الفصل السادس والعشرون
قام فوزي من نومه مبكرًا، شأنه كلَّ يوم، فوجد زوجته قد صحت وجلست تنتظره، لتتناول معه طعام الإفطار، وحين جلسا إلى المائدة قال فوزي: ماذا … فول؟
– نعم، وما عيب الفول؟
– كل يوم! بعض الرحمة.
– إني أقدِّمه لك أحيانًا في الفطور ومعه أصناف أخرى … كفرت؟!
– يا ستي أنا لم أقل شيئًا، وهل أستطيع أن أقول شيئًا؟ فكله من خيرك، إن كان فولًا فأنتِ مَن تدفعين ثمنه، وإن كان قشدة فأنتِ مَن تدفعين ثمنها، هل أستطيع أن أتكلم؟
– ما معنى هذا الكلام؟ إنكَ دائمًا تعيِّرني بأني أدفع ثمن الأكل، ماذا تريدني أن أفعل؟ يا أخي قل لي ما تريدني أن أفعله وأنا أنفذ!
– يا ستي العفو، وهل أستطيع؟ إنما يأمر الرجل الغني الذي يستطيع أن يدفع ثمن ما يطلبه.
– يا أخي مُرني ولا تدفع، ولكن فقط لا تنكد عليَّ عيشتي كلَّ هذا النكد، ماذا جنيت؟
– يا ستي ماذا أكون أنا حتى أنكد عليك؟ العفو العفو!
ولم تستطع هناء أن تكمل طعامها، بل إنها لم تستطع أن تبدأه، فقامت عن المائدة مغضبة وهي تقول: لا، لا أستطيع … لا يمكن.
وأسرع فوزي قائلًا: خادمتك … أمي ستأتي اليوم، فأرجو أن تتكرَّمي بإعداد شيء لها.
وسمعت هناء الحديث وانصرفت دون أن تُلقي إليه التفاتًا، وفرغ هو من طعامه هادئًا، وقام إلى الباب الخارجي وصفقه من خلفه ومضى.
وظلَّت هناء في حجرتها تبكي بكاءً مُرًّا، ولكنها لم تكد حتى سمعت جرس الباب، فظنَّت أن زوجها نسي شيئًا فعاد لإحضاره، ولكنها دهشت حين سمعت صوت حماتها يرن في البهو قائلة للخادمة: أين سيدك؟
وقبل أن تجيب الخادمة سارعت تقول: وأين ستك؟! أهي نائمة؟
وقالت الخادمة في جمود: سيدي وستي تناولا الإفطار معًا، ونزل سيدي إلى عمله، وستي صاحية في غرفة نومها، سأناديها.
ودخلت الخادمة عند هناء، ولم تمهلها هناء لتعلن إليها قدوم الست الكبيرة، بل عاجلتها قائلة: أحضري التليفون.
وحاولت الخادمة أن تقول شيئًا، ولكن هناء سارعت قائلة في حزم: أحضري التليفون.
وخرجت الخادمة لتعود بعد لحظات حاملة التليفون، وأدارت هناء القرص، وما لبثت أن قالت: مَن؟ لواحظ؟ أين ستك نوال؟ أيقظيها.
وبعد لحظات من الصمت قالت هناء: نوال … سآتي إليكِ الآن … سأخبركِ حين آتي، المهم أن ترتدي ثيابك وتنتظريني … نعم فورًا.
ووضعت هناء سماعة التليفون، وقامت إلى ثيابها فوضعتها على نفسها دون عناية، ومدَّتْ يدها إلى درج خفي في صوانها، فأخرجت منه كلَّ ما فيه من مال، ووضعته في حقيبة يدها الصغيرة، ولم تُلقِ إلى المرآة نظرة، وخرجت إلى البهو لتجد حماتها قد جلست على الأريكة في عظمة تقول لها: صح النوم يا هانم.
– أهلًا تيزة.
– أهلًا بكِ يا أختي، أيصح أن تتركيني ساعةً أنتظرك، افرضي أني جائعة وجئت أتناول الفطور عندك، أهذا يليق؟ ولكن لمَ لا … أين نحن منك؟ طبعًا وهل نتوصل؟
وقالت هناء في هدوء بارد: كنت ألبس يا تيزة.
– وما لزوم اللبس يا أختي؟ أم تريدين أن تشعريني أني جئتُ مبكِّرة؟ حسبت أني أجيء إلى بيت ابني في أيِّ وقت، نسيت يا حبيبتي أن البيت ليس بيت ابني، نسيت … لا مؤاخذة.
– لا أبدًا يا تيزة، هو بيت ابنكِ كما حسبتِ تمامًا، هو بيتك.
– العفو! ومن أين لي ببيت كهذا؟ والله يا حبيبتي اضطُرِرتُ أن آتي الآن، لأن عمك — لا مؤاخذة — أقصد زوجي، ينزل إلى الديوان الآن، فنزلتُ معه، لأني لا أستطيع أن آتي وحدي، ولكن لا تخافي يا حبيبتي، لقد تناولت فطوري قبل أن أجيء، وسأقعد معك أسلِّيكِ حتى يجيء زوجك.
– أشكرك يا تيزة، ولكن هل تسمحين لي أن أنزل لأغيب عنك نصف ساعة فقط، ثم أعود؟
– الآن؟ والساعة لم تصل إلى التاسعة؟!
– نوال بنت خالتي تريدني في شيء مهم، سأصل إليها وأعود.
– إن كنتُ ضايقتك أنزل أنا.
– أبدًا، البيت بيتك وسأعود حالًا، أترككِ بخير.
وقبل أن تسمع هناء كلمة أخرى من هذا الحديث الذي لم تسمع غيره منذ تزوَّجَت ابن هذه المرأة، سارعت إلى الباب الخارجي للشقة وانفلتت منه إلى الخارج، وهي لا تكاد تصدِّق أنها أصبحت في الطريق، ونزلت إلى الشارع، ووجهها كله عزم وإصرار، ونادت أول سيارة أجرة، وأعطت السائق عنوان خالتها.
وعند الباب الخارجي نزلَتْ، وطلبت إلى السائق أن ينتظر، وقفزت السلالم قفزًا سريعًا متواثبًا إلى حجرة نوال، فوجدتها قد ارتدَتْ ثيابها وجلست تنتظرها.
– نوال.
– ماذا؟
– قلتِ لي: إن لك صديقة ذهبت إلى يهودي أجرى لها عملية إجهاض، لأن زوجها فقير لا يريد أطفالًا أكثر مما لديه.
– نعم.
– ما عنوان هذا اليهودي؟
– وكيف لي أن أعرفه؟
– طبعًا صديقتك ليس لها تليفون.
– بالطبع لا، إنها صديقتي من المدرسة، وقد قصَّت عليَّ هذا الحديث حين زارتني، ما الذي أذكركِ به؟
– أريد أن أذهب إلى هذا اليهودي.
– هل أنت مجنونة؟!
– أريد أن أذهب إلى هذا اليهودي.
– وكيف لي أن أعرف مكانه.
– ما عنوان صديقتكِ؟ أنتِ تعرفينه، لقد قلتِ لي إنها اصطحبتكِ يومًا إلى بيتها.
– ماذا تريدين أن تفعلي؟
– هل تعرفين عنوانها؟
– نعم.
– فقومي معي.
– هل أنتِ مجنونة؟
– ليس بعد، أنا الآن في تمام عقلي، وسأكون مجنونة إذا لم أفعل ما أنا مقدمة عليه.
– ماذا تريدين أن تفعلي؟
– أنا حامل في شهري الثاني، وأريد أن أجهض نفسي الآن.
ودقَّت نوال صدرها بيدها قائلة: ماذا؟
– اسمعي، أمي أضاعت حياتها من أجل أخي أحمد ومن أجلي، لا أريد أن أضيع حياتي، لا أستطيع العيش مع فوزي، لقد حاولت، حاولتُ بكل ما أستطيع، لا أطيق العيش معه، لقد حاولتُ أن أكتم عن أمي ما أقاسيه لأنني أنا مَن اخترتُه، أما الآن فلا يهمني ما تفعله بي أمي، لا يهمني شيء في الوجود إلا أن أنقذ نفسي من هذه النار التي ألقيتُ بنفسي إليها، أنا أكره فوزي، أكرهه بدمي جميعًا، بل إن شعوري نحوه أشد من الكُره، لا ليس شعورًا ما أحسه نحوه، إنه إسقاط له من حياتي جميعًا، إنه شيء حقير قذر، دنَّس فترة من حياتي، ولا أريده أن يدنِّس حياتي جميعها، لا أستطيع العيش معه.
وترقرقَت الدموع في عينَي نوال وهي تقول: وما ذنب طفلك؟
– إنه لم يعُد طفلًا بعدُ، ولا أريده أن يتحمَّل حياة لم يجنِ هو شيئًا فيها، نعم إنه لا ذنب له، ولذلك أريد أن أنقذه من أبيه حين يكبر، وأريد أن أنقذه من العيشة بلا أب قبل أن يكبر، وأريد أن أنقذه من الحقيقة التي كشفتُها في أبيه، إنه شيء بلا أخلاق … بلا أخلاق على الإطلاق، ليس لأي شيء قيمة في نظره، أريد أن أنقذ ابني من أبيه، وأريد أن أنقذ نفسي من أمومة أشكُّ في أنها ستكون صالحة، إن هذا الجنين الذي في أحشائي لا يزال جنينًا، أريد أن أخلِّصه من الحياة قبل أن يلتقي بالحياة.
وكانت الدموع تنهمر من عينَي هناء وهي تتحدَّث، كما كانت تنهمر من عينَي نوال، ولكنها مع ذلك استطاعت أن تقول أقسى قول يمكن أن يُقال لهناء في لحظتها تلك: أليس هذا هو فوزي الذي أشقيتِ به المسكين حسام؟
ونظرَتْ إليها هناء نظرات آلِمة حزينة، ثم أطرقَتْ وهي تقول: لا، ليس هو، لم أعرفه إلا حين لم تعُد لمعرفتي به فائدة.
وقالت نوال في حزم: قومي.
واستأذنَتْ نوال من أمها، وخرجت مع هناء، وما هو إلا بعض الحين حتى كانتا بالمكان الذي يقيم به اليهودي، وما هو إلا بعض آخر من الحين، حتى أصبحَتْ هناء وهي لا تحمل إلا روحًا واحدة هي روحها، ونزلت إلى السيارة ومعها نوال.
وفي الطريق إلى البيت انخرطت هناء في بكاء حادٍّ عنيف، ولكنها لم تجِد له في نفسها ألمًا، أحسَّتْ كأنها إنسانة ضحَّتْ، وأن حلاوة التضحية تمسح عن نفسها الألم الذي عانته، ألم الأم تقضي على ابن أحشائها.
ووقفت السيارة عند باب القصر العتيد، ونزلت هناء وانية شاحبة اللون، وصعدت الدرج في إعياء تُساندها نوال، فما إن بلغت أمها حتى هبَّت إليها الأم مذعورة تسألها ما بها، ولكن هناء لم تستطع إجابة، فقد اجتمع عليها الألم والإعياء والحزن واليأس، فلم تُجِب أمها، وإنما سارت في خطواتها الوئيدة المتهالكة إلى حجرتها، وفتحت بابها في ضعف، وأمها من ورائها لا تني عن سؤالها عما بها، وهي لا تني عن الصمت، حتى إذا بلغت السرير ارتمت عليه، وصعدت شهيقًا عميقًا، كأنها تطرد به من نفسها كلَّ الآلام التي قاستها، ثم قالت في همهمة: أخيرًا … الحمد لله.
وتولَّت نوال إبلاغ الأم بما كان من ابنتها وزوجها والحياة النكدة التي لقفتها منذ تركت القصر، وظلَّت نوال تحكي حتى أتت إلى آخِر المطاف عند اليهودي، وجزعت الأم من هذه الحادثة، وقبل أن تجيب نوال إلى حديثها، قامت إلى التليفون، فاستدعت طبيبها الخاص، ليطمئنها على صحة ابنتها، وحين رجعت إلى نوال قالت لها: إن إجهاضها لنفسها يمنع أيَّ محاولة للإصلاح، أرجو الله أن يقدِّرنا على الخلاص من هذا الشاب، فأنا أعرف هذا الصنف من الناس، ولكننا سنتخلص منه على أية حال.
ودخل أحمد إلى الغرفة مذعورًا بعد أن أنبأه الخدم بمجيء أخته، وبالحال الذي جاءت عليه، وحين أنبأته نوال بما أنبأت به أمه، قال في هدوء وجِد: لقد كنتُ مقدِّرًا لهذا جميعه، على أية حال سيطلقها، فما أظنه سيجرؤ على عدم الطلاق.
ونظرت إليه أمه في ابتسامة ساخرة: أتظن ذلك؟ أتظن أنك ستقول له طلِّق فيطلق.
فقال أحمد في وثوق: طبعًا.
– ما زلتَ صغيرًا يا أحمد.
– إنه صديقي وأنا أعرفه.
ونظرت إليه أمه نظرة عميقة وقالت: أتعرفه حقًّا؟
فتلعثم أحمد هنيهة، ثم قال: على كل حال لا أظن أنه سيمانع في الطلاق.
وقالت الأم في وثوق: سترى، قُم إلى التليفون واطلب إليه أن يأتي.
وقام أحمد وطلب فوزي في التليفون، ووعد فوزي أن يأتي فورًا، وقبل أن يأتي جاء الطبيب وأجرى الفحص على هناء، ثم نظر إلى أمها وقال: أما هناء فبخير والحمد لله، ولكن أنتِ … أنت التي لا بدَّ لك أن تستريحي يا سهير هانم.
قالت سهير: نعم أعرف.
– يُخيَّل إليَّ أنكِ لا تعرفين أبدًا! إنني بغير أن أفحصك أرى أنكِ مجهدة كلَّ الإجهاد، ولا بد من الراحة التامة.
– أعرف يا دكتور، سأستريح.
ونزل الدكتور، وبعد حين جاء فوزي، ورآه أحمد يدخل من الباب الخارجي، فسارع نازلًا إليه، وحاولت أمه أن تستوقفه لتنزل معه، فطلب إليها أن تلحق به.
وفي الدور الأسفل التقى أحمد بفوزي، وأراد فوزي أن يصعد إلى الدور الأعلى، ولكن أحمد قاده إلى غرفة مكتبه التي كانا يجلسان بها، وما كاد الصديقان يجلسان، حتى قال أحمد في تسرُّع وفي حسم: فوزي، أريدك أن تطلق هناء.
وفغر فوزي فاه من الدهشة، ثم تمالك أمر نفسه وقال: ماذا؟
– أريدك أن تطلِّق هناء.
– هكذا! بهذه السهولة؟!
– نعم.
– وإذا رفضت؟!
وأُخذ أحمد من الطريقة التي يحادثه بها فوزي، ولكنه صبر نفسه وقال: لا أظنك ترضى أن تعيش مع زوجة تكره العيش معك.
ودخلت سهير الحجرة في هدوء، وقام فوزي فلم تبالِ قيامه، وجلسَتْ على أقرب كرسي، وجلس فوزي هو الآخَر قائلًا: ما هذا الكلام الذي يقوله أحمد يا نينا؟
لم تستطع سهير أن ترد عن قلبها تلك الغصة التي تحسها كلما سمعته يقول «يا نينا»، ولكنها أغضت على السوء وقالت: ماذا قال أحمد؟
– قال إنه يريدني أن أطلق هناء.
فقالت الأم في هدوء: لا، هذا غير صحيح، إنه لا يريدك أن تطلق هناء، ولكن هناء تريدك أن تطلِّقها.
– ماذا؟
فقال أحمد في غضب: ماذا؟ ماذا؟ إن الأمر كما سمعتَ … ألم تكن تتوقعه.
وقال فوزي في هدوء: الواقع أنني لم أكن أتوقعه.
فقالت الأم: على كل حالٍ توقعك لا يجدي شيئًا، ما رأيك الآن؟
وصمت فوزي بعض الحين، ثم قال: أيمكن أن أكلمكِ على انفراد؟
وقالت سهير: أي انفراد تقصد؟ أنا لا أرى معنا إلا ابني.
وقال أحمد: أيُّ سر يمكن أن يكون بينك وبين أمي ويختفي عليَّ؟
فقال فوزي: إنها مسائل عملية لا أحب أن أتحدث فيها أمامك.
فقالت الأم: لن يختفي شيء عن أحمد، قل ما تريد.
فقال فوزي: الواقع أنني لا أستطيع العيش بدونها، فحياتي كلها مُعلَّقة برضائها عني، ولا أتصور كيف يكون حالي إذا تخلَّت عني هناء.
وقالت سهير في هدوء: أنا أفهمك تمامًا يا فوزي، ولكني أريد أن توضِّح نفسك في جلاء.
– الواقع أنني لا أستطيع الطلاق.
فقال أحمد في تسرُّع: يا أخي هذه صفاقة.
ونظر فوزي إلى أحمد وفي عينَيه ثورة مصطنعة، يخالطها أدب متكلف: أظن أنه لا معنى للإهانات.
فقالت الأم: اسكت يا أحمد، أنا آسفة يا فوزي … قل ماذا تريد إذن؟ وكيف يمكن أن تعيش معها، وهي لن تعود إلى البيت مهما تفعل، لا أظنك تنوي طلبها في بيت الطاعة.
فقال فوزي متلعثمًا: بالطبع لا.
فقالت الأم في ثبات: فبيت الطاعة، كما تعلم، لا بد أن تعدَّه أنت.
وأطرق فوزي خجلًا وقال: نعم أعرف.
– إذن ماذا تريد أن تفعل؟
وصمتَ فوزي لحظات، وأخذ يردِّد النظر بين سهير وأحمد، ثم قال: ألا يمكن أن نكون على انفراد؟
ودهش أحمد من إصراره هذا، وقالت سهير في حسم: لا.
فقال فوزي في بطء: إذن فأنتِ تعرفين أنني في فترة الزواج هذه قد تعوَّدتُ نوعًا مُعيَّنًا من المعيشة، وأصبحتُ لا أستطيع أن أعود إلى المستوى الذي كنتُ أعيش فيه، فإن هذا يخجلني أمام أصدقائي.
وفغر أحمد فاه من الدهش، ولم يجِد شيئًا يقوله، بينما قالت سهير في ثبات، وكأنها كانت تدرك أن فوزي لن يسوق إلا هذا الحديث الذي يسوقه الآن: إذن ماذا تريد؟
فقال فوزي: والله أمرك.
– أتكفيك السيارة؟
وصمت فوزي، وقالت الأم: السيارة وأثاث البيت.
وقال فوزي: وماذا أفعل بأثاث البيت؟ إنني لن أحتاج منه إلا إلى أثاث ثلاث غرف فقط، النوم والمكتب والمائدة.
وقالت سهير: وماذا تريد أيضًا؟
وعاد فوزي يقول: أمرك.
والتفتت سهير إلى أحمد، وقالت له: أحمد، أرسِل عم دهب لينادي المأذون.
وقام أحمد والدهشة عاقدة لسانه لا تزال، وقال فوزي: ألا نتفق أولًا؟
ودق أحمد الجرس، وعاد إلى مقعده، وقالت أمه وهي على هدوئها: سنتفق يا فوزي.
وقال فوزي: ماذا ترين؟
وقالت الأم لابنها: هات دفتر الشيكات من الدور الأعلى يا أحمد.
وقام أحمد، وقبل أن يغادر الحجرة، أقبل عم دهب تلبية لنداء الجرس، فأمره أحمد أن يستأجر سيارة ويحضر بها المأذون فورًا، ثم خرج ينفِّذ أمر أمه، ولم تتكلم سهير، ولم يتكلم فوزي، حتى عاد أحمد ومعه الدفتر، وأخذَتْه منه أمه، وطلبت إليه قلمًا، وكتبت شيكًا وقَّعَتْه وفصلته عن الدفتر، ثم نظرَتْ إلى فوزي قائلة: هذا هو الشيك، اسمح لي ألا أعطيه لك إلا بعد أن توقع الطلاق.
وقال فوزي مصطنعًا الحياء: ألا أعرف الرقم؟
وقالت الأم في حسم: ألف جنيه.
وهمَّ فوزي أن يقول شيئًا، ولكنه رأى النظرات الجامدة في عيون أحمد وسهير، وظلَّ ثلاثتهم صامتين، حتى جاء المأذون، وطلب إليه أحمد أن يُجري إجراءات الطلاق، وحين حاول المأذون أن يلقي خطبته التقليدية، قطعها عليه أحمد، وطلب إليه أن يمضي في إجراءاته بلا إطالة.
وتمَّ الطلاق، وتسلَّم فوزي الشيك، وهمَّ أن ينصرف، ولكن أحمد أمسك به من طرف سترته وقال له: اسمع، إن أشد ما آسَفُ عليه أنني عرفتك، فإنني أحتقر تلك الفترة في حياتي التي جمعتني بك، لقد خلقتَ في نظري مستوى جديدًا للانحطاط لم أكن أتصوَّر أن يرتمي فيه أحد، وكل رجائي اليوم ألا أراك أبدًا، وألا أذكر هذه الفترة التي عرفتك فيها.
وفي جمود نظر فوزي إلى الأرض وقال: أشكرك.
ثم انفتل خارجًا يتحسَّس جيبه الذي وضع فيه ثروته الجديدة.