الفصل الحادي عشر
كانت الكلمات لا تكاد تستقيم على شفتَي أحمد، حين دخل إلى حجرة يجلس فيها أبوه إلى أمه وقال: بابا … هات لي شوكولاتة.
– ولماذا؟ أليس عندك شوكولاتة؟
– عندي، ولكن هات لي أنت.
– ولماذا أنا؟
– لأن نينة تحب أختي هناء، وأنا لا أحب نينة.
– ومَن أدراك أنها تحب هناء؟
– كل يوم، كل ساعة أراها تحتضنها، وتجعلها تبوسها في صدرها، بوسة طويلة، طويلة، وتقول إنها ترضعها، وأنا لا أبوسها إلا بوسة قصيرة فقط، وبعد ذلك تتركني لتجعل هناء تبوسها!
وكانت الأم غارقة في الضحك، بينما أكمل الأب نقاشه مع ولده: طيب وما شأن هذا بالشوكولاتة؟
– الشوكولاتة التي عندي من عند نينة، هات لي أنت شوكولاتة.
– ومَن أدراك أنها من عند نينة؟
– كل ما عندي من عند نينة، هات لي أنت شوكولاتة.
– طيب يا سي أحمد، أمرك.
ويخرج الطفل مطمئنًّا إلى وعد أبيه، فقد كان طفلًا، ولم يكن قد عرف أباه بعدُ.
وكانت الأم لا تزال في ضحكها من حديث ولدها حين قال سليمان: ألا يجب علينا أن نذهب اليوم إلى وصفي لنهنئه؟
وفجأة تجمَّد الضحك على شفتَيها، فقد كان اسم وصفي لا يزال ذا رنين في نفسها، واستطرد سليمان: يجب أن نذهب لتهنئته.
– ولماذا؟
– لأنه ابن عمنا.
– إنه ابن عمنا منذ ميلادنا، ولم نفكر في زيارته أو تهنئته قبل اليوم، فما الذي جعلك تذكر هذا الآن؟
– كنت مخطئًا، وأريد أن أصحِّح خطئي.
– سليمان، قل الحقيقة، إنك تريد منه شيئًا.
– لا والله، ولكن …
– ولكن ماذا؟ إنه رُزق بجعفر ولم تُهنِّئه، بل إنك حتى لم تشكره على الهديتَين اللتَين أحضرهما عند مولدي أحمد وهناء، واليوم تريد أن تهنئه لأنه أصبح سكرتيرًا لمجلس النواب، ولا أرى المنصب كبيرًا عليه، فهو عضو نواب من سنوات، وشخصية ظاهرة في الحزب، وليس غريبًا أن يكون في هذا المنصب.
– ولكنه فاز بثقة إخوانه، ويجب أن نهنئه بذلك.
– قل لي يا سليمان، ألم تحصل على الدرجة بعد؟
– وما شأن هذا بالموضوع؟
– إن هذا هو الموضوع.
– وبعدين معكِ يا سهير، أما تريدين أن تساعديني في شيء؟
– والله أنا كرامتي لا تسمح لي بأن أزور ابن عمي متظاهرة بالتهنئة، بينما أنا أريد منه شيئًا آخَر؟
– يا ستي ما لكرامتك وهذا؟!
– إن الكرامة هي هذا.
ثم تنهَّدت سهير، وكأنما أفاقت إلى أنها تحدِّث شخصًا لا شأن له بموضوع الحديث، فقالت: وعلى كل حال أنت تعرف أنني لا أقابله.
– نعم أعرف، ولو أني غير موافق على هذا الحجاب، على كل حالٍ اصعدي أنتِ إلى زوجته، وأقابله أنا.
– يا أخي، أتريدني واسطة إلى زوجته؟ لا يا سيدي، اذهب أنت وهنِّئه، ولن أذهب أنا إلى زوجته.
– ولماذا؟ إنك لا تزورينها أبدًا.
– إنها ست غريبة عن العائلة، وزيارتي لها لا تكون إلا ردًّا على زيارتها هي.
– لقد زارتكِ عندما ولدتِ هناء، ولم تردِّي الزيارة.
– لم تأتِ المناسبة، ولو زرتُ كلَّ اللواتي زرنني في الولادة لما انتهيت.
– ها هي ذي المناسبة، اذهبي إليها وهنِّئيها.
– سليمان.
– نعم.
– لن أذهب.
– أمرك.
وخرج سليمان غير غاضب وإن كان آسفًا، فقد كان يأمل أن تتوطَّد الصلة بين عائلته وعائلة وصفي، فهو يطمع أن يكون وصفي سندًا له في وظيفته، فقد رأى وصفي واسع النفوذ، مسموع الكلمة عند الوزراء وعند وزيره هو بالذات، ذلك الوزير الذي لم يجرؤ هو يومًا على طلب مقابلته، ذلك الوزير صديق لوصفي، والعجيب أن الوزير هو الذي يسعى إلى توطيد هذه الصداقة وتثبيت دعائمها، يريد من وصفي أن يكون عونًا له في الحزب وفي المجلس، ومع ذلك تأبى سهير أن تذهب لوصفي، أو لزوجة وصفي، هو غير غاضب لأن الغضب لم يكن في طبيعته؛ فإن الغضب صديق للكرامة والعياذ بالله، وهو رجل أَلِفَ ألا يغضب كما أَلِفَ البُعد عن الكرامة، هو غير غاضب، ولكنه آسِف، آسِف كما تعوَّد أن يأسف دائمًا حين تأمره سهير فيأتمر، وهل كان له إلا أن يأتمر، إنها الزاد والمأوى، وإنها المال والقصر والضِّياع، حين هو لا شيء، لا شيء إلا أن يتلقَّى أوامرها فيطيع، وإلا أن تريد هي فيسير، غير غاضب أن استقبل أمرًا لا يريده، لكنه يأسف، يأسف وينفِّذ، وهل كان بيده إلا التنفيذ.
ولكنه اليوم يريد أن يصل ما بينه وبين وصفي، وإن يكن قد أهمل في شكره على هداياه، وإن يكن قد تأخَّر في تهنئته بمولوده الأول، إلا أنه اليوم سيمحو هذا التقصير الذي كانت له أسبابه ودواعيه، فهو إن كان قد ذهب للتهنئة بميلاد جعفر كان لا بد له أن يحمل معه هدية، إن لم تكن مماثلة لهدية وصفي، فهي على كل حال ستُحمِّله مالًا، وهو لا يحب أن يبذل مالًا، وهو أيضًا كان لا يريد أن تتوثَّق العلائق بينه وبين وصفي، بعد ما كان يُشاع من أن وصفي سيخطب سهير، وهو أيضًا لا يحب أن يجتمع ووصفي في مجلس، فوصفي رجل من رجالات الدولة، في حين لم يستطع هو أن يصبح رجلًا من رجال البيت، وهو لا يحب أن تجري المقارنة بينهما، وخصوصًا إذا جرَتْ هذه المقارنة في ذهن سهير، ثم هو أيضًا لا يحب وصفي هذا الذي يتسلَّق إلى المجد في كبر وخيلاء، بينما لا يستطيع هو أن يتسلق درجة، درجة واحدة في سلك الوظيفة، ولو أن الأمور جرَتْ في سبيلها السوي، لكان هو الأجدر بالرِّفعة، فوصفي لا يملك إلا لسانًا وقلمًا، أما هو فمهندس درس في جامعات أوروبا، وهو رجل عملي، ما الكلام عنده إلا شقشقة عاجز، وتهويم مَن لا يستطيع عملًا.
ولو أن وصفي ارتفع بجهده وحده، لقبل ارتفاعه هذا، ولكنه ارتفع بغناه الذي خلَّفه له أبوه، وبجاه أبيه أيضًا الذي خلَّفه له في الناحية، فأصبح به عضوًا بمجلس النواب، أما هو فلم يترك له أبوه إلا أوشالًا من المال، استطاع بها أن يذهب إلى أوروبا، وأن يصبح مهندسًا.
لهذا جميعه، كان سليمان حريصًا على ألا يوطِّد صداقته بوصفي، ولكنه اليوم حريص على هذه الصلة، فهو اليوم فجأة ابن عم وصفي، وصديقه الأوفى، وليس لهذه الأسباب مكان.
فهو لا يحتاج إلى إهدائه شيئًا، لأنه ليس من المألوف أن يتهادى القوم في التَّهْنِئات بالمناصب، وهذا في ذاته أقوى سبب كان يقف به عن التهنئة في ميلاد جعفر.
وهو اليوم لا يرى بأسًا أن تتوثَّق العلائق بينه وبين وصفي، فقد مرَّ على الشائعات التي كانت تربطه بسهير زمن بعيد، والزمن قادر على ابتلاع الشائعات ومحوها من أذهان الناس، وهو اليوم أيضًا لا يرى بأسًا أن تُجري سهير المقارنة بينه وبين وصفي، فقد أصبح لها منه ولد وبنت تحبهما الحب كله، فما تملك إلا أن تظل إلى جانبهما، وهو أيضًا مطمئن إلى أن زوجته لا تكِنُّ له الاحترام، لأنها من ذلك النوع الساذج الذي يقدِّر الكرامة ولا يقدِّر الحياة، ويهيم في الخيال، ولا يفكِّر في الواقع، حتى إنها تأبى عليه إلا أن يؤدي حق سميحة في أرضها كاملًا إليها، وإن امرأة تبلغ بها السذاجة الحدَّ الذي تأبى عنده أن تأكل أموال أختها خليقة بألا يُقيم لرأيها وزنًا، أما أن يتسلَّق وصفي إلى أعناق المجد، فالواقع الذي لم يكن يفكِّر فيه من قبل أن وصفي كان يجاهد الإنجليز، ويهاجمهم بمقالات مشتعلة، حتى لقد قبضوا عليه مرات وسجنوه، وسليمان لا يرى بأسًا أن يصيب هذا المتهور المجنون الذي يرمي بنفسه إلى التهلكة مجدًا، ما دام لم يصب التهلكة، ثم إن هذا المجد الذي بلغه وصفي مجد للعائلة كلها، وما دام هو — سليمان شكري — أحد أفراد هذه العائلة، فمن حقه أن يحظى بنصيبه فيما أصابه ابن عمه، ومن ثَمَّ فهو يستحق الدرجة.
هكذا كان يفكِّر سليمان حين وجد نفسه واقفًا إلى باب ابن عمه وصفي، وقبل أن ينزل من السيارة سأل البواب عن وصفي، فحين علم أنه بالمنزل ترجَّل وهو يطلب إلى البواب أن يُبلِغَ سيده بمجيئه.
كان وصفي إذ ذاك جالسًا إلى زوجته وابنه جعفر، وقد راح يداعبه في حنان، والطفل يبتسم لأبيه، ويحرِّك لسانه بكلمات لم تكتمل، فيستقبلها الأب بفرح ونشوة، ولكن هندًا لم تشارك زوجها فيما هو فيه من غبطة، فهو يسألها: ما لك يا هند؟
– والله يا وصفي مشغولة بأمي.
– ما لها، لا قدَّر الله؟
– منذ مات أبي وصحتها تزداد سوءًا في كل يوم.
– يا ستي، طالما رجوناها أن تترك العزبة وتأتي هنا ليراها الأطباء.
– وماذا نعمل؟ إنها ترفض أن تترك العزبة وترى في بقائها هناك ما يسليها، ولكنها لا تسلو.
– وهل سمعتِ شيئًا جديدًا؟
– كلمتها اليوم في التليفون، فلم يعجبني صوتها.
– يا ستي لعلك واهمة، وعلى كل حال اطلبيها ثانية الليلة أو غدًا، وإذا شئتِ سافري إليها.
– وكيف أسافر؟
– ولمَ لا؟
– وجعفر؟
– خذيه معكِ إذا اقتضى الأمر!
– الولد صحته لا تحتمل السفر، على كل حال سأكلِّمها ثانية.
– لا تشغلي نفسك بلا سبب … لعلها كانت نائمة وأيقظتِها بالتليفون.
ودخل الخادم ينبئ وصفي أن سليمان في انتظاره، فتعجَّب بعض الشيء، ثم قال للخادم: سأنزل إليه.
وانصرف الخادم، وعاد وصفي إلى مداعبة ولده، وطمأنة زوجه، ثم قام إلى سليمان.
وبينما هو في طريقه إلى الدور الأسفل، لقيته أم وديدة على السُّلَّم، فقال لها في لهفة: هيه!
فهزَّت أم وديدة رأسها نفيًا، فلم يزد، ونزل إلى سليمان.
لقي سليمان وصفي بترحاب كبير، فأدرك وصفي أنه يريد منه أمرًا، ولكن أخفى إدراكه هذا، وراح يجيب الترحاب بترحاب.
– والله يا وصفي أنت لا تعرف كم فرحتُ بانتخابك سكرتيرًا للمجلس.
– يا أخي المسألة لا تستحق فرحًا.
– كيف؟ ثقة زملائك بك، وبلوغك إلى هذا المنصب وأنت في سنك هذه لا تستحق فرحًا؟
– لا تكبر المسألة يا سي سليمان، المهم عندنا أن تستطيع الحكومة عمل شيء مع الإنجليز، أما أن أكون سكرتير المجلس أو لا أكون، فوحياتك ما اهتممتُ بهذا، ولقد اعتذرتُ وبالغتُ في الاعتذار، ولكن إخواني ألحوا فقبلتُ، على كل حال أشكرك على زيارتك! كأنما كان لا بد لك أن تجد سببًا لتزورني! أين أنت يا أخي، ولماذا تختفي هكذا عنا؟
– والله الوظيفة يا وصفي تبتلع وقتي كله.
– وكيف رضاك عن الوظيفة؟
– وهل رأيت صاحب حق ينال حقه في هذا البلد؟
– لماذا كفى الله الشر؟
– يا سيدي الوزارة تأبى إلا أن تساويني بزملائي الذين عُيِّنوا معي.
– وما البأس في ذلك؟
– ما البأس؟! يا أخي أنا سافرتُ لأوروبا، ونِلتُ شهادات من أعظم الجامعات هناك.
– آه، من هذه الناحية أظن أنك محق.
– بالله يا وصفي — إن كنت لا ترى بأسًا — كلِّم الوزير، فهو صديقك، وما أظن أنه سيخيب لك رجاء.
– أكلمه بكل سرور.
– أشكرك، ومتى تتناول الغداء عندي؟
– وما المناسبة؟
– المناسبة؟! وهل لا بد من مناسبة؟
– لا، أبدًا، في أي وقت!
– بعد غد.
– وهو كذلك، نقبل هذه الرشوة يا سي سليمان من أجل خاطرك.
– يا أخي العفو، يا ليتك كنت ممَّن يُرشَون، إذن لأرحتَ قومًا كثيرين.
– نعم، وتعبتُ أنا.
– أبدًا وحياتك، الرشوة تُتعِب في المرة الأولى تعبًا بسيطًا، ما تلبث الرشوة الثانية أن تمحوه، أما الرشوة الثالثة، فهي الراحة والهناء والمال والسعادة.
– الله الله يا سي سليمان، تتكلم كأنك خبير!
– خبير بماذا؟ وظيفتي ليس فيها ما أُرتشَى عليه.
– فإذا كانت؟
– فيها نظر.
– احذر يا سليمان، الرشوة كالقتيل، تختفي يومًا أو بعض يوم، ثم ما تلبث الرائحة النتنة أن تفوح منها.
– يا عم صلِّ على النبي.
– عليه الصلاة والسلام، ولكن هذا هو الحق.
– المرتشون يملئون المناصب الكبيرة.
– ولكن لا يحترمهم أحد.
– بل يحترمهم الجميع وحياتك.
– لأنهم يرجون منهم خيرًا، فهم يظهرون لهم الاحترام، ولكن لا يكِنُّون لهم إلا الاحتقار.
– وماذا يعرف الناس عن ضمائر الناس؟ المهم ما ظهر، وأما ما خفي فالله به عليم.
– الاحترام، أعظم الاحترام، أن يحترم الإنسان نفسه، ويعلم أن الناس يحترمونه في دخيلة نفوسهم، كما يحترمونه في ظاهر أمرهم، ولا تصدِّق أن إنسانًا يكبر وسمعته ملوَّثه، ولا تصدق أن إنسانًا يكبر بغير احترام.
– نعم، نعم، أعرف مُثُلك العليا.
– هذه ليست مُثُلًا عليا، إنها المستوى الطبيعي للأخلاق، وما أقل منها سفالة، المُثُل العليا سموٌّ عن طبيعة الأخلاق، ليست الأمانة مُثُلًا أعلى، وإنما هي طبيعة، انتشار الفساد جعل هذه المعاني العادية مُثُلًا عليا، لا تعتقد أنك حين تكون أمينًا تستحق المديح، فهذا هو المفروض.
– فما المُثُل العليا إذن؟
– أن أرتفع بالمستوى العادي للأخلاق، أن أعطي كلَّ ما معي لفقير مثلًا، وأظل بلا مال، أن أضحي بحياتي في سبيل الصالح العام.
– هذا تهوُّر.
– بل هذه هي المُثُل العليا، لا عليك أن تبلغ إليها، ولكن عليك ألا تسفل.
– يا أخي أنت لا تعرف شيئًا عن الدنيا.
– لكلٍّ دنياه يا سي سليمان، تلك هي الدنيا التي أعرفها، النهاية، لقد جعلْتَني أُلقي خطبة طويلة وأنت لا تحب الكلام، أنت رجل مهندس تضع القالب على القالب فتبني بيتًا.
– أما تزال تذكر؟ يا أخي، يا أخي ارحم الناس من لسانك، النهاية، لا تنسَ الغداء عندي بعد غد.
– وهو كذلك.
واستأذن سليمان وانصرف، وفي الطريق راح يفكِّر في هذا النجاح الذي أصابه من زيارته تلك، فهو قد ضمن أن وصفي سيكلِّم الوزير بشأنه في غد، لأنه من غير المعقول أن يأتي للغداء عنده دون أن ينبئه بما تم عند الوزير، وقد قصد سليمان أن يكون الغداء بعد غد، حتى يترك له الغد ليلقى فيه الوزير، وسليمان يعلم أن مثل هذا لا يخفى على ذكاء وصفي، وسليمان مسرور بنجاحه هذا أيضًا، لأنه لن يخسر في هذه الدعوة شيئًا، فزوجه هي التي ستقوم بإعداد الغداء، وسليمان مسرور أيضًا، لأن هذه الدعوة ستوطِّد الصداقة بينه وبين وصفي، وهي صداقة يرى أنه أصبح محتاجًا لها دائمًا، نجاح باهر إذن الذي أصابه في زيارته تلك، وهو مصمم على تمكين هذا الانتصار والمحافظة عليه، وبلغ سليمان القصر، فوجد زوجه كما تركها، لم يزد عليها إلا ابنتها هناء، وقد تركت لها صدرها تُقبِّلها فيه هذه القبلة الطويلة التي تثير الغيرة في نفس أحمد.
– يا ستي، وصفي سيتناول الغداء عندنا بعد غد.
ونظرت إليه سهير نظرة طويلة لم يرَها هو، ولو كان رآها لما فهم منها شيئًا، وكيف له أن يفهم؟ إنه لا يفكر في شيء إلا أن يبلغ من نجاحه أقصاه، وإلا أن يُمكِّن هذا النجاح فيستقر به المقام، وترسخ أقدامه في أعماق مستقبله، لا شيء إلا هذا، وهل الحياة إلا هذا؟ ينظر إلى سهير ويقول: سهير …
فتجيبه سهير بعض مفيقة: نعم.
– ما المانع أن تقابلي وصفي؟
وأفاقت سهير إلى زوجها إفاقة تامة: ماذا؟
– وما المانع؟ إنه ابن عمك.
وقالت سهير في لهجة مَن لم يسمع، وفي غير استنكار: ماذا؟
– أقول إنه ابن عمك، وأنا رجل درست في أوروبا، ولا أوافق مطلقًا على هذه الرجعية.
– ولكن رأيك هذا لم تُبدِه إلا اليوم.
– نعم لأنه سيتغدَّى معنا، ولا أرى معنى أن يأتي ابن عمك إلى هنا، وتقفلي أنتِ الباب في حجرتك، وأظل أنا وابن عمك وحدنا.
– لا أرى في ذلك بأسًا، إلا إذا كنت ترى في مقابلتي له فائدة.
– الحقيقة نعم، أرى في ذلك فائدة، فأنا لا أجيد الكلام، ولن تمُرَّ دقيقتان حتى أجد نفسي عاجزًا عن الحديث معه.
– من هذه الناحية، اطمئن فهو الذي سيتكلم.
ثم استدركَتْ قائلة: فإنهم يقولون إنه كثير الكلام.
وأصابت نفسها غصة أن اضطرت إلى مهاجمة وصفي لتعمِّي على زوجها، فقالت: ويقولون إن حديثه جميل.
– نعم ولكن بماذا أجيب حديثه، إنه يتكلم في أمور لا أفهمها ولعلكِ أنتِ أن تفهميها، فإنك منذ تزوجنا وأنت لا تكفين عن القراءة، أنت تقرئين الجرائد، وهو يكتب فيها، وأنت تقرئين كتب الأدب، وهو يهوى الأدب، ولن يخرج حديثه عن سياسة وأدب، وأما أنا فلا أحب السياسة ولا الأدب.
– وماذا يقول الناس يا سليمان؟
– الناس؟ وهل تنتهي أقوال الناس؟ الناس عندك هم أنا، وما دمتُ أنا موافقًا فلا شأن لكِ بالناس.
– أخشى أن يقولوا إنك جعلتني أقابله، لأنك تريد الدرجة.
– بل جعلتكِ تقابلينه، لأنه ابن عمك، وأنا لا أوافق على الحجاب.
– ولكنك تعلم أنه هو رجعي، ولن يسمح لزوجته بمقابلتك.
– لكلٍّ رأيه يا ستي، هو من أنصار الحجاب، وأنا من أنصار السفور.
– هذا رأيك، ولكنك تنسى العائلة وكثرة كلامها، وتنسى أن رأيك هذا لم يظهر إلا مع ظهور رغبتك في الدرجة.
– سهير، الحقيقة أنني لا أريد لكِ هذا الحجاب إطلاقًا، ولن تقتصر مقابلتك على وصفي وحده، بل إنني أحب أن تقابلي الجميع، إنني رجل متعلم في أوروبا، ولا أحب هذه الهمجية، لا يا ستي إنكِ ستقابلين الجميع، الجميع!
وارتفع صوت سليمان كأنه رجل، وأحبَّتْ سهير أن يظهر سليمان حماسته في هذا الأمر بالذات، فقد كانت تريد أن تقابل وصفي، بل إنها كانت تتوق إلى هذا اللقاء، ولكنها تريد أن تُدفَع إليه دفعًا عنيفًا يهيئ لها أن تقول لنفسها إنها لا قبل لها بالنكوص، كانت تريد أن تعتذر لكبريائها عن هذا اللقاء، وها هو ذا زوجها يدفعها، وإنه زوجها، فماذا يمكن أن تقول له، إنها ستلقى وصفي وأمرها إلى الله!
وصمتت سهير، وأدرك زوجها أن صمتها موافقة، وارتاح خاطره، وهدأ إلى مستقبل زاهر تلوح له بشائره، فهو يعلم أن وصفي إذا لقي سهير سيطيب له أن يُكثِر من الزيارة، وهو يعلم أن زوجته شريفة، ويعلم أن وصفي أمين الضمير، فهو لا يخشى من اللقاء مغبَّة، ولو كان يخشى ما أصرَّ على هذا اللقاء، ولكنه يعلم أن سهير تحب الأدب والسياسة، وتستطيع أن تكون طرفًا في الحديث يلقيه وصفي، ويعلم أنه يحبِّب بيته إلى وصفي، وهو يأمل أن يحب وصفي بيته.
وقامت سهير إلى حجرتها ذاهلة النظرة، شاردة الفكر، أحقًّا ستلقى وصفي؟! وصفي! هذا الخائن الذي ألقى بها إلى أعماق هذه الحياة التي تحياها وتصلاها، ويلتهب سعيرها في كل أيامها، وصفي! ستلقاه، إنها ستنتقم، ستنتقم، ولكن ما الذي يكفي لانتقامها، أتقتله؟ وصرخت نفسها: لا، ثم سخرت منها نفسها: وهل أستطيع؟ إذن! إذن ماذا؟ ماذا ماذا؟ كيف أنتقم؟ أتجاهله؟ وكيف أستطيع؟ سيكون ثاني اثنين: أحدهما أبكم، فكيف أستطيع أن أتجاهله؟ وماذا سيقول زوجي، إنه ليس غبيًّا، ألا يجوز أن يُدرك من تجاهلي ما كان بيني وبين وصفي؟ ربما ظنَّ أنني أتجاهل وصفي لأنني غاضبة لزواجه من غيري، إذن، إذن لا سبيل لي إلا أن أترك نفسي على سجيتها، سجيتها؟ سجية نفسي، أخادع نفسي؟ إنني لو تركتها على سجيتها لظهر ما تُخفيه من … من حب … حب عميق، زاده عمقًا هذا الألم الذي أقاسيه في ظلال رجل قاتم، مُظلم، أصم الفؤاد، على سجيتها! ويلي من نفسي، ويلي من حبي! أبدًا لن تكون نفسي على سجيتها في هذا اللقاء، أبدًا لن تكون، وكيف لها أن تكون، وأنا مع اثنين، أحدهما أضاع آمال شبابي وحياتي، وأضاع الآخر شبابي وحياتي جميعًا، وكيف لها أن تكون، وأنا أجلس إلى اثنين، أحدهما ألقى بي إلى السعير، والآخَر هو السعير ذاته، أألقى وصفي؟! سألقاه، فما هذا الليل الطويل الذي يفصلني عن لقائه، بل هناك نهار آخَر وليل آخَر ثم ألقاه، لماذا لا يستمر هذا الليل ليلًا أنامه، فلا أصحو إلا على لقائه، أو لماذا لا يظل النهار نهارًا ألهو فيه عن شوقي بأطفالي حتى ألقاه؟ لماذا؟ لماذا؟ إنها الحياة؛ لذَّتها أن تسير هي طريقها المرسوم، بسرعتها المرقومة، بليل يُخلف نهارًا، ونهار يُخلف ليلًا، ونتمنى نحن وننتظر، نتحرَّق شوقًا وننال ونمنح ونمنع، وتظل الحياة سائرة، لا شأن لها بما نريد أو ما نأمل.