. وإيثاكا هي موضع الانطلاق للتَّرحال من الشرق إلى الغرب.
وهناك تُوجد جزيرةٌ منبسطة تمتد عند منعرجٍ خارج الميناء، وهي ليست قريبة من شاطئ أرض السايكلوب، كما أنها ليست بعيدةً عنها مع ذلك، وهي جزيرة شجراء. هناك يعيش قطعان لا حصر لها من الماعز البري؛ إذ لا تجفل من صوت وطء أقدام الرجال، ولا يأتي إلى هناك الصيادون، وهذا الماعز يَصبر على المشقات في الأرض المُشجِرة وهو يركض فوق قِمَم الجبال. ولا يستوطن ذلك المكان قطعان، ولا الأرض محروثة، وإنما بائرة وغير مفلوحة في كل الأيام التي لم يعرف فيها البشر عنها شيئًا، وإنما يَطعَم منها الماعز ذو الثُّغاء. لا يملك السايكلوب في المتناول أي سُفنٍ ذات عوارض قرمزية، ولا يوجد على أرضهم بنَّاءو سفن يمكن أن يَبنوا لهم سفنًا مزودة بمقاعد تجديفٍ قوية لتلبِّيَ كل حاجاتهم للعبور إلى مدن الناس الآخرين؛ إذ كثيرًا ما يَعبر البشر البحر في سفن لزيارة بعضهم لبعض. الصُّنَّاع المهرة الذين سيكون من شأنهم أن يَجعلوا من هذه الجزيرة مستوطنةً جميلة؛ فالجزيرة ليست جدبًا بأي حال من الأحوال، وإنما من شأنها أن تُنتِج كل شيء في موسمه. ويوجد فيها مروج على شواطئ البحر الرمادي، مروجٌ رَيَّا وغَيْداء، لا تنفد فيها الكروم أبدًا، وفيها أرضٌ مستويةٌ سهلة الحرث يُمكن أن يُجنى منها من مَوسم إلى موسم قِطاف عظيمة، والتربة تحتها بالغة الخصوبة، وفيها أيضًا مرفأ يُوفر مرسًى آمنًا، حيث لا حاجة إلى أدوات رباط للسفن، سواء لإلقاء حجارة مرساة أو لصنع حبالٍ متينة لمؤخِّرة السفينة، وإنما يمكن للمرء أن يرسو بسفينته وينتظر حتى يَعِن لأذهان البحَّارة أن يغادروا، وحتى تهبَّ نسائمُ معتدلة. (الأوديسة، ٩، ١١٦–١٣٩)
قد يكون أوديسيوس في هذا الموضع يمتلك عينَي رجل لديه مسعًى استعماري، ولكن شخصية أوديسيوس الخيالية في القصة التي يحكيها لإيومايوس هي شخصية رجلٍ عنيف ينبذ البيت والأُسرة، وهو قرصان وقاتل ولص، يأتيه الثراء عن طريق السلب والنَّهب، ولهذا السبب يَحظى بالاحترام في بيته الكريتي حيث لا عارَ أخلاقيًّا يتَّصل بسلوكه. ويبدو أننا لا نُكوِّن من الجو العام «للأوديسة» صورة عن واقع الحياة اليونانية في القرن الثامن قبل الميلاد فحسب، وإنما من السلوك القاسي لرجالها المُتصلِّبِين ذوي القلوب الشجاعة.
(٤) هوميروس والفن
يُقدِّم انبهار هوميروس بالأغراض الفنية النابضة بالحيوية والحياة مثالًا جيدًا للمعضلات التي نُواجهها في محاولتنا لإقامة علاقة بين عالمٍ واقعيٍّ تاريخي والقصة التي يرويها هوميروس؛ إذ لا بد أن تكون قصائده مستوحاة من أشياءَ رآها، ولكنه حوَّلها من خلال الإبداع الشعري إلى شيءٍ جديد. في الكتاب الثامن عشر من «الإلياذة» يصف هوميروس هيفايستوس وهو يصنع درعًا لآخيل. إن هذا الدرع هو غرضٌ جميل نادر، إنه كائنٌ حي. ومع ذلك فالقصة المرسومة على الدرع لا تدور في العهد الملحمي الذي تدور فيه قصة هوميروس نفسها، الذي تتحاور فيه الآلهة مع البشر، وإنما في عالمٍ عاديٍّ لا بدَّ وأنه عالم هوميروس.
بَيْد أن الناس تجمَّعوا في مكان التجمُّع؛ لأن نزاعًا قد قام، وكان رجلان في تنازُع على دية قتيل. أحدهما قرَّر أنه دفعها كاملة، مُبرهنًا على حُجته للناس، ولكن الآخر رفض أن يقبلها، وكلاهما يأمل في أن ينتصر في النزاع بناءً على قول مُحكِّم. كان الناس يُهلِّلون على كلا الجانبَين، مُظهرِين انحيازهم لهذا الجانب وذاك. كان المنادون يصدُّون الناس، وجلس الشيوخ على مقاعدَ حجريةٍ مصقولة في الدائرة المقدسة، مُمسكِين في أيديهم بصولجانات المُنادِين ذوي الأصوات العالية. وكانوا يقفون مُتكئِين على هذه الصولجانات ويُصدِرون حكمهم، كلٌّ في دوره. وفي الوسط وُضع مثقالان من الذهب يُمنحان لمن يَلفظ من بينهم بالحُكم الأعدل. (الإلياذة، ١٨، ٤٩٧–٥٠٨)
أمَّا في المدينة التي في حالة حرب، فنرى جيشًا يُجهَّز لحصار من جانب بينما من الجانب الآخر كمين من المدينة يقود إلى معركةٍ شاملة. ثَمَّةَ مشاهد نزاع وتشويش ومصير، ولكن لا وجود لأبولو ولا آريس ولا هيرا. ويُوجد على الدرع أيضًا مشاهد حرث وحصاد واحتفال وقطعان وأسود تهاجمها، وإمالة عناقيد كَرمٍ، وقاعة رقص.
بالاستناد إلى الأدوات التي يستخدمها هيفايستوس، يمكننا القول إنَّ التصاميم على درع آخيل قد عُولجت بطريقة التقبيب، وهي تقنية لطَرقِ وضَغطِ التصاميم في صورة نقشٍ بارز، وليس أشغال المعادن الميسينية التي تتميز بالترصيع الفاخِر. ويُوجد نصف دزينَة من أوعيةٍ معدنية ودروعٍ مُهداةٍ فينيقيةٍ باقية من القرنَين الثامن والسابع قبل الميلاد مُعالجة على نحوٍ مشابه بالتقبيب، وتُظهِر مشاهدَ تفصيلية، على نسق فيه محاكاة للطراز المصري، تتضمَّن رقصًا واحتفالًا صاخبًا وملوكًا جالسِين على عروش. ويُوجد كذلك مَشاهد لمدن تحت الحصار وعمليات صيد. لا بدَّ أن هوميروس وجمهوره قد شاهدوا أشياءَ مثل تلك، عُثر عليها في مدينة كالح في مملكة آشور، وعلى جزيرتَي كريت وقبرص، وفي إيطاليا.
يُعَدُّ تصوير الأسطورة في الفن تحولًا جذريًّا في تاريخ الفن؛ فالفن السردي على هيئةِ صُورٍ مألوفٌ لنا بسبب التقليد اليوناني، إلا أنه ليس له نظائرُ ثابتة في فنون الشرق الأدنى والفن المصري الأقدم، تلك التي كانت كلها تقريبًا لأغراضٍ سياسية أو تأبينية أو زخرفية أو سحرية. على الرغم من أن شعوب بلاد ما بين النهرَين صَنعَت رسومًا لوحوش، أغلبها على أختامٍ صغيرة، ويَدين لها الفن الإغريقي كثيرًا، فإننا لسنا مُتيقِّنِين على الإطلاق من أسماء هذه الوحوش ولا فِعالها. في المقابل، يتَّفق الجميع على أن مشهد عدة رجال يَسمُلون عين رجلٍ ضخم بواسطة وتدٍ يُجسِّد قصة سمل أوديسيوس لعين بوليفيموس.
هل تعرَّض الرسامون الذين صنعوا مشهد بوليفيموس حوالي ٦٧٥ قبل الميلاد بطريقةٍ ما لنصِّ «أوديسة» هوميروس، ربما من خلال تقديمها على يدِ الرابسوديِّين؟ يصعب بأي شكلٍ آخر خلاف ذلك تفسير السبب وراء عدم صنع أي أحدٍ آخر لرسم لفريق من الرجال يَسمُلون عين عملاق بعينٍ واحدة حتى ذلك الوقت، في حين يقوم فجأة فنانون من أقصى البحر المتوسِّط إلى أقصاه بذلك، ولكن بطرقٍ مختلفة، إلا إذا كان جميعهم عُرْضة لنفس المُحفِّز. ومثلما هو الحال فيما يتعلَّق بكأس نستور، التي يشير إليها نقش جزيرة إسكيا، فإن الدليل الوحيد الذي نملكه على وجود قصة البوليفيموس في اليونان القديمة هو قصيدة هوميروس، ويعتقد باحثون كثيرون أنها بهذا الشكل تُعَد ابتكارًا من إبداع هوميروس نفسه. يبدو منطقيًّا أن نُسخًا من الكتاب التاسع من «الأوديسة»، اقتُطفَت من «الأوديسة»، قد تُدوولَت على نحوٍ مُنفرِد في أوائل القرن السابع قبل الميلاد بين رحالةٍ يونانيِّين. فقد ألهمت القصيدة فنانِين بابتكار هذه الصور، حتى إنها صُوِّرَت في إيطاليا النائية.
بعد عام ٦٧٥ قبل الميلاد، بَدأَت التصويرات «الأسطورية» تغمر الفن الإغريقي. ومع ذلك فغالبية الأساطير المُصوَّرة في الفن الإغريقي في القرنين السابع والسادس قبل الميلاد ليست مأخوذة من «الإلياذة» و«الأوديسة» وإنما من قصائدَ ملحميةٍ مفقودة في الوقت الحالي. يُطلَق على هذه القصائد مُسمَّى القصائد الدورية؛ لأنه يبدو أنها نُظمَت «في دورة» حول «الإلياذة» و«الأوديسة»، بحيث تملأ فراغ الأحداث التي وقعت قبل وبعد حرب طروادة. مما لا شكَّ فيه أن نصوص القصائد الدورية كانت معروفةً أكثر بكثير من «الإلياذة» و«الأوديسة»؛ لأنها كانت أقصر كثيرًا، مما جعلها أسهل في الحمل، وأيسر في الاحتفاظ بها، وأقل تكلفة في استِنساخها، وأيسر إلقاءً. كانت النصوص، التي تتميز بسهولة الاستنساخ والحفظ عن ظهر قلب، لِما كان يومًا ما قصائدَ شفاهية، تَنشر المعرفة بالملاحم الإغريقية، التي كانت ذات يوم ملكًا للصفوة، في أرجاء المجتمع اليوناني. ولا بدَّ أن شيوع هذا النوع من النصوص يقف وراء التحوُّل الجذري في موضوعات الفن الإغريقي في القرن السابع قبل الميلاد. كان نطاق المُنشد الملحمي — بمخزونه من الأساطير — هو بهْو الأثرياء وذوي النفوذ القليلِين عدديًّا؛ بينما كان الرابسوديون (رواة الملاحم الشعرية) يُلقون أشعارهم أمام الناس وعلى مسامعهم كلما سَنحَت لهم الفرصة.
(٥) هوميروس والشرق الأدنى
يُنْظَر إلى قصائد هوميروس بوصفها مبتدأ الحضارة اليونانية الكلاسيكية القديمة، وأصل ومصدر الثقافة الغربية. ولكونها النصوص الأولى في الأبجدية اليونانية، التي صارت أساس التثقيف والتحصيل العلمي اليوناني والروماني، فإنها حقًّا كذلك. من الناحية الأخرى، بما أن الأبجدية اليونانية كانت مُرتكِزة على كتابةٍ صوتية بالكلية سابقة عليها؛ إذ كان عمرها ١٠٠٠ عام في زمان هوميروس، فإن قصص هوميروس، وكثيرًا من عالَمِه الخيالي، مأخوذة من شعوبٍ شرقية أقدم، لا سيما الشعوب السامية على وجه الخصوص. يندهش الكثيرون من أن قصص «الإلياذة» و«الأوديسة» الرئيسية ليست يونانيةً في الأصل. خلال العقود الأخيرة عرفنا كيف أن قصائد هوميروس هي جزء من سلسلةٍ ثقافيةٍ متصلة يُمكن تتبُّعها حتى الألفية الرابعة قبل الميلاد في الشرق الأدنى القديم. وعلينا أن نفهم قصائد هوميروس في سياق العالم الأكبر والأقدم بأَسره.
لعلَّ أفضل مصدر للمعلومات عن الأساطير ما قبل اليونانية يُوجد في الملحمة الأكادية «جلجامش»، الباقية في نسختها الأكثر اكتمالًا على اثنَي عشر لوحًا عُثر عليها في العاصمة الآشورية نينوى، التي دُمِّرَت في عام ٦١٢ قبل الميلاد على يد تحالُفٍ من البابليِّين والفرس. ولكن القصيدة أقدم بكثير من ذلك التاريخ؛ إذ نجَتْ شذرات منها تعود إلى الألفية الثالثة كُتبَت باللغة السومرية في نقشٍ مسماري. وظَهرَت أجزاءٌ أخرى منها في عاصمة الحيثيِّين الهندوأوروبية حَتُّوساس (أو حَتُّوشاش)، التي دُمِّرَت حوالي عام ١٢٠٠ قبل الميلاد، وفي مستوطناتٍ أُخرى متناثرة حول الشرق الأدنى. ومع ذلك فإن النصوص من هذا النوع ليست مطلقًا نُسخًا عن طريق الإملاء لأغانٍ شفاهية، وإنما صياغات كَتَبةٍ ألَّفوها في مدارس الكتَبة لإثارة إعجاب الكتَبة الآخرين والترويح عنهم وتدريبهم.
إنَّ قصة جلجامش، الذي يموت صديقه المُقرَّب إنكيدو جرَّاء سلوك جلجامش المُتعجرِف، تُوازي قصة آخيل، الذي يموت صديقه باتروكلوس؛ لأنَّ آخيل لن يذعن للقواعد السائدة. وفكرة الرحلة الطويلة والعودة للوطن، التي تسود البناء القصصي لملحمة «الأوديسة»، تشكل أيضًا النصف الثاني من ملحمة «جلجامش»، عندما يَرتحِل جلجامش بعد موت إنكيدو إلى نهاية العالم حتى يحلَّ لغز الموت.
كذلك ثَمَّةَ طائفةٌ واسعة من التفصيلات الصغيرة في «الإلياذة» و«الأوديسة» التي نجد لها نظيرًا في مصادرَ شرقية؛ على سبيل المثال: إنجاب مينلاوس لطفل من محظية، وأُبَّهة قصر ألكينوس، وانتقال مينلاوس إلى جنة في أقاصي الأرض، وامتناع بينيلوبي عن الطعام، وجداول المياه الأربعة على جزيرة السايكلوب، وطعام الحورية كاليبسو الخاص المُكوَّن من طعام الآلهة والرحيق، وتشبيه بشأن الريح والقش، وتشبيه ناوسيكا بالنخلة؛ والكلاب المعدنية أمام قصر ألكينوس، واختفاء جزيرة الفياشيِّين، والقربان المرفوض من الآلهة، والاستعانة بنبتاتٍ واقية (عشبة لها زهرةٌ بيضاء وجذورٌ سوداء تُسمى «مولي» في «الأوديسة»)، واستحضار أوديسيوس لأرواح الموتى على ضفاف المحيط، وتسمية السيرينات، وإحجام الخُطَّاب وممانعتُهم لقتل أحدٍ من سلالةٍ ملكية، وسرير بينيلوبي الذي تغمره الدموع؛ وإنزال العقاب بصلْم الأُذنين وجدْع الأنف، والتوهُّج والبهاء المحيطان بالآلهة، والتولُّد «من البلُّوط أو الصخر»، والقوس الذي لا يستطيع سحبه إلا البطل وحده، ومسابقة رمي السهام، وقذف عظْمة ساق بقرةٍ باستهزاء (نحو أوديسيوس)، وفقدان ليرتيس للوعي عند اجتماع شمله بأوديسيوس، وما سبق على سبيل المثال لا الحصر.
وثَمَّةَ مثالٌ بارز لاعتماد السرد على قوالبَ شرقية موجودٌ في الكتاب الخامس من «الإلياذة» (البيت ٣٣٠ وما بعده)؛ حيث يصيب ديوميديس أفروديت أثناء القتال. وبعدها تهرب إلى عائلتها في السماوات طلبًا للمواساة. وتسقط باكيةً في حجْر أمها ديوني (زوجة زيوس). فتُواسيها بأمثلتها المستقاة من الأساطير، بينما تُعلِّق هيرا وأثينا بتعليقات ساخرة. ويدعوها زيوس إليه ويَنصحها برفق أن تبتعد عن الحروب والقتال، وأنه ينبغي عليها بالأَولى أن تنشغل بأمور الحب والزواج. في ملحمة «جلجامش»، بعد أن يقتل جلجامش الوحش خمبابا، يَغسل شعره ويصقل أسلحته ويبدو بالغ الوسامة حتى إنَّ عشتار، عندما تراه، تطلب منه أن «هبْني ثمرتك أتمتع بها.» فيرفض جلجامش إلهة الجنس بازدراء وغلظة ويَتلو عليها قائمةً طويلة من العُشَّاق الذين حطَّمَتهم. «ولما سمِعَت عشتار هذا استشاطت غضبًا وعرَجَت إلى السماء، صعِدَت عشتار ومَثُلَت في حضرة أبيها آنو وأمها آنتو. وجرت دموعها وقالت: «يا أبي إن جلجامش قد عزَّرني وأهانني. لقد سبَّني وعيَّرني بهَناتي وشروري»، ففتح آنو فاه وقال لعشتار الجليلة: «أنت التي استفزَزْت ملك أوروك، فأهانك جلجامش وعدَّد مثالبك وهناتك» (اللوح ٦، ٨٠–٩١) [ترجمة طه باقر (بتصرف يسير)].» في كلا المشهدَين نرى ابنةً متضررة تشتكي إلى أُمٍّ مُواسِية وأبًا مُتباعدًا ومرتبكًا نوعًا ما. الشخصيات هي نفس الشخصيات؛ فإلهة الحبِّ أفروديت أي عشتار، وإله السماء آنو أي زيوس، وزوجته آنتو أي ديوني. في هذا الموضع، وفي هذا الموضع فحسب، من كل الأدب الإغريقي تظهر ديوني بمظهر وليفة زيوس المتناغمة معه. فديوني هي الشكل المؤنَّث لزيوس، مثلما تُمثل آنتو الشكل المؤنَّث لآنو.
يبلغ عدد الأفكار الشِّعرية الشرقية الموجودة في «الإلياذة» ضعف عددها في «الأوديسة». فليس ثَمَّةَ شك في أن هوميروس قد آل إليه تقليدٌ من السرد القصصي تخطَّى الحدود اللغوية والثقافية. لا بد وأنه كان يُوجد مُنشِدون ثُنائيو اللغة، وليس مجرد مُتحدثِين ثنائيي اللغة. فلا بد أن يكون قد ظهر أمثال هؤلاء المُنشدِين ثنائيي اللغة بين السكان المُختلطِين من العوبيِّين والفينيقيِّين، أو السوريِّين الساحليِّين الذين تشهد الاكتشافات الأثرية على أنهم كانوا موجودِين في إيطاليا، وكريت، وعوبية. جرَّبَ كاتب (وليس شاعرًا) مُلِمٌّ بالكتابة السامية الغربية، ومحيطٌ بالتقليد السامي الغربي القديم المُتعلِّق بإنشاء نصوصٍ شِعرية من خلال الإملاء، للمرة الأُولى، أن يُسجِّل الملاحم الإغريقية. وبينما كان يُجري تعديلاتٍ لازمةً على الكتابة السامية الغربية، اخترع القاعدة التكنولوجية التي قامَت عليها نصوص القصائد الهوميرية والحضارة الغربية.
(٦) الدين في القصائد الهوميرية
الآلهة في القصائد الهوميرية هم جماعة من الكيانات العَكِرة المزاج، وغالبًا ما تكون مدعاةً للسخرية وغَيرتها التافهة لا تتقيَّد بأهمية الحياة البشرية. هم فريق الأثَناتوي، أي «الذين لا يَموتون»، الذي رسم أعضاؤه حدود نطاقات اهتمامهم. ولكن خلودهم يُضلِّلهم عندما يتعلق الأمر بالأهمية المصاحبة للقرارات البشرية والسلوك البشري. فأفعالنا ذات قيمةٍ لأننا سوف نموت، أمَّا الآلهة فلديهم حرية أن يكونوا تافهِين إلى الأبد.
كان السلوك شبه البشري والإفراط فيه عند الآلهة الهوميرية بالفعل موضع انتقاد من قِبل زينوفانيس في القرن السادس قبل الميلاد، كما رأينا في موضعٍ سابق من الكتاب. كذلك لا تَتناسب آلهة القصائد الهوميرية مع الأطروحات العصرية للطبيعة التي ينبغي أن يكون عليها الإله؛ فهم يَتشاحنون، ويُدبِّرون المكائد، ويُغوون، ويُخادعون، ويخونون، ويُمارسون العنف بعضهم ضد بعض. ففي «الإلياذة»، ينحازون لطرف على حساب آخر في الحرب بقَدْر ما يفعل المُحاربون من البشر (على الرغم من غموض القصائد الهوميرية بشأن الأسباب التي تجعلهم ينقسمون هكذا). ويُفضِّل الآلهة بعض الشخصيات على غيرها ويُشاركون في المعارك بأنفسهم، ولكن دون عواقبَ وخيمة.
جبل الأولمب هو مُستقَرُّ الآلهة الذي يقف راسخًا إلى الأبد، لا تهزه الرياح ولا تُخضِّله الأمطار ولا يسقط فوقه الجليد، وإنما يمتد الهواء صافيًا وبلا غيوم، وفوقه يُحوِّم بياضٌ مُشع. هنا يُمضي الآلهة المباركون كل أيامهم في سعادة. (الأوديسة، ٦، ٤٢–٤٦)
يتساءل كل قارئٍ معاصر لقصائد هوميروس: «هل آمن اليونانيون حقًّا بتلك الآلهة التافهة؟» دعونا أولًا نسأل كيف تناول الأبطال الهوميريون أنفسهم الآلهة في ديانتهم. تُظهر أمثلةٌ عديدة كيف أن الديانة الهوميرية لم تُعوِّل كثيرًا على علاقاتٍ متبادَلة مع الآلهة بقَدْر ما اعتَمدَت على الممارسة السليمة للشعائر التقليدية. فمثلًا، عندما يَقدُم أوديسيوس متنكرًا إلى كوخ راعي خنازيره المخلص إيومايوس، يذبح إيومايوس خنزيرًا قربانًا (الأوديسة، ١٤، ٤٢٠–٤٥٣). «ولم ينسَ الآلهة الخالدة؛ لأنه كان ذا عقلٍ راجح.» فيَجُزُّ أولًا شعر الخِنَّوْص ويُلقي به في النار، «لجميع الآلهة». وبعد أن ينحر البهيمة، يَقتطع قِطعًا سميكةً ضخمة من كل قوائمها ويضعها في النار قربانًا، ويضع فوقها شعيرًا. وعندما يُقسَّم اللحم، يُخصِّص قِسمًا «للحوريَّات ولهيرميس». وأخيرًا، قبل أن يأكل، يحرق «أولًا قرابين الآلهة الخالدة». لا يخبرنا هوميروس مطلقًا عمَّن هم الآلهة المُوجَّه لهم معظم القرابين، ولا عن السبب في تخصيص قسمٍ واحد فقط لهيرميس والحوريات، ولا عن السبب وراء كون هؤلاء الآلهة مُناسبِين في هذا المقام ولا عن الكيفية التي يتلقَّون بها القِسم المخصَّص لهم على وجه التحديد.
على نفس المنوال، في المشهد الافتتاحي لملحمة «الإلياذة»، ومن أجل تسكين غضب أبولو وإيقاف الطاعون، يُخْلي اليونانيون سبيل خريسيس ابنة كاهن أبولو ويُسلمونها إلى أبيها خريسي، ثم يُقدِّمون قرابين ويُطهِّرون الجيش عند طروادة (الإلياذة، ١، ٣١٣–٣١٧)، ثم يُقدِّمون قرابين مجدَّدًا ويَرقُصون ويُغنُّون أنشودة الشكر (تسبيحة لأبولو) عند المَوضع المُسمَّى خريسي (الإلياذة، ١، ٤٣٠–٤٨٧). «وسمعهم الإله وسَعِد»، وأرسل ريحًا مُواتية، على الرغم من أننا نعرف مِن ثيتيس أن زيوس وكل الآلهة الآخرين في نفس هذا الوقت يَتناولون الطعام وسط الإثيوبيِّين المبارَكِين (الإلياذة، ١، ٤٢٣-٤٢٤). ويَنبعِث الدخان الناتج عن حرق القربان «إلى السماء»، كما لو كان موضع وجود أبولو الفعلي غير ذي أهمية. يقوم الدين على الأفعال والممارسات، والقرابين هي شكل الفعل الذي يتَّخذه الدين بين الأبطال الإغريق، في حين تظلُّ علاقة الآلهة الدقيقة بالشعائر غامضةً أو متضاربة. مجددًا، عندما يعيد أجاممنون بريسئيس محظية آخيل، يُقسِم أنه لم يلمسها ولكي يؤكد قَسَمه يُقدِّم خنزيرًا قربانًا (الإلياذة، ١٩، ٢٥٠–٢٥٦). ولا يُقال لنا لأي إله قدَّم قربانه؛ فما يُهِم هو الفعل نفسه.
إذن من ناحيةٍ يوجد السلوكُ الديني للأبطال، ومُعاصرِي هوميروس دون شك، وهو السلوك الذي يتمثَّل في ذبح البهائم لإقامة علاقاتٍ طيبة مع القوى الخفية التي تحيط بنا، أيًّا ما كانت. إن أشكال القربان هي أمرٌ محلي، ولكن تقديم القرابين لإرضاء الأرواح قد يكون أمرًا جامعًا في الديانات القديمة للبشرية (فلا تزال قدرة القربان على الاسترضاء عقيدةً كنسيةً محورية في المسيحية).
لِذلكمْ فإن هوميروس، في وصفه للآلهة، يَستعين باستراتيجياتٍ تقليدية للسرد القصصي موروثةٍ من حضارةٍ غير يونانية أقدم. إنَّ السلوك الصبياني للآلهة، والافتقار إلى الجِدية الذي يعمُّ قصص هوميروس عنهم، يعكس أصلهم الأجنبي من ناحية كونه شيئًا منفصلًا وغير متصل بمُمارسةٍ دينيةٍ حقيقية. ومع ذلك، ينبغي ألَّا نُقلِّل من شأن إعادة التشكيل المبتكرة من قِبل هوميروس لمثل هذه المادة السردية التقليدية ليخلق توترًا مُشوِّقًا بين عالم الآلهة اللامبالي وعالم الأبطال المليء بالعنف والألم، وهو ما يُشكِّل فكرةً أدبيةً رئيسية في «الإلياذة». يُورد هوميروس بمهارة مَشاهد من جبل الأولمب؛ ليوضِّح معضلة البشر الفانِين، وليُضفيَ كمالًا على العالم الهوميري بالمزج بين العالمَين.
(٧) هوميروس وعلم الآثار
هل كان ثَمَّةَ حربٌ تُسمى حرب طروادة أم لم يكن؟ نعم، أو هو أمرٌ مُحتمل للغاية، ولكنك بحاجة لأن تكون واضحًا بشأن ما تَعنيه بحرب طروادة. لقد ناقشنا علاقة هوميروس بالعصر البرونزي عامة، ولكن ما الذي نعرفه أيضًا من التنقيب الأثري، أي من الأشياء التي نَعثُر عليها في الأرض، عن حرب طروادة من الناحية التاريخية؟
أُنشئت مدينة طروادة على مضيق الدردنيل، عند مُلتقى بحر هيليسبونت (بحر مرمرة حاليًّا) وبحر إيجه، الذي يُعَد الممر البحري الوحيد بين البحر الأسود والبحر المتوسط وعلى طريقٍ بريٍّ رئيسي بين منطقة الأناضول، وبلاد ما بين النهرَين ظهيرها الجغرافي، وبين أوروبا (خريطة ٣). ولقد تغيَّر الشريط الساحلي لمنطقة ترواد، وهي المنطقة المحيطة بمدينة طروادة، تغيُّرًا كبيرًا عما كانت عليه في العالم القديم؛ إذ ملأ تدفُّق من نهرَي سيموئيس وسكاماندروس، المذكورَين مرارًا في «الإلياذة»، بالطمي خليجًا شاسعًا كان قديمًا يصل نحو الداخل حتى مَسافةٍ قريبة من الأطلال.
ولطالَما كان المضيق منطقة صراع، من غزوات الملك الفارسي خشايارشا الأول (الذي حكم من ٤٨٥–٤٦٥ قبل الميلاد)، والإسكندر الأكبر (الذي وُلد عام ٣٥٦ قبل الميلاد، ومات في عام ٣٢٣ قبل الميلاد)، وحتى حملة جاليبولي التي شنَّها وينستون تشرشل عام ١٩١٥ التي باءت بالفشل (حيث قُتل ١٣٣ ألف رجل في عدة أشهر عبثًا). وحتى يومنا هذا لا تزال القوات العسكرية تُوجَد بكثافة في هذه المنطقة. وإذ كانت قلعة طروادة بالفعل في مُلتقى طرق التجارة الدولية، فقد وَقفَت بين الحيثيِّين الأشداء والمُنظَّمين للغاية جهة الشرق والميسينيِّين مُرتادي البحار جهة الغرب.
المدينة | العام | الحدث |
---|---|---|
طروادة الأولى: مستوطنة على لسان بري بالقرب من البحر | ٣٠٠٠–٢٥٠٠ قبل الميلاد | |
طروادة الثانية: قلعة ملكية | ٢٥٠٠–٢٢٠٠ قبل الميلاد | • ٢٢٠٠ قبل الميلاد: حريق هائل، نهب المدينة. |
طروادة الثالثة | ٢٢٠٠–٢١٠٠ قبل الميلاد | |
طروادة الرابعة | ٢١٠٠–١٩٠٠ قبل الميلاد | |
طروادة الخامسة | ١٩٠٠–١٨٠٠ قبل الميلاد | |
طروادة السادسة: أسوار وأبراج عظيمة (انظر شكل ٢-١) | ١٨٠٠–١٢٥٠ قبل الميلاد | • ١٥٠٠ قبل الميلاد: الصلات الأولى بالعالم الميسيني. |
• ١٢٥٠ قبل الميلاد: دمار طروادة السادسة (هل كان بسبب حرب طروادة؟) | ||
طروادة السابعة (أ) | ١٢٥٠–١١٨٠ قبل الميلاد | • ١١٨٠ قبل الميلاد: دمار طروادة السابعة (أ) (هل كان بسبب حرب طروادة؟) |
طروادة السابعة (ب) | ١١٨٠–١١٠٠ قبل الميلاد | • الحياة وسط الأطلال. |
طروادة الثامنة: إليون اليونانية؛ مستعمرة غابرة من العصر الكلاسيكي كانت عبارة عن بلدة تجارية صغيرة | ٩٥٠–١٣٣ قبل الميلاد |
• ٩٥٠ قبل الميلاد: ربما
يكون الموقع قد صار مهجورًا تمامًا.
• ٧٥٠ قبل الميلاد: تأسيس
مُستعمَرة إليون اليونانية على يد مهاجرين من جزيرة
لسبوس.
|
طروادة التاسعة: إليون الرومانية؛ تعداد السكان ٣٠٠٠ أو ٤٠٠٠ نسمة | ١٣٣ قبل الميلاد–٥٠٠ ميلاديًّا | • ٨٥ قبل الميلاد: نهب المدينة في حرب بين الرومان والملك الشرقي ميثراداتس. |
ذاعت أنباء اكتشافات شليمان المُذهلة في أنحاء المعمورة والتي كانت عبارة عن: مدينة دمرتها النيران واقعةٍ في عمق التلِّ وخبيئةٍ من أغراضٍ ذهبية وفضية، سرعان ما سُمِّيَت باسم كنز بريام. بيْد أننا نعرف الآن أن المدينة المحترقة التي اكتشفها شليمان كانت ترجع إلى مرحلة طروادة الثانية، حوالي سنة ٢٥٠٠–٢٢٠٠ قبل الميلاد، وهي فترةٌ زمنية تسبق بكثير عالم العصر البرونزي المتأخِّر الذي تنتمي إليه الأساطير الملحمية الإغريقية، وهو العصر الذي بلغت فيه مدينة ميسينيا أَوْج قوتها. كذلك تُوجد شكوك بشأن أصالة الكنز الذي اكتشَفَه شليمان وبشأن ظروف اكتشافه. وفي تسعينيات القرن التاسع عشر، كشف فيلهلم دوربفيلد (١٨٥٣–١٩٤٠)، المهندس المعماري الذي كان يعمل لحساب شليمان، عن أسوار قلعة طروادة السادسة التي ترجع إلى حِقبةٍ متأخرة، وذلك في تسعينيات القرن التاسع عشر، وزعم أن هذه الأسوار لا بدَّ وأنها الأسوار التي خلَّد هوميروس ذكراها. غير أنه في ثلاثينيات القرن الماضي، عَثر كارل دبليو بليجِن من جامعة سينسيناتي على دلائل على وجود اكتظاظٍ سكاني في الموضع الذي التجأ إليه الناس — على ما يبدو — بعد زلزالٍ عظيم في حوالي سنة ١٢٥٠ قبل الميلاد. في هذا المستوى، وهو مستوى طروادة السابعة (أ)، التي دُمِّرَت بدورها حوالي سنة ١١٨٠ قبل الميلاد، وجد بليجِن مُنشآتٍ مُخصَّصةً لمخزونات الغذاء، كما لو أن السكان كانوا يتوقَّعون وقوع هجوم. وعثر بليجِن أيضًا على حجارة مقلاع ونصالٍ برونزية لسهام وأسنة رِماح في أنقاض دمار عند البوابة الغربية، التي سُدَّت بعد الزلزال الذي وقع حوالي سنة ١٢٥٠ قبل الميلاد. وخَلُص تقرير بليجِن النهائي عن العمل الذي قام به في طروادة من عام ١٩٣٢–١٩٣٨ إلى أنَّ القلعة وفَّرَت «أدلةً فعلية على أن البلدة تعرَّضَت للحصار، وللاستيلاء عليها، وللتدمير من قِبل قواتٍ معاديةٍ في فترةٍ ما في المرحلة الزمنية الشائعة التي ينسبها التراث الإغريقي لحرب طروادة، وأنه يُمكن بثقةٍ تعريفها بأنها طروادة بريام وهوميروس.»
منذ عام ١٩٩٥ تابَعَت بعثةٌ ألمانية تحت قيادة مانفريد كورفمان (الذي تُوفي في سنة ٢٠٠٥) أعمال التنقيب التي بدأها شليمان في القرن التاسع عشر وواصلها بليجن في القرن العشرين. وحسب كورفمان، فإن نتوء هيسارليك الشهير التي قام شليمان وبليجن بأعمال التنقيب فيه لم يكن إلا المدينة العُليا في مستوطنةٍ أكبر كثيرًا بتعداد قد يصل إلى ١٠ آلاف نسمة. وخارج القلعة مباشرةً، يُوجد خندق وسياج كانا يحميان مدينةً سفلية عن طريق توفير خطٍّ دفاعيٍّ خارجي يَبعُد كثيرًا عن سور القلعة، وربما كان الغرض منه منع اقتراب الجيوش المحمولة على عجلاتٍ حربية.
تُشير السجلات الحيثية فيما يبدو إشارة مباشرةً إلى طروادة، مُطلِقةً عليها أسماءً مثل «فيلوسا» (وهي التسمية المرادفة لإيليوس) و«تارويسا» (وهي التسمية المرادفة لترويا). ومن محتويات الألواح التي عادةً ما تكون صعبة نعرف أن إقليم فيلوسا كان أبعد جزءٍ من «أرض أرزاوا»، ومن الواضح أنه كان في شمال غربي الأناضول، وأنه كان يقع على الساحل. فمِن المُعتاد لمُستوطنةٍ كبيرة أن تحمل نفس اسم الإقليم الذي تقع فيه، ومن ثَمَّ فإن التماثُلَين الاسميَّين فيلوسا (المرادف لتسمية إيليوس باليونانية) وتارويسا (المرادف لتسمية ترويا باليونانية) هما تماثُلان معقولان. والواقع أن هذين التماثُلَين الاسميَّين معروفان لنا منذ وقتٍ طويل؛ إذ تعودان إلى معلوماتٍ أكاديمية ترجع إلى عشرينيات القرن الماضي، ولكنهما كانا يبدوان خياليَّين لمعظم الناس. وعلينا أن نتذكر أن هذا النوع من المُقارَنات صعب؛ لأن الكتابة المسمارية لبلاد ما بين النهرَين التي كانت تُستخدم عادةً من قِبَل الكتَبة الحيثيِّين في كتابة هذه الألواح (والتي لا صِلَة لها بالكتابة التي دُرج على تسميتها «هيروغليفية» التي تُدوَّن بها لغةٌ قريبة منها، وهي اللغة اللوفية) لا تُطلِعنا على النطق الفعلي للأسماء، وإنما تُعطينا إشارات فقط؛ فالصيغ مثل «تارويسا» و«فيلوسا» هي عبارة عن عمليات إعادة بناء أُجريَت من قِبل باحثِين أكاديميِّين وهي إلى حدٍّ ما تخيُّلية. ونحن، على العكس من ذلك، نتبيَّن نطق الأسماء اليونانية بسبب الأبجدية اليونانية. ومع ذلك، فإنَّ عمليات إعادة البناء المُعاصِرة للتقسيمات السياسية في منطقة الأناضول القديمة، اعتمادًا على الألواح، لا تدع مجالًا للشك في أن إمبراطورية حَتُّوساس كانت على علم بطروادة وكان لها تعاملات مع الطرواديِّين.
هل كانت السُّلالة الحاكمة في طروادة سُلالةً حيثية؟ إن كان الأمر كذلك، فقد كانت مُستقلةً سياسيًّا عن الحيثيِّين. فقد أبرم أحد ملوك الحيثيِّين، ويُدعى مواتيلي، معاهدةً في عام ١٢٨٠ قبل الميلاد، وهو زمن طروادة السادسة، مع من يُدْعى «ألكساندو ملك فيلوسا»، وهي الصيغة الحيثية للاسم اليوناني «ألِكسندراس»، الذي معناه تقريبًا في اللغة اليونانية «حامي الرجال». يطلق هوميروس على باريس الطروادي اسم «ألكسندر»! فهل بسَط أميرٌ يوناني نفوذه على طروادة أثناء العصر البرونزي؟
في مناسباتٍ عِدة يشكو الملك الحيثي من منطقة تُسمى «أهياوا»، التي تُوصف بأنها إقليمٌ قوي يقع خارج نطاق السيطرة الهائلة للنفوذ الحيثي. يستهجن الملك الحيثي بشدة سلوك ملك أهياوا، ولكنه يبدو عاجزًا عن فعل أي شيء حياله. لا بدَّ أن أهياوا تقع عبر البحر. ويبدو أن اﻷﺧﺎيويِّين اليونانيِّين — الآخيِّين عند هوميروس — يستمدون اسمهم من هذا القُطر بعينه. وثَمَّةَ رسالةٌ طويلة من مَلِك حيثي، يُسمى حاتوسيلي، الذي حكم فيما بين سنة ١٢٦٧ إلى ١٢٣٧ قبل الميلاد تقريبًا، إلى ملك أهياوا توحي بأن القوتَين كان بينهما خلافات مُستحكِمة على فيلوسا. وفي مصر تُوجد سجلات للفرعون أمنحتب الثالث من القرن الرابع عشر قبل الميلاد تُشير إلى شعب يُدعى «تنيو»، ربما كانوا هم شعب الداناويِّين اليونانيِّين، الذين يُسميهم هوميروس الدانانيِّين. وعلى الرغم من قلة الأدلة، فإن الخلفية التاريخية لوصف هوميروس لحرب طروادة دقيقة بما يكفي: مملكةٌ قويةٌ غنية على سواحل بحر هيليسبونت ومملكة الميسينيِّين اليونانيِّين الآتية من وراء البحار التي ليسَت دومًا على علاقاتٍ ودية مع القوة الآسيوية.
أثبت فك رموز النظام الخطي باء على يد المهندس المعماري البريطاني مايكل فينتريس في عام ١٩٥٢، الذي عُثر عليه في جزيرة كريت وعلى برِّ اليونان الرئيسي، أن الميسينيِّين (الذين ربما كانوا يعيشون في أهياوا، طبقًا لسجلات الحيثيِّين) كانوا يُونانيِّين؛ ومن ثَمَّ تُوجد استمراريةٌ ثقافية فيما بين الميسينيِّين وهوميروس. ولمَّا كان لا بدَّ للمسائل الخاصة بالمسئولية والسلوك في القصائد الهوميرية أن تَنتمي إلى القرن الثامن قبل الميلاد، وهو زمن نَظمِها، فإن الشاعر يحوز إلمامًا فائقًا بشخصيات القصيدة وبخلفيةٍ تاريخية عن حرب طروادة. لا شك في أن التقليد بالغ القِدم، وهو ليس على الإطلاق من ابتكار هوميروس. وربما تحفظ القصة الأكبر عناصرَ تاريخيةً حقيقية على نحوٍ جيد. إن معرفة الحيثيِّين والمصريِّين بوجود قوةٍ إيجيةٍ هامة، والأسماء فيلوسا، وتارويسا، و«تنيو»، ألكساندو، وأسماء أخرى، وواقع وجود استمرارية ثقافية، وعصر الوزن السداسي التفعيلات العظيم، تلك الأمور جميعها، تجعل من المرجَّح أن الروايات المتعلقة بحملةٍ آخية على مَعقِلٍ آسيوي في أواخر العصر البرونزي إنما تُعبِّر عن حدثٍ حقيقي، استُلهم منه القالب الذي توارثه هوميروس، والذي وضع بداخله قصصه المعاصرة عن الأزمة الأخلاقية والعودة إلى الوطن.
بعد ذلك بمائة وخمسين عامًا، عثر الإسكندر الأكبر على «درع من حرب طروادة» داخل المزار المقدَّس للإلهة أثينا إلياس، وعثر أيضًا على «قيثارة باريس». ودعَّمَت مدنٌ ومحاريبُ مقدسة وآثارٌ مزعومةٌ أخرى الأسطورة. في المعبد الجميل للإلهة أثينا في مدينة ليندوس على جزيرة رودس، يُمكنك أن تشاهد خَوذة باريس، وأساور هيلين الذهبية، وجَعبة سهام بانداروس. خلَّد الأثينيون ذكرى خراب طروادة على معبد الأكروبول بأثينا في أواخر القرن الثاني الميلادي؛ إذ نُصب على تل الأكروبول أشباهٌ للأبطال الحربيِّين مينيسثيوس، الذي يقول هوميروس إنه قاد الكتيبة العسكرية الأثينية، وابني ثيسيوس، بطل أثينا الاستثنائي، اللذَين اختلسا النظر من داخل بطن تمثالٍ برونزي هائل لحصان طروادة منصوب على الأكروبول. وفي مدينة إيليون نفسها، تُوضِّح عملاتٌ يونانية ورومانيةٌ ما لطروادة من صدًى على أولئك الذين سعَوا لربط إيليون بالماضي البطولي. عندما استولى الياور الروماني الخائن فمبريا على مدينة إيليون سنة ٨٥ قبل الميلاد في الحرب الرومانية ضد الهمجي والمخادع ميثرادتس، ملك مملكة البنطس في شمال الأناضول، راح يتفاخر بأنه في أحد عشر يومًا فقط استولى على مدينةٍ صمدت لعشر سنوات أمام أجاممنون وسفنه الألف. ورَدَّ عليه أهل مدينة إيليون قائلين: «نعم، ولكن بطل مدينتنا لم يكن أحدًا كهيكتور.»
(٨) استدلالات: هوميروس والتاريخ
ثَمَّةَ إجراءٌ مُماثل تمامًا في الأناشيد التي بحَثَها باري ولورد؛ إذ أنشد جوسلاري القرن العشرين عن معركة كوسوفو التاريخية الحقيقية، التي وَقعَت في سنة ١٣٨٩. في تلك الأناشيد، كانت كل تفصيلةٍ تاريخية هي إمَّا مغلوطة أو لا يمكن التحقُّق منها، بما في ذلك نتيجة المعركة، التي يدَّعي الشعراء أنها هزيمةٌ ساحقة، بينما في واقع الأمر يبدو أنها كانت تعادُلًا. بالمثل نجد ملحمة «النيبلونْجِن» من العصور الوسطى باللغة الألمانية الفُصحى الوسيطة، وتعني «أنشودة النيبلونجيِّين (البرجنديِّين)»، عن ملوك منطقة بورجندي من القرن الخامس الميلادي، تُشوِّه التاريخ تشويهًا يفوق الإدراك. وقد حفَّزَت رغبةٌ قوية، منذ أعمال تنقيب شليمان، الجهود الرامية إلى العثور على التاريخ في القصائد الهوميرية، ولكن علينا أن نَعترف أنه ليس ثَمَّةَ شيء لنَعثُر عليه، حتى ولو كان لهيلين وجودٌ فعلًا يومًا ما، وحتى ولو هَربَت مع باريس، وحتى ولو كان آخيل قد ماتَ على سهل طروادة العاصف؛ لو كان أيٌّ من هذه الأمور قد حدث، فلا يُمكننا أن نعرفه. صحيحٌ أنه لا بد وأن حدثًا ما قد استهل التقليد المتعلِّق بحرب طروادة؛ لأن المُنشدِين الملحميِّين لا يحتفون بسادتهم بحكايات عن حروبٍ وهمية. وهذا يَعني أنه كان هناك «بالفعل حرب تُسمى حرب طروادة». ولكن الملاحم الهوميرية هي إبداعاتٌ أدبية، قصصٌ خيالية من عناصرَ متنوعةٍ ومن أزمنةٍ مُختلفة ومن تقاليدَ أدبيةٍ مختلفة. إنها لا تَنقل حدثًا تاريخيًّا من أحداث العصر البرونزي، فبينما من المُحتمل أن يكون ثمة حرب شُنَّت على طروادة، إلا أننا لو نظرنا بتمعُّن، لوجدنا أن الملاحم الهوميرية تُورِد ذكر الكثير عن اليونان في أوائل القرن الثامن قبل الميلاد، عندما ظَهرَت هذه القصائد للوجود على هيئة نصوصٍ مكتوبة عن طريق الإملاء على جزيرة عوبية على الأرجح.
في «الإلياذة»، يَميل هوميروس إلى خلق «بُعدٍ ملحمي»؛ أيْ شعورٍ لدى الحضور بأن هذه الأحداث جرت منذ زمنٍ بعيد في عالم أكثر نبلًا من عالَمنا. ومن أجل خلق البعد الملحمي، يعطي الشاعر، عامدًا، للقصة مظهرًا عتيقًا. فكل الأسلحة من البرونز (مع أن أدوات الحياة اليومية الوارد ذكرها في التشبيهات من الحديد). في هذا العالم تظهر الآلهة على هيئة بشر وكأن تلك مسألةٌ بديهية، والصراعات في السماء تُضاهي الصراعات على الأرض. وكان الرجال أقوى آنذاك؛ ففي الزمن المعاصر ولا حتى اثنان يَقويان على حمل حجر كان رجلٌ واحد يقذفه آنذاك. وآخيل يَصرخ فتتقهقر جيوش. والخيول تتكلم. إن «الإلياذة» تُعتبر «ساجا» (ملحمةً خياليةً أسطورية)، حيث الرجال أضخم وأعظم، والآلهة تتدخَّل بنفسها في الأحداث وأحيانًا ما يكون ذلك عِيانًا، وكل شيء قديم الطراز نوعًا ما، عالمٌ رفيع الطراز لم يُوجَد قط بهذا الشكل بالضبط.
أما «الأوديسة» فهي «حكايةٌ شعبيةٌ خرافية»، تشتمل على سماتٍ أدبية متعارف عليها من قبيل تحقُّق النبوءات، وموضوعات تُجسِّد الصراع مع الموت، والصراع بين الجنسَين، والتخفِّي، والتحايُل، والانهزام المرحلي، والتعرُّف على الأبطال، والثأر. ولملحمة «الإلياذة» مذاق السريالية، مثال ذلك عندما يرتفع روح النهر ويهاجم آخيل؛ إلا أنه لا يُوجد وحوش ولا رموزٌ غامضة لانبعاث الحياة، مما تَمتلئ بها «الأوديسة» بكثرة. في تصويرها «للواقع» تنتقل «الأوديسة» عبْر مدًى يضمُّ عالم السايكلوب الخيالي على أحد طرفَيه، والفياشيِّين شبه الخياليِّين في المنتصِف، والقصر المتراكم فيه الروَث على جزيرة إيثاكا على الطرف الآخر. لا يُمكننا مُطلقًا أن نستقي «التاريخ» الحقيقي من القصائد الهوميرية، ولكن يُمكننا أن نكتشف ما كان يَعتقِده اليونانيون في القرن الثامن قبل الميلاد بشأن العالم وبشأن أنفسهم. ويتبيَّن لنا أنهم كانوا يُشبهوننا كثيرًا.