الفصل الرابع عشر
كانت الصلاة جماعة في المسجد الكبير بقرية العواسجة، ولم يكن وراء الشيخ إلا قلة من الفلاحين، وقفوا وماء الوضوء يقطر من وجوههم، وكان يتقدَّم هؤلاء الفلاحين نفر من الطلبة ارتدوا الجلاليب الإفرنجية، وغطوا رءوسهم بالمناديل، وألقوا بعيونهم إلى الأرض في تخشع، كان ضوء المصباح المرتعِش ينسكب على وجهٍ جامدِ النأمات، مسبل العينَين، تقوم من تحته بنية قوية التركيب، ثبتة القوام، وقد ارتدى صاحبه جلبابًا أبيض موشعًا بالخطوط الحمراء، وأحكم على رأسه منديلًا كان ناسجه يريد له اللون الأبيض لونًا، ولكن عدا على إرادته أيدٍ كثيرةُ العبث، قليلة العناية، نزرة النظافة، ذلك هو السيد أفندي عبد البديع، النجل الأكبر لعبد البديع أفندي الدكر وزوجه محبوبة. حصل في عامه هذا على شهادة التوجيهية، وعاد إلى القرية ليَهْنأ بين أمه وأبيه وآلِهِ بلذة النجاح.
انتهت الصلاة، وخرج بعض المصلين من الجامع، وبقي فيه السيد والتلاميذ الآخَرون، وقلة ضئيلة من الفلاحين لم يتركوا الجامع، بل إن منهم مَن استقرَّ على الجلسة التي كان يقرأ بها التحيات، ومنهن مَن أخرج قدمه من تحت جسمه وأدارها، فأصبحت مثنية أمامه، ثم ألقى ذقنه إلى يده، ومدَّ بصره في تشوُّف إلى السيد، واتخذ السيد جلسة مستقرة بعد أن أدار ظهره إلى القِبلة، وراح يبسمل ويحوقل، متهيئًا لإلقاء درسه الديني، وقد خلا له الجو، وانفرد في الجامع بالفلاحين ومَن يصغرونه من الطلبة، منتهزًا فرصة جهلهم جميعًا، وفرصة علمه الضئيل المليء بالخزعبلات والأحاجي، وراح الفلاحون — قبل أن يبدأ — يمصون شفاههم، كأنهم يختبرون الصوت الذي يصدر عنها، أشبه ما يكونون بأفراد تخت موسيقي يجربون آلاتهم قبل البدء في عزف الدور الذي سيعزفون.
وبين أصوات الشفاه يمصها الفلاحون، وأسئلة صغار الطلبة يطلقونها لإثبات وجودهم، بدأ الدرس وانتهى.
وخرج سيد منتفخ الأوداج، مزهوًّا أن ألقى الدرس على هؤلاء القوم المساكين، وزاده كبرًا وزهوًا اثنان من مريديه لحقا به، وراحًا يسألانه في إكبار وإجلال: منذ متى يا سيد وأنت منضم إلى الشعبة الرئيسية في المديرية؟
– من زمان.
– ولم تخبرنا يا أخي ونحن معك كل يوم؟
– لا بد أن أثق بكما أولًا لأخبركما.
– وهل لك فئة خاصة تتفرَّع من هذه الشعبة؟
– نعم.
– وما اسمها؟ أهي الأسرة التي يقولون عنها؟
– هذا سر.
– ومَن رئيسها؟
– لا أستطيع أن أقول، هذا أيضًا سر لا أستطيع البوح به.
– لا بد أنك أنت الرئيس.
وعلى خيوط القمر الزرقاء رأى الصاحبان شبح ابتسامة تلوح مخايلها على شفاه السيد، فصاح أحدهما قائلًا: نعم إنه هو يا حسين.
وقال السيد نافيًا في لهجة تزيد ظنَّ الصاحبَين إثباتًا: لا يا شيخ، لا يا محمد، هذه أسرار يا رجل، أستغفر الله العظيم.
وسأل حسين: ولكنك يا سيد لا لحية لك.
وقال السيد مغيظًا: أنا بلا لحية؟ ألا ترى لحيتي؟
وقال حسين في بلاهة: لا.
وقال السيد في حدة: هات يدك، هات.
واجتذب يد حسين المسكين وحكَّ بها ذقنه فقال ذاهلًا: آه صحيح!
– لقد بدأتُ في إطلاقها قريبًا.
وكانت يد حسين لا تزال على لحية السيد حين انغرز كوع محمد في بطنه، وهو يهمس: انظر.
ونظر حسين إلى حيث يشير محمد فرآها، فإذا هو بغير وعي منه، يضرب محمدًا بكوعه ويضع سبابته أمام شفتَيه ويهمس: اسكت، أجننت؟
وكانت أنظار سيد كلها ناشبة في الفتاة التي تمُرُّ منهم على مقربة، تمشي زهوًا في خفة وإصرار، ولكن أذنه كانت صاغية إلى همس صاحبَيه، فهو يقول: ماذا يا محمد؟
وسارع حسين قائلًا في لعثمة: لا شيء، لا شيء يا سيد، لا شيء والله.
فقال سيد: يا أخي أنا لا أسألك، أنا أسأل محمد.
وقبل أن يلفظ حسين مجموعة أخرى من اللاشيء، قال محمد في صوت تبيَّن فيه الرغبة اللاهبة في أن يُلقي ما يزدحم في نفسه من أسرار: لا، لا شيء.
وقال سيد: وأنت أيضًا تقول لا شيء، يُخيَّل إليَّ أن هناك علاقة بين ناعسة وبين حسين.
وإذا محمد يقول في فرحة غامرة: شفت يا عم، أنا لم أقل له، عرفها هو وحده.
وقال سيد: أي علاقة بينكما يا حسين؟
وتلعثم حسين، بينما استطرد سيد قائلًا: قل يا أخي.
وازدادت لعثمة حسين، واشتعلت رغبة السيد في أن يعرف تفاصيل هذه العلاقة، كان يريد أن يعرف تفاصيل كل وشيجة من هذه العلاقة، ولم يجد غير مركزه الديني يركبه، ليصل إلى ما يريد، قال السيد ضائقًا: قل يا أخي، فكل إنسان عُرضة للخطأ، ولكن الإصرار على الخطأ هو الشرك والكفران.
قال حسين في تردُّد: لا شيء يا سيد، لا شيء إلا …
– هيه، إلا ماذا؟
– بوسة.
وقال سيد وقد اتسعت عيناه، وجفَّ ريقه، وسرَتْ في دمائه نشوة ثائرة: بوسة؟ أين؟
وتمالك حسين أمر نفسه بعض الشيء وهو يقول: في خدها.
– لا! أنا أقصد أين كنتما حينذاك؟
– أتعتقد أن لمكان وجودنا شأنًا كبيرًا من الناحية الدينية؟
وآن للسيد أن يتلعثم بعض الشيء وهو يقول: لا، لا طبعًا، وإنما … أحب أن أعرف المكان، وسأخبرك لماذا.
– في الذرة.
وقال محمد: وقعت يا بطل.
وصاح سيد في لهجة ظافرة: آه، أرأيت! لم تكن قُبلة على الخد إذن، لقد كانت قُبلة في الفم، في صميم الفم يا أستاذ، الذرة لا يذهب إليها مَن يريد قُبلة على الخد، هيه ما قولك؟!
– والله يا سيد مرة واحدة فقط، وتبت بعدها ورجعت إلى الله.
– هذا حرام يا حسين، لا بد أن تتوب إلى الله، وترجع إلى الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون، لماذا يا حسين؟ لماذا؟ وماذا فعلت معها؟
– ماذا؟
– ماذا فعلتَ معها؟ لعلك إن شرحتَ لي استطعت أن أطمئنك أنك لم ترتكب إلا اللمم، وحسابه عند الله يسير!
اشرح لي يا حسين، اشرح لي بالتفصيل.
وراح حسين يشرح، وكلما أغفل هنَّةً نبَّهَه إليها السيد في يقظة صاحية، لا يني عن القول كلما توقَّف حسين ليلتقط أنفاسه «يا سلام»، ودون أن يحس حسين يجيب في ذهول نشوان «والله».
وأتمَّ حسين القصة وصمت، وظلَّ ناظرًا إلى السيد، منتظرًا منه أن يقول شيئًا، وظلَّ السيد ناظرًا إلى حسين، متوهِّمًا أو متمنِّيًا أن تكون للقصة بقية، وظل الاثنان يحملق كلٌّ منهما إلى الآخَر فترة لم يدريا أطالت أم قصرت، حتى تنبَّه حسين أخيرًا وتلفت حوله: الله، محمد مشي، أنا أعرف أين ذهب، مسكين سيمرض من كثرة اختلائه بنفسه.
وقال السيد: ماذا؟
– لا شيء.
– هيه، وبعد؟
– وبعدُ فيمَ؟
– في حكايتك.
– حكايتي؟! حكايتي انتهت من زمان.
– وكم دفعت لها.
– ربع جنيه.
وهمس السيد لنفسه: ربع جنيه بنت الكلب، النهاية.
ثم عاد إلى حسين: هيه، وبعد؟
– وبعدُ فيمَ؟
– في حكايتك. انتهت؟!
– أقول لك انتهت.
– نعم.
ولكن السيد لم يقتنع بهذه الإجابة، بل إنه راح يسأل مرة أخرى عن تفاصيل معينة، في اهتمام شديد، وإنصات واعٍ، إلى أن استعاد القصة جميعها على طريقة سقراط من أسئلة وأجوبة، حتى إذا فرغت أسئلته، ظلَّ مُحَملِقًا في وجه حسين، وظل حسين مُحَملِقًا في وجهه هنيهة هو الآخَر، ثم قال: هيه.
وقال السيد وهو في غمرة من الأفكار: هيه ماذا؟
– أحرام ما فعلت؟
وانتفض السيد متذكِّرًا السبب الذي أبداه ليستدرج القصة إلى الخروج.
– آه، آه، حرام طبعًا، حرام يا بني والله، حرام، ولكن الله غفور رحيم، اذهب إلى البيت وصلِّ، وارجُ الله أن يغفر لك.
وانصرف حسين خجلًا يتعثَّر في مشيته، مُزمِعًا في نفسه توبة لا يعود بعدها إلى هذا الإثم.
واقترب السيد من الطريق الذي عبرَتْه ناعسة، وأقام مستخفيًا يرصد الطريق من حيث ذهبت، فهو يعلم أنها عائدة، فما كانت وجهتها إلى بيتها، ولا بد لها أن تعود وإنه لمنتظر.
كانت ناعسة فتاة ريَّانة العود، مليحة القسمات، وكان أبوها قد زوَّجها إلى رجل عجوز، طامعًا أن يعوض الرجل ابنته عن شبابه بالمال الوفير، ولكن الرجل خيَّب ظن حميه، فهو وإن ملك مالًا، إلا أنه لا يملك الجرأة على إخراج المال، ففقدت ناعسة في زوجها الحُسنيَين من شباب ومال، ولم تجِد ناعسة خيرًا من بيع محاسنها لتكسب بذلك كلَّ ما خسرته في زواجها.
ولم يعرف سيد هذه التجارة التي افتتحتها ناعسة إلا حين عاد إلى القرية، وقد تقبَّل هذه الأنباء في تأفُّف ظاهر، وفي رغبة مختفية أن يكون زبونًا لها، ولكن عاقه عن ذلك أمران: أولهما تظاهُره بالتقى تظاهرًا يسد عليه المسالك أو يكاد، وثانيهما قلة المال في يده، ولو كانت ناعسة قد بدأت تجارتها قبل أن ينحاز سيد إلى ناحية الدين، لأصبح شأنه غير هذا الشأن، ولاحتال على المال، وبلغ به من ناعسة ما يريد، ولكنها تأخَّرت. واتخذ هو مظهره هذا الذي يضيق به غاية الضيق، فما كان مؤمنًا بما يقول أو يفعل، وإنما انضم إلى فئة الدين حين أعجزَتْه الحيلة أن ينضم إلى فئة الفجرة، وإن كان إلى هذه الفئة الثانية أشد ميلًا وأكثر شوقًا، على أن هذا لم يفتَّ في عضده، فقد وعدَ نفسه خيرًا، وطلب إليها الصبر إلى أن تحين فرصة في طريق خالٍ.
وها هو ذا الطريق خلا، وناعسة تقترب منه: مساء الخير يا ناعسة.
– مساء الخير يا سي سيد أفندي.
– إلى أين؟
– إلى البيت.
– وفيمَ العجلة؟
– تأخرتُ.
– أريدكِ في كلمتَين.
– وأي كلام بيننا يا شيخ سيد.
– كلام مهم والله.
– تفضَّل، قُلْهُ.
– لا، لا ينفع الكلام هكذا.
– وما الذي ينفع؟
– تعالي.
– إلى أين؟
– إلى الذرة.
– الله، شيخ سيد!
– ماذا؟
– شيخ سيد، حتى أنت يا شيخ سيد؟
– لا والله، وإنما كنت أريد أن أكلِّمك.
– تكلَّمْ، المكان الذي نحن فيه يصلح للكلام، أما الذرة يا شيخ سيد …
– شيخ سيد، شيخ سيد، هل شفتني ألبس العمامة والجبة؟
– لا، ولكن شفتك في الوعظ يا شيخ سيد!
– يا شيخة، تعالي.
– عيب يا شيخ.
– العيب ما فعلتيه مع حسين.
– أقالَ لك؟
– نعم.
– طيب، هل معك المبلغ؟
– والله ليس حاضرًا معي، أعطيك غدًا.
– غدًا لا ينفع يا ﺷﻴ … يا سيد أفندي، كيف أستطيع أن أطالبك غدًا، الدفع مُقدَّمًا يا سيد أفندي.
– وإن كنتُ مفلسًا؟
– فلا أعطلك.
– ولكني أريد أن تعطليني.
– هات كيلة ذرة.
– كيلة؟!
– نعم، كيلة.
– فانتظريني حتى أحضرها.
– أين؟
– في ذرة أبي، على طرف الغيط من ناحية الترعة.
– لا تتأخر.
– حالًا.
وانصرف سيد إلى بيتهم مُسرِعَ الخطو، فما إنْ بلغَه حتى خلع حذاءه وتسلَّل على أطراف أصابعه إلى الحجرة التي يعلم أن بها الذرة، وملأ طرف جلبابه ذرة تزيد على الكيلة، فما راجعها في الكمية إلا حبًّا في المراجعة، وخرج سيد متلصِّصًا كما دخل، ونفض المكان بعينَيه، وخُيِّل إليه أنه لم يرَ أحدًا، ومشى سبيله إلى المكان، وما إنْ بلغَه حتى همس: ناعسة … ناعسة أين أ…
ولم يكمل الكلمة، فقد انصبَّت على قفاه يدٌ حديدية صاحَبَها صوت أبيه مغيظًا صارخًا في حنق، دون أن ترتفع نبراته: أهي ناعسة يا ابن الكلب؟ وعامل لي شيخًا تنقصك العمامة يا ضال يا زاني يا ابن الكلب، قدامي إلى البيت، قدامي أنت وذقنك، والله لتسافرنَّ غدًا إلى مصر.
– أبي؟
– اخرس وامشِ، امشِ … امشِ.
– إنها … إنها …
– اخرس قلت لك.
ومشى سيد يتعثَّر في خطاه، ومن ورائه أبوه، حتى إذا بلغا البيت قاد الوالد ولده إلى المخزن، وأعاد الذرة إلى مكانها، ولم يستطع أن ينتظر حتى يخرجا من الحجرة، بل هو يقفل الباب ويحكم رتاجه، ويمسك بتلابيب ولده، ويخلع النعل من قدمه …