الفصل الثاني عشر
تسير الأمور في الطريق الذي أراده لها سليمان، فقد جاء وصفي في موعد الغداء، وقصد إلى حجرة الجلوس التي يعرف الطريق إليها تمام المعرفة، وبعد هنيهة فتح الباب، وفي انفراجته رأى وصفي … مَن؟! سهير؟! سهير، ومن ورائها سليمان، ماذا فعلتَ بي يا سليمان؟! حملقَ وصفي دهشًا، حتى كاد لدهشته ألا يستطيع قيامًا عن كرسيه!
وأقبلت سهير جامدة الوجه، لا تبين نأماتها عن خلجة تشف عما يصطرع بنفسها من حب، وغيظ، وشوق، وإقبال، وإحجام، وتساؤل، واستسلام، وتقدَّمَ سليمان في بلاهة ومحاولة مقيتة للتظرُّف: أقدِّم إليك ابنة عمك التي لم ترَها طول حياتك.
وجمع وصفي على شفتَيه «أهلًا وسهلًا» متردِّدة حائرة، لا تكاد تبين، وجلس ثلاثتهم، وسليمان أثبتهم جأشًا، وأرْوَحُهم نفسًا، لا يدري ما يمور في نفسيَهما من تيارات إن اختلفت في مجراها، فهي مندفعة عن معين واحد، نابعة من خلجات متشابهة، وراح سليمان يثرثر بحديث لم يعِ واحد منهما شيئًا منه، حتى إذا فرغ عقله من أيِّ حديث، ولم يجد شيئًا يقوله، صمتَ، فانتبه كلاهما إلى الصمت الذي رانَ عليهم، وانتفض وصفي متمالكًا أمر نفسه في دربة، وقال لسليمان: مبروك يا سليمان، ذهبت إلى الوزير وسيمنحك الدرجة، إن لم يكن قد منحك إياها فعلًا.
– يا سيدي متشكر.
– وهل بيننا شكر؟
– سأكلِّم أحد أصدقائي في المستخدمين لعلِّي أجد عنده خبرًا.
وقام سليمان في فرحة غامرة وخلَتِ الحجرة بالمُحبَّين، وفي عينَي سهير تساؤل، وفي وجه وصفي حيرة، ولم يجد وصفي شيئًا يقوله إلا: كيف أنتِ يا سهير؟
وجاهدَتْ سهير نفسها حتى تقول: الحمد لله يا وصفي.
ثم جذبت شهقة من أعماق نفسها لتقول ثانية: الحمد لله، وأنت كيف حالك؟
– الحمد لله.
– وكيف حال هند وجعفر؟
– بخير، وأولادك؟
– الحمد لله.
وران الصمت عليهما، لم تستطع سهير أن تسأل لماذا فعلتَ ما فعلتَ، ولم يستطع هو أن يبين، صمت كلاهما، وصفي يعلم ما يدور بنفسها، وهي لا تعلم إلا أنه يدرك ما يدور بنفسها، ثم لا تعرف جوابًا على هذا السؤال الذي ظل أعوامًا يلحُّ عليها فلا تجد له جوابًا شافيًا، أو لعلها تعرف الجواب، ولكنها أيضًا تعرف أن وصفي لن يستطيع أن يطالعها بهذا الجواب الذي تعرفه، ماذا تُراه قائلًا؟ أيقول لها إنه لم يعجبه منها أن تلتقي به قبل الزواج؟ ماذا تراه قائلًا؟ إنها تريد أن تسأله، تريد أن تبلو لباقته التي درب عليها في ميادين الأدب والسياسة والمجتمع، كيف سيفسر لها هذا الشقاء الذي ألقى بها إليه!
وفجأة قال وصفي: سهير أريد أن ألقاكِ.
وذهلَتْ سهير لحظة، ثم قالت في تخابث وعدم مبالاة: ها أنت ذا تلقاني.
– وحدنا، في مكاننا، هناك عند القارب، اليوم، الساعة السادسة من مساء اليوم.
وقبل أن تقول «لا» دخل سليمان، فراح وصفي يتكلم، وكأنه يكمل حديثًا لم يقطعه دخول سليمان.
– بل إن الشاعر الذي يقول:
أحب إليَّ من الشعراء المتشائمين، فالأدب عندي متعة، والتفاؤل أجدر بالشعراء.
وقال سليمان: ماذا؟! فتحتم باب الشعر؟ لا مكان لي إذن.
وقال وصفي: هيه؟ ماذا قالوا لك في المستخدمين؟
– يا سيدي ألف شكر، لقد أمر الوزير بترقيتي.
ونظرت سهير إلى سليمان، ثم نظرت إلى وصفي وكأنما تشهده على ما فعله بها، ثم قامت من الحجرة.
وحين أقبلت سهير لتدعو الضيف وزوجها إلى الغداء، لم يلحظ سليمان بينما لحظَ وصفي جفونها المخضلة، ووجهها الشاحب، لقد سكبت بعض دموعٍ مكَّنتها من أن تتمالك نفسها، وتجلس إلى ضيفها الحبيب، فتُجري الحديث في بساطة ورقة، حببت الجلسة إليه، تحادثا في كل شيء، في السياسة وفي الدور الذي يلعبه فيها، ووجدها على علم دقيق بكل خطواته في هذه السنوات التي غابها عنها، هيه يا حبي الأول الكبير، إن زوجتي التي لا تفارقني يومًا لا تعرف عني ما تعرفين، رحمتك في بلواك، فمَن يرحمني في بلواي؟ إني أعيش في بركة هادئة، صافية هذه البركة، ولكنها راكدة ليس فيها تيار، ولا هي مشوبة بقذى، وهذا الهدوء فيها وهذا الصفاء هو أتعس ما ألاقيه في حياتي، ركود يصدر عن الغباء، وصفاء لا يبتعثه إلا الجمود، وأشد ما أعاني في حياتي أني لا أجد شيئًا أذمه فأشكو وأستريح، إن زوجتي سدَّت عليَّ منافذ الشكوى بطاعة عمياء، وأدب بالغ أقصى المدى، فممَّ أشكو؟ وماذا أقول؟ رحمتك يا سهير فمَن يرحمني؟ هي الحياة في بيتي أقطعُها رتيبة النغمة لا تتغير، إن دخلتُ بيتي قطعتُ ما بيني وبين الحياة، وأصبحتُ لا شيء إلا زوج هند وأبا جعفر، فلا هند تعرف عن شأني في الحياة شأنًا، ولا جعفر يفهم ما أبوه صانع، إن هند في البيت شأنها شأن جعفر، كلاهما طفل مطيع، كلاهما هادئ، ولكن طفل، أما أنت … أنت فحياة، أنت التي كنتِ جديرة أن تهبي للنصر معناه حين أنتصر في المعترك، وأنتِ التي تشفين جراح الفشل حين الفشل، أنتِ معنى النصر، وبلسم الجراح تخلَّفَتْ عن الصراع، وحياة الحياة التي أحياها، والنغمة العذبة في كل معنى يطالعني، إن يكن فرحًا، فأنتِ النغمة الفرحانة، أو حزنًا فأنتِ النغمة الآسية، وأدركت سهير ما بنفسه، قرأته في عينَيه، عينَيه الحلوتَين، هاتين اللتين تستطيع فيهما أن تقرأ ما وراءهما، فيهما شفافية حبيبة وطالما افتقدَتِ الشفافية في عينَي زوجها فلم تجدها، طالما نظرَتْ إلى عين سليمان وأنعمتِ النظر، فما زادها الإنعام إلا عجبًا، كيف يرى سليمان بهاتَين العينَين، إنهما مطفأتان، لا نور فيهما ولا حياة، بل إن وجهه جميعًا جامد صلب لولا أن صاحبه يسير جيئة وذهوبًا، لَما عرفتُ إن كان ميتًا أم حيًّا، ويلي! لماذا لا يحيا وجه سليمان كما يحيا وجه وصفي؟ الحياة كلها هنا في هذا الوجه، إنها طالما أنعمت النظر في وجه وصفي وعجبَتْ كيف لهذه الحياة جميعها أن تموج في وجه واحد فقط، حتى ليُخيَّل إليها أنه ليس هناك حياة إلا في هذا الوجه، على ثناياه فرحها وغضبها وإقبالها وإدبارها، المعاني كلها هنا في هذا الوجه، لماذا أيها الوجه؟ لماذا فعلتَ بي هذا؟ ما الذي جنيتَ؟ لم أجنِ — علم الله — إلا حبك، وإنه لجناية أنا وحدي مَن صليتُ أخلافها وعواقبها.
وقاربت الساعة الخامسة، وقام وصفي، ولولا موعد تهفو له نفسه ما قام …
إنه ذاهب إلى موعده لا يدري إن كان سيلتقي هناك مع نفسه وحدها، أم أنه سيلتقي أيضًا مع هواه القديم الجديد، ولكن بحسبه أن يلتقي مع نفسه هناك، بحسبه ذاك، فهو ذاهب، أما هي …
ركب وصفي سيارته، وأمر سائقه أن يسير دون أن يبين له عن هدفه، حتى إذا اقترب من مكان يستطيع منه أن يستأجر قاربًا، نزل وأمر السائق أن ينصرف إلى البيت، وذهب إلى النيل، واستأجر قاربًا، وأمرَ صاحبه أن يسير به في اتجاه القصر، إنه الحب يعود، يعود بجميعه حتى بهذه الأفعال الطفلة التي لم يُقدِم عليها يومًا وإن يكن قد سمع بها سماعًا، لقد نسي في غمرة من أمواج حبه مَن هو، نسي أنه النائب الخطير الذي يهتز الوزراء من نقده، ويرجف أعداؤه من هجومه، ونسي أنه أحد هاته الرموز القليلة التي يتمثل فيها جهاد شعبه ضد الاحتلال، نسي هذا جميعه، ولم يعُد يذكر من أمر نفسه إلا هذا الخافق الذي عاد إليه الوجيب أعنف ما تكون العودة، فهو في طريقه إلى هواه، إلى ماضيه، بل إنه في طريقه إلى الحاضر، الحاضر الذي كثيرًا ما تمنى لو أنه حقَّقه لنفسه … لقلبه.
حاذى القارب قارب عمه الراسي هناك، ونزل إلى المرسى وطلب إلى صاحب القارب أن يعود إليه بعد حين.
جلس وصفي في مكانه المعهود والبيت الذي ألقاه عفو الصدفة يطنُّ في خاطره في إصرار عنيف لا يبتغي عنه حولًا.
وظل البيت يدور في ذهنه كنغمة تعوَّدَتْها الأذن، فما تحس بها، وراح وصفي يفكر فيما كان من الأيام التي تفصل بين هذه اللحظة التي هو فيها وبين آخِر مرة كان فيها هنا.
وفي القصر جلسَتْ سهير وحدها، أتذهب؟ أتلتقي به هناك؟ لا، لن تذهب، ماذا أفادت من هذا المكان، ومن هاته اللقاءات التي كانت فيه؟ لا شيء إلا الحسرة والألم والحزن، ولكن أكان الحزن نابتًا من اللقاء أم من انقطاع اللقاء؟ طريق واحدة، اللقاء أسلم إلى عدم اللقاء إلى الحزن، الحزن منتهاه والألم والحسرة.
ما الجديد؟ أهي المرة الأولى التي يدعوكِ فيها إلى اللقاء بعد زواجك؟ ليست الأولى، لقد طالما جاءت إليك أم وديدة بموعد له فردَدْتِها، نعم إنك لم تطرديها ولكنكِ رفضتِ موعدها، لم تمنعيها من دخول البيت، لأنه كان يطيب لكِ أن تعرفي أنه يفكِّر فيكِ، وأنه يريد لقاءك، ولكنكِ كنتِ ترفضين اللقاء، فلماذا تريدين هذا اللقاء اليوم؟
ماذا تريدين من الذهاب؟ مكانك، لا تذهبي، مكانك؛ فكبرياؤك أعظم من هذا اللقاء، وكرامتك أغلى من هذا الحب، فهو الحب إذن؟ نعم وأدريه، فلأذهب إذن! إنه الحب يدعوني وهو كل شيء، حب أبتَر لا يلاقيك فيه، حب بلا أمل، بلا أمل؟ مَن يعرف المستقبل؟ مَن هذا الذي يستطيع أن يؤكِّد أن لا أمل؟ وأين لي بالأمل؟ مكانكِ! فقد مرَّت السنون، وأخشى أن ينفض القلب أغلفة الأيام، ويصبو إلى هواه الأول، ويحك! إن الأيام لم تغلف قلبك، إنه ما زال إلى حبه الأول يرنو عصي الجمحات، والِهَ الخفق، ملتهِبَ الحنين. مكانكِ فلن تزيدي قلبكِ إلا جموحًا وخفقًا وحنينًا، وهل ثمة زيادة للمستزيد؟ مكانكِ فلا أمل ثمة إلا سراب، ولا شيء هناك إلا ألم، لا، لن أذهب! ونظرت إلى الساعة، فإذا هي السادسة والنصف، فحزمت أمرها على ألا تذهب، ولكنها لم ترَ بأسًا أن تنزل إلى الحديقة وتسير في طرقاتها تحاول ما وسعها الجهد ألا تعود إلى ذلك النقاش مع نفسها، وسارت تفكِّر في ألا تفكر في موعدها، وعصَتِ الخطى تفكيرها، فإذا هي عند السُّلَّم، وإذا هي دون وعي تنفض الحديقة بعينَيها، ثم تسلِّم إلى السُّلَّم أقدامها!
– سهير.
وفي وجيب قوي قالت: وصفي.
وارتمت على المقعد الحجري، وألقت برأسها إلى راحتَيها، وانطلقت في بكاء يعلو نشيجه في صدرها، حتى إذا أراد أن ينفجر كتمَه حذر وكبر.
وارتمى وصفي إلى جانبها حائرًا تسيل الدموع على وجهه فياضة السكب، صامتًا مُلقيًا برأسه إلى قبضته، ناظرًا إلى الأرض لم يجِد غيرها يحتمل نظراته.
وطال بهما الصمت والبكاء لم يفيقا إلَّا على صوت يأتيهما من النيل: يا بك.
ولم يجب أحدهما، ولكن الصوت ألحَّ: يا بك، القارب يا بك!
وقام وصفي إلى حافة المرسى، فوجد القارب وبه صاحبه، فنفحه مبلغًا من المال، وطلب إليه أن يعود بعد حين آخَر، وعاد إلى سهير، فوجدها ترقأ وهي تقول: لماذا؟ لماذا يا وصفي؟
– ماذا تريدين أن أقول؟!
– لماذا؟
– حُمْق وجهل وطفولة ورعونة.
– ولكنك أضعت حياتنا، ألقيت بي إلى الشقاء والبؤس والألم والحسرة، حياتي كلها أضعتَها، لماذا لقيتني ما دمتَ كنت تنوي أن تفعل بي ما فعلت؟
– سهير، إنني أحاسب نفسي حسابًا أشدَّ عسرًا، فدعيني وما بي، ولا تزيديني ألمًا وحسرة.
– ماذا تريدني أن أقول؟ ماذا تنتظر مني أن أقول؟
– سنوات مرَرْنَ لم نلتقِ، ألا تجدين شيئًا تقولينه؟
– سنوات مرَرْنَ، لا، لم تحسها أنت، لقد شغلتك الحياة عن السنوات تمُرُّ، أما أنا فقد أمضني كل يوم من هذه السنوات، بل لقد شقيت بكل لحظة في كل يوم من هذه السنوات، حُرِمتُ فرحة الزواج، بل شقيت بهذه الفرحة، وحُرِمتُ فرحة الأمومة، وأنا أم لطفلَين، كلاهما جميل، أحبهما ولكني لم أفرح بمجيئهما، حُرِمتُ كلَّ شيء جميل، وكلُّ شيء حولي كان حَريًّا أن يكون جميلًا لولاك، لولاك الذي تجيء اليوم لتقول لي في سهولة ويُسر: حمق ورعونة، ولتقول لي سنوات مرَرْنَ! ماذا تدري أنت عن هذه السنوات؟
– أدري الكثير، أدري الألم كلما خلوتُ إلى نفسي أو إلى بيتي، أدري أنني لم أستطع أن أهوى زوجتي أو أرى فيها غير زوجة بلا حب جامح عرفتُه لكِ ولم أجده لها، ظننتُ الحب يأتي هونًا مع الأيام، فإذا المودة هي التي تأتي لا الحب، عرفتُ الليالي الطويلة، تصطرع حولي الأحداث وأجاهد ما وَسِعَني الجهد، ثم أعدم في بيتي اليد المؤاسية والعقل الذي يعي جهادي، والأحداث والصراع، أحسستُ السنوات بطيئة، وانية الخطو ثقيلة الليالي.
– عرفتَ الليالي؟! لعلك عرفتَ ساعة من ليلة أو ساعتَين، أما أنا فالأيام والليالي والدقائق واللحظات، سوداء كلها بلا صراع ولا أمل ولا حياة ولا شيء! ماذا عرفتَ أنت؟!
– بعض هذا يا سهير، بعض هذا، كلانا شقي ببيته.
– وماذا تريدنا أن نفعل؟
– أما أنا فبيدي أن أفعل، فهل تستطيعين أنتِ؟
– ماذا؟ إلى أي هدف ترمي؟
– أنا في حياة لا أطيق المُضِيَّ فيها.
– وأنا في حياة لم أُطِق العيش فيها.
– سليمان سهل.
– لا، ليس سهلًا.
– تعرفين ضعفه.
– المال والبنون.
– والبنون؟!
– إذا كانوا لا يُكلِّفون مالًا.
– قولي له لا أحبك.
– إنه يعرف.
– قولي له لا أطيق العيش معك.
– أتظنني أستطيع؟
– ألا يستطيع حبك لي وكرهك له؟
– لا أدري.
– اجعلي له من المال ما يريد.
– يرضى.
– إذن.
– وأنتَ؟
– أطلِّق زوجتي!
– إذن.
– فالليلة تخبرين زوجكِ.
– ادعُ لي أن أستطيع.
– حُبُّنا أقوى من الخوف ومن الإشفاق.
– اطلبني غدًا في التليفون.
– فإلي الغد.
وقامت سهير إلى القصر، وظلَّ وصفي في مكانه ينتظر القارب، وهو شارد الذهن حيران اللب، يجمع أمره على أمر ويخشى عواقبه، فيمحو عنه الخشية حب جامح وملالة من حياة يقطعها وأمل في جديد من الحياة.
ويصل وصفي إلى منزله، فيجد البيت خاليًا، ماذا؟ وكأنما خشي أن تكون زوجته قد أدركت ما كان من أمره، ثم ما يلبث أن يعرف أن أم زوجته تعاني أزمة مريرة، فلم تجد زوجته بدًّا من السفر دون إذنه. فقد أدركت من إرساله للسيارة أنه سيطول به السهر خارج المنزل، فركبتِ السيارة، وسافرت لم تنتظر.
خلا به البيت، انقطعت الرتابة التي كان يشكوها، طابت نفسه بعض الحين بفراغ البيت، إنه يستطيع أن يفكِّر، وهل يحتاج إلى تفكير؟ لقد استقرَّ إلى الرأي، ولكن … ولكني مشوق لجعفر! بل إنني أريد أن أرى زوجتي! لماذا؟ أتحبها؟ لا أدري، لا تدري؟ ففيمَ كل هذا؟ ففيمَ تريد أن تفصل أمًّا عن أولادها؟ لقد جنيتَ عليها في أول طريقها إلى الحياة، فجاءت بهم، وتريد أن تجني عليها ثانية بالانفصال عنهم من أجل فكرة لا تدري إن كانت قائمة في نفسك أم غير قائمة؟ لا أدري، ولكني أريد أن أرى زوجتي، أهي لهو هذه الوشائج التي تقطعها، وهذه الآمال التي تمزِّقها؟ أهي عبث أطفال؟ إنها الحياة، إنها آمال قوم، ومستقبل أطفال سيطالعهم غدًا بحديث أمٍّ تركتهم من أجل رجل آخَر، ومستقبل طفل هو طفلك سيلقاه الزمان وهو مجرَّد من حنان الأبوة الذي نعمتَ أنتَ به والذي صرتَ بفضله إلى ما صرت، ألا تدري؟ ألا تدري؟
ومدَّ وصفي يده إلى التليفون، وأدار القرص دورة واحدة، وطلب من الترنك أن يوصله بعزبة زوجته.