الأوديسة
كل شيءٍ متعلقٍ بملحمة «الأوديسة» مختلفٌ عن «الإلياذة»؛ فهما تُعدَّان نقيضَين أدبيَّين، وهي الحقيقة التي ظلَّت لوقتٍ طويل تُمثِّل أفضل حُجة تُساق للدلالة على أن القصيدتَين من إبداع رجلٍ واحد، هو واحد من أعظم الفنانِين الذين عاشُوا على ظهر الأرض على الإطلاق. الحياة كبيرة، وقوامها الأخلاق. وثَمَّةَ حروب، وثمة رباط الأسرة. تتمحوَر أحداث «الإلياذة» حول الحرب. أمَّا «الأوديسة» فتدور حول رجلٍ يحاول العودة لدياره، وفي طريق عودته يتحوَّل إلى رمز للروح البشرية في بحثِها عن معنى الحياة البشرية. ليس الأمر أن أوديسيوس يُفتِّش عن معرفة من هذا القبيل في رحلاته؛ فهو لا يفعل. وإنما «يرمز» تَرحاله إلى السعي البشري نحو المعرفة. ومثلما تُجسِّد «الإلياذة» انشغال الغرب بقضية فلسفة القيمة — التي يُعَد شغلها الشاغل هو التساؤل عن السبب الذي من أجله يتعيَّن على المرء أن يفعل أي شيء — كذلك تُجسِّد «الأوديسة» سعيه الدءوب نحو اكتشاف أشياءَ جديدة.
(١) ابتهال واستهلال: «الجريمة لا تفيد» (١، ١–٩٥)
يَشيع هذا النمط من الخير الجَذري والشر الجَذري، أي التمايُزات الأخلاقية الواضحة والبسيطة في ذات الوقت، في تقاليد الحكاية الشعبية في كل أنحاء العالم وملحمة «الأوديسة» في بِنيتها العميقة هي نوع من أنواع الحكاية الشعبية، وهو «عودة الزوج إلى الديار» (لا تُعَد «الإلياذة» حكايةً شعبية). من خلال عقد مقارنة بين العديد من التنويعات من مختلَف أنحاء العالم، يُمكننا أن نصف سلسلة من الأفكار الأساسية (الموتيفات) للحكاية الشعبية والتي قد نتوقَّع أن نجدها في أي تنويعة من تنويعات عودة الزوج للديار؛ بالطبع ليس كلها دفعةً واحدة وليس الجميع بنفس الترتيب (بعضٌ منها ليس له وجود في «الأوديسة»). فنجد أولًا مسابقة بين الخُطَّاب، وعادةً ما تتضمَّن رمْي السهام (هذه الموتيفة مُؤجَّلة إلى نهاية القصيدة). يفوز البطل بالمسابقة ويتزوج الفتاة (يَقتل أوديسيوس الخُطَّاب ويُعاشِر بينيلوبي)، ولكنه سرعان ما يُغادر (يذهب أوديسيوس إلى طروادة). ويُعيِّن أمدًا محدَّدًا عليها خلاله أن تنتظر عودته، قبل أن تتزوَّج مرةً أخرى (الأوديسة، ١٨، ٢٥٩–٢٧٠). ويُسجَن أو يُمنَع بأي طريقةٍ أخرى من العودة (يُمضي أوديسيوس عشر سنوات في طروادة، وثلاث سنوات مرتحلًا، وسبع سنوات محتجزًا رغمًا عن إرادته على جزيرة الحورية كاليبسو). وقد يَنزل إلى العالم السُّفلي (الكتاب ١١). وتَرِد أنباء عن موته (١٤، ٨٩-٩٠) وتجد زوجتُه نفسَها مُضطرةً إلى الزواج مرةً ثانية (١٥، ١٥–١٧، و١٩، ١٥٨-١٥٩). ويعلم البطل بِنيَّتِها (قارن: ١١، ١١٥–١١٧) وفي رحلةٍ مُبهِرة (١٣، ٨١–٩٥)، يخلد خلالها إلى النوم (١٣، ٧٩-٨٠)، يعود إلى الديار مُتخفيًا (يتنكَّر أوديسيوس في ثياب متسوِّل). فيتعرَّف عليه أولًا أحد الحيوانات (كلب أوديسيوس المُسمَّى أرجوس، وتعني «السريع»). ويكشف عن هُويته لأسرته عن طريق الرموز (نَدبة أوديسيوس، وفِراش زفافه). ويُلغَى الزفاف الجديد أو يُقتَل الأفَّاق (قتل الخُطَّاب).
وفي حين تَظهر فكرة مقتل الصديق وما يَعقُبه من ندم وتأمُّل، ذاك الذي تتناوَلُه «الإلياذة»، جليةً في ملحمة «جلجامش» القادمة من الشرق الأدنى، نجد «أوديسة» هوميروس تَعرِض أول مثالٍ معروف للحكاية الشعبية التي تتناوَل الزوج العائد للديار. من المستحيل أن نجزم مِن أين استقى هذه الفكرة؛ فالشرق الأدنى القديم لا يُقدِّم نموذجًا جيدًا، رغم أن الكثير من التفاصيل تَستنِد إلى أنماطٍ شرقية؛ مما لا شك فيه أن أنواعًا أدبية بكاملها قد اختفَت من سجلِّ أدب الشرق الأدنى القديم، على سبيل المثال الحكايات الخيالية للحيوان، المُوثَّقة بشكلٍ واضح في تمثيلاتٍ فنية في بلاد ما بين النهرَين ومصر ولكن ليس لها وجود على الإطلاق، مكتوبة على ألواح أو برَدي. من المُرجَّح أن هوميروس قد توارث قصته من مجموعةً كبيرة من الحكايات الشعبية التي كانت تُمثِّل المخزون الأساسي لدى المُنشِد الملحمي.
فلتَرَ الآن، كم يسُرُّ البشر الفانِين أن يُلقوا باللوم على الآلهة. إنهم يقولون إنَّ منَّا يأتي الشر، بيْد أنه من أنفسهم، عبْر حماقتهم العمياء، تُصيبهم كروبٌ فوق ما هو مَقسومٌ لهم. (الأوديسة، ١، ٣٢–٣٤)
لنأخذ، على سبيل المثال، بيت أتريوس، الذي يُمثِّل في «الأوديسة» نموذجًا للسلوك السيئ. أنذَرَت الآلهة إيجيسثوس ألَّا يجامع كلتمنسترا، زوجة أجاممنون، بينما كان أجاممنون عند طروادة، ولكنه أقدم على الأمر رغم ذلك. وعندما عاد أجاممنون، قتله القرينان الفاسقان. وكان الثمن الذي دفَعاه جليًّا؛ إذ قَدِم أوريستيس، ابن أجاممنون وكلتمنسترا، من خارج البلاد وقتل إيجيسثوس وكلتمنسترا. من جهةٍ نجد أوديسيوس، وزوجته بينيلوبي، وابنه تليماك؛ ومن الجهة الأخرى نجد أجاممنون، وزوجته كلتمنسترا، وابنه أوريستيس. انحرفت كلتمنسترا، وظلت بينيلوبي مخلصةً. «فتِّش عن المرأة»، ولا تَلُمِ الآلهة على ما بك من كَربٍ.
وبينما يُرسل زيوس هيرميس لتحرير أوديسيوس، نجد أثينا تنطلق بسرعةً إلى إيثاكا متخفيةً.
(٢) «استضافة مينتيس/أثينا» (١، ٩٦–٤٤٤)
بعد استهلاله ذي الطابع الأخلاقي، يستهل هوميروس قصته في قاعات الطعام المُظلمة لقصر أوديسيوس على جزيرة إيثاكا، حيث الشبَّان الأجلاف يحتسون الخمر، ويزنون، ويستمعون إلى الشعر. وفي خِضمِّ «الفضيحة الكبرى» يظهر غريبٌ غامض. إن القصة على وشك أن تبدأ.
أمي تقول إنني من صُلبه، ولكني لا أعرف؛ إذ لم يعرف أي رجل قط من تلقاء نفسه نسَبَه. إنني أتمنى لو كنتُ ابن رجلٍ سعيد الحظ، تبلغ منه الشيخوخة مبلغًا وهو بين مُمتلكاته. ولكن، نعم، يقولون إنني من نسل ذلك الرجل الذي كان أتعس الرجال الفانِين حظًّا. ما دمتَ قد سألت. (الأوديسة، ١، ٢١٥–٢٢٠)
تقوم الشخصية الأدبية على الحاجة الدرامية؛ أي ما تبتغيه الشخصية، وعلى المنظور، أي كيفية رؤية الشخصية للعالم. يؤسِّس هوميروس، دفعةً واحدةً وفجأة، حاجة تليماك الدرامية؛ وهي العثور على أبيه، ومنظورِه الذي يتمثَّل في كونه مراهقًا كئيبًا يشكُّ حتى في نسبه إلى أبيه.
يترك مينتيس/أثينا المُنشِد الملحمي فيميوس تيربياديس (والذي لاسمه مدلول على نحو «التراث السردي الذي يُقصَد به التسلية») يُنشِد عن عودة الآخيِّين بعد حرب طروادة؛ و«الأوديسة» هي أنشودة من هذا القبيل، وهو نوع الموسيقى الذي لا يُعْجِب بينيلوبي! عندما تدخُل بجرأة عرين الخُطَّاب الشهوانيِّين لتعترض، يُوبِّخها تليماك، الذي يسعى إلى النضج، على ذوقها في الموسيقى. ويقول إنه عندما يتعلق الأمر بالإنشاد الملحمي، يَتعيَّن عليك أن تُساير العصر، وهذه الأغنيات التي تدور حول العودة للوطن رائجةٌ جدًّا. قد يكون تليماك مراهقًا ليس له سلطةٌ في بيته، ولكن حديثه مع مينتيس/أثينا جعل منه بالفعل آمرًا على أمه. وهو بالتأكيد يعرف أكثر منها ولو قليلًا فيما يتعلَّق بما يجري في مجال الترفيه.
(٣) «اجتماع الإيثاكيِّين» و«رحيل تليماك» (الكتاب ٢)
يُنشئ هوميروس بسرعةٍ مُذهلة حبكة قصته. فيدعو تليماك لاجتماعٍ يضم كل الإيثاكيِّين ويجاهر بأنه قد ضاق ذرعًا بِتعدِّيات الخُطَّاب وأنه ينبغي لأحدٍ ما أن يفعل شيئًا حيال الأمر. ظاهر الأمر أن لأي أحدٍ الحق في الدعوة إلى عقد اجتماع، مثلما يستطيع أي زعيم في «الإلياذة»، ولكن هذا هو أول اجتماعٍ منذ ذهب أوديسيوس إلى طروادة من عشرين سنة، حسبما يقول هوميروس، وممتلكات أوديسيوس غير المصانة ظلَّت لوقتٍ طويل عُرضةً للجشع والغصْب.
يرسم هوميروس ببراعةٍ شخصية أنتنيوس (أنطونيوس)، وهو زعيمٌ للخُطَّاب، الذي يُسلِّم بغطرسةٍ باتهام تليماك حيال سلوكهم السيئ، ثم يقول إن الخطأ ليس خطأهم لأن بينيلوبي، البارعة في الخداع (كزوجها)، قالت إنها ستتزوج واحدًا منهم فور أن تنتهي من نسْج كفنٍ جنائزي للِيرتيس الشيخ الهَرِم والد أوديسيوس. ولكنها في الليل كانت تنقُض نسْجها، وهو قالبٌ (موتيفة) من قوالب الحكايات الشعبية وقصةٌ يرويها هوميروس ثلاث مرات في «الأوديسة». نجَحَت الخُدعة لثلاث سنوات، مع أن هوميروس لا يخبرنا متى كُشفَت؛ من المحتمل أن ذلك قد حدث مؤخرًا؛ لأن الخُطَّاب ظلوا يضايقون بينيلوبي لثلاث أو أربع سنوات.
لو أنَّ أوديسيوس الإيثاكي نفسه عاد وكان حريصًا من شِغاف قلبه على أن يطرد من باحته الخُطَّاب النُّبلاء الذين ينعمون ويُولِمون في بيته، فيجب عندئذٍ ألا تَفرح زوجته بمجيئه؛ فرغم أنها اشتاقَت إليه كثيرًا، إلا أنه سيلاقي ها هنا ميتةً مخزية، إن تقاتل مع رجال يفوقونه عددًا. (الأوديسة، ٢، ٢٤٦–٢٥١)
في الحكايات الشعبية، مثلما في الحياة، يسبق الكبرياءُ الانهيار، وفي الكتاب الثاني والعشرين سوف يُقتَل ليوكريتوس على يد تليماك.
(٤) «تليماك في بيلوس» (الكتاب ٣)
كلمح البصر يظهر المركب وبداخله أثينا/منتور، وتليماك وأتباعه على شاطئ مدينة بيلوس حيث يَجري تقديم قرابين عظيمة للإله بوسيدون، الذي كان داعمًا قويًّا للآخيِّين إبان حرب طروادة وعدوًّا صريحًا لأوديسيوس (لأن أوديسيوس سمَل عين ابنه بوليفيموس). يجتمع حوالي ٤٥٠٠ من أهل بيلوس على الشاطئ لذبح ٨١ ثورًا، ويا له من قُربانٍ عظيم، والأمر بما يَنطوي عليه من تعبُّد وكرم هو النقيض للموقف على جزيرة إيثاكا. يسأل تليماك نيستور بكل احترام بشأن ما إذا كان يعرف أي شيء عن والده.
أيها الشيخ، لا أظن أن هذا الحديث سوف يتحقق بأي حالٍ من الأحوال. إن ما تقوله أروع مِن أن يُوصَف وإن الذهول لَيتملَّكني. ليس لديَّ أي أمل في أن هذا سوف يتحقَّق، لا، ولا حتى مع أن تلك يجب أن تكون مشيئة الآلهة. (الأوديسة، ٣، ٢٢٦–٢٢٨)
تَعترِض أثينا اعتراضًا ودودًا على نظرة تليماك الباعثة على الكآبة، مُضيفةً أنه من الأفضل أن يعود المرء إلى البيت متأخِّرًا ولكن سالمًا على أن يعود مُبكِّرًا وميتًا، كحال أجاممنون، الذي يُعَد مثال زيوس على المسئولية البشرية.
يتساءل تليماك، لماذا لم يَنتقِم مينلاوس لمقتل أخيه؟ يقول نيستور لأنه كان مفقودًا مدة سبع سنوات (رقمٌ سحري). والآن يجب على تليماك أن يسافر نحو الداخل ليزوره، ربما كان مينلاوس يَعرف شيئًا عن مكان وجود أوديسيوس. عندما يُحلِّق منتور/أثينا بعيدًا في السماء على هيئة طائر، يُدرك تليماك هوية من كان مصاحبًا له. ومن أجل تعظيم الإلهة، يُقدِّم نيستور قربانًا ثانيًا، بقرةً صغيرة. ويخبرنا هوميروس بكل تفصيلة عن نحر البهيمة، حتى نفهم بصورةٍ جيدة، إلى حدٍّ ما، ماذا كان يحدث في طقسٍ ديني في اليونان في عصورها الأولى.
(٥) «تليماك في إسبرطة» (٤، ١–٣٣١)، و«عودة مينلاوس» (٤، ٣٣٢–٦١٩)، و«الخُطَّاب يتآمَرون» (٤، ٦٢٠–٨٤٧)
كما لو كانا في رحلةٍ سِحرية، يتخذ تليماك وبيسيستراتوس، ابن نيستور، نقطة توقُّف وسطى، ثم يُسافِران بعربة تجرُّها الخيول فوق سلسلة جبال تايجتوس التي تفصل إقليم ميسينيا في الجنوب الشرقي لشبهِ جزيرة بيلوبونيز، حيث تُوجَد مدينة بيلوس، عن وادي لاكيديمون في الجنوب الشرقي لشبه جزيرة بيلوبونيز، حيث تُوجَد إسبرطة. إنَّ من شأن هذه الرحلة أن تكون مُسيرةً صعبة فوق جبالٍ شاهقةٍ وعْرة، ولكن يبدو أن هوميروس غير مُتيقِّن من الجغرافية الحقيقية لجنوب شبه جزيرة بيلوبونيز.
يُعَدُّ وصف هوميروس للتوتُّرات الزوجية في إسبرطة بين هيلين ومينلاوس رائعةً من روائع الأدب الساخر بين أفراد العائلة الواحدة كما أنه ذو نبرةٍ مُعاصِرة على نحوٍ غير متوقَّع، كما يَحدث أحيانًا في القصائد الهوميرية. يصل تليماك وبيسيستراتوس إلى إسبرطة في نفس اليوم الذي ستتزوَّج فيه هِرميون، ابنة هيلين الوحيدة، من ابنٍ غير شرعي لمينلاوس في حفلِ زفافٍ ثنائي. كانت هيلين قد تخلَّت عن هِرميون لتهرُّب مع رفيقها السابق باريس إلى طروادة، وهو ارتباط كان مُفعمًا بالعاطفة لكنه لم يُثمِر أطفالًا، ولكنها الآن عادت للديار وكل شيءٍ مما مضى صار في طيِّ النسيان. وكما تميَّزَت زيارة تليماك لمدينة بيلوس بتقديم قُربانٍ ديني، الأمر الذي كان بالغ الاختلاف عن الفساد الأخلاقي الذي عانى منه في البيت، يختبر الشاب الآن بهجة الزواج الشرعي، المُغايِر كثيرًا لجُحر الأفعى الكائن على جزيرة إيثاكا. مع كل مثالٍ ينتقل تليماك إلى عالَم من الذوق الحسن والاستقرار الاجتماعي؛ إنه طفل دون أبٍ يتعلم نماذج للسلوك.
تتَّسم ملحمة «الأوديسة» بالهَوَس بمَشاهد التعرُّف، وهي إحْدى أدوات الحكاية الشعبية. ليس ثَمَّةَ وجود لمَشاهِد التعرُّف في «الإلياذة»، ولكنها تتوالى تباعًا في «الأوديسة». ويختص أوديسيوس بالمجموعة الكبرى من مشاهد التعرُّف، ولكن تليماك هو ابنه البار المُشابه لأبيه. في بادئ الأمر لا يتعرَّف عليه أحد في إسبرطة. وعندما يَذرِف الدمع عند ذكر أوديسيوس، يخامر الشك مينلاوس وتعرف هيلين البارعة والفاتنة أن هذا هو تليماك، ابن أوديسيوس. إن تعرُّف هيلين على تليماك هو علامة نُضجه، ويُحيل التفكير في والده النبيل، الذي صار تليماك يُشبهُه كثيرًا، الجميع إلى حالة من الحزن.
ولكي ينتقم مينلاوس من ادِّعاءات زوجته وتلميحاتها، ولكن دون إفساد الحالة المزاجية السائدة، يمتدح هو الآخر أوديسيوس، متذكرًا إنقاذه للآخيِّين في الليلة التي وقفَت فيها هيلين خارج حصان طروادة مع ديفوبوس، الرجل الذي كانت تُمارِس معه الجنس بعد موت باريس، وقلَّدَت أصوات زوجات الرجال المختبئِين بالداخل. ويرجع الفضل في ذلك إلى أوديسيوس الذي وضع يده على فم أحد قادة الآخيِّين الذي كان على وشك أن يَرُد!
في اليوم التالي يحكي مينلاوس قصة عودته إلى الديار من طروادة، وهي القصة التي تُضاهي قصة عودة أوديسيوس، ولو أنها أقلُّ تعقيدًا. في البداية عَلِق في مصر، ثم بينما كان يُبحر ضلَّ سبيله حتى وصل إلى جزيرة فاروس، «التي تبعُد عن الساحل مسافة إبحار يومٍ كامل» (كانت جزيرة فاروس الحقيقية، التي تَعني باللغة المصرية القديمة «بيت ري»، تقع في خليج الإسكندرية على بعد بضع مائة ياردة من الشاطئ). وتصادَق مع حورية من حوريات البحر، اسمها إيدوثيا (ويعني «ذات الهيئة الإلهية»؛ مثلما سوف تصادق ربة البحر ليوكوثيا أوديسيوس). وستر نفسه بجِلد عِجل من عجول البحر (مثلما سوف يتعلق أوديسيوس تحت كبش ليهرب من السايكلوب). والتقى مينلاوس بشخصٍ مُتنبئ ذِي بَأْسٍ، هو بروتيوس عجوز البحر، وتغلَّب عليه (مثلما تحدَّث أوديسيوس مع تيريسياس المُتنبِّئ على ساحل أرض الكيميريِّين). عرف مينلاوس من بروتيوس المصير التعِس لشقيقه أجاممنون، ولأياس الأدنى شأنًا، ابن أويليوس، الذي عُوقب على ثقته المُفرطة بنفسه. وعرف أيضًا أن أوديسيوس كان مُحتجَزًا على جزيرة الحورية كاليبسو (التي يَعني اسمها «الموارية») رغمًا عنه (على الرغم من أن أوديسيوس لم يعلم بمصائر رفاقه إلا عندما سافر إلى نهر أوقيانوس).
من بين كل الهدايا التي تقبع مخزونةً كذخائر في داري، سأمنحك واحدةً هي أجملها وأغلاها. سأمنحك وعاءً لخلط الشراب مُحكَم الصنع مصنوعًا كله من الفضة وذا حوافَّ ذهبية، من صنع هيفايستوس. منحه إيَّاي المحارب فيديموس، ملك الصيداويِّين حينما أويتُ إلى داره عند ذهابي إليه، وأنا الآن أرغب في أن أمنحه لك. (الأوديسة، ٤، ٦١٣–٦١٩)
في تلك الأثناء على جزيرة إيثاكا، يتآمَر الخُطَّاب لقتل تليماك عند عودته. إن هؤلاء الرجال ليسوا سَيِّئِي الخُلُق وشهوانيِّين وطامعِين وحمقى فحسب، وإنما قتَلةٌ أيضًا. نأتي بإيجازٍ على ذكر جزيرة إيثاكا قبل أن نتحول إلى هروب أوديسيوس من محبسه الغامض بين أعالي البحار عند نقطة التحوُّل الأولى في الحبكة.
(٦) «أوديسيوس وكاليبسو» (الكتاب ٥)
نعود إلى نفس المجلس السماوي حيث بَدأَت القصيدة، وفي ظاهر الأمر أن الأحداث اللاحقة تقع في نفس وقت ما جرى في السابق، وذلك وفقًا لِعُرف السرد الملحمي الذي يقضي بعرض أحداث مُتزامنة. تشتكي أثينا مُجددًا إلى زيوس بشأن محبوبها أوديسيوس، مثلما فَعلَت في الكتاب الأول، وبعد إلحاحها على تليماك من أجل اتخاذ إجراءٍ حيال الأمر، ها هي الآن تقوم بالشيء نفسه مع أبيه. وفي الوقت الذي ذَهبَت فيه أثينا إلى إيثاكا مُتخفيةً في هيئة مينتيس، يبعث زيوس هيرميس إلى جزيرة كاليبسو بأوامر بتحرير أوديسيوس.
تصُبُّ كاليبسو جامَ غضبها على الضوابط التي تُبعد الرجال الفانِين عن أحضان إلهاتٍ مثلها. عندما تُعلِم أوديسيوس أن في مقدوره الذهاب، يتشكَّك في أن ثَمَّةَ خُدعة. إنَّ كاليبسو هي الأنثى التي تحمل مشاعرَ مزدوجة في الحكاية الشعبية؛ فهي تُساعد البطل وتُحبه، ولكنَّها تريد أن تعوقه، لتُلحِق به الضرر، على حدٍّ سواء.
في الفِقرة الأصعب في القصائد الهوميرية، يَبني أوديسيوس «طَوفًا» ليهرب من الجزيرة، ولكن يبدو أن هوميروس أكثر ميلًا للتفكير في قاربٍ مُسطَّح؛ لأن المركب له «دعامات» وربما «حوافَّ عليا». يعتقد البعض أنه استمد لغةً تقليدية من بناء سفينة الأرجو في الملحمة التي تدور حول جيسون، والتي يشير إليها هوميروس لاحقًا (الأوديسة، ١٢، ٧٠). قد يكون أوديسيوس بطلًا، ولكنه على عكس المقاتلِين الأجلاف بالرِّماح على سهل طروادة العاصف يُمكنه أن يفعل أشياءَ حقيقيةً في عالمٍ حقيقي. وراعِيتُه أثينا هي الإلهة المختصة بهذا النوع من المهارات العملية، بالنسج والنجارة، تلك المهارات التي تصنع فارقًا في حياة البشر.
يلمح بوسيدون، لدى عودته من عند الإثيوبيِّين المُبارَكِين، أوديسيوس في أعالي البحار ويُرسِل عاصفةً عارمة، وهو وصفٌ يلفت الانتباه للهول الذي يعرفه كل بَحَّار. لا يُحبُّ أي بحَّارٍ البحر، وبوسيدون الخطير والحقود، الذي انحاز للآخيِّين أثناء حرب طروادة، هو الآن العدو. ليس ثَمَّةَ أي عاملٍ خارجيٍّ يُشكل دافعًا لظهور ليوكوثيا من الأمواج التي تُمثِّل، بغطائها الغريب الذي يشبه الحبل السُّري، العامل الأُنثوي الذي يُتيح لأوديسيوس الهروب من عالم بوسيدون غائر العمق (مثلما تُيسِّر إيدوثيا عودة مينلاوس إلى الديار).
(٧) «أوديسيوس وناوسيكا» (الكتاب ٦)، و«أوديسيوس في البلاط الملكي الفياشي» (الكتاب ٧)
عندما يُولد أوديسيوس من جديد، يبحث «كشابٍّ» عن رفيقة وفي موقف في غاية الحساسية يجد مُبتغاه في ناوسيكا (بمعني «فتاة السفن») الفاتنة، ابنة الملك ألكينوس (ويعني «ذو العقل القوي»). لدى معظم الفياشيِّين أسماءٌ متعلِّقة «بالسفن» وهم ليسوا بارعِين في استخدام القوس والسَّهم، كما تُوضح ناوسيكا، ولكنهم بحَّارة مهَرة. نحن مُتحوِّطون بشأن الربط بين المعلومات الجغرافية في «الأوديسة» وبين المعلومات الجغرافية الحقيقية، ولكن في القرن الخامس قبل الميلاد، اعتبر المؤرِّخ ثوسيديديس أن سكيريا، وهو الاسم الذي يُطلِقه الفياشيُّون على جزيرتهم، هي جزيرة كورسيرا (جزيرة كورفو المعاصِرة) التي تقع إلى الشمال من جزيرة إيثاكا قُبالة ساحل شمال غرب اليونان، والتي تُعَد موضع الانطلاق الطبيعي للبحارة الذين يَرتحلون غربًا إلى إيطاليا. تاريخيًّا كانت كورسيرا في الحقيقة بمثابة نُزُل في منتصف الطريق بين شبه الجزيرة الإيطالية المُقفِرة والخَطِرة إلى جهة الغرب وبين بَرِّ اليونان الرئيسي. كان الوصول إلى إيثاكا من كورسيرا يعني أن البَحَّار قد رجع إلى الديار أخيرًا. وقد أعاد هوميروس ببراعةٍ صياغة حقيقةٍ تاريخية (أنَّ إيثاكا تعني العودة إلى اليونان) في صورة حكايةٍ شعبية لرجلٍ رجَع بعد سنواتٍ عديدة، وفي صورة أسطورة حياة بعد القيامة من الموت. فشل الأثريون في العثور على مستوطنة ميسينية على جزيرة إيثاكا؛ لأن القصة أحدث كثيرًا من العصر البرونزي، وهي في هذا الشكل تُعبِّر عن الملاحة البحرية في أواخر العصر الحديدي.
بل مثلما تَجُول أرتميس رامية السهام فوق الجبال على طول سلسلتَي جبال تايجتوس أو إريمانثوس الشاهقتَين، مبتهجةً وهي تُطارد الخنازير البرية والغزلان السريعة، وحوريات الأشجار، يشاركنها بنات زيوس الذي يحمل درع الأيجيس، التسلية، وليتو [أم أرتميس] منشرحة الصدر؛ وعاليًا فوقهن جميعًا ترفع أرتميس رأسها وحاجبَيها وبسهولة يمكن تمييزها، رغم أن كلهن جميلات؛ كذا وسط وصيفاتها تألَّقَت الفتاة التي لم تتزوج بعدُ. (الأوديسة، ٦، ١٠٢–١٠٨)
لأنَّ ليس ثَمَّةَ شيء أعظم أو أفضل من هذا، عندما يجمع بيتٌ واحد رجلًا وامرأة معًا، ويتشاركان قلبًا واحدًا وعقلًا واحدًا، فذاك حزنٌ عظيم لأعدائهما وسرورٌ لأصدقائهما، بينما تكون شهرتهما بلا نظير. (الأوديسة، ٦، ١٨٢–١٨٥)
الزواج هو التقليد الذي يَتهدَّده الخُطَّاب هناك على جزيرة إيثاكا من خلال جشَعِهم وشهوتهم. في «الإلياذة» كان زواج هيكتور وأندروماك عبارة عن مأساة وكان زواج هيلين وباريس كروايةٍ هزلية. أمَّا زواج أوديسيوس وناوسيكا فهو أمرٌ مُستحيل، مهما كان مدى رغبتهما فيه. فأوديسيوس هو الرجل الذي يَعرف أن عليك أن ترجئ إشباعك المؤقَّت إن أردتَ تحقيق رغباتك العميقة؛ إذ يجب على أوديسيوس أن يَحرص على عدم الإساءة لِوالِدَي ناوسيكا، الملك والملكة؛ فمن دون مساعدتهما لا يستطيع أن يرجع إلى الديار.
إنَّ المشهد مبني على نحوٍ يُشبه الحكاية الشعبية المُسماة الأمير الضفدع، وهي القصة الأولى في مجموعة قصص الأخوَين جريم، حيث تُسقِط فتاةٌ كرةً في بئر، فيسترجعها ضفدع. وعندما تُقبِّل الفتاة الضفدع، يتحوَّل إلى أمير، ثم يتزوَّجها. على نحوٍ مماثل تُلقي إحدى رفيقات ناوسيكا كرة في مجرى الماء وتوقظ أوديسيوس، الذي يبدو مَظهره للناظر والمتأمِّل وكأنه وحشٌ حقيقي. على أي حال، لا يستطيع أوديسيوس أن يتزوَّج ناوسيكا، وفقًا لنمط الحكاية الشعبية الذي يُسيِّر سرد حكايته. بعد إتمام ناوسيكا لمهمَّتها المتمثِّلة في ضمان دخول أوديسيوس إلى القصر، تُسقَط من القصة، ولا تظهر ثانية إلا ظهورًا موجزًا.
يتبع أوديسيوس ناوسيكا عن بُعد، تحريًا للعفَّة، إلى المدينة، ولكنه يَمضي بحذر منحرفًا عن الطريق قبل أن يراهما أحدٌ معًا. تلقاه أثينا مُتخفيةً في هيئة فتاةٍ صغيرة، وهي مُعاوِنة البطل المُعتادة في الحكايات الشعبية، وتُوجِّهه إلى القصر. وجَّهَت ناوسيكا إليه النصح، وتُكرِّر أثينا النصيحة، بأن يلجأ إلى رحمة الملكة أريت. يدخل إلى غرفة العرش يُخفيه غيم، ويُقبِل على الملكة، ويُطوِّق ركبتَيها بذراعَيه، ويسألها إعادته إلى دياره.
لا أحد يعرف السبب وراء حاجة أوديسيوس إلى الإقبال على الملكة أريت بدلًا من الملك، الذي، أيًّا كان الأمر، يقبل على الفور طلب الغريب بتأمين رحلة عودة إلى الديار. ربما ينتمي الحدث إلى نمط الأنثى التي تكون عدائية في أول الأمر، ثم تغدو مُتعاطفة مع عودة أوديسيوس إلى الديار. وهكذا كانت كاليبسو تريد أن تستبقيه، ثم تُساعده في الإعداد لرحلته إلى جزيرة سكيريا. وأرادت سيرس (كما سنرى) أن تَفتِن أوديسيوس أو أن تُفقده رجولته، ثم تساعده في رحلته التالية. ليس الفياشيُّون وَدودِين تمامًا (كما سيتضح عما قريب)؛ فهُم، كشأن مخلوقات السايكلوب، من نسل بوسيدون، عدو أوديسيوس اللدود. ودخول أوديسيوس إلى القصر مُتخفيًا، كخطيبٍ محتمل للأميرة، مناظرٌ لاقتحامه القصر على جزيرة إيثاكا خُفية، حيث يتنافَس مع الخُطَّاب للظفر بسيدة البيت.
وأخيرًا تسأله أريت: «من أين حَصَلتَ على تلك الثياب؟» إذ تشك مُحقةً في أن ثَمَّةَ شيئًا بين أوديسيوس وابنتها. وبكثير من الكياسة يُبيِّن الغريب نواياه الطيبة، ولكن الملك ألكينوس يَتقدَّم ويعرض عليه بالفعل يد ناوسيكا!
(٨) «الغريب في المسابقة» (الكتاب ٨)
جعلته أثينا أطول وأقوى في عين الرائي، حتى يكون موضع ترحيب من كل الفياشيِّين ويَظفر بالهيبة والوقار، ويُنجز المآثر العديدة التي اختبَر الفياشيُّون فيها أوديسيوس. (الأوديسة، ٨، ٢٠–٢٣)
ثُمَّ دنا المنادي، وهو يقود «المُنشد» الطيب، الذي أحبته إلهة الإلهام (الميوز) أكثر من كل الرجال الآخرين، وأعطته خيرًا وشرًّا معًا. فحَرمَته من بصره، ولكنها منحَتْه هبة الغناء العذب. وضع له المنادي بونتونوس كرسيًّا مُرصعًا بالفضة وسط المُضيِّفين، مُسندًا ظهره إلى عمودٍ طويل، وعلَّق القيثارة ذات النغم الصافي في مشجبٍ قريب فوق رأسه، وأراه كيف يمُد يده ليصلَ إليه. وبجواره وُضعَت سلة وطاولةٌ جميلة، وكأسٌ من الخمر، ليتجرَّعها عندما يعِنُّ له ذلك. (الأوديسة، ٨، ٦٢–٧٠)
يبدو أنه إلى هذه الفقرة تُعزى الأسطورة القائلة إن هوميروس كان أعمى، بيْد أن إدراكه البصري الفائق [في تصويره للأحداث والمشاهد] يجعل ذلك مستبعدًا.
يُنشد ديمودوكوس أغنية لا نعرف عنها أي شيء من مصدرٍ آخر إطلاقًا، وهي أغنية «نزاع آخيل وأوديسيوس». من المُرجَّح أنه يُشير بطريقةٍ غير مباشرة إلى «الإلياذة»، التي تدور أيضًا حول نزاعٍ بين القادة. ربما تكون دموع أوديسيوس التي ذرَفَها عند سماع الأغنية قد تسبَّبَت في بدء مشهد تَعرُّفٍ ردًّا على السؤال «لماذا تبكي؟» ولكن هوميروس يريد أن يمتدَّ في سرده بأقصى ما يستطيع، ليُعزِّز قوة هذا التعرُّف.
إننا لسنا مُلاكمِين أو مُصارعِين لا يُشقُّ لنا غُبار، ولكننا سريعو الركض في سباق العَدْو، ونحن أفضل بحَّارة، ونحبُّ الولائم والقيثارة والرقص وتغيير حُلل الثياب والحمَّامات الدافئة، والاضطجاع على الأريكة. (الأوديسة، ٨، ٢٤٦–٢٤٩)
مِن أجل تخفيف التوتُّر، يَستدعي ألكينوس ديمودوكوس ثانيةً، الذي لا بدَّ وأنه موسيقيٌّ بارع بالإضافة إلى مهارتِه في الغناء «االملحمي». فيعزف موسيقى مصاحبةً لرقصٍ أكروباتي مُعقَّدٍ يتميَّز الفياشيون بالبراعة فيه، ثم يُغني الأغنية السيئة السُّمعة «زنا آريس وأفروديت»، وهي أغنية كانت تُناسِب المزاج النوعي لجُمهوره بموضوعها الذي يدور حول الخيانة الجنسية والتصوير شبه الإباحي للإلهة العارية في أحضان إله الحرب العاري بينما يُلقي الآلهة الذكور الآخَرون نظراتٍ فاحصة. ما كان يمكن لهوميروس أبدًا أن يُنشِد أغنية كتلك أمام نساءٍ محترمات؛ فالغناء «الملحمي» هو غناء للذكور، وديمودوكوس في هذه الحالة يُغنِّي أمام جمهورٍ كله من الذكور. الأغنية عبارة عن دعابة تأتي ذروتها عندما يُحرِّض أبولُّو هيرميس على الكلام. عندما يسأله هل يريد أن يكون محلَّ آريس؟ فيرد هيرميس قائلًا بالقطع لا! يُكرِّر موضوع الأغنية تَكرارًا بارعًا، في شكلٍ فُكاهي، مثلث الحب الجاد جدًّا مينلاوس/هيلين/باريس، الذي تسبَّب في حرب طروادة وأدَّى إلى موت الآلاف، بمَن فيهم باريس، مثلما يُكرِّر مثلث أجاممنون/كلتمنسترا/إيجيسثوس، الذي أدَّى إلى موت أجاممنون، وإيجيسثوس، وكلتمنسترا. سوف يكون لمثلَّث الحب أوديسيوس/بينيلوبي/الخُطَّاب مُحصِّلةٌ مختلفة، بفضل امرأةٍ تعرف كيف تقول لا.
وداعًا، أيها الغريب، وآمُل أن تَذكُرني بعدئذٍ حتى في بلدك الأم؛ لأن لي أنا أولًا أنت مَدينٌ بحياتك. (الأوديسة، ٨، ٤٦١-٤٦٢)
لم تَستطِع الزواج منه، ولكنها بالفعل أنقَذَته؛ إذ تلَقَّفَته عاريًا من البحر وكأنها أمٌّ بديلة.
إذا رويت لي بالفعل هذه الحكاية كما يَنبغي أن تُروى، سأُعلِن للبشرية جمعاء أن الآلهة بقلب متهيئ قد وهبتْك منحة الغناء الإلهي. (الأوديسة، ٨، ٤٩٦–٤٩٨)
ومع ذلك، يبدأ ديمودوكوس من حيث يشاء ويمضي كما يحلو له إلى أن يبكي أوديسيوس، للمرة الثانية، مُنشئًا مشهدَ تَعرُّفٍ دراميًّا ونقطةً وسطى في حبكة «الأوديسة». والسبب هو أنه الرجل الذي حوله تُنشَد الأغنية، أوديسيوس، الرجل واسع الحيلة ذو القدرات الكثيرة!
(٩) المجموعة الأولى: «شعب السيكون، آكلو اللوتس، السايكلوب» (الكتاب ٩)
أنا أوديسيوس، ابن ليرتيس، يعرفني كل الرجال لخُدعي الحربية، وشهرتي ترتفع إلى عَنان السماء. أستوطن إيثاكا الواضحة للعيان؛ حيث يُوجد جبل نيريتوس المُغطَّى بالغابات ذات الأشجار المُتهادية، البارز مِن بعيد، وحولها تقع جُزرٌ عدةٌ قريبة من بعضها، دوليتشيوم وسيمي وزاكينثوس المشجرة. أمَّا إيثاكا نفسها فتقع على مقربة من البرِّ الرئيسي أبعدَ ما يكون نحو الظُّلمة، ولكن الجُزر الأخرى تقع مُتفرِّقةً نحو الفجر والشمس؛ هي جزيرةٌ وعْرة ولكنها مرعًى جيدٌ للشبان. وفيما يخصُّني لا يسعني أن أرى شيئًا أحلى من بلد المرء. (الأوديسة، ٩، ١٩–٢٨)
لم يُفسِّر أحد كيف يُمكِن لإيثاكا أن تكون «أبعد ما يكون نحو الظُّلمة»؛ لأنَّ الجُزر الأخرى من مجموعة الجزر الأيونية تقع على مسافةٍ أبعدَ جهة الغرب، ولسْنا مُتيقنِين من الجُزر التي يقصدها بجزيرة دوليتشيوم (هل يقصد ليفكاس الحالية؟) وسيمي (من الُمرجَّح أنه يقصد جزيرة كيفالونيا). ومع ذلك، ففي تفاصيلَ أخرى يبدو هوميروس وكأنه كان لديه معرفةٌ مباشِرة بالجزيرة.
الآن يبدأ أوديسيوس حكايته، أشهر المغامرات في الأدب العالمي، وهو ما يعتقد الكثيرون أنه موضوع «الأوديسة»، على الرغم من أن القصيدة أكثر اهتمامًا بالدراما المحلِّية عن المغامَرات الخيالية. فالمُغامَرات تنتظم في أربع مجموعاتٍ ثلاثية، كل مجموعةٍ تتألَّف من مغامرتَين قصيرتَين وواحدةٍ طويلة، وفي الوسط نجد الرحلة إلى العالم السُّفلي، في نوع من النَّظم الدائري وعلامةً واضحة على اهتمام الشاعر بوضع سردِه في نمطٍ هندسي. تبدأ المغامرات في عالَمٍ معروف، هو أرض شعب السيكون، وهي قبيلةٌ حقيقية في منطقة تراقيا شمال غرب طروادة، في مغامرةٍ تحاكي العدوان على طروادة في صورةٍ مُصغَّرة. مرةً أخرى يسلك الآخيون مسلك قطَّاع طرقٍ يَسلُبون ويَنهَبون مدينة، ولكن هذه المرة لا تَمضي الأمور كما يتمنَّون. فخلافًا لنصيحة أوديسيوس، لا يُغادر الإيثاكيون على الفور. وفي اليوم التالي يَجتاحُهم السيكون ويَقتُلون ستة رجال من كل قارب (مثلما سيموت ستة رجال في كهف السايكلوب وستة بين مِجسَّات الحورية/الوحش البحري سيلا). يُعَد التوتُّر بين القائد ورجاله من الموضوعات المِحوَرية في عودة أوديسيوس إلى الوطن؛ إذ يَستسلِمُون للشَّرَه والجوع، لشهوة البطن (مثل الخُطَّاب)، في حين يتذكَّر أوديسيوس (عادةً) مُبتغاه الذي يتجاوَز شهوة مؤقتة، وهو أن يصل إلى الديار (ليُولد من جديد).
قُبالة كيب ماليا، الطرف الجنوبي الشرقي لشبه جزيرة بيلوبونيز الذي تَضرِبُه عواصفُ عاتيةٌ على طريق البَحَّارة العوبيِّين بين الشرق والغرب، تقودُهم عاصفة لتسعة أيام وتسع ليال بعيدًا إلى أرضٍ خيالية. يشعر آكلو اللوتس بالسعادة، ولكنهم مُخدَّرون. لذا عندما يأكل رجال أوديسيوس اللوتس، ينسون حاجتهم للعودة للديار. إن نباتات اللوتس الحقيقية ليسَت نباتاتٍ مُخدِّرة، وإن كانت نباتًا مقدسًّا في الفن الديني المصري. ربما يَنبغي لنا أن نُفكِّر في آكلي اللوتس على أنهم موجودون على ساحل أفريقيا.
أول قصةٍ طويلة هي مغامَرة بوليفيموس السايكلوب (السايكلوب يعني حرفيًّا «ذو العين المستديرة»)، وهي واحدة من أشهر القصص على الإطلاق. يكشف رُسُو أوديسيوس على جزيرةٍ مقابلة لأرض السايكلوب عن العين الفَطِنة الثاقبة للمُستعمر؛ إذ يرى على الفور الكيفية التي يُمكن بها تنمية الأرض وتحسينها. للأسف لا يعرف جنس السايكلوب فنون الحضارة، وفنون الزراعة، والمِلاحة البحرية. ليس لديهم حياةٌ سياسية، ولكنهم يعيشون في وحداتٍ أسرية منفردة. ولا يصنعون الخبز. إنهم أقوياء ولكنهم أغبياء، وعلى مستوًى واقعيٍّ يُمثِّلون الشعوب الأجنبية التي تنازع معها المُستعمِرون اليونانيون في البُلدان الغربية.
علاوةً على كل ذلك، لا يَحترم بوليفيموس قواعد «حسن الضيافة»، التي أُبديَت لتليماك في بيلوس وإسبرطة. يمضي أوديسيوس أيامًا على جزيرة سكيريا قبل أن يسأله أحد عن هُويته، في حين أن بوليفيموس عندما يرى اليونانيِّين المهزولِين لأول مرة يَسألهم على الفور «مَن أنتم؟» وبدلًا من إطعام ضيوفه يأكُلُهم! وكهديةٍ رمزية لأوديسيوس، سوف يكون آخر مَن يُؤكَل. إن بوليفيموس مثل الخُطَّاب الذين يلتهمون ثروة أوديسيوس، ولكن في النهاية يُقضى عليهم بواسطة حيلة، عندما يدخل رجل، يَتظاهَر بأنه شخصٌ آخر، إلى قاعة الولائم المُظلِمة.
إنَّ بوليفيموس، كشأن كل مخلوقات السايكلوب، من نسل بوسيدون إله البحر. عندما يُصاب بالعمى، يدعو أباه ليصبَّ على أوديسيوس لعنةً أن يَشرُد أعوامًا وأن تكون عودته صعبة. بوسيدون هو إله البحر، والبحر هو عدو أوديسيوس الذي يُمثِّل التحلُّل والموت والفوضى. ومِن ثَمَّ فإن لعنة بوليفيموس هي تَفسيرٌ أسطوري لسبب معاناة أوديسيوس، التي تُعَدُّ اضطهادًا يَتناقض تناقضًا غريبًا مع موعظة زيوس الأخلاقية التي مفادها أن البشر هم من يَتسبَّبون في مشكلاتهم. إنَّ أوديسيوس بلا شك هو مَن أعمى بوليفيموس، ولكن من يستطيع أن يلومه على ذلك؟
إن نمط الحكاية الشعبية المُسمَّى «إصابة الغول بالعمى» موجود في كل أنحاء العالم في مئات الأمثلة. وعلى ما يبدو أن كثيرًا من التنويعات مُستمَد من قصة هوميروس، أقدم القصص المُوثَّقة، ولكنها تَفتقِر عادةً إلى موتيفة «حيلة اسم لا أحد»، التي يبدو أنها تَنتمي إلى نمطٍ قصصي مُنفصِل؛ فعندما يجرح البطل شيطانًا أو جِنِّية، حين يسأله ذلك الشيطان أو تلك الجنية عن اسمه. فيُجيب قائلًا «نفسي» أو «لا أحد»، بحيث عندما يُحاول الغريم أن يَهتدي إليه، ويُخبِر الجميع قائلًا «أنا أبحث عن لا أحد»، لا يَستطيع العثور عليه. يبدو أن هوميروس قد مزَج عناصر من حكايتَين شعبيتَين منفصلتَين لخدمة أغراض حكايته الأكبر، التي تُعتبَر فيها موضوعات الولادة من جديد (دحر الموت، والهروب من الكهف) وفقدان الهوية (أنا لا أحد) موضوعاتٍ محورية.
(١٠) المجموعة الثانية: «أيولس، اللستريجونيِّين، سيرس» (الكتاب ١٠)
كان على أوديسيوس أن يتعامَل مع شعب السيكون، ورجال عاديِّين، وموادَّ مُخدِّرة في أرض اللوتس، وعملاقٍ آكل للحوم البشر؛ والآن عليه أن يتعامل مع أحد سادة العناصر، وهو ملك الرياح أيولس الذي يعيش كإله في وليمةٍ أبدية، حيث يَطعَمُ أبناؤه وبناته الاثنا عشر دومًا، ومُتزوِّجون بعضهم من بعض في قِرانٍ بين محارم (أيولس هو أيضًا اسم مؤسس بيت إيولكوس، الذي انحدر منه جيسون، والذي لا صلة له على ما يبدو بأيولس الأول). القصة عبارة عن حكايةٍ شعبيةٍ صِرفة. يقدم ملك الرياح للبطل مِنحة، هي كل الرياح السيئة في جَعبة، فلم يبقَ إلا الرياح الجيدة لتَهُب، ومعها النهي الشائع في الحكايات الشعبية: «لا تفتح تلك الجَعبة!» يفعل أتباع أوديسيوس الغادرون ذلك على أي حال، بعد أن خامَرَهم الشك في أن يكون الجشعُ الذي يأكل أحشاءهم قد أصاب زعيمهم، ويَدفعون الثمن. القصة ملائمة لموضوع هوميروس المتعلِّق بالجريمة والعقاب، ونرى مدى ابتعادِنا عن أسلوب السرد الواقعي عندما يُبحِر أوديسيوس لمدة تسعة أيام وتسع ليالٍ سحرية ولا يَغلبه النوم إلا عندما يكون قريبًا جدًّا من الشاطئ، حتى إن بمقدوره أن «يرى دخانًا». فجشع رجاله واشتياقه إلى النوم «هما» العدو. إنَّ أي رجلٍ تقف ضده أمورٌ كثيرة على هذا النحو لا بد وأنه محلُّ غضبٍ مُهلكٍ مصدره قوى فوق قدرة البشر، كما يؤكِّد أيولس بينما يَطرُد المسافر غير الطائع الذي يَرجع إليه. فلِكي ينجو أوديسيوس، عليه أن يَنهض (من رُقاد الموت).
إن «الأوديسة» بلا ريب معنية للغاية بالعلاقات بين الجنسَين وبالقوة التي يهيمن بها كل جنس على الآخر. في سيمفونية الأنماط الأنثوية في «الأوديسة»، نجد أن سيرس في المغامرة الطويلة في المجموعة الثانية هي الغاوية الأبرز. فنجدها موجودةً مباشرةً قبل هبوطه إلى العالم السُّفلي، ثم تَستقبله من العالم السفلي عندما يرجع. فهي تُمثِّل الموت من ناحية كونها امرأة وغاوية، ثم تصبح الحياة والتنَبُّؤ والأمل بناءً على الغموض الغريب للإناث في «الأوديسة».
كذلك فإن نكهة هذه القصة تُذكِّر مُعلقِين كثيرِين بالحكايات الشعبية من بلدان الشمال. ففي البداية يذبح أوديسيوس أيلًا، وهي موتيفة في الحكاية الشعبية تسبق مواجهة ساحرٍ أو ساحرة. تعيش سيرس في منتصَف غابةٍ مظلمةٍ موغلة، وأعمدة الدخان تتصاعَد إلى السماء. اتبِع ذلك الدخان، وسوف تجد الساحرة. من ناحيةٍ أخرى، تنتمي سيرس إلى الشرق؛ كونها ابنة هيليوس (إله الشمس) وأخت آيتيس، ملك مملكة كولخيس الواقعة على الطرف الشرقي للبحر الأسود؛ حيث سافر جيسون ليجلب الصوف الذهبي، واعتقد البعض أن الحدث مُعَدَّل من ملحمة خيالية أسطورية (ساجا) شفاهية عن رحلة سفينة الأرجو. ومع ذلك فمنذ زمنٍ بعيد جدًّا حُدِّد موقع جزيرة سيرس، تخمينًا، في مكانٍ ما في خليج نابولي (لا يزال يُوجد جبل يُسمَّى مونت سيرسيو بالقرب من مدينة سورينتو). يقول هوميروس إنك لا يُمكنك أن ترى موضع شروق الشمس أو غروبها، أي إن الجزيرة تقع في مكانٍ ما هناك، في العالم الآخر الموجود عبْر المرآة، حيث لا شيء يبدو على حقيقته. ولكن عندما يُغادِرون، ويبدأ أوديسيوس المجموعة الثانية المكونة من ست قصص، تشرق الشمس على الجزيرة.
أن يعرف المرء سيرس يعني أن يُصبح خنزيرًا. فشأنها شأن آكلي اللوتس، تضيف إلى طعامها عقاقير تمنع عودتك إلى الديار. وهي جميلة، إنها تلك القوة الأنثوية التي تُدني من شأن الذكر وتُحوِّله إلى حيوان مقززٍ له خوار، مولَعٍ بأكل الروث، وهي حالةٌ هزْليةٌ ما زال معمولًا بها في مجال التسلية والترفيه في وقتنا الحاضر. إنها تَهدف إلى إلحاق الأذى بأوديسيوس؛ فإن كانت لا تَستطيع تحويله إلى حيوان، فسوف تُجرِّده من رجولته، حسب نبوءة هيرميس الذي يظهر للبطل في الغابة المُظلِمة ويُعطيه عشبة اسمها مولي، هي بمَثابة طلسم للفحولة. وهذه هي المرة الوحيدة في المغامرات التي يظهر فيه إله لأوديسيوس مباشرةً، ومجدَّدًا لم يكن من ظهر هو أثينا، التي تختصُّ براعتها بالعالم العلوي، وإنما هيرميس الساحر، الذي يَربط هذا العالم بالعالم الآخر.
يُلقِّن هيرميس أوديسيوس كيفية التصرُّف. يجب عليه أن يُروِّض هذه المرأة (التي تُمثِّل الموت). لا بد أن يضعها تحت سيطرته بأن يضع سلاحًا على رقبتها ويُجبرها على التعهُّد بنبذ الإيذاء. وبعد ذلك ستكون له.
بعد أن يتغلَّب أوديسيوس على سيرس، تتعرَّف على هويته. وتقول سيرس إن هيرميس، الذي أنقذ أوديسيوس، تنبأ قبل ذلك بوقتٍ طويل أن أوديسيوس سوف يتغلَّب عليها. وما إن أقسمت بأنها لن تُلحِق به أذًى، وذهبا إلى الفراش، حتى تحوَّلَت سيرس إلى المُضيفة المثالية. ومثل سدوري «سيدة الحانة الإلهية» التي تَلتقي بجلجامش عند حدِّ البِحار عند حافَة العالم، تبعث سيرس أوديسيوس في أخطر أعماله؛ رحلة إلى أرض الموتى. عندما تعود مِن هناك، فأنت دون شكٍّ تُولَد من جديد.
(١١) «أرض الموتى» (الكتاب ١١)
تَتبع «أُنشُودات» الأوديسة، بوجهٍ عام، نمط الحكاية الشعبية المُتعلِّق بالوصول/الصراع/التعرُّف/الحل، ولكن وحدة «أرض الموتى»، بدلًا من ذلك، هي سلسلة من القوائم. لا بدَّ أن هذه الوحدة تَدين بلبِناتها البنائية للنوع الأدبي الشفاهي المُسمَّى شعر القوائم (الذي يُلقي بتأثيره كثيرًا على هيسيود المعاصر لهوميروس). يتبع أوديسيوس توجيهات سيرس، ويُسافِر عبْر نهر أوقيانوس، الذي عادةً ما يُعتقد أنه يَنساب عبْر العالم في دائرةٍ هائلة، إلى «أرض الكيميريِّين». كان الكيميريون شعبًا تاريخيًّا عاش في شمال البحر الأسود، وحُوِّلوا هنا إلى سكان أسطوريِّين لعالَمٍ آخر.
للوهلة الأولى لا يبدو أن أوديسيوس في العالم السُّفلي، بيت هاديس؛ لأنه لكي يتواصَل مع الموتى، يتصرَّف وكأنه نكرومانسر «مُستحضر لأرواح الموتى»، أي ساحرٌ ممارسٌ للسحر الأسود. فيَقتل كبشَين أسودَين فوق حُفرة. وفي مشهدٍ خارق للطبيعة تتجمَّع «نسمات الأرواح/أرواح الموتى» حول الدماء، التي فقَدَتها تلك الأرواح بموتها، حتى يَتسنَّى لها لوهلةٍ العودة إلى الوعي؛ لأنَّ «حَياةَ الجسَدِ هِي في الدَّم»، كما في العبارة التَّوراتية. ويَردعُهم أوديسيوس بسيفه الذي صار عصا ساحرٍ يُسيطر المُتحكِّم فيها على المَخلوقات غير المادية.
يتحدَّث أوديسيوس مع رُوح أمه التي ماتَت ميتةً مُثيرة للشفقة وتشتاق إليه. ومع أن تيريسياس يَذكر الخُطَّاب، إلا أن أم أوديسيوس لا تَعرف إلا بشأن الفترة التي تسبق عودة أوديسيوس إلى الديار بعشرة أعوام، عندما كان تليماك لا يزال «آمنًا» في المنزل؛ فهي لا تَملِك قدرةً تنبُّؤية. بعد ذلك تأتي «قائمة النساء الشهيرات»، التي تَشمل ألكميني، أم هرقل، وليدا، أم هيلين طروادة، وكلتمنسترا، وأريادني، زوجة ثيسيوس، وأخرياتٍ كثيرات، بعضهنَّ مجهولات تمامًا في قائمة الأعمال اللاحقة عن الأساطير الإغريقية.
تُختَتم المجموعة الأولى من ثلاثة أحاديث بقائمة النساء، وهو وقتٌ جيد لأخذ استراحة في البلاط الملَكي لجزيرة سكيريا. يذهل الفياشيون من قدرة أوديسيوس على سرد الحكايات. فقد تصرف حقًّا وكأنه «مُنشِد ملحمي» مثالي (رغم أنه لا يستخدم قيثارة)، مجتذبًا انتباه مُستمعيه على نحو مذهل في مأدبة. ورغم أن أوديسيوس يقول إنه يود أن ينال بعض الراحة، فإنهم لن يدعوه، فهم يرغبون في المزيد.
وسأقول لك أمرًا آخر، وعليكَ أن تُسِرَّه في نفسك ولا تُبديه؛ فلْتَرسُ بسفينتِك على شاطئ وطنك العزيز في السر وليس في العلن؛ إذ لا يُمكنك أبدًا أن تَثِق في امرأة. (الأوديسة، ١١، ٤٥٤–٤٥٦)
عليك أن تكون حَذِرًا حتى مع بينيلوبي؛ وتلك لمحةُ مزاح نادرة.
لا، لا تحاول، يا أوديسيوس المجيد، أن تحدثني حديثًا هادئًا عن الموت. إنَّني لأوثر، لو كان لي أن أعيش على الأرض، أن أكون أجيرًا لرجلٍ آخر لا يَملِك ثروة، وأسباب العيش لديه بسيطة، على أنْ أكون سيدًا على كل الموتى الذين كان هلاكهم على يدَي. (الأوديسة، ١١، ٤٨٨–٤٩١)
كم كان غاليًّا هذا العالم وما فيه مِن أشياء على اليونانيِّين، وكم مُقبِض وكئيب هو العالم المُقبِل. يريد آخيل، مثل أوديسيوس، أن يعرف أحوال ابنه، نيوبتوليموس.
ثالث رُوح من هذه المجموعة تدنو من الدماء هي رُوح أياس، ابن تيلامون، الذي قتل نفسه بعد أن جُن. إنه لا يَشرب من الدماء؛ لأنه لن يتحدَّث إلى أوديسيوس، الذي مُنح دروع آخيل في حين أن أياس هو مَن كان يَستحقُّها، كما يعرف الجميع.
(١٢) «السيرينات»، و«سيلا وتشاريبدس»، و«ماشية هيليوس» (الكتاب ١٢)
من المفترض أن أوديسيوس قد عبَر نهر أوقيانوس ليعرف من تيريسياس كيفية الوصول إلى الديار. لم يُخبِره تيريسياس، ولكن عندما يعود أوديسيوس إلى جزيرة سيرس، تُعطيه إرشاداتٍ دقيقة بشأن الأخطار المُحدِقة وما يتعيَّن عليه فعله. القصص الثلاث الأخيرة من مُغامَرات أوديسيوس هي قصصٌ معروفة جدًّا، مما يجعل من الصعب قراءتها باعتبارها جزءًا لا يتجزَّأ من القصيدة. وإننا لنتساءل: كيف كان وقعها على أسماع جمهور يوناني؟
هلُمَّ إلى هنا، فيما أنت مسافرٌ، يا أوديسيوس ذائع الصيت، يا فخر الآخيِّين العظيم. ألقِ مَرساتك حتى يتسنَّى لك أن تستمع إلى صوتينا. فما من رجل جدَّف مغادرًا هذه الجزيرة في سفينتِه السوداء إلا بعد أن يكون قد سمع الصوت العذب الصادر مِن شفاهنا. لا، بل يَسعد به ويمضي في طريقه رجلًا أكثر حكمة؛ إذ إننا نعلم كل المتاعب التي كابدها الأرجوسيون والطرواديون في طروادة الرحيبة بمَشيئة الآلهة، ونعلم كل الأمور التي جرت على الأرض الخصيبة. (الأوديسة، ١٢، ١٨٤–١٩١)
تَعرِف السيرينات، كشأن الميوزات، كل شيءٍ عما حدث عند طروادة ويُمكنهما أن تُجيبا على أي أسئلة قد تُراوِدك. طُرِد آدم وحوَّاء من الجَنَّة لأكلهما ثمرة الفاكهة مِن الشجرة، ولكن أوديسيوس بحكمته معه كعكته ويأكلها. بينما هو مربوط إلى صاري السفينة ليأمَنَ شرَّ السيرينات، يتوقَّع أنه سوف يتضرَّع إلى رجاله كي يَفكُّوا وثاقه، ولكنه يَتحايل على إرادته نفسها بأن يَأمُر رجاله أن يعكسوا معنى كلماته وأن يُحكِموا وَثاقَه أكثر. في هذه القصة، كما في المُغامَرات عمومًا، لا يُعتبَر أوديسيوس شخصية في عملٍ أدبي بقدر ما يُعَد رمزًا للروح البشرية، التوَّاقة إلى مُغامرةٍ لذيذة وشهوانية دون الاضطرار إلى دفع الثمن الرهيب. وأحيانًا ما يجعل الذكاء، أو بمعنًى أصح الحيلة، ذلك ممكنًا.
ولأنَّ سيرس وضَعَت إرشاداتٍ دقيقة، فإننا قد نَستحسِن التزام أوديسيوس الصمت تجاه رجاله بشأن سيلا وتشاريبدس إذ لم يَذكُر كلمة عنهما لرجاله. إن سيلا أنثى، هي الأخرى، ولكنها وحش بالكامل، لها ستُّ رءوس واثنتا عشرة رجلًا أفعوانية وتنبح كالكلب، فهي شيطان الموت. نبَّهَته سيرس إلى أن تشاريبدس الدوَّامة هي بمثابة موتٍ مُحقَّق للجميع، إلا أنَّ سيلا، التي لا يُوجد دفاعٌ مُستطاع في مواجهتها، سوف تأخذ ستة رجال (مثل عدد مَن ماتوا في كل قارب عند جزيرة إزماروس على يد شعب السيكون، ومثل عدد من ماتوا في كهف السايكلوب). ومع ذلك يَتسلَّح أوديسيوس ويَلبَس الدروع، وهو ينوي أن يحارب حتى النهاية في تحدٍّ سافر لنصيحة سيرس. ولا يَنفعه ذلك في شيء.
تقع المغامرة الطويلة في ثالث ثالوث المُغامَرات على ثريناسيا، جزيرة هيليوس، إله الشمس. كان يُعتقَد منذ وقتٍ مبكِّر أن ثريناسيا هي جزيرة صقلية؛ إذ يَبدو أن سيلا وتشاريبدس هما صورةٌ أسطورية لمضيق ميسينا الخَطِر، الواقع بين طرف برِّ إيطاليا الرئيسي (الذي يبدو على الخريطة في شكل حذاءٍ طويل الرقبة) وبين جزيرة صقلية. كان البحَّارة العوبيون قد ارتحَلُوا خلال نفس هذه المياه في أوائل القرن الثامن قبل الميلاد، وإلى وقتنا الحاضر ما زالت السياحة الإيطالية تُروِّج لصقلية على أنها «جزيرة الشمس».
تتمحوَر هذه الحكاية الشعبية، أيضًا، حول انتهاك المنهي عنه، ولكن المرء يتساءل كيف نفَّذ هيليوس إلى القصة، وهو إله لا يَكاد يظهر أبدًا في الأساطير الإغريقية إلا باعتباره شاهدًا على العهود. ثَمَّةَ قصةٌ مصرية نادرة تُسمَّى «الملاح التائه» ترجع إلى الألفية الثانية قبل الميلاد، يرسو فيها البَحَّار على جزيرة رع، إله الشمس، وقد تكون الموتيفة انتقلت بطريقةٍ ما إلى هوميروس من هذا المصدر (إلا أنه في القصة المصرية لا يعيش على الجزيرة إلا ثعبانٌ عطوف). يبدو أن ماشية هيليوس البالغ عددها ٣٥٠ ترمز إلى حوالي ٣٥٠ يومًا في العام.
كما رأينا، يختصُّ هوميروس بالذكر قصة ماشية هيليوس في استهلال القصيدة حتى تُلخِّص كل المغامرات، وهي تشتمل على موتيفاتٍ محورية. يغلب النعاس أوديسيوس في التلال بينما يَلتهِم رجاله الماشية، مثلما غلبه النعاس قُبالة شواطئ إيثاكا عند مجيئه من جزيرة أيولس. ومجددًا يُبدي رجاله عنادًا ويَنقادُون لشهوة البطن ويُغلِّبونها على غايتهم؛ وهي العودة إلى ديارهم أحياءً.
وهكذا أخذهم الموت جميعًا عدا واحدٍ، كما هي العادة في الحكاية الشعبية. وعندئذٍ صار أوديسيوس بمفرده.
(١٣) «عودة أوديسيوس» (الكتاب ١٣)
وبعد ذلك فرشوا لأوديسيوس بساطًا ودثارًا من كتَّان على سطح السفينة مُجوَّفة القعر في المؤخرة، حتى يُمكنه أن ينام بعمق، وكذلك صعِد هو على متن السفينة، ورقَد في صمت. ثم جلسوا جميعهم على مقاعد التجديف على التوالي، وفكُّوا رباط السفينة من الحجر المَثقوب. وحالَما رجعوا بظهورهم إلى الوراء وطرحوا نصالَ مَجاديفهم في الماء الأجاج، حتى استَسلَمَت عيناه لنومٍ هانئ، نومٍ بلا يقَظة، على أحسن ما يكون، نومٍ أشبه كثيرًا بالموت. (الأوديسة، ١٣، ٧٣–٨٠)
يضعه الفياشيُّون وهو نائم على الشاطئ بالقُرب مِن شجرة زيتون وكهفٍ تأوي إليه الحوريات وجعلوا كنوزه إلى جانبه. إنه الفجر، يومٌ جديد وميلادٌ جديد. إنَّ شجرة الزيتون تُمثِّل الحياة، مثلما تَعلَّق بشجرة فوق تشاريبدس، وكما أن فراش زِفافه، كما نعرف، منحوت في شجرة. يُحوِّل بوسيدون فُلك الفياشيِّين إلى صخرة، حقدًا منه عليهم لدورهم كناقلِين للرجال الآيسِين، وهي تفصيلةٌ غريبة حُمِلَت لاحقًا على أنها تُشير إلى حَجرٍ كبير في ميناء جزيرة كورسيرا (التي يقول ثوسيديديس إنها جزيرة فياشيا). لن يَربطوا بعد الآن العالمَين معًا بسحر الحوريات الخاص بهم. كان الفياشيُّون مُقدِّرِين لأوديسيوس وحده، الذي كانت رحلته مُتفردة، وما ينطبق عليه لا ينطبق علينا أنا وأنت. يرمز تحجُّر سفينة الفياشيِّين إلى نهاية العصر البطولي؛ فالآن الأمور مختلفة وليس ثَمَّةَ عودة إلى الوراء أبدًا.
يُبدي هوميروس معرفةً جيدة بالجغرافيا الإيثاكية عندما يصف ميناء فوركيس بأنه يَحُده رأسان بحْريان مُنحدِران، وهو وصفٌ جيد لميناء فاثي (وتعني «العميق») المُعاصِر على الشاطئ الشرقي لجزيرة إيثاكا (خريطة ٤). وإيثاكا هي جزيرةٌ صغيرة على شكل ساعةٍ رملية تقع ضمن ما يُطلَق عليه مجموعة الجُزر الأيونية، الواقعة غرب المدخل المؤدِّي إلى خليج كورِنث. تمتلك جزيرة إيثاكا ميناءً جيدًا آخر عند قرية ستافروس الحالية على الناحية الأخرى والطرف الآخر للجزيرة، على أقصى الطرف الغربي الذي يُواجه جزيرة كيفالونيا الحالية، التي ربما تكون جزيرة سيمي التي يذكرها هوميروس (سيمي هو التسمية الحديثة للقرية الميناء الواقعة على جزيرة كيفالونيا في مواجهة إيثاكا، جنوب قرية آيا إيفيميا على خريطة ٤).
يُوجد بالفعل كهف خارج ميناء فاثي له فتحتان، كما يقول هوميروس عن كهف الحوريات. وعثَر الأثريون في كهفٍ ثانٍ بالقرب من الميناء الآخر (بالقرب من قرية ستافروس الحالية) على قِطعٍ من ثلاثة عشر مرجلًا ثلاثي القوائم قديمةٍ جدًّا من البرونز، صُنعَت في أواخر القرن التاسع قبل الميلاد. وثَمَّةَ نقوش من القرن الثالث قبل الميلاد تُثبِت أن الكهف كان بعد ذلك مَقامًا لأوديسيوس، ولكننا لا نستطيع التأكُّد من توقيت حدوث حالة الانطباق بين المَقام، وما يَحْويه من قرابين، وأسطورة أوديسيوس. ولا تُوجد اكتشافاتٌ مشابهة لهذا الكشف الأثري المذهل. تَكهَّن البعض بأنه لا بد وأن هوميروس كان على دراية يعرف بأمر هذه المراجل ثُلاثية القوائم، عندما يقول إنَّ أوديسيوس عاد ومعه «برونزٌ متين» (الأوديسة، ١٣، ٣٦٨) وضعه في كهف، أو ربما حتى إن القصيدة كانت موجودة في صورة نصٍّ مكتوبٍ في ذلك الوقت واستُلهِم منها تكريس المراجل ثلاثية القوائم. إنَّ تحديد أواخر القرن التاسع قبل الميلاد كتوقيتٍ لوجود نصوص هوميروس المَكتوبة (على نحو ما ادَّعى أحد الباحثين استنادًا إلى هذه الكشوف الأثرية) هو أمرٌ مُستبعَد قطعًا.
صادف طاقم أوديسيوس، لدى وصوله إلى أرض اللستريجونيِّين، ابنة الملك؛ وفي سكيريا قابل أوديسيوس ناوسيكا، والآن يُقابل أثينا مُتنكِّرةً في هيئة شاب. وحدهما أوديسيوس وأثينا هما من يظهران مُتنكرَين في القصيدة. وهنا تبدأ مجموعةٌ متنوِّعة من الحكايات الكاذبة، تكاد تُمثِّل نوعًا أدبيًّا فرعيًّا داخل «الأوديسة»، التي يَتشكَّل جانبٌ كبير منها من حكايات؛ تلك الحكايات التي يَحكيها نيستور، والتي يحكيها مينلاوس، والتي يَحكيها أوديسيوس في أرض الفياشيِّين. حكايات، وحكايات، بينما السرد الجامع متطور بعض الشيء. تتبَع هذه الحكايات الكاذبة أنماطًا قريبة من أنماط الحكايات «الحقيقية» التي رَواها أوديسيوس للفياشيِّين، ولكنها بدلًا من ذلك تجري في عالَمٍ واقعيٍّ ما بعد العصر البطولي بما يحويه من ممارسات الحياة اليومية مِن غدرٍ وقتلٍ وقرصَنةٍ وإتجار.
في مشهد التعرُّف الأول على جزيرة إيثاكا يروي أوديسيوس لأثينا، التي تُجسِّد الحكمة والمهارة الدنيوية، روايةً مُضلِّلةً عن كيف أتى من جزيرة كريت مسقط رأسه. فتروي أنه مقاتلٌ طروادي ولكنه قاتل وطريد أودعه الفينيقيون وهو نائم على الجزيرة. إنَّ الفينيقيِّين مثل الفياشيِّين (حتى إن الاسمَين متشابهان)، ولكن الفياشيِّين الخياليِّين في عالَم هوميروس القصصي المُختلطة فيه الأمور هم قومٌ «حقيقيون» في حين أصبح الفينيقيون التاريخيون «مُختلَقِين»!
يَعتقِد البعض أن هذه القصة، والقصص التي ستَليها التي ستَربِط أوديسيوس بجزيرة كريت، قد تَعكِس صيغًا بديلة لملحَمة «الأوديسة»، وهي رُؤية يدعمها بيتان إضافيان يظهران في بعض المخطوطات في الكتاب الأول الذي تصفُ فيه أثينا رحلة تليماك إلى مدينتي بيلوس وإسبرطة «ومن هناك إلى كريت إلى الملك إيدومينيوس، الذي حلَّ في المرتبة الثانية بعد الآخيِّين المُدرَّعِين بالبرونز.» هذا التأويل معقول؛ إذ يُوحي بأن نُسخ «الأوديسة» الأخرى، لم تكن منشغلةً كثيرًا بالتَّرحال الرمزي الأُخروي (هذا النوع من النقد هو شكل مِن أشكال التحليل النقدي الحديث). كان هوميروس يَمتلِك هذه المادة الأدبية الإضافية، ولأنَّ لديه متَّسعًا كبيرًا من الوقت، فإنه يُضيفها.
إنَّ حب أوديسيوس للقصة الجيدة التي تتنافي مع الحقيقة، وهو ما يُحاول عن طريق الدهاء أن يُخفيَه ويُزيله، يَجعله محبوبًا لدى أثينا. فهما مثل عاشقَين لم يَلتقيا منذ أمدٍ بعيد. يَذكُر أوديسيوس أنه لم يَرَها طوال المدة التي كان فيها ضائعًا في عُرْض البحر. تُساعدُه أثينا في إخفاء الكَنز، ولكن لا يُؤتَى على ذكره ثانيةً أبدًا. وتتنبأ بموت الخُطَّاب العُتاة الشرسِين.
(١٤) «أوديسيوس وراعي الخنازير» (الكتاب ١٤)
ثَمَّةَ بضع سماتٍ لافتة للانتباه في قصائد هوميروس، ومنها وتيرتُه الهادئة غير المُتعجِّلة. فبعد الكثير من الضيافة الأرستقراطية، يَمكُث أوديسيوس الآن مدةً قصيرةً مع راعي الخنازير البسيط إيومايوس، الذي يُخاطبه هوميروس خطابًا مباشرًا وَدودًا بقوله «يا راعي الخنازير العزيز» (في «الإلياذة» يَتوجَّه بالخطاب أيضًا إلى باتروكلوس بهذه الطريقة). إنَّ إيومايوس هو النظير الأخلاقي والبنائي للفياشيِّين والنقيض المُباشر لمخلوقات السايكلوب. سيرس، هي الأخرى، كانت راعية خنازير! وقَفَت كلابٌ ذهبية أمام بيت ألكينوس، مثلما تهاجم هنا كلابٌ ضارية أوديسيوس وتكاد تفتك به. يَصِف هوميروس بواقعيةٍ ثاقبة منزل إيومايوس وزرائب الخنازير التي بناها، مُستعينًا بهذا النوع من اللغة المُعتاد في «الإلياذة» الذي نجده في التشبيهات.
لا يَملك إيومايوس إلا القليل — بسبب جشع الخُطَّاب! — ولكنه عن طيب خاطر يُضيِّف ضيفه حسب الإرشادات الواضِحة لحُسن الضيافة. يَحتاج أوديسيوس إلى عباءة حتى تُغطي ثيابه البالية، ويتنبَّأ بأن أوديسيوس سوف يَصِل في نفس اليوم (كونه يُخفي عن راعي خنازيره أنه هو أوديسيوس). في مقابل تنبُّئه، يتوقَّع من إيومايوس أن يُعطيه عباءة، ويقول أوديسيوس لإيومايوس إنه لن يَأخذها إن كان تنبُّؤه غير صادق. المشهد ساخِر جدًّا؛ لأن أوديسيوس، حتى في تلك اللحظة، يجلس أمام إيومايوس. فعباءة من إيومايوس تُماثل ذهبًا من الفياشيِّين. وقد لمسْنا سابقًا المفارقة التي تنبع من التنكُّر عندما تَنقَّل أوديسيوس متخفيًا وسط الفياشيِّين، وتسود الفكرة باقي القصيدة، بل إنها تُعتبر موتيفتها المحورية.
ولإثبات أن أوديسيوس قريب (لذا من الأفضل لإيومايوس أن يتأهَّب للتنازُل عن العباءة)، يحكي أوديسيوس حكايةً كريتية ثانية، هي بمثابة إعادة تشكيل للقصة التي سمعْناها في مأدبة الفياشيِّين. وكما حكى آنذاك أنه شن هجومًا على شعب السيكون في منطقة تراقيا، نجده الآن يَروي أنه شن هجومًا على مصر، كان له نفس العواقب الكارثية. وكما أعطاه الفياشيون ثروة، كذلك يَجمع ثروة في مصر. وكما أوصله الفياشيون إلى إيثاكا، الآن يحمله الفياشيون عنوةً إلى هناك، قاصِدِين بيعه كعبد. بيْد أن صاعقةً أصابت قاربهم، مثلما حدث لأوديسيوس ورجاله عندما غادَرُوا جزيرة ماشية الشمس. وكما ركب على عارضة قَعْر السفينة في القصة الأولى، يركب في هذه القصة على صاري مركب، ويَهبط إلى ثيسبروتيا على برِّ اليونان الرئيسي المُواجه لجزيرة إيثاكا. يزعم أوديسيوس أنه ترك ثروته في ثيسبروتيا ومضى إلى كاهن منطقة دودونا، في نفس الوقت الذي كان فيه أوديسيوس يتلمَّس من تيريسياس أنباءً عن عودته إلى الوطن. ظن أوديسيوس أن الفياشيِّين خانوه حالما استيقظ على جزيرة إيثاكا، والآن يخونه أهل ثيسبروتيا، الذين وُكل إليهم أمر إيصال أوديسيوس إلى جزيرة دوليتشيوم، ويُخطِّطون لبيعه كعبد. فيهرب بأعجوبة. تُخفي الحكاية المُلفَّقة ببراعة الحكاية «الحقيقية»، ولكن مُجددًا نجد أن الحكاية الحقيقية هي الحكاية «الخيالية»، وأن الحكاية المُلفَّقة هي «الواقعية».
لا يَزال إيومايوس لا يُصدِّق الغريب، أنَّ السيد سوف يعود عما قريب، وفي تلك الحالة يتوجَّب عليه أن يُعطي عباءة للغريب. يَحكي أوديسيوس حكايةً رمزية أنه ذات مرة عند طروادة لم يَستطِع أحدٌ إلا أوديسيوس أن يجلب له عباءةً عن طريق الحيلة. وحتى الآن يُحاول أوديسيوس أن يجلب عباءة للغريب/أوديسيوس عبْر الحيلة بالتظاهُر بأنه شخصٌ آخر. يَقتنِع إيومايوس الرقيق الجانب بالمَغزى الأخلاقي من الحكاية ويُوافق على ضرورة حصول المُتسوِّل على عباءة، ولكنه للأسف ليس لديه عباءةٌ إضافية. عندما يعود تليماك، عندئذٍ يمكنه أن يجلب له عباءة. وهكذا يُحسِن العبد وفادة السيد وبضيافته الكريمة يُبرِز بجلاء الجرأة اللاأخلاقية لأفراد الطبقة الأرستقراطية الذين يتمتعون بالحرية ويَضربون عُرْض الحائط بالعِفَّة ويفرضون حصارًا على منزل أوديسيوس.
(١٥) «عودة تليماك» (١٥، ١–٣٠٠؛ و٤٩٣–٥٥٧)، و«قصة العبد إيومايوس» (١٥، ٣٠١–٤٩٢)
في تلك الأثناء، في إسبرطة، تُخطِر أثينا، التي تُحرِّك الأحداث من وراء الستار، تليماكَ بالخطر المُحدِق به جرَّاء فخٍّ نصبه الخُطَّاب وتُحذِّره من أن أمه على وشك الزواج من أحدهم والاستيلاء على ما يخصُّه. إن بينيلوبي في الحبكتَين المتوازيتَين بينيلوبي/أوديسيوس/تليماك وكلتمنسترا/أجاممنون/أوريستيس هي الزوجة الطيبة والمُخلِصة، بيْد أن ثَمَّةَ تلميحاتٍ مُتكرِّرة عن ضعفها والخطر الكبير الذي قد تُلحِقه بمسألة إعادة تشكيل النظام؛ لقد حَذَّر شبح أجاممنون في السابق أوديسيوس بشأن العودة للبيت جهارًا نهارًا، خشية أن يقع في فخٍّ من صنع بينيلوبي.
بينما يُوشك تليماك على ركوب السفينة، يظهر ثيوكليمينوس المُتنبئ الغامض، سليل ميلامبوس، الذي أسَّس عائلة من المُتنبئِين البارزِين. نسمع عن أسلاف ثيوكليمينوس في استطرادٍ مُثير للاهتمام، ولكن لماذا يُقدِّم هوميروس شخصيةً جديدةً فجأة؟ اعتقد البعض أن «ثيوكليمينوس» في صيغةٍ أخرى للقصيدة كان هو أوديسيوس مُتخفيًا. فدوره الوحيد هو أن يتنبأ فيما بعدُ بهلاك الخُطَّاب، إلا أنَّ هذا الدور بالغ الأهمية؛ فقد تلقى كلٌّ من بوليفيموس وسيرس نبوءات بأن أوديسيوس سوف يتغلب عليهما، ومن ثَمَّ يجب على الخُطَّاب أن يعرفوا، عن طريق التكهُّن، بهلاكهم المُحدِق. أيضًا تَلفِت الواقعة الانتباه إلى نضوج تليماك المُكتسَب حديثًا، الذي ارتحَل للخارج حتى يُصبح رجلًا. فثيوكليمينوس خَطِر، باعتباره شخصًا ارتكب جريمة قتل، ولكن تليماك بحيثيته الجديدة لا يتردَّد في جلبه إلى متن السفينة.
في تلك الأثناء، في إيثاكا، يحكي إيومايوس قصةً عجيبة عن نفسه؛ فهو أميرٌ مثل أوديسيوس، وأبوه ملك جزيرة تُدعى سوريا، وهو مكانٌ معروف، مثل فياشيا، بما يَعمُّه من السلام وبَسطة العيش، وتقع في مكانٍ ناءٍ، شمال أورتيجيا، جزيرة كاليبسو الأسطورية. الفياشيون غدَّارون، هذا أمرٌ مؤكَّد، وكذلك النساء، وأكثر النساء غدرًا هي امرأةٌ فياشية. كانت تلك المرأة تخدم في قصر ملك جزيرة سوريا، ولكن عندما أغواها تاجرٌ فياشي، خَطفَت الأمير وسَرقَت معه أقداحًا ثمينة من المائدة. يُشبه إيومايوس أوديسيوس من ناحية كونه أميرًا هبَط إلى وضعٍ اجتماعيٍّ متدنٍّ، ولكن القصة تشبه قصة باريس وهيلين. فهيلين، هي الأخرى، خانت أُسرتها التي تعيش معها، وسَرقَت آنية المائدة، وهَربَت مع عشيقها، جالبةً التعاسة للجميع.
(١٦) «التَعَرُّف بين أوديسيوس وتليماك» (الكتاب ١٦)
في الوقت الذي يَبحث فيه أوديسيوس عن داره، يَبحث تليماك عن أبيه، الذي افترق عنه زمنًا طويلًا. إنَّ بحْث الابن عن أبيه هو موضوعٌ أدبي ذو صدًى عميق؛ إذ استخدمه يسوع لإعطاء مثَلٍ عن العلاقة بين الرب والإنسان. ومن ثَمَّ فالتقاء الأب والابن يُمثِّل نقطة التحوُّل الثانية في الحبكة، التي منها تَنساب بقية القصة، ومنها يأتي الانتقام العادل من الخُطَّاب وإعادة إرساء النظام في المنزل وفي المملكة.
ليتني بمزاجي الحالي كُنتُ بمثل شبابك، سواءٌ أكنتُ ابن أوديسيوس الصالح، أو أوديسيوس نفسه؛ عندئذٍ لربما كان من الأفضل أن يفصل غريبٌ ما رأسي عن عنقي، إن لم أُثبت أنني سبب بلائهم جميعًا عندما أدخل قاعات [منزل] أوديسيوس، ابن ليرتيس. (الأوديسة، ١٦، ٩٩–١٠٤)
بعد أن يُرسل تليماك إيومايوس إلى المنزل ليُبلغ بينيلوبي أنه عاد سالمًا، تَستدعي أثينا أوديسيوس من الكوخ، وكما لو كنا في حكايةٍ خيالية تَضربه بعصاها السحرية، مُبدِّلةً هيئته. ثَمَّةَ قُوًى لا بشرية تُؤثِّر على مجريات الأمور، وتلك ليست المرة الأولى. للوهلة الأولى يَحسب تليماك أباه الذي تبدَّلَت هيئته إلهًا من الآلهة ولا يستطيع أن يُصدِّق أنه أباه، العائد نوعًا ما من الموت. لن تُجدي المعجزات نفعًا، يجب على أوديسيوس أن يُقنِعه! يُقدِّم أوديسيوس، الذي يستخدم منطقًا فطريًّا، حقيقةَ تبدُّل هيئته على أنها دليل على أنه أوديسيوس. نحن نتوقَّع في مشهد التعرُّف أمارةً، شيئًا ماديًّا ملموسًا يُثبت الهوية، ولكن معرفة أوديسيوس بأثينا سوف تَفي بالغرض في هذا المشهد.
في النهاية يُسلِّم تليماك بالأمر، وذلك في المشهد الأول من مَشهدَي تعرُّف يُمثِّلان ذروة الأحداث على جزيرة إيثاكا، والمشهد الثاني سيكون مع بينيلوبي. يريد تليماك أن يكون مثل أبيه والآن هما مُتشابكا الأذرع، يُبلِّلان الأرض بدموعهما، ويُخطِّطان لاغتيال أعدائهما. يُجمِّع هوميروس ببراعة خيوط حبكتَي عودة الابن وعودة الأب. ولمَّا كان القارب الذي يَحمل تليماك قد رسا الآن في الميناء، يُدرك الخُطَّاب أن مكيدتهم لقَتلِه قد أُحبطَت. فيذهب رسولٌ من القارب ليُخبر بينيلوبي أن تليماك بأمانٍ ويَلتقي الرسول بإيومايوس العازم على نفس المهمَّة.
في تلك الأثناء، يُرشِد أوديسيوس تليماك إلى حيلة، أن يَرفع كل الدروع من على الجُدران عدا درعَين ورمحَين، وهي الأسلحة التي يُمكنهما الإمساك بها واستخدامها لمهاجمة الخُطَّاب. بعد ذلك يَنسى هوميروس كل شيء عن خطتِه عندما ينضمُّ إيومايوس راعي الخنازير وفيلوتياس راعي البقر إلى المكيدة. حسب بيان تليماك السابق، يوجد ١٠٨ من الخُطَّاب بالإضافة إلى «مُنشدٍ ملحمي» (يُغنِّي رغمًا عن إرادته)، ومُنادٍ، وعشرة خدم، ليكون الجمع ١٢٠ رجلًا. حتى لو دخلوا مُسلَّحِين في مواجهة رجالٍ غير مُسلحِين ففرصهم ضئيلة.
في موضعٍ سابق في القصيدة جازَفَت بينيلوبي بالدخول إلى مأوى الخُطَّاب للاحتجاج على أنشودة فيميوس عن حرب طروادة، والآن تَظهر ثانيةً في معيةٍ بغيضة؛ إذ تعترض على رغبة الخُطَّاب في إيذاء ابنها وتُذكِّرهم بما قدَّمه أوديسيوس من مُساعَداتٍ لعائلاتهم، ولكن يوريماخوس الكاذب يُنكِرها كلها.
يعود إيومايوس إلى الكوخ. ومُجدَّدًا جَعلَت العرابة الجنية هيئة أوديسيوس تبدو بائسةً للناظرِين. ويتساءل المرء: كيف يُمكن لهم أن يَخسروا في وجود عَونٍ كهذا؟
(١٧) «متسول في بيته» (الكتاب ١٧)
يقع أوديسيوس في أدنى درجات السُّلَّم الاجتماعي، أي حثالة الأرض. في أرض اللستريجونيِّين، عندما يَمضي نحو الداخل بعيدًا عن البحر، يَلتقي بابنة الملك الشرِّير عند بئر، وفي هذا المشهد عند بئر يَلتقي برجلٍ شريرٍ آخر، وهو ميلانثيوس (وتعني «الأسود»). يركل ميلانثيوس سيده في مؤخِّرته ويُهينه ويُهدِّد ابنه. هل كان آخيل سيَستطيع أن يُقاوم الرغبة الملحَّة في انتزاع أحشاء هذا التافه في التوِّ واللحظة، لو أنه كان في مكان أوديسيوس؟ أما أوديسيوس فيتذكَّر مبتغاه ويَكظم غضبه. سوف يتعامل مع ميلانثيوس في وقتٍ لاحق.
في المغامرات، تعرَّف بوليفيموس على أوديسيوس عندما صاح أوديسيوس مُفصحًا عن اسمه؛ وتعرَّفَت سيرس عليه عندما جابه سحرها. في اللغة الرمزية للمُغامَرات يُمثِّل التعرُّف نوعًا من الميلاد الجديد؛ تفوقًا على الأعداء المُتمثلِين في الخَدَر، والنوم، والموت. على جزيرة إيثاكا، يُفيد التعرُّف البناء الدرامي فائدةً أكثر مباشرةً؛ فأوديسيوس ليس بالهيئة التي يَبدو عليها، وإنما مُتنكِّر؛ فعن طريق عقله وحكمته (ومعاونة أثينا) يَختفي عن الأنظار ويُمكِنه أن يرى ما لا يَستطيع الآخرون رؤيته. سيُدمِّر أعداءه، وسيَفعل ذلك باللجوء إلى حيلة.
شيئًا فشيئًا يستردُّ أوديسيوس هُويتَه السابقة. عندما يتعرَّف أرجوس (وتعني «السريع») المسكين، الذي كان ذات يومٍ كلب أوديسيوس المُفضَّل للتسلية، على سيده عند الباب، يُصبِح أوديسيوس سيد كلاب الصيد من جديد. إنَّ تعرُّف أرجوس هو أيضًا دليل على أن تَنكُّره يُمكن اختراقه، وهو يرمز إلى الانحلال الذي حلَّ على المنزل منذ غادر أوديسيوس. إنَّ موته المُثير للشفقة أمام عينَي أوديسيوس، على كومة رَوثٍ خارج الباب المؤدِّي إلى البهو الملكي، يَجعلُنا نتساءل عن ثروة الملوك الحقيقيِّين في زمن هوميروس. يُضاهي أرجوس الكلاب الذهبية أمام منزل ألكينوس، والكلاب أمام كوخ إيومايوس، وحتى كلاب سيلا النبَّاحة (وفي الأساطير يُروى أن الكلب سيربيروس كان يقف أمام بوابات منزل هاديس).
لا يُمكننا أن نضع تصميمًا هندسيًّا تخيليًّا جيدًا للغاية لمنزل أوديسيوس من توصيفات هوميروس، ولكنه مَبنًى بسيط؛ ففي الواجهة يُوجد فِناءٌ، ويوجد بابٌ قُبالة البهو يؤدِّي إلى قاعةٍ كبيرة في وسطها مدفأة. لا بدَّ أن يكون السطح مفتوحًا في وسط القاعة ليَسمح للدخان أن ينبعث عبْره. أمَّا الأرضية فعبارة عن تُربةٍ مضغوطة. ويُوجد في غرفة المِدفأة هذه أعمدةٌ تدعم السقف. وفي الطابق العُلوي تُوجد أجنحة النساء وغرفة تخزين، قد تكون أمام قاعة.
في كل مكانٍ تُوجَد إشارات إلى أن ثَمَّةَ شيئًا خارجًا عن المألوف يجري، ولكن بينيلوبي تَرفُض بعنادٍ أن ترى، أو تتظاهر بأنها لا ترى. لا يُطلِعنا هوميروس على أفكار بينيلوبي التي تدور في أعماقها، وسلوكها الذي لا يُمكن في بعض الأحيان تفسيره والذي يَبعث على التكهُّن والتخمين. أخبر تليماك أمه بشأن رواية مينلاوس حول احتجاز أوديسيوس على جزيرة. يُصرِّح ثيوكليمينوس، المُتنبِّئ الغامض، بأنه بالرغم من ذلك فإن أوديسيوس على الجزيرة. ولكن حتى النبوءة لا تَستهوي بينيلوبي.
إن حديثك يا أنطونيوس يَخلو من خيرٍ رغم ما أنت عليه من نُبْل. من الذي يَنشُد غريبًا من بلادٍ غريبة ويدعوه بنفسه، إلا إذا كان واحدًا من أولئك الذين يُتقنون مهارةً عامة؛ كأن يكون مُتنبئًا، أو معالجًا للأسقام، أو بنَّاءً، نعم، أو «مُنشدًا» إلهيًّا، يُضفي بهجةً بإنشاده؟ إذ إن هؤلاء الرجال موضع ترحيب في كل أرجاء الأرض اللَّامتناهية. (الأوديسة، ١٧، ٣٨١–٣٨٦)
إذن فالمُنشِدون هم رحَّالة، ويُسَر الناس باستضافتِهم. بينما يتسوَّل السيد في منزله، يَلتهِم الخُطَّاب طعامه، ثم يَبخلون أن يُقاسِموا فيه الآخرِين. يَضرب أنطونيوس أوديسيوس ضربةً موجعة بمِسنَدٍ للقدمَين. أمثال هؤلاء الرجال يستحقون الموت. فيحكي أوديسيوس حكايةً تحذيرية أنه ذات يوم كان عظيمًا، ومع ذلك انحدر به الحال وحلَّ به الدمار (مثلما يمكن أن يحدث أيضًا للخُطَّاب).
عندما تسمع بينيلوبي أن الخُطَّاب يَنتهِكون حسن الضيافة ويُهينون المُتسوِّل — المتسوِّل الذي يمكن أن يكون إلهًا مُتنكِّرًا — تُصرِّح بأنها تَرغب في الحديث إليه، وهو مشهدٌ نترقَّبه بتلهُّف، عندما يقف الزوج والزوجة وجهًا لوجه بعد عشرين سنة. هل سيتعرَّف كلٌّ منهما على الآخر، ويتهاوى كلٌّ منهما بين ذراعَي الآخر، وتصلُ القصيدة إلى نهايتها؟ لو أنك تَصوَّرتَ أن ذلك يُمكن أن يحدث، فلا بدَّ وأنك لا تميل إلى طريقة هوميروس في السرد القصصي.
(١٨) «أوديسيوس والمتسول إيروس» (١٨، ١–١٥٨)، و«غواية الخُطَّاب» (١٨، ١٥٧–٤٢٨)
وسط أجواء التنكُّر، والتنبُّؤ، والامتهان يَظهر فجأة مُتسولٌ حقيقي، هو إيروس، الذي يحتج على حق أوديسيوس في مشاركته عتبة الباب. في مشهدٍ صاخب يُشبِه لعبة مهاجمة الكلاب للدِّبَبة ويَنطوي على سخريةٍ من النزال بين الأبطال، يَتمنطَق أوديسيوس بعباءته، وفجأة لا يَبدو بائسًا كثيرًا. طوال هذه السلسلة من المَشاهد يُصبِح الخُطَّاب أكثر قلقًا من أي وقتٍ مضى من هذا الغريب المُحيِّر. يُهدِّد أنطونيوس بِبتْر أذنَي المتسوِّل الحقيقي وجدْع أنفه وقطع أعضائه التناسلية إن خَسِر المباراة، وذلك في مشهد «ألعاب» مُزيَّف يُضاهي الأحداث الرياضية في ألعاب آخيل الجنائزية. يَطرح أوديسيوس إيروس أرضًا بلطمةٍ عنيفةٍ واحدة، و«رفع الخُطَّاب النبلاء أيديهم، وكادوا يموتون من الضحك» (١٨، ٩٩-١٠٠). وهذه الهيستيريا غير المنطقية تُنذِر بالموت.
ثم للتوِّ ارتخت رُكَب الخُطَّاب واشتعل في قلوبهم شبقٌ، وابتهل كل واحدٍ منهم جميعًا أن يَضطجِع بجوارها. (الأوديسة، ١٨، ٢١٢-٢١٣)
بطريقةٍ مُحتشمة، تتظاهر بالانشغال على سلامة الغريب، إلا أن يوريماخوس يلتقط الطُّعْم ويرْغَب فيها بشدةٍ بكلماتٍ ونظراتٍ تلتهمها التهامًا. تستغلُّ بينيلوبي إعجاب الخُطَّاب لتنتزع منهم هدايا، شاكيةً من أنه في فترة الخطوبة يَجلب العرسان هدايا، ولكن كل ما يفعلونه هو الأخذ والأخذ فقط. يستحسن أوديسيوس في ذهنه خُدعة بينيلوبي البارعة استحسانًا تامًّا، غيرَ ممانِع لاستخدام زوجته لجاذبيتها الجنسية أداةً لانتزاعٍ مكسبٍ مادي. نعم؛ لأنَّ الكسب المادي أمرٌ جيد، تستحسنه الزوجة مثلما يفعل الزوج الذي سافر كثيرًا وبعيدًا، والمُهدَّد بشكل أساسي جرَّاء أعمال السلب مِن قِبَل الخُطَّاب.
يُخيِّم الليل. حان وقت اللقاء بين أوديسيوس وبينيلوبي. يُعِد الخُطَّاب مَشاعِل، ويَشربون ويَرقُصون وتَتحضَّر الخادمات للعمل على خدمة رغبتهم الجنسية؛ ومن شأن اجتماعات الشراب القديمة أن تَنتهي بهذه الطريقة أيضًا. يعرض المتسول أن يرعى النار، ولكن ميلانثو، التي على ما يبدو أنها شقيقة ميلانثيوس/الأسود، تُهينه. كانت بينيلوبي تحمل مَعزَّةً لميلانثو، ولكنها محظية يوريماخوس، التي تشتاق إلى الليل وما يُصاحبه من جنس. يُخمِد أوديسيوس حميتَها عندما يُبيِّن أن تليماك عما قريب سيتعيَّن عليه أن يُقطِّعها إربًا إربًا.
يَعرض يوريماخوس، شاعرًا بمسحة مِن التهذيب، على أوديسيوس عملًا في مزرعتِه، ثم سرعان ما يَسحب عرضه، وهو ما يُؤدِّي إلى محاضرة أوديسيوس عن قواعد الفلاحة الصحيحة لرجلٍ صالح. يظنُّ يوريماخوس أن هذا المُتسوِّل أحمقُ مجنون، أو مخمور، ويُخفِق في إصابته بمُتَّكأ يُلقيه عليه. وهكذا يَستمرُّ المُتسوِّل في إثارة حفيظة الجميع.
(١٩) «أوديسيوس وبينيلوبي» (١٩، ١–٣٦٠؛ و٥٠٨–٦٠٤)، و«ندبة أوديسيوس» (١٩، ٣٦١–٥٠٧)
ما إن يذهب الخُطَّاب، حتى يُعطيَ أوديسيوس تعليمات إلى تليماك بأن يُزيل كلَّ الدروع عن الجدران ويُخبئها، مُتغافلًا عن تعليماته السابقة بترك مجموعتَين من الدروع؛ ولم يُلاحظ الخُطَّاب على الإطلاق الدروع المفقودة. ولما كان أوديسيوس قد أرسل الخادمات إلى غُرَفهن، تَحمل أثينا بنَفسِها مِصباحًا ذهبيًّا لتقود تليماك إلى غرفة التخزين (لسنا مُتيقنِين من مكانها)، وهي الإشارة الوحيدة إلى وجود مصباح في القَصائد الهوميرية. ففي أشعار هوميروس عادةً ما تكون المشاعل هي التي تُنير الطريق، وليس ثَمَّةَ وجودٌ للمَصابيح في السجل الأثري حتى القرن السابع قبل الميلاد. ربما يكون مصباح أثينا إشارةً إلى عادة من العصر البرونزي، حينما كانت المصابيح شائعة وكانت تُمثِّل جزءًا من الطقوس، إن كانت أثينا تَنحدِر من إلهة من الحضارة المينوية، كما يَعتقد كثيرون.
هناك أرضٌ تُدعى كريت في وسط البحر القاتم ذي اللون الخمري، أرضٌ صالحةٌ غنية مُحاطة بالمياه، ويُوجد عليها رجالٌ كثيرون، أكثر من أن يُحصَوا، وتسعون مدينة لا تتحدَّث كلها نفس اللغة، وإنما مُختلطة الألسن. هناك يَقطن الآخيون، وهناك يُوجَد الكريتيُّون المحليُّون العظام القلوب، وهناك السيدونيون والدوريون ذوو الريش المُتموِّج والبيلاسجيون الطيبون. (الأوديسة، ١٩، ١٧٢–١٧٧)
تُوجد هالة من المعاصَرة فيما يختصُّ بحكايات أوديسيوس عن كريت والكريتيِّين، كما لو أنَّ هوميروس كان يصفُ أحوالًا عرَفها وعايَنها بنفسه. في هذا السياق من المُمكن أن يكون الآخيون هم الميسينيِّين، والكريتيون المحليُّون هم دون شك المينويون، والسيدونيون، الذين عاشوا في شمال غرب كريت (خانية المعاصرة)، من مكانٍ ما، والدوريُّون هم قومٌ موطنهم شمال غرب اليونان سَيطروا على الجزيرة في الأزمنة الكلاسيكية. ولعلَّ هذه هي الإشارة الصريحة الوحيدة في القصائد الهوميرية إلى «قبيلة» الدوريِّين، الذين كان بينهم وبين الأيونيِّين منافسةٌ لدودة في الحِقبة الكلاسيكية.
إنَّ لقاء أوديسيوس وبينيلوبي مُنفردَين في القاعة المتَّشحة بطبقة من السواد مبنيٌّ في هيئة مشهَد تَعرُّف، حتى إنَّ أوديسيوس يصف باستفاضةٍ أمارةً، دبُّوسًا للزينة ارتداه أوديسيوس عندما قَدِم إلى كريت. ولكن أمر التعرُّف ما زال سابقًا لأوانه. يَعتقِد البعض أن في صيغٍ أُخرى للقصيدة تعرُّفًا قد جرى بالفعل في هذه اللحظة، وأن الزوج والزوجة خطَّطا معًا لأمر مذبحة الخُطَّاب. غير أنه في نسخة «الأوديسة» التي بين أيدينا، يُقدِّم هوميروس بينيلوبي في شخصيةٍ لا تَرغب في التصديق، فلا يُمكنها أن تُعطي اعتبارًا لروايته مثلما لم تُصدِّق تليماك ولا ثيوكليمينوس؛ لأنها تعَرَّضَت في أغلب الأحيان لخيبة الأمل. عليها أن تَعتقِد في الأسوأ. تشكر الغريب على حكايته، ثم تُكافئه بغسل قدمَيه، وهي مجاملة تُبْدى للزوار المُتميزِين، وليس للمتسولين.
ولما كانت أوريكليا اعتنَت بأوديسيوس صغيرًا وأرضَعَته، فهي أمُّه نوعًا ما، وهذا التعرُّف يُقربه من مركز القوة؛ فهو الآن سيد الخدم. وهو لا يكاد يُبدي أي عاطفة نحو أوريكليا ويُطبِق على عنقها مهددًا إياها باستخدام العنف إن أحدَثَت صوتًا. ماذا بوسعه أن يفعل غير ذلك؟ أما بينيلوبي غير المُصدِّقة، المُستفِزة، الشاردة الذهن، والمنزوية إلى حَدٍّ ما، فلا تلحظ شيئًا عندما تُسْقِط أوريكليا الإناء البرونزي الكبير الذي يُحدِث رنينًا على الأرض.
ولكن الآن تعالَ واسمع حُلمي هذا، وفسَّره لي. حلُمتُ أنني أمتلك عشرين إوَزَّة في المنزل تخرج من الماء وتأكل القمح، ويفرح قلبي برُؤيتها. ولكن يأتي خارجًا مِن الجبل نسرٌ عظيمٌ له منقارٌ مُقوَّس ويَكسِر رقابها ويقتلها وتُلْقى مُبعثَرةً في كومةٍ في الباحة، بينما كان الهواء يحمل النسر عاليًا إلى السماء الساطعة. وبدوري حينئذٍ بكيتُ ونُحتُ، رغم كونه حلمًا، وتجَمَّعَت حولي النساء الآخيَّات ذوات الشعر الأشقر المجدول وأنا حزينةٌ حزنًا يبعث على الشفقة؛ لأن النسر قتَلَ إوَزَّاتي. (الأوديسة، ١٩، ٥٣٥–٥٤٣)
من السهل أن نتبين أنها تتحسَّر على فقد مُحبِّيها. ثَمَّةَ دلائل وعلاماتٌ جمَّة في الكتب الأخيرة من «الأوديسة» الغرض منها تكثيف السرد والتشديد على عجز الخُطَّاب الخامد عن مُقاوَمة القَدَر، ولكن المرء ليتساءل عن السبب وراء إدراج هوميروس لهذا الحُلم. هل تقصد أنها سوف «تفتقد» الخُطَّاب؟ حسنًا، لا يُمكِنك أن تثقَ بامرأةٍ قط، كما أوصى شبح أجاممنون.
يشتدُّ غموض موقف هوميروس تجاه قصته بإعلان بينيلوبي المُفاجئ أنها في اليوم التالي سوف تَقترح إقامة مسابقة في رمْي السهام، وسوف تتزوَّج من يفوز. ما دوافعها؟ هل يُخامِرُها الشك في أنَّ الغريب هو أوديسيوس؟ ألفا عام من الشرح والتعقيب المُفصَّلَين لم تُقدِّم إجابة. مِن المؤكَّد أن هوميروس بحاجة لأن يصلَ بأنشودته إلى خاتمة، ولكي يفعل هذا يحتاج إلى مسابقة رمي السهام، التي هي بمثابة مناسَبة لوقوع تعرُّفٍ حاسم، حتى دون وجود دافع نفسي مُقنِع. فاليوم التالي هو يوم عيد لأبولُّو يُقام في ظُلمة القمر، وكانت بينيلوبي قد ابتَهلَت إلى أبولُّو أن يَقتُل أنطونيوس (١٧، ٤٩٤). سوف يكون الهدف مِن المسابقة هو شد وتر قوس، الذي هو سلاحٌ مِن أسلحة أبولُّو، وأداء مهارةٍ يبرع فيها أوديسيوس نفسه. يبدو الأمر كما لو أنه أُحبولة، ولكن هوميروس ضحَّى بمنطق قصتِه من أجل رغبته في تصوير شخصية بينيلوبي على أنها قانطة وعنيدة.
(٢٠) «نبوءة الهلاك» (الكتاب ٢٠)
في مشهدٍ مشحون بالجنس، يَستلقي أوديسيوس في الرَّدْهة الكبرى، متسائلًا عما إذا كان يَنبغي أن يَقتل الوصيفات اللواتي يَتضاحكْنَ وهنَّ ذاهباتٌ ليُسافِحْن الخُطَّاب، أو ينتظر ويَقتلهنَّ فيما بعد. ومع ذلك يَنبغي أن يكون مُبتهجًا؛ لأن أثينا تظهر له — ويا له مِن خطبٍ عظيم؛ إلهة في المنزل — وتَعِده بالدعم الذي يَحتاج إليه. وعندما ينام أوديسيوس، نجد بينيلوبي، في الطابق الأعلى فحسب، تَستيقظ من سباتها، بعدما حَلُمَت بأن زوجها مُستَلقٍ بجانبها، كما هو حاله تقريبًا. إنَّ الكَآبَة، والرثاء للذات، والمُراوَغة هي كلها أجزاء من شخصية بينيلوبي، وفي إطار رغبتها في الموت تروي قصةً عجيبة، عدا أنها مجهولة، عن بنات بَنداريوس التعيسات، مثلما روَتْ فيما سبق قصةً مجهولة أخرى عن العندليب، التي هي أيضًا ابنة لبنداريوس (١٩، ٥١٨–٥٢٣).
يستيقظ أوديسيوس مع انبلاج فجر يومٍ آخر من الفجور. لم يكن ظهور أثينا كافيًا لجعله في حالةٍ مزاجيةٍ جيدة؛ فيدعو مُتضرِّعًا أن يُجعَل له تباشيرُ وعلاماتٌ وينال ما طلب. يَمضي تليماك إلى المدينة بينما يَجلب إيومايوس المُخلِص وميلانثيوس البذيء وشخصيةٌ جديدة هي راعي البقر فيلوتيوس، الذي أحبَّ أوديسيوس أكثر من أي أحدٍ آخر، البهائم إلى الساحة لتُذبَح لأجل يوم العيد إكرامًا لأبولُّو. الفِناء هو ساحة للذبح حيث تُنحَر البهائم وتُنزَع أحشاؤها؛ عما قريبٍ ستَسيل الدماء البشرية أنهارًا في المنزل. إنَّ مسألة القتل أمرٌ يدور بأذهان الجميع، ولا يزال الخُطَّاب يُخطِّطون للقتل إلى أن يروا أن النُّذُر لا تُبشِّر بخير. فيُقرِّرون بدلًا من ذلك أن يَشربوا حتى الثمالة.
… ألهَبَت بالاس أثينا فيما بينهم ضحكًا لا يُخمَد، وذَهبَت بحصافتهم أدراج الرياح. والآن هم يَضحكون عن غير إرادتهم، وكان اللحم الذي أكلوه مُخضَلًّا بالدم، وعيونهم كانت مفعمةً بالدموع، وأرواحهم يُثقِلُها النحيب. ثم مِن وسطهم تكلَّم ثيوكليمينوس شبيه الآلهة، «أيها التعساء، ماذا أصابكم من شر؟ إن ظلامًا حالكًا يُغطِّيكم من رءوسكم ووجوهكم إلى أخمص أقدامكم. صوت النحيب متأجِّج، ووَجَناتُكم تغمرها الدموع والجدران وعوارض السقف المتينة تَنضح بالدماء. السقيفة والبهو مملوءان بأشباح تُسارع هبوطًا إلى إيريبوس في جنح الظلام، والشمس تلاشَت من السماء، وغيمة شر تحُوم فوق الجميع.» (الأوديسة، ٢٠، ٣٤٥–٣٥٧)
وإذ أتمَّ مقصده، يغادر ثيوكليمينوس القصر ويختفي. ويَنفجِر الخُطَّاب، الذين أذهَبَت الخمر والدماء واللحم والجنس والكِبْر عقولهم، في الضحك أكثر وأكثر، وهم لا يَشكُّون مطلقًا في أنهم قد أكلوا طعامهم الأخير على الأرض.
(٢١) «مسابقة القوس» (الكتاب ٢١)
كل شيء جاهز للتعرُّف الكبير، حين سيُميط اختبارٌ للمهارة والقوة اللثام عن الملك الحقيقي. للأسف مِن المستحيل أن نفهم تحديدًا تصوُّر هوميروس لمسابقة رمي السهام. الجانب الأكثر إثارة للحيرة من هذا الوصف هو أنه استلزَمَ أن يمرَّ السهم «عبْر الاثنتَي عشرة بلطةً جميعها» (٢١، ٧٦) و«عبْر الحديد» (٢١، ٩٧). كيف يُمكِن لسهم أن يمرَّ عبر الحديد؟ ثَمَّةَ تفسيرٌ شائع لذلك هو أن رءوس الاثنتَي عشرة بلطة كانت مدفونة في أرضٍ طينية في خندق، وشفراتها لأسفل وفتحات مقابضها للأعلى ومتراصَّة في صف، وأنه بهذا المعنى أطلق سهمه «عبْر الحديد». إن كان الأمر كذلك، فيجب أن يُطلَق السهم على مقربةٍ شديدة من الأرض، وأن يكون رامي السهام جالسًا القُرفُصاء؛ من غير المرجَّح أن يكون من المُمكِن القيام برميةٍ كهذه في عالم الواقع. الاقتراح الشائع الثاني هو أن البلطات كانت مثل البلطات المينوية المزدوَجة، التي فيها تتقوَّس الشفرات إلى الخلف تقوُّسًا كبيرًا نحو المقبض، لتُشكِّل دائرة مفتوحة نوعًا ما عند نهاية المقبض. في هذه الحالة كانت المقابض ستكون متراصَّةً عموديًّا في صف في الأرض حتى تُشكِّل الدائرة في قمَّة كل بلطة ما يُشبه الأنبوب. إن كان كذلك، فما فائدة الخندق؟ لا يُمكننا أيضًا أن نكون مُتيقنِين من المكان الذي وُضعَت فيه البلطات؛ لأنها إن كانت وُضعَت في القاعة المركزية، فستكون المدفأة في المُنتصَف. من المُحتمَل ألا يكون هوميروس نفسه قد فهم طبيعة المسابقة، التي أصبح تفسيرها المتَّسق الأصلي، المُتعذِّر التوصُّل إليه في الوقت الحاضر، مفقودًا في التراث.
يَتغلَّب أبطال الحكاية الشعبية على أعدائهم بأسلحةٍ خاصة، مثلما أعمى أوديسيوس السايكلوب بوتدٍ خاصٍّ مُقسًّى بالنار (بدلًا من السيف الذي كان يَحمله). والسلاح الخاص هنا هو قوس كان يومًا ما مِلكًا لإيفيتوس، ابن رامي السهام العظيم الأسطوري أوريتوس. قتل هرقل إيفيتوس عندما جاء إيفيتوس إلى منزله بحثًا عن بعض الأفراس المفقودة. لأجل هذه الجريمة المُروِّعة في حق مبدأ «حسن الضيافة»، دفع هرقل ثمنًا باهظًا، حسب تراث لاحق؛ إذ بِيعَ عبدًا إلى ملكة مملكة ليديا. وكما عانى إيفيتوس التعدِّي على مبدأ «حسن الضيافة»، الآن سوف يَثأر قوسُه من أولئك الذين ارتكبوا جريمةً مُماثلة.
يُعيد مشهد تعرُّفٍ سريع في الفِناء الخارجي بين أوديسيوس والمُخلِصَين فيلوتيوس وإيومايوس، مُستندًا مرةً أخرى إلى أمارة الندبة، هذَين الرجلَين إلى حبكة القصة. يُوجد الآن أربعة رجال في مواجهة أكثر من ١٠٠ من الخُطَّاب وحلفائهم.
إنَّ الجهود التي يبذلها الشبان العاجِزون لاستعمال سلاحٍ حقيقي يَملِكه رجلٌ حقيقي هي جهود تبعث على الشفقة. يتجنَّب أنطونيوس، وهو يرى فشل رفقائه، الحرج بأن يَقترِح أن يُوقِفوا المسابقة ويَنذِروا أنفسهم للشراب؛ مثلما شرب السايكلوب قبل أن يتغلَّب عليه أوديسيوس. تُدافع بينيلوبي عن حق المتسول في تجربة القوس، مع أنها بالتأكيد لن تتزوَّجه! فيَلتقط إيومايوس القوس ليُعطيها لأوديسيوس، ثم يضعها أرضًا بناءً على مطالبةٍ صاخبة من الخُطَّاب، ثم تحت تهديداتٍ من تليماك يعود لالتقاطه ثانيةً. تَرتفِع حدة التوتُّر ونحن نصل إلى الفاجِعة التي سوف تحلُّ عقدة الحبكة.
يَتفقَّد أوديسيوس القوس، ثم يشدُّ وتره دون عناء، مِثْل مُنشدٍ يضع وترًا جديدًا لقيثارته، حسبما يُورد هوميروس في إشارةٍ واضحة. من المؤكَّد أن هوميروس عند هذا المَوضِع نقَر على وتر قيثارته، لتوضيح قوله، وهو مِن المقامات النادِرة التي يُمكننا فيها إعادة بناء المُصاحَبة الموسيقية لغناء الإنشاد الملحَمي. إنَّ الرمية مضمونة، ولكن الوحش ذا المائة وعشرين فمًا، المخمور والأخرق مثل بوليفيموس، حتى الآن لا يفهم أنه على شفا الموت.
(٢٢) «مجزرة الخُطَّاب» (الكتاب ٢٢)
أيها الكلاب، ظننتُم أنني لن أعود أبدًا إلى الديار من بلاد الطرواديِّين؛ لذا عِثتُم في منزلي فسادًا وأجبرتم الوصيفات على مُضاجعتِكم، ومع أنني ما زلتُ حيًّا خطبتُم ودَّ زوجتي، دون خشية من الآلهة الذين يُمسكون بالسماء الواسعة ولا مِن سخط البشر في المُستقبَل. والآن حلَّت سِراعًا عليكم جميعًا ساعة الهلاك. (الأوديسة، ٢٢، ٣٥–٤١)
لا يُمكن لأربعة رجال، ثلاثة منهم لم يَخُوضوا قتالًا أبدًا، واثنان منهم من العبيد، أن يأمُلوا في التغلب على ١٢٠ رجلًا إلا إذا كانوا عصابة من الجبناء والشباب الغض. تَنفَد السهام ويبدأ القتال بالرماح. يَجلِب تليماك، الذي ذاق سفك الدماء لأول مرة بقتله لرجل بالرمح من الخلف، دروعًا من غرفة التخزين. في هذا المشهد نواجه أكبر أشكال البلبلة فيما يتعلَّق بتصميم منزل أوديسيوس؛ إذ رغم أن أوديسيوس واقف على العتبة، نجد الخادم الخائن ميلانثيوس/الأسود يصعد إلى الأعلى بطريقةٍ ما وينزل دون أن يراه أوديسيوس. لا بد وأن غرفة بينيلوبي بالطابق العلوي، على ما يبدو أنها قُبالة نفس الطُّرْقة التي تقع بها غرفة التخزين. يُوجَد أيضًا بابٌ خلفي للقاعة يبدو أنه يؤدِّي إلى الساحة الخارجية، أو المساحة ما بين المنزل وسور الساحة الخارجية، التي يؤدِّي بابٌ خلفي عبْرها إلى خارج المدينة. يُؤمِّن إيومايوس هذا الباب الخلفي أثناء الجزء الأول من المعركة. أيًّا كان الأمر، يَحتجِز فيلوتيوس وإيومايوس ميلانثيوس في غرفة التخزين ويَربطان يدَيه وقدَميه معًا من أجل التمثيل به لاحقًا. لا يُمكن لأي شيء يَحيق بهذا الوغد الأشر أن يكون بالغ السوء.
كانت أثينا، وما زالت، هي من يتحكَّم بالأحداث في القصيدة (عدا في المغامرات)، ولقد وَعدَت بمساندة بطلها المُفضَّل في وقت حاجته. في هذا المشهد تظهر لفترةٍ قصيرة في هيئة منتور، مُستَحِثَّةً أوديسيوس أن يبذل جهدًا أكبر وهي تُحوِّل عنه رماح الخُطَّاب، الذين كان ميلانثيوس قد سلَّح اثنَي عشر منهم بدروع مِن غُرفة التخزين. ومع ذلك، لا بدَّ على ناهب المدن، الرجل المُتعدِّد القدرات، الرجل الواسع الحيلة، أن يتحمَّل وطيس المعركة، وأن يتحمَّله ابنه الذي كان صبيًّا ذات يوم ولكنَّه الآن صار رجلًا.
أستعطفك يا أوديسيوس وأنا جاثٍ عند ركبتَيك، وأسألك أن تُبدي لي احترامًا ورحمةً؛ إذ سوف تُصاب نفسك بحزن فيما بعدُ إن أنت قتلتَ «المُنشِد»، أعنيني أنا، الذي يُغني للآلهة وللبشر. لقد علَّمتُ نفسي بنفسي وغَرسَت الآلهة في فؤادي كل صنف من صنوف الأنشودات. إني على استعداد أن أغني لك كما لو كُنتَ إلهًا. لذا لا تتعجَّل قطع رقبتي. (الأوديسة، ٢٢، ٣٤٤–٣٤٩)
وفيما عدا ذلك، لم يُعفَ عن أيِّ أحد إلا «المنادي»، الذي يُشبه نوعًا ما الساعي.
تُجبَر اثنتا عشرة وصيفةً عديمة الوفاء (من المرجَّح أن من بينهن ميلانثو) على تنظيف الفوضى. فيَسحبْنَ الجثث ويُكدِّسنها في كَوْماتٍ في الساحة، التي كانت منذ الصباح مجزرًا وصارت الآن مُستودعًا لحفظ جثامين أرقى النبلاء المحليِّين. ويأمُر أوديسيوس ابنه بقَتلِ الوصيفات بحدِّ السيف، ولكن في مشهد يَنطوي على قسوةٍ بالغة يَشنقُهن تليماك تباعًا في حبل سفينة مربوط بعمود وببناء دائري مقبب في الساحة لم يُذكر من قبل. من هذا الحبل كُنَّ يَتلوين ويَنتفضْن، «ولكن ليس لوقت طويل» (٢٢، ٤٧٣). لم يُفسِّر أي عمل إبداعي الكيفية التي جرَت بها عملية الإعدام هذه، ولكن غموضها الشديد ومباغتتها يزيدان من هولها. يأمر أوديسيوس بأن يُحْرَق كبريت في القاعة. فالأشباح والأرواح الشرِّيرة، التي يُرجَّح وجود قدرٍ كبير منها يَحُوم في الجوار، تُبغض الكبريت وتنفر منه.
(٢٣) مشهد «التعرف بين أوديسيوس وبينيلوبي» (الكتاب ٢٣)
إن رُوح الدعابة الساخرة لدى هوميروس قوية في تقديمه لبينيلوبي التي تكون في بعض الأحيان بلهاء، وتبدو عليها الحماقة في الظاهر فقط، والتي كانت شخصيتها الظاهرية التي تتمثَّل في كونها شخصًا لا يُولي اهتمامًا كبيرًا بما يَجري عنصرًا رئيسًا في نجاتها لوقتٍ طويل في ظروفٍ خَطِرة. سابقًا، عندما أوقعت أوريكليا الإناء البرونزي الكبير في الرواق المُظلِم، لم تُلاحِظ بينيلوبي أي شيء، والآن تُوقِظها أوريكليا في مَخدَعها من إغفاءة كانت أهدأ إغفاءة حظيَتْ بها منذ أعوام. تَنقُل إليها أوريكليا النبأ المذهل. بينما كانت تهنأ بنَومها، عاد زوجها إلى البيت وقتل الخُطَّاب. لا هذا الفعل، ولا رواية النَّدبة يُقنعان بينيلوبي الحذِرة والماهرة في الخداع.
إنَّ تليماك، الذي بدأ القصيدة بالشكوى من مسلك أمه، يدعوها الآن مُتحجِّرة القلب، فمن ذا الذي يَجلِس إلى جوار زوجها الذي غاب طويلًا ولا يرى أنه هو. يَتركهما وحدهما، وعندئذٍ تَرضى بينيلوبي بأن هذا الرجل، أيًّا من كان، بالتأكيد ليس زوجها، يُمكنه أن يَنام في سرير أوديسيوس، وسوف تَجلبه أوريكليا على الفور. بهذه الأمارة تُخادِعه بينيلوبي حتى يَكشِف عن هويته الحقيقية؛ فهو مَن صنَع السرير بنفسه ومكانه الوحيد كان شجرة زيتون مزروعة في الأرض. لا بدَّ إذن أن أرضية حجرة نوم القصر من التربة المضغوطة وأنها في الطابق الأرضي — في حين أن غرفة بينيلوبي في الطابق العلوي — بيْد أن موقعها بالنسبة إلى القاعة الرئيسية غير واضح.
وبعد أن تعرفت عليه زوجته أخيرًا، يأوي أوديسيوس مع بينيلوبي إلى الفراش لمُطارَحتها الغرام، بينما فيميوس يَعزِف وتليماك، وإيومايوس، وفيلوتيوس، والخادمات المُخلِصات يَرقُصن في البهو. سوف يظنُّ المارة أن زِفافًا يُعقَد، كما هو الحال في واقع الأمر؛ فبينيلوبي قد عُقِد قرانها مجدَّدًا على رَجُلها الحقيقي. وبينما هما في الفراش يُجمِل أوديسيوس مغامراته في أعالي البحار، مُختزلًا مع ذلك عامه في فراش سيرس إلى أن «بعد ذلك رَوى كلَّ حِيَل ومكر سيرس …» (الأوديسة، ٢٣، ٣٢١).
ارتأى بعض المُعلِّقِين، القدماء والمعاصرِين، أنَّ «الأوديسة» في الأصل انتهَت عند البيت ٢٩٦ من الكتاب الثالث والعشرين باجتماع شمل الزوج والزوجة، ولكن لا تزال أمورٌ كثيرة جدًّا معلَّقةً دون حلِّ على ذلك؛ فعلى الرغم من أن أوديسيوس الآن زوجٌ لزوجته وأبٌ لابنه وسيِّد لمنزله، فإن كونه ابنًا لأبيه وملِكًا مُوَرَّثًا للبلاد لم يتمَّ بعد. وتحقيقًا لهذه الغاية، صبيحة اليوم التالي، يُسبِغ هو وتليماك والآخَرون عليهم من الدروع ويَلتقطون الرماح لمواجَهة الخطب الذي لا بدَّ وأنه آتٍ بلا ريب.
(٢٤) «الخُطَّاب في العالم السفلي» (٢٤، ١–٢٠٤)، ومشهد «التعرف بين أوديسيوس وليرتيس» (٢٤، ٢٠٥–٤١١)، و«أوديسيوس ملك إيثاكا» (٢٤، ٤١٢–٥٤٨)
في قفزةٍ تحوليةٍ حادَّة يأخذنا هوميروس إلى العالم السُّفلي. يُرشِد هيرميس أرواح الخُطَّاب إلى مُرُوج أسفوديل. وهناك يَلتقون بروحَي أجاممنون وآخيل تتبادَلان الحديث فيما بينهما. يصف أجاممنون جنازة آخيل المهيبة، وهو مثالٌ جيد على كيفية ترتيب «الأوديسة» للتفاصيل المنسية من «الإلياذة». ولمَّا كانت «الأوديسة» تشير إلى «الإلياذة» بهذه الطريقة الذاتية الوعي، وليس العكس، يَعتقِد الجميع أن «الأوديسة» متأخِّرة عن «الإلياذة» (وهي الحقيقة الوحيدة عن قصائد هوميروس التي يتَّفق عليها «الجميع»). يَشكو أجاممنون، الذي وُضعَت قصته كقصةٍ موازية لقصة أوديسيوس في الأبيات الأولى من القصيدة، مِن قَدَرِه، الذي هو نقيض قدَر أوديسيوس. مجدَّدًا، «فَتِّش عن المرأة».
يسأل أجاممنون الخاطب أمفيميدون عما حدث، وللمرة الثالثة نسمع قصة مؤامَرة بينيلوبي. ومثلما أجْمَل هوميروس في خطوطٍ عريضة مغامَرات أوديسيوس في حديث الفراش بينه وبين بينيلوبي، في هذا المشهد يُجمِل قصة عودة أوديسيوس. يَعتقِد أمفيميدون أن بينيلوبي كانت مُشترَكةً في المؤامرة من البداية (وهو الحال الذي ربما كانت عليه في صيغٍ أخري)، ولكننا نَعرِف أنها لم تكن كذلك.
في تلك الأثناء، كان أوديسيوس قد عثر على والده المسن السقيم ليرتيس في البستان. يُلوِّعه أوديسيوس بذكريات الماضي عن ابنه المفقود، ويروي له حكايةً ملفَّقةً جديدة، مدعيًّا الآن أنه من صقلية، ثم يكشف عن شخصيته عن طريق النَّدبة وعن طريق ذكرى الأشجار التي أعطاها له ليرتيس. وكان هذا التوقيت مناسبًا؛ إذ إن أهل المدينة يَعرفون الآن بما قد جرى.
احتج نقادٌ كثيرون على النهاية الفاترة لملحمة «الأوديسة»، ولكن النهاية الفاترة أسلوب لدى هوميروس. وختام «الإلياذة» فاتر كذلك؛ «وهكذا دفنوا هيكتور مُروِّض الخيول.» لا يُمكنك أن تَقتُل زهرة شباب الجُزُر دون عاقبة، وعندما تهاجم عائلات الخُطَّاب القتلى، يَقودُهم والد الخاطب الرئيسي أنطونيوس، أوديسيوس ومعه الآن تسعة رجالٍ آخرون، يضع ليرتيس، المُنتشِي بعودة ابنه، رمحًا في دماغ الرجل. يُمكن للآلهة أن تقف خلف الأحداث، وبناءً على إلحاحٍ مِن أثينا يرمي زيوس صاعقة بين الفريقَين. وهو ما جعلهم يتوقَّفون فجأةً عما يقومون به. لقد عاد أوديسيوس. وهو زوج بينيلوبي. وهو سيد إيثاكا، التي هي أرضٌ لا تَصلُح للخيول. وتنتهي القصة.