الملاحم الهوميرية عند الفلاسفة والشعراء
إنَّ رؤية هوميروس الشاملة جعلت الملاحم الهوميرية هي «العمل الكلاسيكي»، والقصة الواحدة، والقصيدتَين اللتَين يتَّفق الجميع على أنهما تستحقان الدراسة. بيْد أن الخصائص التي نبحث عنها، ونستمتع بها، لدى هوميروس، مختلفة نوعًا ما عما وجده القدماء أنفسهم لدى الشاعر. في هذا الفصل الأخير دعونا نأخذ لمحةً سريعة عن تأثير هوميروس وكيفية فهم وتفسير بعض المُفكِّرِين والشعراء اللاحقِين في العالم القديم لقصائده.
(١) هوميروس والفلاسفة
سبق أن أشرنا إلى انتقادات المُفكِّر زينوفانيس في القرن السادس قبل الميلاد، ذاك الذي بدأ تقليدًا من الهوَس الفلسفي بهوميروس سيستمر ألفَي سنة. بعد زينوفانيس ربما بخمسين عامًا أشار هرقليطس الإفسوسي (حوالي ٥٣٥–٤٧٥ قبل الميلاد) إلى أن «الرجال يَرتكبون أخطاءً فيما يتعلَّق بمعرفة الأشياء المنظورة … [حتى] هوميروس، الذي كان أحكم اليونانيِّين» (شذرة رقم ٥٦ بترقيم ديلز-كرانز). من وجهة نظر الفيلسوف القديم هرقليطس أن «هوميروس ينبغي أن يُستبعد ويُزاح من المنافَسات، وبرفقته أرخيلوخوس.» كان هوميروس، ومعه هيسيود، يُمثِّل الثقافة العتيقة الطراز، والرجعية، واللاأخلاقية التي كان الفكر الجديد لفلسفة ما قبل سقراط يُكافحها. يُشير هرقليطس إلى «المنافسات»، أي المسابقات الشعرية التي كان من شأن الرابسوديِّين فيها أن يتلوا نصوصًا من الذاكرة من شِعرٍ سُداسي التفعيلة في تنافُس مع شعراء غنائيِّين مثل أرخيلوخوس (حوالي ٦٨٠–٦٣٥ قبل الميلاد). اعتقد هرقليطس أنه في بيئةٍ كهذه كان التأثير السيِّئ للشعراء عظيمًا.
بعد ذلك بمائة عام نقَّح أفلاطون (حوالي ٤٢٧–٣٤٧ قبل الميلاد)، مستعينًا بسقراط كناطقٍ بلسانه، الاعتراضاتِ الفلسفيةَ على هوميروس، ولكنه ركَّز على هوميروس في قاعات الدرس وليس في المنافسات العامة. فالقصَص التي تَعرِض الموت على أنه شر، أو تُظهِر قادةً هم مَضربٌ للمثل تَستحوِذ عليهم مشاعرُ جبانةٌ من المؤكَّد أنها لن تُلهِم القادة بأن الدولة بحاجة إلى الازدهار (كتاب «الجمهورية»، ٣٨٦أ–٣٨٩أ). ثانيًا إنَّ تصوير هوميروس للحقيقة باطلٌ تمامًا ونظريته اللاهوتية ذات ضررٍ مُدمِّر (كتاب «الجمهورية»، ٣٧٦ﻫ–٣٨٣أ). ومِن موقفِه تجاه هوميروس نما عداء أفلاطون نحو فن المحاكاة («التقليد» أو «التمثيل»)؛ فالعالم الذي تَنقلُه حواسُّنا إلينا مُنعزلٌ بالفعل عن العالَم الحقيقي المثالي المُختفي وراءه، الذي يُمثِّل العالَمَ الحسِّيَّ إسقاطًا عليه. لا يزال فن المحاكاة، الذي يَستنسِخ العالم الخادِع الحسي، على مسافةٍ أَبعَدَ من الحقيقة؛ كما لو أنَّ المرء صنع فيلمًا بتصوير فيلمٍ سينمائي. كيف يُمكن للمرء بأي حال أن يصلَ إلى الحقيقة عبر فنٍّ من هذا النوع، سواءٌ أكان شعرًا أم رسمًا أم نحتًا؟ وارتأى أفلاطون أن مِن الضروري استبعاد هوميروس المُخادِع الهمجي من المناهج التعليمية المدرسية، فيما يُعَد شهادة على أهميته في تلك المناهج التعليمية.
لم يُواصِل أرسطو (حوالي ٣٨٤–٣٢٢ قبل الميلاد) تشويه أفلاطون لسُمعة هوميروس، وإنما كان أول من جمع مجموعةً مِن «المسائل الهوميرية» أو المُعضِلات، المُوجَّهة نحو الكلمات الصعبة، ونقاط التحوُّل في الحبكة، مصحوبةً ﺑ «حل» لكل مُعضلة. فُقِد العمل، ولكنَّ بعضًا منه ربما يكون قد بقيَ على هيئة ملاحظاتٍ هامِشية لدى المُعلِّقِين القدماء. لقد ابتكَر أرسطو نوعًا جديدًا من البحث، يُعتبَر هذا الكتاب تابعًا بعيدًا له، وهو التعليق الهوميري.
مِن المؤكَّد أن وسائل التأويل هذه تَطمس المعنى الحرفي، مما يُمكِّننا من القضاء على أي أثر للانحراف الأخلاقي من القصائد، حتى يتسنى لنا في كلا العملَين أن نَسمع صوتًا يتكلَّم بسلطةٍ أخلاقية.
ولكن التفسير الرواقي الذي غالبًا ما يكون تخيليًّا لم يَتصدَّ حقًّا للاعتراضات الأفلاطونية على القصائد الهوميرية؛ لأنَّ أفلاطون لم يرغب في أن يُدخِل هذه الحكايات الباطلة/التخيلية عن الآلهة إلى منهجه التعليمي «سواءٌ أكانت مجازيةً أم لا» (كتاب «الجمهورية» ٣٧٨د).
(٢) هوميروس والشعراء
لا يُمكِننا أن نتتبَّع تفصيلًا التفاعُل بين هوميروس وبين شعراء التفعيلة السُّداسية والشعراء الغنائيِّين الذي اتبعوه في القرنَين السابع والسادس قبل الميلاد. أولًا، إنَّ آثار هؤلاء الشعراء هي عبارة عن شذراتٍ ضئيلة طفيفة، ولكنها غالبًا ما تكون طيبة. ثانيًا لسْنا مُتيقِّنِين على الإطلاق مما تَعنيه الإشارة إلى «قصائد هوميروس» في هذا الوقت؛ لأنه إلى جانب «الإلياذة» و«الأوديسة» نُسبَت قصائدُ عديدة إلى هوميروس، مثال ذلك بعضٌ من «التراتيل الهوميرية» (مؤلِّفوها الحقيقيون مجهولون) وبعض القصائد الملحمية الأخرى.
نعلَم أن زينوفانيس الأقدم (الذي كان يَكتب نَظمًا) أخذ هوميروس بجريرة فكرِه اللاهوتي العبثي، كما رأينا، وأن أقدَم (أو شبه أقدم) كاتبٍ نثريٍّ يوناني وهو هيرودوت (حوالي ٤٨٤–٤٢٤ قبل الميلاد) كان يُحاوِل بالفعل أن يَفصل الحقيقة عن الخيال في الأعمال التراثية المُتعلِّقة بهوميروس. فهو يُنكِر تأليف هوميروس للقصيدة المُنتمية إلى دائرة الملاحم التي يُطلَق عليها على نحوٍ غامض «السِّبريا (الملحمة القبرصية)»، و«قصيدة أفروديت» (؟) اللتَين تتناوَلان الأحداث التي أدَّت إلى ظهور «الإلياذة» (كتاب «التاريخ» لهيرودوت، ٢، ١١٧). وعلى أي حال تَنسِب مصادر أخرى «السِّبريا» إلى ستاسينوس القُبرصي (أوائل القرن السابع قبل الميلاد؟) نفى هيرودوت أيضًا تأليف هوميروس لقصيدةٍ عن دمار طيبة تُدعى «إبيجوني» (وتعني «التابعِين»، ويُطلَق عليهم هذا الاسم لأنَّهم كانوا يَنتمُون إلى الجيل التالي لأولئك الذين قاتَلوا في معركة السبعة الكارثية ضد طيبة: ٤، ١١٧). ولا أقلَّ من أن يَنسب أرسطو لهوميروس قصيدةً هزْليةً ساخرةً مفقودة نُظمَت على وزنٍ سداسي ممزوجٍ بأبيات إيامبية (الإيامبية هي تفعيلة ذات مقطعَين أولهما قصير والثاني طويل وهكذا) وتلك القصيدة تُسمَّى «مرجيتس» (وتعني «الأبله») نسبةً إلى بطلها الأحمق (كتاب «فن الشعر» لأرسطو، القِسْم ١٤٤٨ب). ينشأ مثل هذا الانتحال وتلك الإسنادات الباطلة مباشرةً من دور هوميروس المِحوري في التعليم اليوناني، ومن الجائز أن يكون ذلك منذ لحظة اختراع الأبجدية، حينما شَكَّلَت نصوص «الإلياذة» و«الأوديسة»، أو مُقتطَفاتٌ منها، على ما يبدو، أساس الدراسة. ولمَّا كانت «الإلياذة» و«الأوديسة» أول نصوصٍ أبجدية، وكانتا ذاتَي وزنٍ سداسي، نُسبَت نصوصٌ أخرى منظومة على وزنٍ سداسي إلى «هوميروس» بطبيعة الحال، ولكن بالقطع ليسَت كلها. ففي أغلب الأحيان نُسبَت قصائد دائرة الملاحم الست إلى آخرِين: فنُسِبَت «السِّبريا» إلى ستاسينوس، في حين نَظَم أركتينوس من ميليتُس قصيدة «إثيوبيس» (قصة البطل مِمنون) و«خراب طروادة» (حوالي ٦٥٠ قبل الميلاد؟) ونَظَم لِسكيس (أو: لِسشيس) «الإلياذة الصُّغرى» (حوالي ٦٧٥ قبل الميلاد؟) التي يبدو أنها تحوي قصصًا مُستفيضة عن نهاية المدينة، ونَظَم أجياس من ترويزينيا (في شبه جزيرة بيلوبونيز) «العودة للوطن» («النوستوي»، حوالي ٦٠٠ قبل الميلاد؟) وتشتمل على قصة مقتل أجاممنون، ونَظَم يوجامون السيريني «التليجونيا»، التي تُتابِع من حيث تتوقف «الأوديسة» (حوالي ٥٦٠ قبل الميلاد؟).
لا نعرف الكثير بشأن قصائد دائرة الملاحم؛ فقد كُتب البقاء لملخصاتٍ في كتابات فيلسوف من القرن الخامس الميلادي من فلاسفة الأفلاطونية المُحدَّثة (برقلس، ٤١٢–٤٨٥)، أمَّا بخلاف ذلك فلا يصل إلينا إلا أبياتٌ مُتناثِرة. والأهم من كل ذلك أننا لا نَعرف موقف هذه القصائد إزاء «نصوص» القصائد الهوميرية؛ فرغم ما يبدو من أنها تَملأ فجواتٍ خلَّفَتها «الإلياذة» و«الأوديسة» في سرد الملحمة الكامِلة لطروادة، ورغم أن اليونانيِّين أنفسهم فهموا قصائد دائرة الملاحم على هذا النحو، فمن المُحتمَل أن يكون بعض هذه القصائد أو كلها قد دُوِّن بمعزِل عن أي معرفةٍ بنصوص قصائد هوميروس. قد تكون قصيدةٌ واحدة، وهي التي تُعرَف باسم «الإلياذة الصغرى»، قد كرَّرَت أحداثًا في ملحمة «الإلياذة» الطويلة التي لا تزال باقية، ومن المُمكن أن نكون متأكدِين من وجود تداخلاتٍ مع قصائدَ أخرى من دائرة الملاحم. إننا نملك معلوماتٍ ضئيلةً مما لا يسمح لنا بالتوصُّل إلى استنتاجاتٍ موثوقة عن العلاقة بين نصوص «الإلياذة» و«الأوديسة»، التي كُتب لها البقاء، ونصوص قصائد دائرة الملاحم، التي لم يَكتُب لها القَدَر أن تصلَ إلى زمننا هذا.
إننا نَحصُل على أفضل المعلومات لدينا عن منزلة هوميروس في أوائل القرن الخامس قبل الميلاد من بِندار (حوالي ٥٢٢–٤٤٣ قبل الميلاد)، الذي بقيَ مِن مجموعة كتاباته التي كانت غزيرةً فيما مضى مجموعةٌ من القصائد ما زالت تحتفظ بأهميتها، والتي نُظمَت لرقص الجَوقة احتفالًا بالفائزِين من الرياضيِّين. إن بِندار يفصله ثلاثمائة سنة عن اختراع الأبجدية اليونانية، وفي جيله، أو في فترةٍ قريبة منه، اختفى آخر المُنشدِين المَلحميِّين. كان الشعر في زمن بِندار قد صار لفترةٍ طويلة يُصاغ كتابةً على ألواحٍ من الشمع وعلى البَردي. وكان يُعاد إنتاج النسخة المكتوبة على البردي إلى نُسخٍ متعدِّدة كان أعضاء الجَوقة، الذين قد يصلُ عددهم إلى خمسين، يَحفظون منها الأغنية. ولكن تعليم بِندار، شأنه شأن تعليم أي يوناني، كان يقوم على قراءة «شعر هوميروس».
يُشير بِندار إلى هوميروس ثلاث مرات بالاسم بينما يُشير مرةً واحدةً إلى الهوميروسيِّين، سليلِي هوميروس، وهي المرة الأولى التي نَسمع فيها عنهم. للأسف لا نَعرف أيَّ شيءٍ آخر عن الهوميروسيِّين ولا يُمكننا أن نَستنتِج مِن الاسم إن كانوا يَنحدِرُون من نسْل هوميروس، أم إنهم فقط سُمُّوا بهذا الاسم تيمنًا به. يَتصوَّر الغالبية أنهم كانوا يَملِكون نُسخًا قديمة من النصوص الكاملة «للإلياذة» و«الأوديسة». ربما يكون بيسيستراتوس قد اقتَنى نُسخًا منهما في أواسط القرن السادس قبل الميلاد لمهرجانِه المُسمَّى بمهرجان عموم أثينا، الذي كانت القصائد تُلقى فيه.
كانت قصائد دائرة الملاحم الأقصر، التي دُوِّنَت إملَاءً مِن المُنشدِين الملحميِّين في القرنين السابع والسادس وربما حتى القرن الخامس قبل الميلاد، التي تضمُّ موضوعاتٍ طرواديةً أو قصائد تدور حول خراب مدينة طيبة ذات البوابات السبع، معروفةً لدى يونانيِّي الحِقبة القديمة على نحوٍ أفضل من «الإلياذة» أو «الأوديسة» وكانت مصدر إلهام للكثير مِن المَشاهد المعتادة على الآنية الفخارية اليونانية ذات الرسوم. عندما قال إسخيلوس (حوالي ٥٢٥–٤٥٦ قبل الميلاد) إنَّ مسرحياته كانت «شرائح من وليمة هوميروس» (أثينايوس ٨، ٣٤٧ﻫ)، كان يقصد أنه كان يسرق حَبكاتٍ من هذه القصائد، وليس من «الإلياذة» و«الأوديسة»، اللتَين كان اهتمام إسخيلوس بهما ضئيلًا. في إحدى الثلاثيات (مجموعة من ثلاث مسرحيات)، قَدَّم إسخيلوس بالفعل للجمهور قصة نزاع آخيل، ومنْحه لدروعه المرسلة من السماء، وافتداء هيكتور، ولكن لم تَعتمِد أي مسرحيةٍ أُخرى من مسرحياته الثمانين على «الإلياذة» أو «الأوديسة». سوفوكليس ويوربيديس أيضًا أخذا حبكاتهما من قصائد دائرة الملاحم ودائرة ملاحم طِيبة، وليس من «الإلياذة» و«الأوديسة». ولعلَّ أحد الأسباب وراء ذلك أن الملاحم الطويلة كان لها بالفعل مكانتها الخاصة في مهرجان عموم أثينا، والسبب الآخر أن هذه القصائد الطويلة احتوت على عددٍ قليل من القصص الملائمة لوضعها في قالبٍ درامي، وهو ما لُوحظ لأول مرة من قِبل أرسطو (كتاب «فن الشعر» لأرسطو، القِسْم ١٤٥١أ).
إنَّ المحاكاة هي إحدى مُكتسبات تقليدٍ يعرف القراءة والكتابة معرفةً تامة، و«الإلياذة» و«الأوديسة» شاسِعتان وهائلتا الحجم على نحوٍ لا يُشجِّع على المحاكاة المباشِرة. ولماذا تَفعل ذلك؟ لوقتٍ طويل، لم يفعل أحدٌ ذلك. عندما يحاكي المرء في الأدب، يكون الهدف أن يَفهم القارئ أن ذلك هو ما تفعله. ثَمَّةَ كلمةٌ مُنمَّقة للدلالة على المحاكاة الهادفة هي «التناصُّ»، التي تعني أنك عندما تقرأ كتابًا، تُفكِّر بآخر. لا يُوجَد «تناصٌّ» في التقليد الشفاهي؛ لأنه ليس ثَمَّةَ نصوص. وأول ما نجد التناص نجده في أثينا في القرن الخامس، حيث كان الترفيه شفاهيًّا ولكنه يقوم على نصوصٍ كانت مُتداوَلة في المدارس، حيث كانت تُدرَس تلك النصوص وتُحفَظ. ولذلك كان في مقدور أرسطوفانيس، عملاق الكوميديا الأثينية القديمة، أن يضع محاكاةً ساخرةً لبيتٍ شِعري ليوربيديس يُقال في مسرحية أُدِّيَت مرةً واحدة فقط قبل أعوام ويظل يَتوقَّع أن يَنتزع ضحكات جمهوره.
في زمن أبولونيوس كانت ظروف الحياة في منطقة البحر المتوسط قد تَغيَّرَت تغيُّرًا تامًّا منذ زمن هوميروس. ففيما بعد فتوحات الإسكندر (٣٥٦–٣٢٣ قبل الميلاد)، عاش القادة الفكريون للتراث الهيليني في أرضٍ غريبة. كان المُنشِدون المَلحميُّون قد رحلوا إلى الأبد، وكذلك الطبقات الأرستقراطية القروية التي كانوا يَخدمونها. كانت الإسكندرية عاصمة واحدةٍ مِن أقوى المَمالك في التاريخ، وكانت غارقةً في الثروة ويَدفعها طموحٌ ثقافي. وقعَت قوةٌ هائلة لا تَنضب في أيدي رجال مُنفردِين، وكان بطالمة مصر سُعداء بإنفاقها على التحسين الثقافي. وفي غضون مائة عامٍ من تأسيسها في حوالي ٣٣٤ قبل الميلاد كانت الإسكندرية قد أصبحَت أكبر المدن وأكثرها ثراءً وثقافةً في العالم. لذلك انتقل شعراء الحِقبة الهلِّينستية العِظام إلى هناك وتولَّوا مناصب في الموزيون، «معبد الميوزات (إلهات الإلهام)».
بالطبع تَعلَّم أبولونيوس الرودسي، الذي كان يَشغل وظيفة أمين مكتبة في الموزيون على الأرجح فيما بين عامَي ٢٧٠ و٢٤٥ قبل الميلاد، شِعرَه من الكتب ولم يعرف شيئًا البتَّة عن الأصول الشفاهية لقصائد هوميروس. وتعامل مع النصوص المنقولة باعتبارها كلاسيكياتٍ أدبيةً تَستحِق دراسةً جادة، واهتمامًا وثيقًا، ومحاكاةً قائمةً على الإعجاب. ابتكر أمناء المكتبات الهلِّينستيون من أمثال مُعلِّم أبولونيوس، العلَّامة والشاعر العظيم كاليماخوس (حوالي ٣٠٥–٢٤٠ قبل الميلاد)، في هذا الوقت تصنيفاتٍ معاصرةً للنوع الأدبي: «التراجيديا»، و«الكوميديا»، و«الملحمة»، و«الشعر الغنائي»، و«الجَوقة»، و«التقليد الساخر»، إلى غير ذلك. وما زلنا نُميِّز معظم هذه الأنواع الأدبية. احتاج أمناء المَكتبات بالإسكندرية إلى أن يُنسِّقوا على رفوفهم لفائف بردي مليئةً بنصوصٍ أدبيةٍ مُتنوِّعة جاءتهم مِن كل أنحاء العالم الناطقة باليونانية، اقتُنيَت بعطاءٍ من الملك؛ لذا احتاجُوا إلى تصنيفاتٍ يكون باستطاعتهم تجميع هذه النصوص فيها.
كانت القصائد الهوميرية عند أبولونيوس هي مصدر تعريف الملحمة كنوعٍ أدبي؛ فهي قصيدةٌ طويلة عن المغامرة والحرب تتدخَّل فيها الآلهة ويَحمِل فيها الأبطال نعوتًا دباجيةً في بيتٍ من اثنتَي عشرة فاصلةً مُصاغٍ من التفعيلات الدكتيلية والتفعيلات السبوندية. تَنقسِم ملحمة «أرجونوتيكا» مِن نظْم أبولونيوس، التي يَبلُغ طولها حوالي ٦٠٠٠ بيت، إلى أربعة كتب. تروي القصيدة قصة رحلة جيسون إلى مملكة كولخيس في أقصى شرق البحر الأسود لاستعادة الصوف الذهبي، وعلاقته الغرامية مع الساحرة ميديا، ومشكلاته في العودة للوطن. لا نَعرف ما الذي قد جعل أبولونيوس يكتب قصيدةً كتلك، ولا الكيفية التي انتشرت بها تحديدًا، ولكن لا بدَّ وأن الفكرة الرئيسة الأسطورية التي تدور حول جولات جيسون في بلادٍ غريبة، على غرار «أوديسة» هوميروس، اتخَذَت معنًى جديدًا لدى اليونانيِّين الذين يعيشون حاليًّا في أرض مصر الغريبة، حيث كانوا عُرضةً للخطر والغواية.
ولكن أمامهم مباشرة كان الأفعوان بعينَيه الثاقبتَين اليقظتَين يراهم قادمِين ومدَّ رقبته الطويلة وفَحَّ فحيحًا مرعبًا، وتردَّد الصوت على امتداد ضفاف النهر العالية وعبر الغابة اللامتناهية. سمعه أولئك الذين كانوا يعيشون في أرض كولخيس بعيدًا جدًّا عن أرض تيتانيان أيا [حيث كان يُوجد الصوف]، التي تُوجَد بالقُرب من نهر ليكوس المتدفِّق، النهر الذي يتشعَّب من عند نهر أراكسيس ذي الهدير الصاخب ويَمزج مجراه المُقدَّس بنهر فاسيس، ويتدفَّق كلاهما معًا كنهرٍ واحد ويَصُبَّان مياههما في البحر القوقازي. وبدافع الخوف استيقَظَت الأمهات الشابات، ومدَدنَ أيديهنَّ في ذعرٍ كأنما يَدفعنه بعيدًا عن أطفالهن حديثي الولادة، النائمِين بين أذرعهن، وارتَعدَت أطرافهن من الفحيح. (أرجونوتيكا، ٤، ١٢٨–١٣٨)
لعلَّه كان مقصودًا في هذا الوصف أن نتذكَّر عندما صاح آخيل من السور بصوتٍ عالٍ حتى إنَّ اثنَي عشر رجلًا سقطوا صرعى (الإلياذة، ١٨، ٢٣٠)، ولكن هوميروس لم يكن ليسمح بوجود تنِّين في قصائده، وحتى العناصر الخيالية لرحلة أوديسيوس تُروى بشكلٍ منفصل عن صوت المُؤلِّف، ولا نجد مطلقًا مثل هذه التأثيرات المبالَغ فيها. كان هوميروس يحبُّ القوائم، التي من شأن الأسماء التي تَشتمِل عليها أن تكون غامضةً على القارئ المُعاصر في الإسكندرية؛ لذا يُدرج أبولونيوس ثلاثة أنهار وبحرًا واحدًا غامضِين وبعيدِين، مُستدعيًا معرفةً نخبوية عن جغرافيا لا يعرف بشأنها إلا قليلون. لا يدعو أبولونيوس البحر الأسود باسم البنطس، وإنما باسمٍ أكثر «شاعرية» وهو البحر القوقازي؛ لأنَّ جبال القوقاز تقف مُنتصِبةً عند الحافَّة الشرقية للبحر الأسود، كما سوف يُدرِك جمهور أبولونيوس المُثقَّف. وهذا التحوُّل المفاجئ من وصفِ الأنهار البعيدة، حيث كان يُسمَع صوت فحيح التنِّين، إلى رعب أمهاتٍ يَحمين أطفالهن يُذكِّرنا بأندروماك وأستياناكس، ولكن هذه الفقرة النمطية غير هوميرية إلى حدٍّ كبير في تناوُلها لشعورٍ وجدانيٍّ عميق، ولتأثيرها المبالَغ فيه.
كذلك قدَّم أبولونيوس موضوعاتٍ سرديةً عصرية في تصويره لضَعف جيسون غير البطولي وقوة ميديا غير الأنثوية. وفي حين يصفُ هوميروس في إسهابٍ شهير الدرع التي يتلقاها آخيل من السماء حتى يتمكَّن من قتْل هيكتور، يُسهِب أبولونيوس في وصف عباءة جيسون (أرجونوتيكا، ١، ٧٢١–٧٦٧)، التي سوف يَستخدمها ليُغطِّي نفسه وملكة ليمنوس وهما يتطارَحان الغرام!
(٣) هوميروس في إيطاليا
ومع ذلك تُورد مصادرنا أنه في القرن الثالث قبل الميلاد تَرجم الروماني ليفيوس أندرونيكوس (حوالي ٢٨٤–٢٠٤ قبل الميلاد) — الذي كان على الأرجح يُونانيًّا من جنوب إيطاليا استعبده رومانيٌّ يُدعى ليفيوس بعد الاستيلاء على مدينة تارينتوم في سنة ٢٧٢ قبل الميلاد — «الأوديسة» إلى اللغة اللاتينية لأول مرة. لا بدَّ وأنها كانت نسخةً مُختصرة إلى حدٍّ كبير؛ كوننا نعرف أن حَجمها كان مناسبًا لتُكتَب على لفيفةٍ مُنفِردة. استخدم أندرونيكوس وزنًا شعريًّا لاتينيًّا مُرسَلًا يُسمى الوزن الزُّحَلي، الذي يُرجَّح أنه سُمِّي بهذا الاسم لأنه كان قديمًا قِدَم زُحَل. لسنا مُتأكِّدِين بشأن منشأ الشعر الزحلي بل من كيفية عمله. فلم تُكتب النجاة إلا لعددٍ قليل من الأبيات، ولكن ترجمة ليفيوس أندرونيكوس لملحمة «الأوديسة» هي أول قصيدة باللغة اللاتينية، على حدِّ علمنا، على الرغم من أن أندرونيكوس كان يونانيًّا والقصيدة مُستمَدة مِن أصلٍ يوناني. ليس في وُسعنا إلا التكهُّن بشأن السبب الذي دفَعَ أندرونيكوس لفعل شيءٍ مِن هذا القبيل، ولكن من المُؤكَّد أن أسطورة أوديسيوس كانت على صِلَةٍ وثيقة بأساطير عن إيطاليا في الأزمنة الأولى، حيث كانت تدور مغامراته حسبما يُعتقَد. وثَمَّةَ أماكنُ عدة في جنوب إيطاليا يُزعم أنها مُسمَّاة بأسماء رجال أوديسيوس. بل إنَّ إحدى الأساطير اليونانية كانت تحكي أن إنياس كان قد أبحر مع أوديسيوس.
لم يتمكَّن الباحثون من إعادة بناء مقدمات الأدب الروماني — أو بعبارةٍ أخرى ما حدث قبلُ ليفيوس أندرونيكوس — ولكن لا بد أن الرومان كانوا يقرءون الشعر اليوناني ذا الوزن السداسي، استنادًا إلى الرسوم الإتروسكانية وعناصر «هوميرية» أخرى في سجلِّ الفن الروماني. إذا سلَّمنا بأن الطبقة الأرستقراطية اللاتينية والإتروسكانية القديمة كانت تَفهم اللغة اليونانية، وهو الأمر المُرجَّح استنادًا لأسبابٍ أخرى، يُمكِننا أن نُعلِّل معرفتهم القديمة لموادَّ مِن هذا القبيل. في الواقع يبدو أن الطبقة الأرستقراطية الرومانية كانت تفهم دومًا اللغة اليونانية، ومن شأن أساس التعليم باللغة اليونانية لديهم أن يكون نفس أساس التعليم في اليونان ذاتها، وهو دراسة الشاعر هوميروس، الذي تُعتبر نصوصه هي الأقدم في العالم الغربي. من كان «هوميروس الروماني»؟ يتضح أن هوميروس الروماني كان هو هوميروس نفسه، على حد تعبير أحد النقاد.
لم تُلهِم منزلة هوميروس الكثير من الملاحم اللاتينية الأخرى مثلما فَعلَت منزلة فيرجيل التي كانت إلهامًا لملاحم مثل «فارساليا» للشاعر لوكانوس (٣٩–٦٥ ميلاديًّا)، عن الحرب الأهلية الرومانية، وملحمة «ثيبيد» للشاعر ستاتشيوس (٤٥–٩٦ ميلاديًّا)، عن أسطورة السبعة ضد طيبة. أثناء عصر النهضة كان نموذج فيرجيل القوي مصدر إلهامٍ لملاحمَ إيطالية وأكسبه حق إرشاد دانتي إلى العالم السُّفلي وفي الصعود إلى جبل المَطهَر. في إنجلترا، تُحاكي أعمال من قبيل «الفردوس المفقود» لميلتون (١٦٦٧) فيرجيل في الأسلوب والتقليد المتبع.
الملحمة قالَبٌ أدبيٌّ يَندر وجوده في العصر الحديث، مع أننا قد نتحدَّث عن فيلمٍ «ملحمي»، مثل «حرب النجوم» لجورج لوكاس، أو عن روايةٍ «ملحمية»، مثل «الحرب والسلام» لليو تولستوي. ولكن ذلك مجازٌ فحسب. ومع ذلك فإن رواية «سيد الخواتم» والمؤلَّفات الأخرى للكاتب الرائع جيه آر آر تولكين قد تَنتمي إلى هذا النوع الأدبي (رغم عدم وجود آلهة والهوبيت البطل لا يمُتُّ عن عمد للبطولة بصلة). من المُدهش كيف أن أعمال كل مُحَاكِي هوميروس الواضِحِين، فيما عدا فيرجيل، لا تُقرأ أبدًا للمُتعة، أو حتى تُقرأ على الإطلاق إلا مِن قِبَل حفنةٍ من الباحثِين في نُخبة الجامعات. في المقابل، نجد أنَّ القصائد الهوميرية تُطالَع بِنَهمٍ ولم يكن ذلك يحدث من قبلُ على نطاقٍ أوسع من الوقت الحاضِر، رغم انتزاعها من جذورها الشفاهية، ولغتها، وبيئتها. لا شك أنَّ عظمة القصائد الهوميرية لغز، لكنه لغزٌ نمتنُّ له.