الفصل الحادي والعشرون
كانت الأضواء المتهافتة تنبعث من المصابيح في خوف، فما يستطيع نورها أن يفسح لنفسه مكانًا وسط الظلام، فالمكان مرتعش الضياء، تتبين فيه الهياكل والشخوص، ولا تتبين الملامح أو القسمات.
وكان فوزي جالسًا مع بعض شباب آخَرين تبدو على وجوههم سيماء الاهتمام الكبير، منهم مَن يصطنع هذا الاهتمام، ومنهم مَن لا يستطيع أن يضع على وجهه تعبيرًا آخَر غير هذا، لأن وجهه جاد بطبيعته، فما يملك أن يكسبه غير ما يكسوه من حزم وصرامة، ويبدو بعضٌ منهم آخَر مهتمًّا غاية الاهتمام بما يتخذه من هيئة وأردية، فالقميص أسود، ورباط العنق أحمر، وشعر رأسه كث غزير، وعيناه تستتران وراء منظار، وهو لا ينسى بين هنيهة وأخرى أن يرفع إحدى يديه إلى شيء من هذا المهرجان الذي يتخذه، فقد يصلح شأن رباط رقبته، أو قد يمسك بطرف نظارته في وقار شديد، أو يمُرُّ براحته على شعره، وهو يأتي جميع هذا متظاهرًا بأنه لا يهتم بشأن شيء مما يتفقده، ولكن هذه اللمسة الصغيرة تُبيِّن لمَن يراه أنه لا يهتم إلا بشعره وقميصه ورباطه ونظارته.
وكان المكان زاخرًا بالهمس، يتجمَّع فيصبح ضجيجًا لا ترتاح إليه الأذن، وكان فوزي منهمكًا في حديث مع بعض إخوانه حين أحس بهذه الضجة، فلم يلبث أن نظر في ساعته ثم قال: أيها الرفاق، اجتماعنا اليوم مهم غاية الأهمية، فالرفيق زكي قد عاد من موسكو، وسيروي علينا ما شاهده هناك، وما يجب علينا أن نفعله حتى نصل إلى الكمال المذهبي، ولكن ينقصنا واحد، هو الرفيق صالح.
وحينئذ قال أحد الرفاق في جد: طالما قلنا إن الرفيق صالح لا يصلح لنا، ونحن حين نقبله نخالف تعاليم أحد فلاسفتنا، وأظنه إنجلز الذي يعتقد أن ضم الأغنياء إلى حظيرتنا خطأ كبير، لأنهم يضطرون إلى معارضة مصالحهم الشخصية، ولأن العدالة التي نهدف إليها لا بد أن تصيبهم هم إصابة بالغة.
وردَّ فوزي في إصرار مدافعًا عن صديقه أحمد، فلم يكن صالح هذا الغائب إلا أحمد في اسمه الحركي، قال فوزي: إن الرفيق صالح معنا منذ وقت طويل، وقد أثبتَ جدارته في أشياء كثيرة، ولا ننسى أنه كان يمدُّنا بالمال، حين كان المال يتأخر عنا، ثم أنت تنسى أن مولوتوف من الأغنياء.
– هذا خطأ لا بد أنه سيُصحَّح.
– أظن أننا لم نصِلْ إلى درجة انتقاد الحزب.
وقبل أن يتمادى بهم النقاش، دخل أحمد وهو يقول: أنا آسف أيها الرفاق تأخرتُ مُرغَمًا.
وسارع فوزي قائلًا: لا بأس يا أﺣﻤ … يا رفيق صالح، آنَ لنا أن نسمع إلى الرفيق زكي، أيسمح حضرة المسئول بأن يطلب إليه الكلام.
ووقف في صدر القاعة شاب قصير القامة، يضع على عينَيه نظارة سوداء قاتمة، وتكاد النظارة تُخفي خدَّيه الغائرَين اللذين يحيطان بفم دقيق، فيه صرامة، وفيه احتقار لكل شيء، وفيه حقد على كل شيء.
ذاك هو المسئول، وهو رئيس هذه الخلية، وقف فلم يزد على أن قال: الرفيق زكي يتفضل.
ولكنَّ أحدًا لم يتقدَّم.
فقال المسئول مرة أخرى: الرفيق زكي.
فامتدت أيد كثيرة إلى ذراع شاب طويل القامة، أشهب اللون، مشدود جلد الوجه، جامد القسمات، فقام في تؤدة قائلًا: أيها الإخوان، إن اسمي فؤاد زين العابدين.
فثارت في القاعة ضجة كبيرة، ودق المسئول النضد الذي أمامه بعنف وقال: نُنبِّه الرفيق زكي أنه يُفشي سرًّا ما كان له أن يبوح به.
فاستأنف فؤاد حديثه وكأنه لم يسمع شيئًا: إن اسمي هو فؤاد زين العابدين، وكلكم يعرف ذلك، وقد قصدتُ أن أجيء اليوم إليكم لأكشف عن عيونكم عصابة من الجهل، أنتم في خطر …
وثارت الضجة مرة أخرى، وقال المسئول بعد أن دقَّ النضدة: إذا كانت السلطات الغاشمة تبحث عنا، فليس للرفيق أن يفضي بهذا للرفاق، وإنما كان عليه أن يبلغني أنا لأبلغ المحترف ونتلقى منه الأوامر.
وقال فؤاد دون أن يلتفت إلى المسئول: إن الخطر في أنفسكم، لقد جئت منذ أيام قليلة، ولا أعرف شيئًا عن السلطات هنا، أيها الإخوان، مَن شاء منكم أن يتخلَّى عن إنسانيته، ومَن يشأ منكم أن يصبح قطعة حقيرة من جماد، ليس فيها من مشاعر الإنسانية إلا شعور الخوف الراعد، والفزع والقلق، ومَن يشأ منكم أن يصبح شيئًا بلا حرية ولا شعور ولا تفكير، شيئًا ليس فيه بقية من آدمية إلا أن يسمع فيطيع، وإلا أن يظل مرتعشًا أن يكون قد أخطأ السمع، أو أخطأ الطاعة، مَن يشأ أن يفقد إنسانيته جميعًا، مَن يشأ أن يصبح كذلك، فليظل على هذا المذهب الذي تعتنقون.
وثارت الأصوات بالقاعة، فمن قائل «مُروق» ومن قائل «خيانة» ومن قائل «برجوازية» ومن قائل «انحلال» ومن قائل «رجعية».
وثار بالقاعة أيضًا جو قاتم عقد ألسنة كثيرة من الخوف، وعقد ألسنة أخرى من الدهشة، حتى المسئول ظلَّ فترة طويلة لا يملك زمام نفسه، ثم انتبه آخِر الأمر إلى موقفه هذا، فدقَّ النضد بيده، ثم قال: نعتقد أن الرفيق … آسِف أن فؤاد زين العابدين قد أصبح برجوازيًّا، وأنه اتصل بأصحاب المذاهب الرجعية، وبهذا أصبح خارجًا عن خليتنا، وإني أعلن فصله عنا.
وأكمل فؤاد حديثه: الآدميون هناك لا قيمة لهم، لقد قال لي بعضهم: إنهم يحيون شعور الخوف ويغذونه في أنفسهم، لأنه الشعور الوحيد الذي يربطهم بالآدمية، وهم لا يريدون أن يتخلوا عن آدميتهم، لا يريدون برغم إصرار السلطات على افتقادهم لهذه الآدمية.
الإنسانية التي يتغنَّى بها المذهب لا وجود لها على الإطلاق، هناك كل شيء إلا الإنسانية، الإنسان قطعة من الهمل، السلطة تهتم بمسار في آلة أكثر من اهتمامها بحياة إنسان، الفقر مدقع، والحكام يعيشون في بذخ دونه بذخ القياصرة، كل ما يتغنُّون به من حقوق الإنسان كلام أجوف لا تطبيق له، الأفراد والأسر يعيشون عيشة الحيوانات المذعورة التي تعلم أن الصياد وراءها دائمًا، والصياد لا يرتاح، والحيوانات لا تستقر، الخوف والرعب هما كل الحياة، المقدَّسات لا وجود لها، أيها الإخوان، لو لم أرَ هناك إلا الخوف والرعب اللذين يحيا فيهما القوم لكان هذا كافيًا لأن أعتزل مذهبهم، أيها الإخوان، سأترككم بعد أن ألقي عليكم تحية الإسلام دين المشورة، ودين الأمن والاستقرار، وأرجو أن تجيبوا تحيتي وتتبعوني إلى الهواء الطلق … السلام عليكم ورحمة الله.
وبهذه الجملة الخطابية خرج فؤاد من القاعة في هدوء، وكأنه لم يستثر كلَّ هذه المشاعر، وران الصمت على القوم، صمت حائر لا يدرون أيصدقون هذا الوافد عليهم من مصدر مذهبهم، أم لا يحفِلون بما قال؟ تزعزعت الثقة في النفوس، ولكن المسئول سارع قائلًا: لا شك أنكم تعرفون أننا نُحارَب بكل الوسائل والطرق، ولا شك أنكم قد سمعتم هذا الكلام قبل اليوم، فهو كلام أعدائنا، ولقد انضممنا إلى هذا المذهب بعد أن وثقنا به كلَّ الثقة، فإذا كان لهذا الحديث الذي سمعناه الآن أي أثر في نفوسنا فمعنى ذلك أننا نستهين بعقولنا، ونستهين بكرامتنا، وبمبادئنا، ولا أظن أننا ضعاف العقيدة لدرجة أن حديثًا كهذا يجعلنا نشك في المبدأ الذي ضحَّيْنا في سبيله بكل شيء.
والتمعَتِ ابتسامة على شفتَي فوزي، فهو يعلم أن المسئول لم يُضحِّ بشيء إلا بتوقيع شهري يقبض في مقابله مبلغًا من المال ضخمًا، ولكن هذا لم يمنعه أن يقول: بطبيعة الحال أيها الرفيق، هذا كلام انحلالي، رجعي، برجوازي، وإننا نسمعه كلَّ يوم، فنرجو منك أن تعتبر الأمر كأن لم يكن، وتدخل في جدول الأعمال.
وكالقطيع التائه راح الآخَرون يرفعون ثغاءهم مؤيدين قول فوزي، وأخذ المسئول في حديث آخَر، حديث متخبط، فما كان يدري ماذا يقول بعد أن أفسد عليه فؤاد برنامج الليلة.
وانتهى الاجتماع، وخرج أحمد، مسرعًا متجاهلًا نظرات فوزي إليه، التي كانت تدعوه لينتظره، لم يكن يريد أحدًا ليسير معه، كان يريد أن يخلو لنفسه.
يبدو على فؤاد زين العابدين أنه صادق فيما قال، ولكن كيف يترك الخلية؟ ماذا يصبح إذن؟ إنها كل شيء له، كيف يترك هذا العمل الكبير؟ أهو العمل الكثير الذي يجذبه إليها، أم تلك التهاويل والطقوس؟ أهو العمل الكبير ما يجذبه إليها، أم أنه أصبح وله اسم آخَر، وأنه يتخفى من العيون، وأن عيون السلطات تتابعه، وأنه ذو أهمية بالغة في دوائر الحكومة والأمن العام؟ إنه يهرب إلى هذا المذهب من الفراغ الذي يعانيه في حياته، إنه يهرب إلى الرفاق من فشله في كل شيء حاوله، وهو الذي لم يعرف في بيته الفشل أبدًا، لم يسمع كلمة «لا» في بيته أبدًا، ولكنه سمعها حين أراد أن يكون موسيقيًّا، وسمعها حين أراد أن يكون رسامًا، وسمعها حين أراد أن يكون كاتبًا، سمع «لا» صارمة ليس فيها رقة ولا مجاملة، لقد رفضه الفن، ولم تقبله في جنبات الحياة إلا هذه الخلية التي يستخفي فيها من حقيقة فشله، ومن حقيقة الحياة التي أبَتْ أن تعطيه إلا مالًا ضخمًا هو أمه، دون حتى أن تكمل هبتها بأبٍ يستطيع أن يحترمه، ويله من أبيه! إنه هو مَن جرَّ عليه كل هذا البلاء الذي يعانيه، إنه أب بلا ضمير، بلا كرامة، بلا تقدير لأي معنى كريم، لماذا تعطي الطبيعة لجعفر أبًا مثل وصفي باشا، وتبخل عليه بأبٍ شبيه … لقد كان يريد أي أب يحترمه، لا ضرورة أن يكون باشا، ليكنْ مثل عمه سامي زوج خالته، إنه رجل محترم، ولكن هذا الأب الذي رماه به الزمان والذي يأبى أن يحترم نفسه في أي مكان، حتى في وظيفته حقير، إنه أوشك أن يلوِّث وصفي باشا، بل إن جريدةً معارِضةً لوصفي باشا عرَّضَت برشوة معينة، أخزاه الله، لقد كفرتُ بالله من أجله، لم أتصوَّر أن يقول الله العالِم بعباده إن الرجال قوَّامون على النساء! أمِثل هذا يكون قوَّامًا على أمي؟ في أي شريعة يكون ذلك، لا، أنا كافر بهذا الدين، وكافر بهذا الله الذي يقول إن أبي قوَّام على أمي، والذي يقول واخفض لهما جناح الذل من الرحمة، أخفضه لأمي نعم، ولكن لأبي هذا؟ كيف؟ ألَّا أقول له أف! أقسم … أقسم بماذا؟ أقسم بشرفي أنني أقول أف كلما ذكرت أبي، أقولها في نفسي، ولو كانت لي بعض جرأة لواجهته بها، بل إني كثيرًا ما أجيب حديثه بشيء من الكبر، لا، لا أستطيع أن أحترمه، ولا أن أحترم دينًا يحترمه، كيف أترك مذهبي إذن؟ وإلى أين مصيري إن تركته؟ في أي ناحية من نواحي الحياة يكون تفوُّقي؟ الشهادة الجامعية في يد الآلاف، لا بد أن أكون شيئًا غير هذه الشهادة، وأي شيء يمكن أن أكون؟ لا مكان لي إلا هذه الخلية، هي مجدي، وهي مجالي، وليقل فؤاد ما يشاء أن يقول، فما أستطيع أن أطيعه، لا … لا أستطيع.