الفصل الثاني
خرج وصفي من الحجرة وأغلق الباب من خلفه، ولكنه لم يقصد إلى الباب الخارجي للمنزل، بل هو يقصد إلى الحديقة الخلفية يتمشَّى في أنحائها رويدًا، وكأنما لا يهدف لغير الاستمتاع بضوء القمر الذي ينسكب على الحديقة، حتى إذا بلغ السلم المؤدي إلى النيل، نزل عليه في سرعة، وفي لمحة أخفاه الجدار الأبيض القائم هناك عن الحديقة والمنزل جميعًا.
هنا الموعد، موعده مع سهير، تُرى ماذا تخفي لهما الأيام؟! إنها سهير بجمالها الرائع، بذلك القوام الفارع، وهذه الضحكة العذبة التي لا تغرب عن ثغرها، ثغرها ذلك الحلو الذي يُلقي الكلام رقيقًا جريئًا، عميق المعنى حلو الرنين، سهير بذلك الوجه الذي يميل إلى الطول في امتلاء، وبهذَين الخدَّين الناعمَين، يشع فيهما زهو وثقة، وبهاتَين العينَين، وفيهما بريق أخَّاذ يكاد في ضوء القمر أن ينسكب مع ضوء القمر، إنها سهير بروحها تلك الحلوة، وبحبها العنيف له، ماذا تخفي لهما الأيام؟ إنه لن ينسى، لن ينسى يوم جاءته أم وديدة تهمس في أذنه أنِ انتظرِ اليومَ عند مرفأ القارب، وكاد العقل يردُّه، ولكن الشباب دفعه، وهناك التقيا في أول يوم، ومنذ ذلك اليوم لم تنقطع عنه أم وديدة بالموعد المهموس حينًا، أو بالموعد المكتوب حينًا آخَر، وبين هذه المواعيد استقبل وصفي أساليب من السعادة لم يفكِّر يومًا أنه سيلتقي بها، ولكن إلى أين؟
إنه يحبها، يحبها، يحب فيها شبابه البكر، ويحب فيها إرضاءها لغرور الشباب، ويحب فيها أمسياتها الناعمة في ضوء القمر، أو في ضوء المصباح المُعلَّق على القارب، يحب فيها استيقاظة القلب الأولى، وصحوة النبضات الناغمة، يحبها ولكن إلى أين؟ أزواجًا؟
نعم، هو يعلم أن عمه لن يتردَّد في قبوله، وهو يعلم أنه جدير بها، وهي جديرة به، ولكن الزواج؟! فإذا ما شغلتني الحياة، وإذا انصرفتُ عن الحب حينًا إلى ذلك المعترك الضخم الذي ألقيتُ بنفسي فيه، ماذا تعمل سهير؟ ولكنه يحبها، بل هو لم يعرف للحب معنى إلا هنا، هنا بجانب هذا القارب، وعلى ضفاف هذا النيل، وفي ظل هذا القصر، وفي ضوء هاتَين العينَين، عينَي سهير. يحبها، وهي تحبه، ولكن الزواج ثقة، أجُنِنتَ؟ ألا تثق بابنة عمك؟ لا، لا أثق. أجُنِنتَ؟ لم أُجَنَّ، ألم تسعَ هي إلى هذا الموعد؟ ولكن هذا لم يكن إلا من أجلك أنت! أنت وحدك، من أجل شبابك الريان، ومن أجل جمالك هذا، من أجل عينَيك الرائعتَين، وشفتَيك الرقيقتَين يعلوهما ذلك الشارب الذي تُعنى بتجميله، ومن أجل شعرك الأسود تحت طربوشك المائل، يا لك من غر! أتذكر جمال سمتك؟ ألستَ رجلًا، نعم، إني رجل، رجل عظيم كاتب، أديب سياسي يخشى كبار الساسة قلمه ولسانه، وأنا رجل وطني، أحببتُ وطني وهاجمتُ أعداءه، وأثرتُ القلق في نفوسهم، فقبضوا عليَّ مرَّات، فما زادني هذا عند وطني ومواطني إلا إعزازًا وحبًّا، وأنا أيضًا عضو بمجلس النواب، وأصغر النواب سنًّا، وأنا أيضًا غنيٌّ، وأبي باشا مثل أبيها، نعم فما كانت لتسعى إلا إليَّ، إليَّ أنا بكل هذه الأمجاد التي تجتمع فيَّ. ولكن؟! ولكن ماذا أيها العربيد، أتلتقي بها وتبثُّها الهوى وتقبل هواها ثم تتردَّد؟! نعم إني أتردَّد.
إنها قد تسعى إلى غيري كما سعَتْ إليَّ! بل إن أمي قد ألقَتْ إليَّ فيما ألقَتْ أن كلامًا غير كريم يدور حول سهير، أليس بحسبي هذا الكلام حتى لا أتزوجها؟! ومتى رأيت الناس يصدقون؟ لعلهم وشاة يكذبون، ولكن الشرف سُمعة، وكرامة الفتاة منوطة بسُمعتها، فما للناس يتحدثون عنها ولا يتحدثون عن فتاة أخرى؟ لعلهم ينفسون عليها جمالها وغِناها! كم من الفتيات جميلات وذوات غنى ولا نسمع عنهن شيئًا، لا بدَّ أنها هي التي أتاحت الفرص لهذا الحديث أن يدور، ثم أليس في لقائها بي ما يدلُّ على أنها جريئة لا تراعي التقاليد؟ ولكنها تلتقي بك أنت وحدك! لا، إن مَن تقبلُ أن تلتقي بي لا ترفض أن تلتقي بآخَر، الزواج أمر خطير، قد لا أفرغ لها، قد تشغلني السياسة، فما يمنعها أن تواعد آخَر كما تواعدني؟ لا، لا، لا أستطيع، الزواج! الزواج!
إن أمي مُحِقَّة حين فكَّرَت أن تخطب لي هند بنت إسماعيل باشا مصطفى، ومَن أدراك أن هندًا لا تلتقي بابن عم لها كما تفعل سهير؟ أيها المتشكِّك! وكيف لهند أن تلتقي وهي فتاة صغيرة لا تزال في أكمام الصبا لم تعدُهُ إلى الشباب؟ تلك هي الزوجة، تربية تركية صارمة، تخرج من يد المربية إلى يد الزوج، بلا لقاء ولا مواعيد ولا قارب في النيل، ولا ستار من جدار أو ليل ولا أم وديدة حمَّالة المواعيد، ولكن سهير؟ سهير، ماذا أنت قائل لها؟ ماذا أنت قائل لها؟
وحينئذٍ سمع أقدامًا تقترب، وسرعان ما بدَتْ سهير على رأس السلم، وراحت تجوس الحديقة بنظرها هنيهة، ثم نزلت السُّلَّم في سرعة محاذِرة أن يصدر منها صوت، واستقبلها وصفي.
– تأخرتِ.
وضحكَتْ سهير وهي تقول: انتظرتُ حتى خرج أبي.
– عمي خرج؟
– نعم، ظللت أرقب باب الخروج، ورأيت الباشمهندس الثقيل يخرج، ثم خرج أبي بعده بقليل ومعه عبد البديع أفندي كاتب الزراعة.
– أنتِ تظلمين سليمان!
– أعوذ بالله! لا تذكره لي.
– ولماذا؟
– يا أخي هذا كارثة، مصيبة، بلوى.
– لماذا؟ لماذا هذا كله؟ هل جلستِ معه؟
وتضحك سهير وهي تقول: نعم يا سي وصفي؟! كيف أجلس معه؟ أأقابل الرجال؟
وابتسم وصفي وهو يقول: وما أنا؟ هل أنا ست؟
وابتسمَتْ سهير، ولمعَ في عينَيها بريق وهي تنظر إلى وصفي نظرات عميقة جعلتِ الزهو يملكه ويروح يحاول أن يُخفيه بالرجوع إلى الحديث عن سليمان، فقد كان ذمُّه يُرضيه ويرتاح إليه كما يرتاح لمديحٍ يسمعه عن نفسه.
– فكيف عرفتِ أنه كارثة ومصيبة وبلوى؟
– أوه! يا أخي، اترك سيرة هذا اللوح.
ويقهقه وصفي قهقهةً توشك أن تعلو، لولا أن تُسارع سهير فتضع يدها على فمه فيقبِّلها، ويمسك بها، ويُعيد سؤاله وهو لا يزال محتضِنًا يدها بيديه: كيف عرفتِ أوصافه هذه؟
– يكفي أن هذه رابع مرة أرفضُه، وهو يُصِرُّ على طلبي!
– رابع مرة؟
– طبعًا، طلبني مرة قبل أن يسافر، وأجابه أبي دون أن يسأل رأيي بأنني ما زلتُ صغيرة، ومرة وهو مسافر بخطاب لم يرُدَّ أبي عليه، ومرة أرسل أمه وسألني أبي فرفضتُ، وهذه المرة التي لا يزال يُلِحُّ فيها.
– والله مكافح! مَن يعلم لعلَّه ينال أمنيته.
وانتفضَتْ سهير جازعة، وانحبس صوتها وهي تسأل في لهفة جازعة: ماذا؟ ماذا تقول يا وصفي؟
وأطلق وصفي ضحكة صغيرة وهو يقول: يا ستي أنا أضحك، ألهذا الحد تكرهينه؟
– بل لهذا الحد أحب غيره.
واغرورقت عينا وصفي بالدموع، ولم يجِد شيئًا يفعله إلا أن يميل على يدَي سهير، يُقبِّلها في خشوع حائر، وفي قلق مرير لو أحسَّتْه سهير لما صبرَتْ أن تلقي بنفسها إلى النيل، وأوشكَتْ سهير أن تميل على رأسه تُقبِّلها وهو مكبٌّ على يدها، ولكن ردَّها عن ذلك كِبْر لم يمحُه الحب، وردَّها عن ذلك أن صعد إليها وجه وصفي والدموع تتغشَّاه بعد أن فاض منها سكب على يدها.