الفصل الثامن عشر
كان أحمد جالسًا إلى فوزي في حجرة المكتب التي خُصِّصت لأحمد في القصر، إنها حجرة جده ذاتها، وكان فوزي جالسًا في عظمة، وقد وضع ساقًا فوق ساق، حين قال له أحمد في مرارة: أرأيتَ؟! لقد رفضَتِ المجلة نشر مقالتي الأخيرة أيضًا!
– طبعًا يا أخي، إن كتابتك تقدُّمية لا تقبلها هذه المجلات البرجوازية.
– إن جعفر ينشر مقالاته بانتظام بها.
– وفيمَ يكتب جعفر؟ مقالات تافهة لا أفكار فيها ولا جرأة.
– نعم، ولكنه ينشرها.
– لا بد أن أباه أوصى به رئيس التحرير.
– أبدًا يا أخي، عمي وصفي لا يتدخَّل في هذه الأمور أبدًا.
– إذن فرئيس التحرير يُجامله من أجل أبيه.
– فلماذا لا يجاملني أنا من أجل عمي؟
– مقالاتك لا تصلح لمثل هذه المجلات التافهة.
– فأين أنشر أذن؟
– سيأتي اليوم الذي تكون لنا فيه مجلة، وسأنشر أنا لك فيها، ولكن اسمع …
– ماذا؟
– الليلة اجتماع الخلية، وستلتقي هناك بفؤاد زين العابدين قبل سفره إلى موسكو، فقد عُيِّن في السفارة المصرية بها.
– يا أخي دائمًا تخطئ، إن اسمه زكي.
– هذا اسمه الحركي.
– والمفروض أننا لا نعرف إلا اسمه الحركي.
– طيب يا سيدي، علِّمني، علِّم.
– وأين الاجتماع؟
– في مكانه.
– ألم يتغير بعد؟
– لا، لم تصدر الأوامر بالتغيير.
– يا أخي أنا غير مرتاح لهذا المكان.
– أنت محق.
– وبعد؟
– لا شأن لنا، علينا أن ننفذ الأوامر.
– الأوامر … الأوامر، أليس لنا رأي؟
– الرأي رأي المحترف يا أحمد، ماذا؟ أنسيتَ؟
– لا، لم أنسَ، ولكني أخشى.
– المفروض أننا لا نعرف الخشية.
– أعرف.
– موعدنا الليلة الساعة التاسعة مساء.
وطُرق باب الغرفة، ودخل سيد: السلام عليكم ورحمة الله.
– أهلًا أبا السيد، ذقنك!
– ما لها يا سي أحمد؟ دع ذقني في حالها، يكفيني ما بي.
– خير يا سيد.
– من أين يأتي الخير؟
– من ذقنك يا أخي.
– يا أخي صلِّ على النبي!
– لا، لا لزوم لذلك.
– أنت حر، الليلة اجتماع الأسرة.
فقال فوزي مسرعًا: أين؟
– لا شأن لك يا سي فوزي، نحن أيضًا لنا أسرارنا.
– طيب وماذا يضايقك في هذا.
– يضايقني أنني لم أذاكر منذ أسبوع، والعوض على الله في هذه السنة.
فقال أحمد: الملحق يا أبا السيد، البركة في الملحق.
– كل عام ملحق، أنت لا تعرف الذل الذي أراه من أبي حين يعرف أن عندي ملحقًا.
فقال فوزي: لا عليك، الملحق في سبيل الله، في سبيل الحق.
فقال سيد: ماذا جرى يا سي فوزي؟ على كل حال أحسن من الملحق في سبيل الرفيق، في سبيل الشيطان.
وقال أحمد مغيظًا دون أن يبين عن غيظه: أي شيطان يا سي سيد؟
وقال السيد متخاذلًا: الشيطان الرجيم يا سيدي، الشيطان الرجيم.
وفُتح باب الحجرة ودخلت هناء: مساء الخير يا جماعة.
فسارع فوزي قائلًا: إن تحيتك هذه للسيد وحده، فهو الجماعة.
فقال سيد في هدوء: لا يا سيدي، فسيد وحده هو المستثنى من التحية.
فقالت هناء: مساء الخير يا أولاد.
فقال فوزي: عظيم، أصبحَتِ التحية لنا جميعًا.
والتفتت هناء إلى أحمد تقول له: أقرأتَ خطبة عمي وصفي في البرلمان؟
– لا.
– إنها … رائعة!
وقال فوزي في تعاظُم: أما تزالون تهتمون بهذه التفاهات؟
فقالت هناء في تعجُّب: خطبة وصفي باشا في البرلمان تفاهة؟!
– طبعًا.
– الجرائد كلها تعلِّق عليها، والناس لا حديث لهم إلا الخطبة.
– الجرائد عبارة عن كُتَّاب مأجورين، والناس ما هم إلا ببغاوات، لا أعتقد أن فتاة لها عقليتك الواعية الذكية تهتم بآراء الجرائد أو قطيع الناس.
وقال سيد مغيظًا: الناس ببغاوات وقطيع، والجرائد مأجورة، ومجلس النواب تفاهات، فما الذي يعجبك في مصر؟
فقال فوزي في كِبر: أنا.
وقال سيد في ثورة يحاول جهده أن يكتمها: فقط!
– ومَن يرى رأيي.
– ومَن يخالفك؟
– لا يخالفني إلا مُغرِض جبان مُقيَّد بالتقاليد العفنة وبالرغبات الحقيرة.
وتلعثم سيد، وحاول أن يجمع إجابة تردُّ فوزي إلى بعض تواضُع، ولكن قبل أن يتكلم دخل جعفر وحسام، وقبل أن يتبادل الداخلان التحية مع الجالسين، سارع سيد قائلًا، وكأنما هو غريق يجد منقذه: الله أكبر، جعفر بك جاء، سيريحنا أو سيريحني أنا شخصيًّا من الرد عليك، أنقذنا يا جعفر بك — أنا في عرضك — فوزي يا جعفر بك … فوزي يا أخي سيقتلني بغروره.
– أولًا وقبل الكلام عن فوزي، ما هذه البك التي عادت إلى الظهور في كلامك؟
– والله تعودتُ، سمعت أبي يقولها، تعودت يا بك … يا جعفر.
– نحن زملاء، ولا أحب مطلقًا هذه الطريقة، والآن فلنعد إلى فوزي، ما له؟ فيمَ يتعبك؟
– لا يعجبه أحد في البلد إلا نفسه.
– هذا من حقه يا أخي، ومن يعرف؟ لعلنا جميعًا نعجب بنفوسنا هذا الإعجاب.
فقال فوزي: أنا أتكلم عن الجرائد والناس، وأرى الجرائد كلها مأجورة، والناس قطيع وببغاوات وجهلة.
فقال جعفر: أي ناس؟
– الشعب.
– الشعب؟! الشعب الذي تريد له المساواة قطيع وببغاوات.
– وما دخل هذا فيما أريده له؟
– سبحان الخلاق العظيم! إن مذهبك يرمي إلى جعل الشعب على درجة متساوية في الغنى، ومستوى المعيشة.
– لا يا سيدي، ليس هذا فقط ما أريد، وإنما أريد أن أثقِّفه.
– مَن هذا الذي يريد؟
– المذهب الذي أراه.
– وهل المذهب سيثقِّف الشعب من تلقاء نفسه؟
– لا، سيقوم بذلك زعماؤه.
– ومَن سينتخب هؤلاء الزعماء، هل الشعب هو الذي سينتخبهم؟
– نعم.
– أهذا ما يحدث؟
– إنهم الآن في فترة انتقال، ولا بد أن يُفرض الزعماء لفترة مُعيَّنة، ثم ينتخبهم الشعب.
– ومَن الذي يفرضهم؟
– هم يفرضون أنفسهم.
– ومَن يعطيهم هذا الحق؟ كيف لهم أن يعرفوا أنهم أصلح الناس للحكم؟
– لا بد ممَّن يحكم، وهم يملكون الجرأة.
– الجرأة وحدها؟!
– لا أفهم.
– بأي قوة يفرضون أنفسهم.
– بقوة السلاح.
– إذن فأنتم تُرغمون الشعب أن يقبل حكامًا لا يريدهم، وتُرغمون الشعب أن يرضى بلون من الحكم لا تعرفون رأيه فيه، وتُرغمون الشعب على أن يقبل نوعًا من الحياة لم يتعودها، ثم تتغنون بالحرية التي يجب أن يتمتع بها الشعب وبحق الشعب في الحياة، ولا تخجلون مع هذا أن ترموا الشعب بالجهل وبأنه قطيع.
– إنها فترة انتقال.
– إن فترة الانتقال في ظل الدكتاتورية لا تنتهي؛ لأن الحاكم حين يصل إلى كرسي الحكم، يعلم أنه وصل إليه على غير حق، فهو يحيط نفسه بالحرس، ويفرض أوامره، فإذا هي قوانين، وينهب الأموال، ويعيش عيشة رغدة بلا رقيب ولا حسيب، فالذين حوله جميعًا يتمتعون بما يتمتع به من رغد، وتنشأ طبقة حكام أغنياء، وطبقة محكومين فقراء، وبناء على نظريتكم، لا بد أن تقوم ثورة أخرى لتتم المساواة في الرزق ومستوى المعيشة، ويسقط هؤلاء الحكام، ويتولى الحكم حكام آخَرون، وتتكرر المأساة، وكل حكم جديد يحتاج إلى فترة انتقال، فإن سألتَ: انتقال إلى ماذا؟ وإلى أي مدى يدوم هذا الانتقال؟ فلن تجد جوابًا، ولكننا نحن نعرف الجواب، إنه انتقال إلى الآخرة.
– نحن؟ عن أي نحن تتكلم؟
– نحن أعداءَكم الذين نحب الديمقراطية، الشعب يختار حُكَّامه، ويختار مَن يمثِّله ليحاسبهم، وتقف مهمته عند هذا ليفرغ إلى حياته.
– تقف مهمته! والذين يمثِّلون الشعب هؤلاء، أيقف عملهم عند محاسبة الحاكمين؟ أم إن عملهم الأساسي الرجاء لدى الحاكمين، والسعي لإنجاز الخدمات والمصالح؟
– أولًا أنا أحادثك عن النظام الديمقراطي في عمومه، وأنت تحادثني عن النظام الديمقراطي في مصر، وعلى كل حال، الذين يسعون لدى الحاكمين يريدون أن يصنعوا خيرًا لأفراد من الطبقة التي لا تستطيع الوصول إلى هؤلاء الحاكمين، وما أرى في ذلك بأسًا.
– والرشاوَى التي يدفعها هؤلاء الفقراء؟
– ذلك هو الفساد، وهو فساد أشخاص، وفساد الأشخاص لا يعني فساد نظام.
– نظام متعفِّن، رأسمالي إقطاعي، يقوم على النهب، واستلاب أموال الناس، قلة ضئيلة تبتلع أموال أمة.
– إذا بدأتَ الشتيمة في النقاش، فمعناها أن الحُجة ضاعت، وعلى كل حالٍ أنت تجور في حكمك، لأن هؤلاء الذين تقول عنهم إنهم يأكلون أموال الأمة هم الذين يدفعون الضرائب، وهم الذين يعولون من حولهم من الفقراء، ويمدُّونهم بالعون.
– يعتقدون أنهم متفضِّلون، إنهم يُعطون الفقراء من حقهم.
– لا يا سيدي، إن الله قد شرع نظامًا للزكاة، وإن كثيرًا من الأغنياء يطبِّقون هذا النظام، وإن الضرائب التي تفرضها الحكومة هي نوع من الزكاة التي شرعها الله.
وتدخَّل أحمد في الحديث: الله … الأفيون المخدِّر الذي تُسكتون به القطيع من أبناء الشعب.
– أحمد، أنت في أشد الحاجة إلى هذا المخدِّر، لن أناقشك في الله، فإننا نحسُّه أولًا، ونؤمن به، ثم نفكِّر فيه، فحين تؤمن به وتحسُّه، سأناقشك.
– تهرب من النقاش؟
– لا، وإنما أُكبِرُ الله أن يكون محل نقاش تافِه كهذا، سبحانه، إننا نؤمن به، ونحب أنفسنا، لأنها تؤمن به.
وقفز سيد واقفًا: يسلم فمك يا جعفر بك، بك واحدة؟ يا جعفر باشا، يا جعفر ملك.
وقال أحمد ضائقًا: هرِّج يا أخي هرِّج، يا أخي ألا تتوقَّر من أجل ذقنك هذه؟
وقال حسام في ضحكة عريضة: هرِّج يا أبا سيد هرِّج، ولا تهمك الذقن، فوالله لا يعجبني فيك إلا قلبك الأخضر مع ذقنك الوقور هذه.
وخرج فوزي من الحجرة جادًّا، وترك مَن فيها يضحكون من سيد، وما لبث أن عاد وهو يقول: أستئذن أنا.
وقبل أن يتكلم أحد، مدَّ يده مضمومة إلى هناء، فمدَّتْ يدها إليه لتستقبل تحيته، فإذا أنامله تنفرج في يدها عن ورقة صغيرة محكمة اللف، وذهلت هناء هنيهة ثم ما لبثت أن تمالكَتْ أمر نفسها، وسحبَتْ يدها من يده، وقد أصبحتِ الورقة فيها.
وكان أحمد مشغولًا بإثارة جعفر، وحسام مشغولًا بالسخرية من السيد، ولم يكن منتبهًا إلى هناء إلا السيد الذي رأى كلَّ شيء، فانعقد لسانه واجمًا في ذهول حيران، يهمُّ أن يمسك بتلابيب فوزي ويقتله، ولكن يردُّه عن ذلك خشيته أن يذيع ما ينبغي له أن يخفي من أمر هناء، ويردُّ نفسه إلى الصمت فتثور عليه في عزة الفلاح، وكِبْر المحب، ووفاء المعترِف بالفضل لهؤلاء القوم الذين يمهِّدون له أسباب الحياة، وينشغل القوم في توديع فوزي، ويجد السيد أن لا سبيل أمامه غير الصمت، فيصمت على ثورةٍ في نفسه تغتلي، لا يهدأ لها أوار.
وما يكاد فوزي يخرج حتى يقول حسام: هناء، هل رأيتِ سيارتنا الجديدة؟
فما يندُّ عن هناء غير «هيه» ذاهلة، فيقول حسام: هوه … أين أنت؟ أقول لكِ هل رأيتِ سيارتنا الجديدة؟
ويقول السيد في نفسه: «يا خيبتك الكبيرة، أتسألها أين هي سارحة؟ اعلم يا خائب أنها سارحة في شيء قريب جدًّا منك ومنها، في جيبها يا خائب، مُدَّ يدك إلى جيبها، ولكن لا، لا تفعل، فأنا أخشى عليها أن تفجع في سرها، وقاها الله السوء، ولكن السوء كله في جيبها هذا، أدرِكْني برحمتك يا رب، ألهمني الرشاد ماذا أفعل؟ أتراني أفكِّر في أمرها من أجل وفائي لأهلها، أم من أجل حبي لها؟ سؤال عجيب، لماذا لا يكون للسببين كليهما، المهم ألا أترك ابن الضائعة هذا يأخذ الفتاة من أهلها، وهل أستطيع؟ نعم إني أستطيع، إني سأرقب هذا الفتى، فما أجعله يغيب عني لحظة، وكيف؟ إني ذاهب الآن إلى اجتماع الأسرة، لن أذهب … طيب، وكيف أستطيع أن أراقبه إذا ركب سيارة أحمد؟ ما أظن أني في حاجة للمراقبة عندئذ، فإنه لن يذهب في صحبته إلى لقاء غرامي مع أخته، وما البأس عليَّ إذا أنا راقبتُ هناء؟ هذا أجدى، أم تراه أمتع؟ يا أخي فكِّر في هذه المصيبة أولًا، ثم فكِّر في حبك اليائس، على كل حال أنا هنا، رقيب عليكِ يا ست هناء، أينما ذهبتِ، فأنا حيثما تذهبين».
وصحا السيد من غمرته ليجد النقاش لا يزال يدور حول سيارة حسام، فجعفر يقول: عجيب أنت يا أحمد، تركب سيارة فاخرة وتعيش في قصر باذخ، ثم تأخذ على الناس أن يركبوا ما تركب، ويسكنوا في مثل ما تسكن.
– هذه ليست سيارتي، ولا هو بيتي.
– يا أخي … بِع السيارة وتصدَّق بثمنها على الفقراء.
– هذه مشكلة تافهة، فما ثمن سيارة وسط مستنقع الفساد، النظام جميعه فاسد، رأسمالي برجوازي، إنني بسيارتي أخدم الهدف الذي أسعى إليه، ولو أن هذا سر ما كان لي أن أبوح به.
– والله إن لم تَبُح به لما أحسستَ بالمتعة التي تحسها فيه، إنك لا تمشي خلف مذهبك هذا إلا من أجل ما تتوهَّم أنه أسرار، تهاويل وطقوس ومراسم هي التي تُغريك.
– هذا كلام الانحلاليين.
وقفز حسام عن كرسيه في غضب: ليست هذه عيشة، إن واحدًا منا لا ينطق بكلمة حتى تنقلب إلى مناقشة وبرجوازية وانحلالية وديمقراطية وزفتية وبعد، ألا نرتاح من هذه المصائب لحظة؟ قل لي يا حبيبي يا أحمد، قل لي يا أخي، أتعتقد أن الرفيق الأعلى، وأقصد ستالين بالطبع، أتعتقد أنه لا يضحك أبدًا؟ أتعتقد أنه لا يتكلم في شيء آخَر غير هذا الهذاء الذي تقوله؟ إذن فعيشته سوداء، أنا خارج يا أخي، واستمروا أنتم في نقاشكم!
وضحك جعفر، وهو يقول: اقعد، اقعد ولن نتكلم في هذا، اقعد وهرِّج كما تشاء.
– لا يا أخي لن أقعد، أنا ذاهب يا أخي إلى أصدقاء حمير مثلي، يتكلمون عن … النهاية … هناء معنا، يتكلمون يا أخي كخلق الله الآخَرين، نضحك يا أخي نتمتع بحياتنا ولا ننكدها، السلام عليكم، يا هناء قولي لخالتك إنني خرجت، وسأرجع متأخرًا بعد السينما.
وقالت هناء: خالتي هنا!
فقال حسام وهو واقف بالباب: نعم إنها في الدور الأعلى مع خالتي ومعها نوال.
وخرج حسام، وقامت هناء وهي تقول: سأصعد إلى خالتي، فإني من زمن لم أرَها.
وقال جعفر: وأنا أيضًا سأصعد معك لأرى عماتي، ألا تأتي معنا يا أحمد؟
وقام أحمد متثاقلًا وهو يقول: آتي.
وخلت الغرفة بالسيد، فأبقى بابها مفتوحًا، واتخذ لنفسه كرسيًّا مواجهًا للباب، ليرى هناء إن هي حاولت الخروج.
صعد الثلاثة إلى الدور الأعلى وتبادلوا التحيات، وجرى الحديث بين الجميع، والتقط جعفر طرفًا منه وراح يتحدث، ورأى أحمد الجميع ينصتون إلى الحديث، يضحكون أو يبدون اهتمامًا يرتاح إليه المتكلم، وراح يسائل نفسه … لماذا لا يستطيع هو أن يتكلم؟ بل لماذا لا يستطيع أن يفعل شيئًا على الإطلاق؟ جعفر يكتب في المجلات، وأنا أكتب ولا أستطيع أن أنشر شيئًا، بل إنني لو خلصت إلى ضميري، لحكمتُ على ما أكتب بأنه غير صالح، ولقد لجأت إلى الكتابة بعد أن حاولت الرسم فلم أفلح فيه، ولن أنسى يوم أحضرَتْ لي أمي هذه الكمنجة الفخمة، ثم لم أستطع أن أعزف عليها شيئًا، لا شيء، أنا … لا شيء على الإطلاق … اللهم إلا المذاكرة والنجاح، المصيبة أن جعفر والرسامين من إخواني والموسيقيين، أغلبهم يذاكر وينجح، فبماذا أمتاز عليهم؟ إنني في هذا البيت إله، إن أحدًا لا يتمتع في بيته أو في ملكه كما أتمتع أنا، إشارتي أمر، وكلمتي تقديس، وأوامري تنزيل من حكيم عليم، على حدِّ احترامهم للحكيم العليم، ولكني إذا تركت البيت فما أنا، أنا لست شيئًا إلا منذ انضممت إلى إخواني هؤلاء، أحسستُ أني أفكِّر للكون جميعه، وأرسم الخطة للعالم أن يسير عليها، أنا في ذلك المكان شيء خارج عن قطيع الناس، ولكني أريد أن أكون فيه ذا سلاح، نعم لم يبقَ لي إلا القلم، إنه أسهل الفنون، فما يحتاج الأمر في الكتابة إلا أن أخطَّ على الورق، ولكن هؤلاء الصحفيين لا يعترفون بي، يقول جعفر «اقرأ»، فهل قرأ هو؟ نعم، أظنه فعل، ولكن جعفر آسِن العقل، لا حرية في تفكيره، ولا في اتجاهه، مقيَّد بالتقاليد الآسِنة، الحمد لله أنه كذلك، وإلا انضم إلى جماعتي، وحينئذٍ لن أكون أنا شيئًا، بينما أنا الآن بينهم كاتبهم الأوحد، لأن أحدًا منهم لم يحاول الكتابة، ولكن ماذا أكتب لهم؟! بحسبي أنهم يُطلِقون عليَّ لقب كاتبهم، وما هو بالشيء الهزيل.
ونظر أحمد في ساعته ثم قال: سأترككم أنا فإني على موعد.
وقالت أمه: أي موعد؟
فأخطأ أحمد عن عمد وهو يقول: اجتماع.
ثم قال وكأنه يستدرك: اجتماع مع بعض أصدقائي، سنذهب إلى السينما، سلام عليكم.
وكان جعفر مدركًا لكل التصنُّع الذي افتعله أحمد، ولكنه سكتَ، بينما تعلَّقتْ عينا هناء بأخيها هنيهة، حتى إذا خرج من باب الغرفة لحقت به، وقبل أن يهبط الدرجة الأولى من السلم قالت له: أحمد.
ووقف أحمد: نعم.
– تأكد من خلوِّ المكان من الجواسيس يا أحمد، وإذا شككتَ في شيء فارجع يا أحمد.
فقال أحمد في تعاظُم: لا تخافي.
ثم راح يهبط السلم وهو يحس بعينَي أخته وهما ترقبانه، فزاده هذا شعورًا بالكبر والأهمية، وما لبث أن نفض عن ذهنه ما فكَّر فيه حين كان جعفر يتكلم، فهو الآن واثق، واثق كلَّ الثقة أنه شيء، بل إنه كل شيء.