الفصل الثالث عشر
دلفَتْ سهير إلى القصر فوجدتِ القصر مائجًا، فالخادمات رائحات غاديات في شغل شاغل عنها، فمنهن مَن تحمل زجاجة وتهرول بها، وأخرى منهنَّ تقف إلى جانب التليفون في ذعر لا تكف يد لها عن إدارة القرص، بينما انهمكَتِ اليد الأخرى في وضع السماعة ورفعها في حركة آلية ليس فيها من فهم أو عقل، ووقفت سهير في البهو حائرة تلاحق كلَّ سائرة، أو مشغولة بعينَيها ذاهلة النظرة، مفتوحة الفم، لا تملك أن تضم شفتَيها لتكوِّن سؤالًا واحدًا يشرح لها الجواب عن هذا الذعر الذي يسود القصر.
واستطاعت إحدى الخدم أخيرًا أن تجمع شتات نفسها وتراها، وكأنما انتشلت الخادمة من وهدة عميقة الحيرة: ستي.
– خير يا نبوية!
– سيدي أحمد يا ستي.
ولم تزد الفتاة، وما كانت بحاجة إلى زيادة، فقد اندفعت سهير في ثورة مجنونة إلى حجرة ولدها: ابني … ابني.
ووجدَتْ ولدها شاحب الوجه ملقى لا حراك به على الفراش، وقد تفتَّحَتْ عيناه لا تريان شيئًا، يجتذب أنفاسه وكأنما ينازعه عليها خصم عنيف قوي الأسر، فما يكاد صدره يُخرج إلا حشرجة مجهودة متقطِّعة غير مكتمِلة، وارتمت أمه بجانبه: أحمد … مالك يا أحمد؟
ولو كان أحمد يستطيع نطقًا لما كان هذا الذعر الذي انقضَّ على القصر، وقالت الأم: دكتور … أين الدكتور؟
وجاءت الخادمة التي بجانب التليفون وهي تقول لاهثة: طلبته يا ستي، سيأتي حالًا.
وفزعت الأم إليها: طلبته! ألم يذهب أحد إليه؟ أين السيارة؟ أين عم دهب؟ لماذا لم يذهب إلى أي دكتور في الجوار؟ دكتور … أما زلتنَّ واقفات؟!
وانتبهت الخادمات إلى صراخ سيدتهن، فتسارعن إلى السُّلَّم يدعون عم دهب.
وجلست الأم إلى جانب ولدها، ولدي، إياك أن تتركني، إنك كل شيء لي، إنك أنت … أنت وحدك الذي أحيا له وبه، ولدي، إياك أن تتركني، إنني الوحيدة بين الأمهات التي منحَتْ وليدها ما منحَتْ، لقد تلقى الأخريات أولادهن وحب آبائهم يكلأ الجميع، أما أنا فعانيتُ من أجلك يوم حملتك، وعانيتُ من أجلك سنوات طوالًا عشتها إلى جانب أبيك من أجلك، لم أترك أباك في كل هذه السنين من أجلك أنت، حياتي الماضية أنت والمستقبل وما بعد الممات، فإلي أين تاركي؟ أحمد، لولاك لكنت تركت أباك من زمن بعيد، أحمد، أنت لا تدري ما أنت لي! الأمهات حياتهن موزَّعة بين أزواجهن وأولادهن، أما أنا … أنا وحدي بين كل الأمهات التي تتمثل حياتها في ولدَيها برغم أبيهما، أنت جهادي لنفسي السنوات الطوال، أنت الشيء الذي قلبت من أجله أبهى سنوات حياتي إلى أنكدها، إنْ أحبَّ الأمهاتُ أبناءهنَّ لأنهم أبناؤهنَّ، فأنا أحبك أنت وأختك، لأنكما أبنائي، ولأنني قاسيتُ من أجلكما المرارة والبؤس والشقاء والألم، قاسيتُ أن أحيا مع زوج أكرهه وأبذل له نفسي، أحتقره ولا أتركه، أمقته وأظلُّ إلى جانبه زوجه، أحمد … لي فيك ولي عليك حق الأمومة، ولي فيك ولي عليك حق الشقاء الذي ألقاه، والشباب الذي يمُرُّ، والسنين التي مضت، سعادة الأمهات بأبنائهنَّ مجرَّد سعادة، أما أنت فجزائي عن الشقاء بأبيك، فأنت كل شيء، فإن يكن لحياتي معنى فأنت، أنت وأختك، أحمد، لا تتركني، ارحمني يا رب، دع هذا الطفل لي يا رب، فما الحياة بغيره! ارحم يا رب …
ويدخل سليمان هالعًا: خير … ماذا به يا سهير؟
– سليمان … ماذا تنتظر؟ دكتور يا سليمان، أسرِع!
وخرج سليمان من فوره حائرًا لا يدري أين يذهب، لم يعُد يذكر طبيبًا واحدًا ممَّن يعرفهم، فهو يذهب إلى التليفون، ثم يبحث عن المذكرة التي بها الأرقام التي يحتاجون إليها، ثم يترك هذا جميعه ويهرول إلى السُّلَّم، فما إن يبلغ منتصفه حتى يصعد مرة أخرى إلى التليفون، ثم يتركه ويهم بأن يقصد إلى حجرة ولده، متخيلًا أنه قد صنع شيئًا، واهمًا أن طفله قد أفاد شيئًا من هذه الهرولة التي ذرع بها البهو والسُّلَّم، وقبل أن يصل إلى الحجرة يسمع صوتًا من أسفل يقول: الدكتور، جاء الدكتور.
ويسرع سليمان إلى السُّلَّم، ويلقى الطبيب فيرجوه أن يسرع ولا يجد الطبيب فرصة يسأل فيها عما دُعي له، وإنما هو يُقاد إلى حجرة أحمد، ويفتح الطبيب حقيبته ويُخرج حقنة صغيرة يملؤها دواء، ثم ما يلبث أن يغرس إبرتها في فخذ الطفل، ثم يوالي إسعافاته وهو لا يكف عن ترديد: خير يا ستي إن شاء الله، بسيطة إن شاء الله، لا شيء يا ستي، مجرَّد إغماء بسيط.
وما لبثت أنفاس الطفل أن هدأت شيئًا فشيئًا، حتى انتظمت، وغمغم: نينة.
وصاحت الأم: أحمد، نعم يا أحمد، أنا هنا، الحمد لله على سلامتك يا أحمد.
ونام الطفل هادئ الأنفاس، وطلب الطبيب أن يتركوه ليستريح، ولكن الأم أصرَّتْ على البقاء، وخرج سليمان مع الطبيب.
وما إن خلت الحجرة بالأم وطفلها، حتى ألقت رأسها على سرير الطفل، وانطلقت تبكي في نشيج يمنعه خوف الأم من إيقاظ ابنها أن يعلو، وإنما هو بكاء حارٌّ مُكتَّم النشيج، دفَّاق العَبرات، ولكنها تمالكت أمر نفسها فجأةً، وقامت إلى البهو، فأحضرت التليفون، وعلى الضوء الخافت أدارت القرص، ولم تلبث أن وضعت السماعة، فقد حمل أزيز الرقم مشغولًا عن طلبها، وبعد دقائق رفعت السماعة مرة أخرى، وأدارت القرص نفس الدورات ولم تلبث أن قالت: وصفي.
– نعم.
– أأستطيع أن أكلمك؟
– أنا وحدي.
– لا يمكن يا وصفي، لا أستطيع.
– نعم أعرف.
– فلتكن صداقة.
– صداقة عميقة ودائمة يا سهير.
– إلى اللقاء يا وصفي.
– إلى اللقاء يا سهير.