الفصل الثالث
عاد وصفي إلى منزله أول الليل، وجلس إلى أمه التي استقبلَتْه وقد رسمَتْ على فمها ابتسامة، أدرك وصفي أنها تخفي وراءها أمرًا، ولم يشأ وصفي أن يستعجل أمه لتنهي إليه ما تخفيه ابتسامتها، فهو يعلم أنها سرعان ما تفضي إليه بما تُخبِّئه.
كانت السيدة إجلال أم وصفي سيدة في الحلقة السادسة من عمرها، تركية المولد والنشأة، وكانت بيضاء الجبين، لم يخُطَّ الزمانُ على وجهها خطوطًا كثيرة، وإنما ترك صفحة وجهها صافية يلمع فيها البِشْر، فقد عاشت مع المرحوم زوجها عيشة راضية، فلم يتزوج عليها، ولم يشترِ جوارٍ أخريات شأن أمثاله من الأغنياء، وإنما أفردَها بحبه وعنايته ومنزله، ولكن هذا جميعه لم يستطع أن يمحو من عينَيها وميض قلق ألمَّ بها منذ اختطفها اللصوص وهي طفلة تلعب في مدارج الصبا، وأتوا بها إلى مصر، حيث بيعَتْ بيع الرقيق إلى جدِّ وصفي الذي زوَّجها لولده أدهم باشا شكري، لا، لم تمحُ الأيام من عينَيها هذه النظرة القلقة، ولم يستطع أدهم باشا بكل حدبه عليها وحبه لها أن يزيل هذه الآثار الدارسة من بقايا القلق التي ارتسمَتْ في عينَيها منذ ذلك الحين البعيد، ولم تنجب إجلال هانم لزوجها غير وصفي، فحمد ربه على ما أعطى، وعاش لا يرجو من دنياه إلا أن يمدَّ الله في عمر ولده ويحفظه من شر العاديات.
وكان وصفي خليقًا أن يميع، منتهزًا فرصة انفراده بأبوة أبيه وببنوَّته له، لولا أن إجلال هانم أدركَتْ ما يحيط بالفتى من خطر، فقامت على شأنه في قسوة رحيمة وحزم واعٍ، وهيَّأ له أبوه مناهل العلم ومجالس العلماء، فشبَّ الفتى قويم الخلق واللسان، أديبًا محبًّا للعلم، وصار إلى مكانه المرموق هذا، مدركًا أن الفضل في ذلك يرجع إلى أمه وأبيه.
وحين انتقل أبوه إلى جوارِ ربِّه، عاش الفتى وليس له أرب في بيته إلا أن يُرضي أمه، فلا تفتقد شيئًا كانت تجده أيام أبيه، اللهم إلا فقدانها لزوجها، ذلك الذي لا يعوِّضه مال أو بنون.
لاحظَتْ إجلال هانم أن وصفي لم يحفِل أمر ابتسامتها التي وضعَتْها على فمها حين أقبل، فوسَّعَت الابتسامة مرة أخرى عساه أن يسألها، فقد كانت تُدير الحديث في ذهنها قبل أن يأتي ولدها، وكانت تريد أن يسألها «ماذا وراء ابتسامتك؟» حتى ترد سؤاله بما تريد أن تخبره به، ولكن ها هو ذا ابنها يأبى أن يسألها ولا تعرف هي كيف تبدأ الحديث.
وأدرك وصفي أنها تريد أن يسألها عما تخفيه، وشاء أن يداعبها بصمته، فسكت لا يسألها، وطال الصمت بهما وازدادت الابتسامة اتساعًا، وازداد وصفي تشاغلًا عنها حتى ضاقت الأم آخِر الأمر.
– أما إنك بارد!
وضحك وصفي وهو يقول: لماذا يا أمي؟
– أما ترى أني أبتسم وأبتسم؟ أما ترى أنني أريد أن أقول شيئًا؟!
– فما يمنعك يا أمي أن تقوليه؟
– لأنك لا تسألني عن سبب ابتسامتي.
– ألا بدَّ أن أسألك حتى تخبريني؟ أنا أعلم أنك لن تسكتي أو تقولي ما بعث هذه الابتسامة الحلوة إلى شفتَيك.
– والله لأسكتنَّ فلا أخبرك.
– ولماذا يا أمي؟ أنا أعرف أنكِ تريدين أن تخبريني عن خبرٍ هام، فلا تضايقي نفسك وقولي الخبر.
– أنا أضايق نفسي، إنه أنت الذي يتوقُ إلى معرفة ما أخفيه.
– أنا يا أمي!
– نعم أنت، ولكني لن أخبرك.
– حسنًا، نعمل تجربة، الذي يتكلم أولًا يدفع للآخَر خمسة جنيهات.
– أما إنك بارد!
– هيه، ما رأيك؟ نعمل تجربة؟
– طيب، سنرى.
وسكت الاثنان، وقد ازدادَتِ الابتسامة اتساعًا على وجه إجلال هانم، حتى لتوشك أن تنفجر عن ضحكة مرحة فرحانة، ولم يطُل بهما الصمت، بل تلفَّتَت إجلال هانم حولها وهي تقول: أين كيسي؟ ها هو ذا.
وفتحت إجلال هانم كيس نقودها، وأخرجَتْ منه خمسة جنيهات، وقالت لابنها: خذ واسمع.
وراح الاثنان يقهقهان في مرح، ثم قالت إجلال هانم: احزَرْ مَن زارني اليوم.
– حرم إسماعيل باشا مصطفى.
وفغرَتِ الأم فاها عاجبةً من ولدها هذا الذي حيَّرَها.
– وكيف عرفتَ؟
– عرفتُ من ابتسامتك الأولى.
– طيِّب هات الجنيهات الخمسة، أتضحك عليَّ يا ولد؟
– وفيمَ أضحك عليك؟
– أتكون عارفًا بالموضوع كله وتدَّعي الجهل به؟
– يا أمي، وهل لكِ عمل منذ قبلتُ أن تخطبي لي هندًا إلا بيت إسماعيل باشا مصطفى؟ وهل لكِ حديث إلا عن الخطبة، وعن صداقتك لسمية هانم منذ أيام الطفولة، وعن فرحك لهذا النسب الجديد؟ يا أمي إنني أعلم أنك لا تحملين أخبارًا إلا هذه، فمنذ فتحت هذا الموضوع وأنتِ لا تتحدثين عن شيء آخَر.
– آه يا لئيم! هاتِ الفلوس التي أخذتَها.
وقال وصفي جادًّا: وماذا قالت لك سمية هانم؟
– أرأيتَ أنك أنتَ الذي تتوق إلى هذا الحديث.
– على كل حال لا بد لي أن أعرف.
– يا سيدي، الباشا وافق وهو مسرور جدًّا، وقالت لي إنه منتظرك غدًا لتُحدِّد موعد الخطبة.
وقال وصفي في شيء من القلق: غدًا؟
– غدًا.
– بهذه السرعة؟
– وما المانع؟
وسرح وصفي بنظره وهو يقول: نعم، صحيح، ما المانع؟