الخاتمة والمُلَخَّص: قصيدتا هوميروس المتكاملتان
تدور أحداث «الإلياذة» حول رجالٍ في حرب. منذ بدء البشرية، متى بدأت، كانت الحرب امتيازًا خاصًّا بالذكور. ولا يُعتقَد أنه قد يكون ثَمَّةَ عالَمٌ من دون حرب — من قبيل العبث الاعتقاد بذلك — ولكن معاناتها تقفُ على طرف النقيض من سُبُل السلام الرقيقة، عندما كانت النساء الطرواديَّات يَغسلن ثيابهن عند المَجاري المائية التي تنساب ساخنة وباردة، والتي مرَّ بها آخيل وهو يُطارد هيكتور حتى قتله. الحرب هي ما يفعله الرجال؛ حيث يموتون بطرقٍ مُروِّعة، بينما تَرقب النساء مصائرهن بأن يَصرْنَ أرامل أو تُمسك بهنَّ أيادي السُّباةِ العنيفة، الذين سوف يغتصبونهنَّ ويَستعبدونهنَّ. يُعطي زيوس، حسبما يذكر آخيل في مشهد «فدية هيكتور»، للبعض نصيبًا كلُّه من الشرور، ولكن آخرِين ينالون بعض الخير إلى جانب الشر. لقد كانت «الإلياذة»، في تشاؤمها العنيد الخالي من القواعد حيال نضال البشر الفانِين، تتناول الحياة الواقعية، وما زالت عن الحياة الواقعية.
إننا نَستمتِع بدراسة القصيدة؛ لأننا نتعرَّف على العالم الذي تُصوِّره. الخوف هو عدو الجميع، كما نَعرِف في الخُطب الحماسية العديدة في «الإلياذة»، لكن المُحارِب يتغلَّب على خوفه. فهو شخصٌ واقعي. في «الإلياذة» يَضرب هذا القانون البطولي، كما يُطلَق عليه، عُرْض الحائط بالدولة الناشئة التي لا تَعتمِد فيها القوة والاحترام اعتمادًا كاملًا على الرجولة، وإنما على الاتفاق العام على أنَّ السلطة المركزية هي للصالح العام. وعلى حُجة أجاممنون بُنيَت أنظمة ستالين وهتلر وماو الاستبدادية الحديثة. ومن المؤكَّد أن آخيل لا يُعجبه ما تَعني الدولة الناشئة بالنسبة إليه؛ وهو إذلاله.
قد نتفق على أن أجاممنون هو أوَّلُ بين أندادٍ، ولكنه يتصرَّف مثل لصٍّ ليُثبِت رجولته على حساب آخر، في حين أن سُلطته باعتباره رجل دولة يَجب أن تَعتمِد على أساسٍ مُختلِف. ومن ناحيةٍ أخرى فمَسلَك أجاممنون لا يُحتمَل؛ فهو يَستسلِم للغضب عندما لا يجد خيارًا أمامه إلا رد أسيرة الحرب الخاصَّة به؛ ورجل الدولة لا يجب أن يَستسلِم للغضب. فيسعى لفرض سيطرته على مَن حوله باندفاعٍ أهوج، ويَنطلِق كالمجنون، يُحطِّم الأشياء يَمنةً ويَسرة. لا شيء إلا الهدوء يمكن أن ينقذ آخيل، ولكن آخيل هو الآخر رجلٌ يتسم بالغضب. وقِسمته من شخصيته؛ فهو يزعم أن في مقدوره أن يختار مسارًا آخر، حياةً طويلة مبهمة مع أسرته هناك في فثيَّا بدلًا من المجد ووفاةً مُبكِّرة وأنشودةً في مسامع الرجال، لكنه لا يملك أي خياراتٍ ولم يفعل أبدًا.
ذلك هو السبب في أن مسلك أجاممنون الشنيع يُزلزل نفس آخيل. فآخيل يُدافع عن الحرية. إن أجاممنون يَسلبُه مجدَه عن طريق السلطة التعسُّفية للدولة الوليدة. لا يستطيع آخيل أن يَقتلَه (رغم أن نفسه تُراوده أن يفعل)، إن كان يَودُّ بأي حالٍ أن يُعيدَ سُؤدُده إلى سابق عهده، وأثينا تُؤكِّد له هذا. وفي الوقت الذي يتصرَّف فيه أجاممنون بطريقةٍ شائنة، يقف أصدقاء آخيل المزعومين لا يُحرِّكون ساكنًا ويُحدِّقون ببلاهة. إنهم مذنبون شأنهم شأن أجاممنون بالتآمُر لسلب كل ذَرَّة هدفٍ من حياة آخيل.
وكونه رجلًا سِمَته الغضب يُلاحق آخيل هيكتور ويقتله. ولا يتخلى عن غضبه إلا عندما يأتي بريام إلى خيمتِه، الأمر الذي يُمثِّل حل عقدة القصة. ربما كان سيقتل بريام، بل ربما كان ينبغي عليه أن يفعل هذا؛ فها هو والد الرجل الذي قتل صديقه. ولا يقتله لأنه يرى أنهما في حزنهما متماثلان. فينتحبان معًا، ويأكلان معًا، ويذهب الغضب، على الأقل في تلك البُرهة. وتبلغ القصة منتهاها. ليس الدرس الأخلاقي «لا تغضب» هو ما يهز مشاعرنا، وإنما مشهد رجلٍ توصل إلى فَهمٍ حيال وَحدة الحياة البشرية.
في «الإلياذة» يتصارع أرستقراطيون في لعبة الشرف، ولكن في «الأوديسة» رجلٌ واحد، بمفرده، يُواجه العالم ويواجه الموت ذاته، الموت الذي سوف يبتلع آخيل في لحظة. وينجو أوديسيوس. لا يستسلم أوديسيوس للغضب مطلقًا، وإنما يبتلع مشاعر الاستياء المحتدمة، ويُخطِّط مُستعينًا بالسرية ليُحقِّق بالنصر. ويُحققه بالفعل.
يَمزج هوميروس بحنكة ومهارة مذهلتَين، بطل الحكاية الشعبية الذي يُقاتل الوحوش ويُقاوم الحسناوات مع المُقاتل الطروادي الذي يُدمِّر الأعداء بواسطة البراعة العسكرية. ويُحقِّق هذا الدمج بوضع حكاياتٍ على لسان أوديسيوس عن مجابهاته التي تتخذ طابع الحكايات الشعبية، واضعًا إياها على خطٍّ واحد في السرد. ويُشبِّهه أنطونيوس بوضوح بمُنشدٍ ملحمي يفتن الجمهور. ولعل من الأفكار المحورية الطاغية في «الأوديسة» عظمة الإنشاد ومكانته المِحورية في الثقافة في حين أنه، باستثناء شخصية ثاموريس المُبهَمة المذكورة في «قائمة السفن»، يبدو أنه لا وجود للمُنشِد الملحمي في «الإلياذة» (يُنشِد آخيل عن «مآثر الرجال المجيدة» بمصاحبة قيثارة (الإلياذة، ٩، ١٨٩)، ولكن آخيل ليس مُنشِدًا ملحميًّا).
تحدُث المغامرات في أرضٍ خيالية حيث لا تجري الأمور مثلما تجري في عالَمنا. فعلى جزيرة سيرس لا يُمكنك أن تَكتشِف موضع شروق الشمس وموضع غروبها. تقف أرض الفياشيِّين، حيث يُنشِد أوديسيوس المُنشِد الملحَمي أنشودته، على أرضيةٍ مُشتركة؛ فهي لا تزال مملكةً خيالية بوجود حيواناتٍ معدنية نابِضة بالحياة تقف أمام الأبواب وسفنٍ سحرية تُوجِّه نفسها ذاتيًّا، ولكن لا وجود لأكلة لحوم البشر والوحوش والنساء المُغرِيات المُندفِعات. وأخيرًا، إيثاكا هي ما يُمكِن أن ندعوه العالم الواقعي (رغم أنه لا يزال ثَمَّةَ مُتَّسَع لإلهاتٍ مُتنكِّرات). بعبارات أشمل، إن رحلة أوديسيوس تأخذه إلى داخل عالَم الرموز وعالم الأشباح، ثم تعود به عبر منزلٍ انتقالي (كوخ إيومايوس) إلى الأفعال الهمجية الرتيبة لإيروس المُتسوِّل، وميلانثيوس الوضيع، والشهوات الفجَّة لشبانٍ لا يَملكون الحكمة.
إنَّ موت البطل وميلاده من جديد، كما رأينا، من الموضوعات المِحورية الرئيسية في رحلة أوديسيوس إلى وسط المحيط والعودة إلى المِدفأة والأهل، ولكن استطرادًا يمكننا أن نقول إن رحلته هي رحلة كل الذكور. يدخل أوديسيوس إلى كهوف، ويغلبه النعاس، ويُستدرج بواسطة أغنية وامرأة. ودائمًا ما يكون انتصاره، الذي يُميِّزه التعرُّف والتلفُّظ باسمه، عبارة عن حياةٍ جديدة. وفي النهاية يضع يدَه على امرأته ويُسيطر على منزله.
يَرتقِب آخيل الفناء على يد الموت، وهي العاقبة المنطقية للاختيارات التي يتَّخذها. وهو مهووسٌ بمَغزى سلوكه ومِن ثَمَّ غير عابئ بالعالم المادي، ولا بغنائم أجاممنون ولا بفدية بريام. يتحدَّى أوديسيوس الموت ويسعى إلى تحقيق الثراء؛ فالكنز يُساوي الحياة، ويعود إلى الديار بقسطٍ هائل منه مِن عند الفياشيِّين، ربما أكثر مما جلبه من طروادة. ورغم تلهُّفه على العودة، كان أوديسيوس يَسعد بأن يُمضي عامًا إضافيًّا على جزيرة سكيريا، حسبما قال ذات مرة، إن كان ذلك مِن شأنه أن يَزيد غنيمته. ومع ذلك يضع الكنز في كهف ويَنسى أمره تمامًا. فالكنز الأعظم ما زال ينتظره، وهو المنزل، بقُطعانه وعبيده، ومباهج الحياة الأسرية ونفوذ السلطة الاجتماعية. ولم يكن لدى آخيل أي اهتمامٍ عَمليٍّ بمصادر الأمان.
تُشكِّل «الإلياذة» و«الأوديسة» حقًّا نوعًا من الوحدة الكاملة؛ فإحداهما تضع علامات استفهام حول أساس القيم التي نَقبلها دون تساؤلات، والأخرى تُؤكِّد قيم الملكية والأسرة واستمرارية الحياة. ودائمًا ما تملأ «الأوديسة» الفجوات في سرد «الإلياذة»، فتمنحنا نهاية القصة. فنعرف ما حدث لأجاممنون ومينلاوس ونيستور وأياس الأدنى شأنًا (ابن أويليوس) وأياس الأعظم شأنًا (ابن تيلامون). ونعرف بشأن موت آخيل، بل نتحدَّث معه عند حُفرة الدماء. ونسمع قصة حصان طروادة وكيف وَصلَت الحرب إلى نهايتها. ونرى هيلين وقد عادَت مُستقرَّة في البيت، وما زالت تتحكَّم في زمام الأمور بفتنتِها وعقاقيرها. فيما مضى اعتقد الباحثون أن «شاعر «الأوديسة»» كان مُتأثرًا ﺑ «شاعر «الإلياذة»»، وأنه شرع عن وعيٍ في استكمال حكايته. وأفضل شاعرٍ قادر على القيام بذلك هو هوميروس نفسه. فهو يُقدِّم لنا في قصيدتَيه رؤيةً متكاملة للحياة البشرية بكل ما فيها من هول وعذوبة وتعقيد.