الفصل الثالث والعشرون
كان أحمد جالسًا في حجرة مكتبه حين دخل إليه السيد حليق اللحية، لا يزال الدم ينهمر من مواضع كثيرة في وجهه، من أثر السرعة التي أزال بها لحيته، وكانت عيناه تائهتين في نظرة هالعة، وجسمه جميعه ينتفض في خوف راعد، ولم يلتفت أحمد من أمره إلا إلى هذا الجديد الذي طرأ عليه، فقال في سخرية ضاحكة: الله … شيخ سيد، ذقنك! أين المرحومة؟
وأجاب سيد في هلع غير مكترِث بمزاح أحمد: أحمد، البوليس يبحث عني.
وارتسمَتْ على وجه أحمد أمارات الجد وهو يقول: ماذا؟ البوليس؟ لماذا؟
– منذ مقتل النقراشي والحكومة تقبض على أفراد الجماعة جميعهم.
وضحكَ أحمد محاولًا أن يهدِّئ من روع السيد، وقال له: ما هذا الكلام؟ وأنت ما دخلك بمقتل النقراشي؟
– لقد قُبِض على جميع زملائي، وأعتقد أنهم سيقبضون عليَّ حالًا، أحسن طريقة أن أترك البيت.
وقال أحمد ساخرًا، فما كان يعتقد أن للسيد هذه الأهمية كلها: ما هذا الكلام الفارغ؟ أنت تخيف نفسك بلا مُبرَّر، وعلى كل حال ماذا تريد أن تفعل؟
– أريد أن أهرب، وسأتصل بك يوميًّا في التليفون، فإذا لم أتصل بك يومًا فاعلم أنهم قبضوا عليَّ، واتصل بوصفي باشا فورًا.
– وصفي باشا؟
– قل له إنني سأترك الإخوان، أرجوك يا أحمد، أنت لا تعرف مقدار شقائي بالسجن إن أنا سُجِنتُ، أنا أمل عائلة، ونحن قوم نريد أن نعيش يا سي أحمد، وقد كان طيشًا وسأتركه، أرجوك يا أحمد بك.
– يا أخي، أنت لا تحتاج إلى هذا الرجاء الطويل، وماذا تظنني كنت فاعلًا؟ طبعًا كنت سأذهب إلى وصفي باشا.
– طيب سلام عليكم.
– وعليكم السلام، انتظر! أين ستختفي؟
– هل معك نظارة سوداء؟
– نعم ها هي ذي، أين ستختفي؟
– لا أدري، قد أخبرك حين أتصل بك.
– وكم معك؟
– ماذا؟ فلوس؟ معي جنيهان؟
– مبلغ لا يكفي طبعًا، خذ، أنا ليس معي إلا أربعة جنيهات، خذها.
– شكرًا، أظن أن ما معي يكفي.
– خذ، وحين تكلمني أكون قد أعددتُ لك مبلغًا آخَر.
وأخذ السيد الجنيهات الأربعة، واستدار ليترك الغرفة، ولكن الباب فتح ودخل منه ضابط وشرطيان، ونظر السيد إلى أحمد يائسًا، ونظر أحمد إليه دهشًا، فقد كان يظن أنه يضفي على نفسه من الأهمية ما لا يتمتع به.
استقبل وصفي أحمد متجهِّمًا بعض الشيء، الأمر الذي عجب له أحمد، فما تعوَّد منه هذا، وسأله وصفي: خير؟!
– لقد قبض البوليس على السيد بن عبد البديع أفندي.
– لماذا؟ أهو من الجماعة؟
– نعم.
– هيه! ومتى سيقبضون عليك؟
وفغر أحمد فاه وانفرجَتْ عيناه عن نظرة دهشة واسعة: عليَّ أنا؟
– نعم أنت، أتظنني لا أعرف؟ ألا تفكِّر في أمك المسكينة؟ ألستَ إنسانًا؟ ماذا جَنَتْ حتى تفعل بها هذا أنت وأختك؟ ألا تعلمان أنها مريضة بالقلب؟ ألا تخشى عليها أن تموت؟
– أنا، ماذا فعلت يا عمي؟
– أنت شيوعي يا سي أحمد!
ومسَّت قلب أحمد فرحة أنه مثار اهتمام، وأن عمه وصفي باشا يعرف أهميته، ولكنه قال: مَن قال يا عمي؟
– لا تحاول أن تنكر!
– ولكن يا عمي …
– وحياة والدك لا لزوم لهذه الطريقة الصبيانية، أرجوك، من أجل أمك، اشفق عليها يا أخي من أجل مرضها على الأقل، وثِقْ يا أحمد أنه إذا قُبض عليك، فإنه يصعب جدًّا أن تعتمد عليَّ كما تريد أن تعتمد عليَّ الآن في مسألة السيد.
– والله يا عمي …
– والله يا بني أنا حذَّرتُك وأنت حر … اترك حكاية السيد، ولا تنتظر أن تنتهي بسرعة، أمامها مدة.
– شكرًا يا عمي.
– الشكر يكون بمراعاة أمك يا سي أحمد … مع السلامة.