الفصل الخامس عشر
كان أحمد جالسًا إلى أمه في إحدى غرف القصر حين دخل إليهما حسام الذي حيَّا خالته وقبَّلها ثم جلس، وقالت سهير: كيف حال سميحة وأختك نوال؟
– بخير والحمد لله.
– لقد قالت لي أمك اليوم إنها ستأتي.
– والله لا أعرف، فأنا لم أقل لها إني قادم إليكم.
وسكتت سهير، وران الصمت عليهم بعض الحين، ثم قطعَه حسام متسائلًا، وهو يظهر عدم الاهتمام، فيخيب تظاهره: أين هناء إذن؟
وقالت الأم: يا سيدي صممت أن تشتري هي لأخيها ما يلزمه من أقمشة للحُلَل والقمصان ليدخل بها الكلية.
– ولماذا لم تذهب أنت يا أحمد؟
– يا أخي، أنا لا تهمني الأناقة، ولكن نينة هي التي تريد أن تشتري لي ثيابًا جديدة، وقد صمَّمَت هناء أن تختار هي الملابس.
وقال حسام: وهل نزل معها عمي سليمان؟
فقال أحمد في شبه سخرية: وما شأن عمك سليمان بهذا؟
فقال حسام متلعثِمًا: لا، لا شيء، ولكن هناء وحدها؟
وابتسمت سهير في فرح وهي تقول: لا تخشَ شيئًا يا سي حسام، لقد خرجت في السيارة مع السائق، ولن تذهب إلا إلى محل واحد، وتعود في السيارة، اطمئن يا حبيبي، والله لولا مرضي لخرجتُ معها.
وازدادت لعثمة حسام، وقد أحسَّ أنه قد كشف خبيئة نفسه: لا، لا شيء، لا شيء ولكن …
وحينئذ جاء الخادم ليُعلن إلى أحمد مجيء فوزي عبد المجيد، ووجد حسام طريقًا آخَر يسلك فيه بحديث جديد، فقال: يا أخي فوزي هذا لا أطيقه أبدًا.
فقال أحمد: ولماذا يا سيدي؟ ألأنه يقول الحق؟
– أكان حقًّا هذا النقد الذي راح يكيله لعمي وصفي باشا.
فقالت سهير في اهتمام: ينتقد وصفي باشا؟ وأمامك يا أحمد، كيف تسمح له؟
فقال أحمد في لعثمة: إنها مرة واحدة، وقد ردَدْتُه في خشونة، وأخبرتُه أنني لا أحب أن يُذكَر أمامي عمي وصفي باشا إلا بالخير.
وتدخَّل حسام ثانية قائلًا: ليس هذا فقط، ولكنه كثير الانتقاد للأغنياء، وكثير الكلام عن الغِنى، فهو لا ينسى مرةً أن يقول: إن الغِنى لا بد أن تصاحبه الميوعة والجمود، وعدم الإحساس بالفقراء، وكدحهم وشقائهم.
وسارع أحمد قائلًا: أليس هذا صحيحًا؟
ودهشت الأم من كلام أحمد، فسارعت تقول: لا يقول هذا إلا حاقد، إنما الغنى والفقر بيد الله، والغنيُّ رجل كدَّ واجتهد حتى أصبح غنيًّا.
فقال أحمد: أنا لا أرى أبي قد كدَّ واجتهد.
وأُرتِجَ على سهير هنيهة، ثم قالت: بل إنك تعلم أن أباك قد نال دبلوم الهندسة …
فقاطعها أحمد قائلًا في سخرية خبيئة: من أوروبا.
وأحسَّتِ الأم تهكُّم الابن، ولكنها تجاهلته، وقالت: وهل ترى أباك غنيًّا؟
– هو غني بلا شك، إنه يعيش عيشة الأغنياء.
– أنت تعلم أنه ليس غنيًّا.
– إذن فأنتِ الغنية، كم اجتهدتِ أنتِ وكم كدحتِ؟
– أبي كدَّ واجتهد، حتى يوفِّر لي السعادة.
– أبوكِ اجتهد، فلماذا تستفيدين أنتِ؟
– إنه لولاي ما اجتهد، أي غريبة في ذلك، إنَّها سُنة الكون، الأبناء يخلقون الطموح في نفوس الآباء، إنك غدًا حين تنجب أطفالًا ستعلم كيف يكون الطموح، وحينئذ تسعى إلى أن تجعل أولادك أغنى الأولاد، تلك يا بُني حكمة الله وسُنته، وبها تدور عجلة الحياة.
– نعم أعرف، فكلما أُرِيدَ لنا أن نسكت فلا نفكِّر ذُكِر الله، فلماذا لا يعطِّل الله تفكيرنا حتى لا نفكِّر في عدله وحكمته وسُنته وكل هذه الأشياء التي تبدو لنا، وغيوم الشك تغشاها.
وصاح حسام: أرأيتِ يا خالتي هذه أقوال فوزي.
فقال أحمد: وإنها حق.
وأصبح وجه الأم باسِرًا قلقًا: ما هذا الكلام يا أحمد، ما هذا الذي تقول؟
– رأيي.
– لا تظن أنك بهذا الرأي تبدأ طريقًا جديدًا، إنها طريق سبقَكَ فيها الكثيرون، وعادوا عن رأيهم.
– إنهم سجناء، جبناء لا يقوون على فكِّ قيودهم، إنهم سجناء العادة والوهم والتقاليد، لو أمعنوا التفكير وفكوا قيودهم لما عادوا، إنهم القطيع.
ورأى حسام أن النقاش سيحتدم، ورأى وجه خالته يحتقن، وخشي أن تُصاب بالنوبة القلبية التي تعاودها، فسارعَ قائلًا: قم، قم يا عبقري، انزل إلى صاحبك العبقري الآخَر!
وفهمَتْ سهير ما أراد إليه ابن أختها، فسكتَتْ مُذعِنة، فما كانت تطيق أن تُغضِب ابنها، وقال أحمد: وأنتَ؟ ألا تنزل معي؟
– نعم سأنزل معك، وأمري إلى الله.
وصاحت سهير بالخادمة: يا نبوية، هاتي سجادة الصلاة.
ونزل الشابَّان، وأقامَتْ سهير الصلاة، وبينما هي تصلي دقَّ جرس التليفون وأجابت نبوية فسمعتها سهير وهي تقول: لا يا سعادة الباشا، إنه ليس هنا.
ثم سمعتها تقول: إنها تصلي.
ثم قالت: لا، لن تتأخر.
وتركت السماعة إلى جانب التليفون، وسرعان ما أنهَتْ سهير الصلاة، وانفلتت إلى التليفون ليقول لها وصفي: أين سليمان؟
– خرج.
– أنا في البيت، بمجرَّد مجيئه أخبريه أني منتظره.
– هل حصل شيء يا وصفي؟
– لا أبدًا، ولكن أريد أن أراه في مسألة تهمه.
– طيب.
وبدت هناء صاعدة من السُّلَّم، حتى إذا بلغَتْ مجلس أمها رأتْ على شفتَيها مخايل ابتسامة يحيط بها شيء من الفرح، فقالت لأمها: خير، ما هذه الابتسامة؟
– لا، لا شيء، ولكن ابن خالتك حسام كان هنا، وزعل لأنك خرجتِ وحدك.
فتجهمت هناء قائلة: وما شأنه هو؟
– شأنه؟ إن له شأنًا ليس لأحد، إنه يحبك.
– وأنا أحبه أيضًا، أحبه كما أحب أحمد، لقد رُبِّي معي ولا أستطيع أن أنظر له إلا كأخ.
فقالت الأم في جد: اسمعي يا هناء، مسألة الأخوة هذه عذر فقط!
ثم تنهدت من أعماق ذكرياتها، وقالت: مَن قال إن القريب لا يحب، هناء، هذا عذر فقط فاذكري لي الحقيقة.
– الحقيقة أني غير معجبة به!
– لماذا؟ إنه شاب غني متقدِّم في دروسه.
– عقليته يا نينا.
– ما لها؟!
– عادية، إنسان عادي جدًّا.
– ألا يشفع له غِناه؟
– على العكس، أنا أريد إنسانًا فقيرًا يغنى بعمله واجتهاده ونكبر معًا.
– هذا هراء يا بنتي، فأنت غنية، وإذا تزوجتِ فقيرًا، فسوف يركن إلى غناكِ، ولا يسعى للغنى.
– يا نينا لا أستطيع أن أفكِّر فيه كزوج، إنه ابن خالتي مثل أخي تمامًا.
– عدنا إلى هذا، وأنا ألست متزوجة من ابن عمي؟
وترددت هناء هنيهة، ونظرَتْ إلى حيث لا تلتقي عيناها بعينَي أمها: وهل أنتِ سعيدة يا نينا؟
وأُرتِجَ على سهير، فما تدري بماذا تجيب ابنتها، وقبل أن تصوغ جوابًا، سمعَتْ أقدام سليمان صاعدة على السلم فنادت: سليمان.
– نعم.
– وصفي منتظرك في بيته، ويريدك أن تذهب إليه الآن.
– الآن؟
– نعم.
وعاد سليمان طريقه إلى الباب الخارجي، وما كاد يتركه حتى دخل البيتَ عبدُ البديع ووراءه السيد حاملًا حقائبه.
وأرسل عبد البديع إلى سهير يستأذنها أن يلقاها فأذنت، وصعد إليها يُنبِّئها أنه جاء بسيد ليقيم لديهم، فرحَّبت به وطلبت إلى عم دهب أن يُعِدَّ حجرة للسيد، وينصرف عبد البديع داعيًا لسهير وأولادها بطول العمر والرفاهية، ولا ينسى عبد البديع ألا يدعو لسليمان بأي خير، فما كان يرجو له خيرًا.