الفصل الرابع والعشرون
كان القصر يرزح تحت رزء كبير، فقد كان زواج هناء خطبًا فادحًا حاول الأب أن يمنعه بسلطته المتهالكة فلم يستطع، فقد أفهمته سهير أن الزواج في البيت برضائهما خير من أن تخرج الفتاة عن طوعهما للتزوج وحدها، وتضعهما أمام الأمر الواقع، ولن يجديهما يومذاك أن يلوذا إلى القضاء، فأمامه ستعلن فضيحة ينبغي لها أن تستتر، بل إن سهير أفضَتْ إلى سليمان بما يراودها من خوف أن تخرج الفتاة عنهما بلا زواج على الإطلاق، وما يراودها من خوف أن ينفرد بها هذا الصعلوك، وينتهز فرصة مقاطعتهما لها فلا يستطيعان لها عونًا إن هي احتاجت لعون، فاقتنع سليمان.
وحاول وصفي أن يُعين سهير في محنتها، وعرضَ عليها أن ينقل فوزي من وظيفته بالقاهرة إلى الأقاليم، ولكن الرأي استقرَّ بينهما على أن هذا لن يجدي في شيء.
وهكذا تم عقد القران في مأتم بلا معزين، إلا أهل القاتل وأهل القتيل، فقد جاءت أم فوزي، واستطاعت أن تزيد النار اشتعالًا في نفس سهير، وإن كانت لم تستطع أن تجعلها تخرج عن صمتها اليائس الحزين، فقد كانت أمه مُعجَبة بنفسها، تحاول جاهدة أن تصبح ندًّا لهذا البيت الذي تناسبه، أما الأب فقد كان أكثر إدراكًا للموقف، فاتخذ لنفسه مكانًا قصيًّا، وصمتَ حتى انتهت المراسم، وغادر البيت وَجِلًا كما دخله.
وأغضى سليمان على النار عرفها لأول مرة تنتاش فؤاده، وخجل أحمد من الهدية التي قدَّمها إلى القصر، ونسي حينذاك مبدأه وأفكاره وفلسفته، وكرِهَ هذا اللص الذي تسرَّب تحت وقاء من الصداقة، واختلس أخته في ضباب من النظريات والألفاظ البارقة، والغش الخادع الخسيس.
ولم يكن أحمد ليغبي أمر فوزي، وإن يكن قد قبل أن تتوطَّدَ بينهما الصداقة، ولم يكن يتوقع أن أخته تقبل أن تلتقط هذا الفتى من عرض الطريق لتجعل منه زوجًا لها، وفي غفلة من عدم التوقُّع هذه لم ينتبه أحمد إلى الذئب يجوس في عقر داره، وقد عزم أحمد على أن يقطع علاقته بفوزي، ثم سمع هذا الحديث من أمه، فعزم على أن يجعل صلته بفوزي بحيث لا ينتبه أحد إلى انقطاعها، وأصرَّ في نفسه على ألا يدخل بيت أخته مهما تكن الأسباب والدواعي.
وكان موقف سميحة من هذا الزواج هو موقف أختها سهير، وقد حزَّ في نفسها الألم الذي ترى آثاره على ابنها بياض النهار إذا رأته بياض النهار، والذي ترى آثاره في غياب ابنها عن البيت إلى أعماق الليل، أو هامات الصباح، دون أن تدري أين يغيب، الأمر الذي كانت تجهد نفسها أشد الجهد في إخفائه عن زوجها وتمويه حقيقته عليه.
وكان الخدم في القصر جميعهم يشعرون بالتعاسة التي ترزح على القصر وساكنيه، وكانوا يدرون مبعثها، وكان حزنهم لها عميقًا، فقد كانوا يتمنون أن يفرحوا بستهم هناء، وقد كانوا يتمنون أن تتزوج من رجل يستطيعون أن يحترموه، فما كان زوجها أمامهم إلا شخصًا يتسقَّط على مائدة أحمد بك، ثم لا شيء بعد ذلك.
هكذا كان القصر جميعه، واقعًا تحت هم واصب ثقيل، فلم يضم بين جدرانه إلا شخصًا واحدًا لم يحفل هذا الأعراض وهذا الحزن، هو هناء نفسها، فقد اندفعت في حمأة زواجها كشيء ألقى بنفسه إلى منحدر يصب في هاوية، فما يفكر لأنه لم يعُد يملك التفكير، وما يرتد، لأنه لم يرغب في هذا الارتداد، لم يكن حبها لفوزي حبًّا جارفًا يقتلع العوارض والعراقيل، ولكنها استطاعت مع ذلك أن تحطِّم كلَّ ما وقف في سبيلها، وهي نفسها عاجبة لماذا تبذل كلَّ هذا الجهد! إنها تعلم أنه ليس حبها لفوزي ما يثير في نفسها كلَّ هذه القوة، كانت تظن أن كرهها لأبيها ولما أنزله بأمها هو ما يبعثها إلى العنف والإصرار، ولكنها كانت تعود فتفكر أنها هي نفسها بما تعمله تُنزِل بأمها أقسى ألوان العذاب، وهي تعلم أنها مفئودة، وأنها تتعرض بهذا العذاب إلى نوبة قد تودي بها، وتترقرق في عينَي هناء الدموع إذا جرى بها التفكير إلى هذا المتجه، ولكنها تعود إلى دموعها فتحبسها، وإلى النسمة الهادئة التي تراوح قلبها فتعصف بها في قسوة، إن كل هذا أهون من أن تتزوج شخصًا لم تختره هي، ولم تصِل بينها وبينه أوشاج من الهوى، مهما تكن أوشاجًا هينة، كهذه التي تربطها إلى فوزي، إن هذا جميعه أهون من أن تختار أمها لها أو يختار أبوها، لقد كانت خليقة أن تقبل حسام لو لم يكن ابن خالتها، ولو لم يكن أبوها وأمها راغبَين في تزويجها منه أشد الرغبة، ولو لم يكن غنيًّا، لقد كرهَتِ الغِنى كما قالت لأمها، كرهته حين رأت أباها ولا همَّ له إلا أن يصبح غنيًّا مهما يجنح به هذا العزم إلى انتهاب أموال أمها وخالتها التي لجأتْ آخِر الأمر إلى زوجها أن يحميها، ولن تنسى هناء يوم تمَّت القسمة بين أمها وبين خالتها، ولن تنسى تلك الدموع التي سفحتها أمها، مع أنها هي التي ألحَّت في تنفيذ هذه القسمة، حتى تنقذ أختها من يد زوجها الغائلة، وحتى تنقذ أولادها مما قد يكون بين سامي وسليمان من فضائح، فقد كانت تعرف زوجها.
وتجمَّعت البواعث في نفس هناء، ولم يكن أقواها حبها لزوجها، ولكنها بواعث قد تعبرها عين الناظر إذا عُرضت عليه متفرقة، فإن تجمَّعت جعلت من هناء هذا الإعصار الذي يدور في القصر فينفذ ما يشاء في تبجُّح هادئ، فما كانت تحتاج إلى ثورة.
لم تكن لهناء من مطالب بعد أن تم عقد القران، وحين فكَّرَتْ أمها في جهازها، سكبت دموعًا غزيرة، إن الله لم يشأ أن تفرح بجهاز عروس أبدًا، إن جهازها هي اختير لها، ولم يكن لها فيه رأي، وحين أنجبت هناء، كانت تمني نفسها أن تعوض في جهازها ما فوَّتَتْه على نفسها أيام عرسها، ولكن ها هي ذي ابنتها تخذل آمالها، كما خذلَتْ هي آمال نفسها حين تزوَّجَتْ، وكانت سهير تحاول أن تخفِّف من ألمها بعض الشيء، حين تهمس إلى نفسها أن لعل ابنتها تسعد في ظل زوجٍ أحبَّتْه، ولكنها حين تذكر قسمات ابنتها وهي تفضي إليها بإصرارها على الزواج، وحين ترى ابنتها رائحة في البيت غادية، جامدة النأمات، صلبة الوجه، وحين تراها مستسلمة لمصيرها هذا الذي اختارته، وحين ترى فوزي وترى مقدار تبجُّحه على البيت، وإقباله على قوم يعلم أنهم عازفون عنه، حين تذكر وترى هذا جميعه، ما تلبث أن تذوب الهمسة المتفائلة في طوفان من هم كبير، فما هذه تصرفات فتاة في قلبها هوى، وما هذا الفتى بمستطيع أن يثير في فؤاد فتاة حبًّا.
ولكن هذه الأفكار جميعها لم تمنعها من أن تسأل ابنتها عما تريده في جهازها، وقالت الفتاة: لا أريد إلا أشياء بسيطة فسنعيش في شقة صغيرة.
وارتاحت الأم أنها تنتوي أن تبتعد عنها بزوجها هذا الكريه، ولكنها رأت أن تقول لها على سبيل المجاملة: ولم لا تعيشان معنا هنا؟
وقالت هناء في حزم، شأنها منذ أعلنت عن رغبتها في هذا الزواج: لا.
ولم تجد الأم وسيلة تقطع بها الحديث أن يطول، إلا أن تعطي ابنتها ألفَيْ جنيه تفعل بهما ما تشاء، وقبلت هناء المال، ووضعته في صوانها، وضمَّت إليه مائة جنيه، دفعها زوجها مهرًا، وانتظرت أن تسأل زوجها عما يفعلان.
وفي يوم جاء فوزي وطلب إلى هناء أن يخرجا للنزهة، وخرجَتْ معه في سيارة أبيها، وما إن تركا البيت، حتى استوقف فوزي السائق، وأمره في ثبات أن يترك السيارة ليقودها هو، ودهشَتْ هناء بعض الشيء من طريقته في إصدار الأوامر، ومن إعطاء نفسه الحق في قيادة سيارة لا يملكها، ولكن دهشتها لم تزد على غصة في نفسها، وسألت فوزي: أتعرف كيف تسوقها؟
وأجاب فوزي في اقتضاب: نعم.
وقبل أن تسأله هناء كيف تعلَّمتَ، قال هو في نغمة ساخرة بعض الشيء: طبعًا لم تكن عندي سيارة، ولكني تعلمت كيف أسوق بسيارة أخيك أحمد.
وسكتت هناء، ولكن السائق لم يصدع بأمر فوزي، فما تعوَّد أن يتلقى منه أوامر، ورأت هناء تردُّد السائق، فسارعت تقول: اذهب أنت إلى بيتك يا أسطى عبده.
وصدع السائق بالأمر فور سماعه، وانتقل فوزي إلى مقعد القيادة، وانتقلت هناء إلى جانبه، وأحسَّ فوزي بتردُّد السائق، ولكنه أغفل أمره، فقد ذكَّره اسم أحمد بأن يسأل هناء: وحتى أحمد غير موافق على زواجنا؟
وقالت هناء في استسلام: وما يهمك أنت إن كان يوافق أو لا يوافق، ما دمتُ أنا موافقة، وما دمنا قد تزوَّجنا فعلًا؟
وقال فوزي في غير اكتراث: على رأيك.
ثم قال: إنني مُعِدٌّ لك مفاجأة هائلة.
– خير؟
– وكيف تكون مفاجأة إذن؟
– ومتى أراها؟
– نحن في طريقنا إليها.
وصمتت هناء، واتخذت السيارة طريقها إلى الزمالك، وأمام عمارة فاخرة ضخمة، أوقف فوزي السيارة وقال لها: انزلي.
ونزلت هناء، وقد حزرت ما هي مقدمة عليه، ولكنها لم تشأ أن تُصدِّق حدسها، فإن العمارة التي يدخلانها باذخة الفخامة، لا تتناسب إطلاقًا مع ما كانت تهيئ نفسها له من بيت متواضع يتفق وقلة المال عند فوزي!
ولم يكن ثمة مجال لكثير من التفكير، فقد وجدَتْ نفسها في مصعد أنيق، ثم وجدَتْ نفسها أمام باب شقة يفتحه فوزي بمفتاح معه، ثم وجدته يلتفت إليها قائلًا: هيه … أتريدين أن أحملك كما يفعل الغربيون؟
ولم تضحك هناء من محاولة المزاح، ودخلَتِ البيت، وراعتها أناقته، وأذهلَتْها سعته، ست حجرات وبهو، لماذا هذا جميعه؟ وسمعت فوزي: وطبعًا سأتفق مع مهندس لتزيين الجدران، ورسم الأثاث.
وازدادت هناء ذهولًا، وقالت: ولكن أليس كبيرًا؟!
فقال ساخرًا: أهو كبير؟ وأين هو من القصر؟
فقالت هناء: ولكن هل يكفي مرتبك لهذا البيت؟
وقال فوزي وهو يغمغم الكلام: هذا أمر ندبِّره.
ولم تزد هناء شيئًا، وظلَّتْ صامتة وهو يتحدث عن مشروعاته في تجميل الشقة، وفي اختيار الأثاث، وفي الميزات التي في الشقة، وفي أن مكان مبيت السيارة لا يُؤخَذ عليه أجر إضافي، وصكَّت كلمة السيارة سمع هناء، فنظرَتْ إليه، ولكنها لم تتكلم، بل ظلَّتْ على صمتها، لازمت الصمت وهو لا ينقطع عن الحديث، لازمت الصمت وهما في الطريق إلى سيارة أبيها، ولازمت الصمت وفوزي يحييها مودعًا ويترك مكانه من السيارة، وظلت على صمتها حتى صعدت إلى الطابق الأعلى من البيت، وحين رأت أمها جلست أمامها صامتة، وطال بها الصمت هونًا، ثم تماوجَتْ دمعات في عينها، سارعت بإخفائها دون أن تلحظ أنها تأخَّرَت في هذا الإخفاء، فقد كانت الأم مثبتة النظرة إليها، ترى وجهها فكأنما ترى كلَّ ما تخفيه خلفه، وأخيرًا قالت هناء: نينا، لن يكفيني ألفا جنيه للجهاز.
وقالت الأم في تؤدة وهي ناظرة إلى ابنتها لا تزال: نعم أعرف.