الفصل العشرون
كانت هناء قد اختلستِ التليفون إلى حجرتها، وأقفلَتْ رتاجها فأمنَتْ أن يعتدي أحد على خلوتها وأقامت تنتظر، ولم يطُلْ بها الانتظار، فقد دقَّ جرس التليفون، فرفعت السماعة، ولكنها لم تسمع من الطرف الآخَر صوتًا حتى قالت هي: نعم.
وتكلَّم الصوت همسًا كمَن يريد أن يخفي حقيقة نبراته!
– هناء.
وقالت هناء: نعم.
– كيف أنت؟
– الحمد لله.
– هل أقلقتكِ؟
– لا أبدًا … ما أخبارك؟
– لا أخبار، لم يطلع الفجر بعدُ، ولكنه سيطلع حتمًا على هذا المجتمع الآسِن، وعلى هذه العقول الرجعية الجامدة.
– قل لي يا فوزي، أنا أعرف أنك ذكي، ولكن ألا يعجبك أحد آخَر في هذه الدنيا؟
– أنتِ.
– فقط؟
– فقط، الآخَرون كلهم يتعبونني في إفهامهم، إنهم يخشون الحقيقة، إنهم مقيَّدون برجعيتهم.
– كلهم؟!
– كلهم إلا أنتِ، أنا معجب بكِ، معجب بعقلك! أنتِ غير الناس الذين أراهم في بيتك جميعًا، إن أفكاركِ تقدُّمية واعية، وتقبلين الآراء الحرة في جرأة.
– أفكاري أحسن من جميع الذين تراهم؟!
– جميعًا.
– حتى جعفر.
– أغرَّكِ هذا التافه بحديثه المُنمَّق؟ أم لعله يعجبك لأنه غني وابن باشا؟ طبعًا هذه مسائل أخرى لا طاقة لنا بها.
– على العكس، أنا أرى أنه لا عيب به إلا غِناه.
وقال فوزي: أترى هذا رأيك حقًّا؟ أم أنك تجاملينني؟
– بل أنت تعرف أنه رأيي.
– أنتِ أعظم الناس، ولكن لماذا … لماذا يا هناء؟ لماذا تكرهين الغِنى؟
– أكره المال، أكرهه لأنه … أكرهه والسلام، ما يهمك أنت؟
– متى أراكِ؟
– غدًا.
– الساعة السادسة؟
– الساعة السادسة.
– في نفس المكان؟
– ولم لا؟
– والله لا أعرف، أخاف أن يرانا أحد.
– أنا لا أراكَ تخاف أحدًا.
– أنا لا يهمني أحد إلا أنت، أنت وحدكِ التي أهتم بها، وأحيا لها، أنتِ!
– على مهلك، إن كلامك هذا يناقض أفكارك واتجاهاتك.
– وما هي أفكاري واتجاهاتي؟
– أنت تقول: إنك تحب أن تراني لأنكَ مُعجَب بعقليتي، وتحب أن يلتقي عقلانا بعيدًا عن أعين الناس وعن تفاهاتهم.
– وهل يمنع هذا من الحب؟
– ولكن الحب ضعف وتخاذل وإبعاد عن التفكير العملي السليم، ووقف لميكانيكية الحياة، والحب عاطفة، والعاطفة تفسد الأعمال الكبرى التي يجب أن نضطلع بها في هذه الفترة.
– لكن ماذا يمكن أن نفعل؟ كيف نتحكم في قلوبنا؟
– عجيبة! أتسألني يا أستاذ؟ أنا أعيد ما أسمعه منك.
– حين نلتقي نبحث في هذا.
– أمرك يا أستاذ.
– في نفس المكان؟
– في نفس المكان.