الفصل الخامس والعشرون
أقبل حسام على بار الشباب، فتطلَّع إليه الرفاق في حب وإشفاق، شأن الكريم هانَ بعد كرامة، أحسَّ حسام بالإشفاق في نظرتهم، فقال غاضبًا: ما لكم؟! ما هذه النظرة وكأني مسكين تعطفون عليه! هات كأسًا يا يني، وكان سعد أسرعهم إلى الحديث وأجرأهم فيه: نعم، أنت مسكين بهذا السم الذي تطفحه كلَّ يوم.
– ولماذا يا سيدي؟ منكم نستفيد، ألم تكن أنت تطفح منه يوم طردَكَ عمك؟!
– كنت أهبل، وكنت أهبل لمدة يوم واحد، أو ساعة واحدة، ثم عقلتُ، ولكنك أنت مُصِرٌّ على هبلك.
– يا أخي، أنا حر.
وقال سميح: ما هذا الكلام الفارغ؟ لا يا أخي، أنت لست حرًّا، ما معنى أن تأتي إلى هنا كلَّ يوم، وتظل تشرب حتى لا تعي، ونظل نحن ناظرين إليك، كأنك مريض بيننا، إن كنتَ مجنونًا يا أخي فلماذا لا تذهب إلى المستشفى؟!
وجاء يني بالكأس، فشربها حسام دفعة واحدة، وطلب أخرى، ونظر إلى سميح قائلًا: نعم يا سي سميح؟ ألست أنت من قلت لي إن الخمر مفيدة في هذه الأحوال؟
– يا أخي غلطت، وهل تراها حضرتك مفيدة؟!
– نعم … إنها مفيدة … إنها تُنسيني ما أحبُّ أن أنساه.
وضحك أصدقاؤه وقال سعد: يا عم صلِّ على النبي، والله إن بنت الكلب هذه تزيد الإنسان تذكُّرًا، كيف تنسى شيئًا لا تزال تفكر في أنك تريد أن تنساه، هذه خرافه وشرفك.
وقال حسام وهو يشرب الكأس الثانية: ما هذا الهجوم؟ أنا سأشرب …
وقال سعد: اسمع، إن عبد الجواد أفندي أعدَّ لنا الليلة شيئًا …
وقبل أن يكمل سعد حديثه، قاطعة حسام: قديمة، هذه لعبتي أنا يا حبيبي، أتضحك عليَّ بما كنت أضحك به أنا عليك؟
وضاق الرفاق بالحديث، ورأوا أن لا فائدة تُرجى من حسام، وأحسَّ حسام بضيقهم، فما وقف به هذا عن ابتلاع الكئوس مترعة متلاحقة، حتى لم تمضِ ساعة إلا كان سكران، وحين قام الرفاق ليمضوا إلى عبد الجواد أفندي، تخلَّف سعد لأنه رأى حسام لا يستطيع أن يقيم أوده، فبقي معه وظل يحثه على القيام، حتى قبِلَ آخِر الأمر، وقام متعتعًا يتكفَّى ويهذي بحديث لا يكتمل، حتى وضعه سعد في السيارة وركب إلى جانبه، وراح يقود السيارة في طريقه إلى البيت.
وحين وصل الصديقان إلى بيت حسام، كان حسام نائمًا لا يحسُّ شيئًا مما حوله، وحاول سعد أن يردَّه إلى الوعي، ولكن محاولته فشلت فشلًا تامًّا، فلم يرَ بدًّا من الالتجاء إلى البواب ليحمله خفية إلى حجرته.
وجاء البواب يستغفر الله آسفًا أن يرى سيده على هذه الحال، وتعاونَ هو وسعد على حسام، وكلاهما مقطب الجبين، بادي الألم، وصعدا إلى الدور الأعلى، وكانت نوال جالسة في البهو تتحدَّث في التليفون، فحين رأت أخاها محمولًا ألقَتْ بالسماعة، ودقَّت صدرها بيدها، وأسرعت تسأل عما أصابه في لهفة ألهَتْها عن أن تخفض صوتها، فأشار إليها سعد أن تحذر، وهمس لها بالحقيقة، ولكن همسه جاء متأخرًا، فقد كان سامي جالسًا إلى زوجته في حجرتهما، فسارعا يستطلعان ما أثار لهفة ابنتهما، وطالعهما ابنهما محمولًا غائبًا، واندفعتِ الأم والِهةً، وجمد الأب مكانه واجفًا، ولم يجِدْ سعد بدًّا من أن يفضي إليهما بالحقيقة، فقد وجدها أهوَن مما يخشيانه، أو خُيِّل إليه أنها أهون مما يخشيان، وحاولت الأم أن تقود حاملي ابنها إلى حجرته، ولكن الأب قال في صرامة قاسية: ألقيا به إلى الأرض.
وتردَّد سعد والبواب، ولكن صوت الأب أرعد في حسم: ألقيا به إلى الأرض.
فانفرجت يدا البواب عن قدَمَي سامي، ووضع سعد رأسًا حمله على الأرض، ولم يكد حتى انفتل إلى السلم يطويه أربعًا أربعًا يقع بجسمه الضخم على درجاته، ثم يقوم كأنه لم يقع، حتى غاب عن الأنظار التي تبِعَتْه في وجوم، وأمرَ الأب بالماء فأفرغ على وجه ابنه حتى أفاق، ووقف حسام مترنِّحًا وأمه شاخصة إليه، حائرة لا تستطيع لأبيه دفعًا، هو في خمار السكر غير مُقدِّر للموقف الذي ألقى بنفسه إليه، ولم يمهله أبوه، فراح يصفعه بحدة وهو يتقي يد أبيه بيد مترنحة، لا تستطيع أن تثبت على مكان، حتى إذا هدأ أبوه هونًا، راح يدفعه إلى الحجرة وهو يقول: منذ الغد لن ترى القاهرة يا كلب، منذ الغد سألقي بك إلى العزبة يا سكير.
وحين أصبح حسام في الغرفة أقفل أبوه عليه الباب، وعاد إلى حجرته دون أن يلتفت إلى زوجته أو ابنته، ونظرت سميحة إلى نوال، والتقت بعينَيها نظرات ابنتها حسيرة، وفهمت كلتاهما ما يدور بنفس الأخرى، فجرَتِ الدموع في عيونهما.
وتذكَّرَت نوال التليفون الذي كانت ممسكة بسماعته حين جاء حسام … أو حين جِيءَ بحسام، فنظرَت إلى حيث تركتِ السماعة، ولكنها لم تتحرك، فقد أدركَتْ أن هناء لا يمكن أن تظلَّ منتظِرة طوال هذه المدة.
ونظرت الأم حيث نظرَت ابنتها، ثم أطرقَتْ وعادت إلى زوجها ولم تجد نوال شيئًا تفعله، فعادت إلى السماعة، وهمت أن تضعها على الحامل لولا أنها سمعت: آلو.
– آلو.
– ماذا جرى يا نوال؟
– هناء … هناء.
وانخرطت نوال في بكاء غزير الدموع، وهناء على الطرف الآخَر لا تزال تلح عليها أن تطمئنها.
وأخيرًا قالت نوال: إنه ما فعلتِه بنا يا هناء، إنه ما فعلتِه بنا …
– أنا؟
– نعم، أنتِ، ويا ليتَكِ سعدتِ، إذن لارتحتُ أنا بعض الشيء، وعزيتُ نفسي عن شقاء أخي بسعادتك أنتِ، ولكنكِ حتى لم تسعدي نفسك يا هناء، وتأبين إلا أن تزيدي شقائي فلا تجدي إلا أنا، لتبثيها ما تلاقينه من زوجك وأهله، أنا وحدي في العائلة التي أتحمل الشقاء شقاءين، شقاء أخي بكِ، وشقاءك أنتِ بغير أخي.
ولم ترَ نوال الدموع الجارية على خدَّي هناء، ولم تحسَّ النار اللاهبة التي ازدادت اشتعالًا في نفس بنت خالتها التي اتخذتها أختًا، لا لم ترَ نوال الدموع، ولا أحسَّتِ النار، أو لعلها أحسَّتْ وميضًا خابيًا من هذه النار، حين طرقَت أذنها سماعة هناء، وهي تستقرُّ في مكانها من الحامل مُنهِية الحديث.