الفصل الثلاثون
دخل الشبان الثلاثة القصر، فوجدوا وصفي باشا جالسًا في البهو منكَّس الرأس، ووجدوا الاضطراب يسود القصر جميعًا، حتى لم يلحظ أحد دخولهم، على رغم الأنباء المهمة التي يحملونها، ولم يرهم وصفي إلا حين اقترب ابنه منه يسأله: أبي، ماذا حدث؟
وانتبه وصفي إلى ابنه ورفع إليه عينَين، رأى جعفر فيهما آثار اضطراب وحيرة، ولو أنعم جعفر النظر، ولو كان رأى أباه يبكي قبل اليوم، لأدرك أن ما بعينَي أبيه آثار دموع، ولكنه لم يلحظ شيئًا من هذا، وإنما شغله أبوه بسؤاله: ماذا فعلتم؟
وأنهى جعفر إلى أبيه ما يحمله من أنباء، فقفز وصفي عن كرسيه، وهو يقول لابنه: سهير حالتها خطيرة، فاسألوا الأطباء عما يجب أن يُقال لها، وما لا يجوز أن يُقال، وأنا ذاهب الآن إلى وزير الداخلية.
وخرج وصفي مسرعًا، وصعد جعفر وحسام إلى الطابق الأعلى فوجدا باب سهير مقفلًا عليها، أو لا يكاد يقفل، فالخدم داخلون خارجون منه ينفِّذون أوامر الأطباء في وجوم وسرعة واضطراب، فاختار الشابان مكانًا لا يعوق الأرجل المتسارعة، وجلسا في البهو، وبعد حين خرجت هناء من حجرة أمها وهي تقول: ألم يأتِ الأكسجين؟
وسارع إليها حسام يسألها: هناء، هل أستطيع أن أعمل شيئًا؟
وفي غمرة الخطر المرفرف في القصر نسي الاثنان ذكرياتهما، والتقيا على هذه الأحداث المحيطة بهما، ولكن هناء لم تستطع رغم هذا أن تمنع هذه الحمرة من الخجل أن تصعد إلى وجهها، دون أن يكون لها تأثير في استئنافها الحديث مع ابن خالتها وكأنها لم تصرع آماله، لم تتلعثم رغم اللهفة التي رأتها في حديثه إليها، لهفة محب — لم تستطع أن تختفي في جلال الموقف الذي يجمعهما — يصفح عن حبيبته، ويهفو إليها، ويأمل أن تقبله أملًا لا يشوبه ذكريات زواجها من غيره، في لحظة عابرة رأت هناء في عينَي حسام صفحًا وحبًّا، وفي لحظة عابرة رأى حسام في عينَي هناء اعتذارًا وإشفاقًا، وإقبالًا … لحظة أومضت في الحوالك التي تحيط بهما، ثم عادا إلى الدوامة التي تصخب حوليهما، قالت هناء: ماذا فعل أحمد؟
فأنبأها حسام متلاحق الأنفاس، وطلب إليها أن تسأل الأطباء إن كان يمكن أن يبلِّغا خالته، وجمعهما الخَطْب، وتبادلا جملًا متقطِّعة عما يجب أن يفعلاه، دارت هذه الجمل عن المرض وعن السجين، وأحسَّ حسام من هذا الحديث القاتم إشراقًا ينساب إلى نفسه، وملأه فرحًا أن مشاعر متحدة تجمعه وهناء في أحداث واحدة، كلاهما مهتم بها، وطلبت إليه هناء آخِر الأمر أن يتعجَّل أنبوبة الأكسجين، فسارع يثب السُّلَّم والفرح يغمر نفسه، وزجر هذا الفرح عن نفسه أنه غير خليق به أن يفرح، وخالته أمُّ هواه تنتزع أنفاسها انتزاعًا، وأحمد ملقي في السجن، وتنحسر موجة الفرح هونًا لتفسح مكانًا لبعض شفقة، أو بعض إشفاق، ثم ما تلبث موجة الفرح أن تطغى مرة أخرى هازئة بما يجب أن يحسه في لحظته تلك، ساخرة مما تريد الظروف أن تفرض عليه من إحساس، محطمة كلَّ ما يحاول أن يقف في طريقها من عقل أو منطق أو مشاعر غير الحب والفرح بهذا الحب.
كان مرض سهير أقوى حجة في يد وصفي حين قصد إلى وزير الداخلية، فما زال به حتى أصدر أمرًا بالإفراج عن أحمد، وسارع وصفي إلى السجن، ليصحب أحمد إلى البيت، وعلى باب السجن قال أحمد في هدوء ووثوق: عمي، إني أشكرك، ولكن لي رجاء عندك؟
وقال وصفي باشا: اركب أولًا يا أحمد، وقل رجاءك في السيارة.
ولم يحفل أحمد اضطراب عمه، بل قال في هدوء: فوزي.
وقطَّب وصفي جبينه، فما كان ينتظر أن يسمع هذا الاسم الآن، ومن أحمد، وفي هذا المكان، وانتزعته الدهشة هنيهة من اضطرابه ليقول: ماله؟!
– معتقل، وأبوه مشلول.
ونظر وصفي في عينَي أحمد بإنعام، وقد ازدادت الدهشة على وجهه، يخالطها إعجاب وإكبار، ولكنه عاد يسأل في تشكُّك: أما يزال صديقك؟
– أتظن أنه يمكن أن يكون صديقي؟
وأفاق وصفي إلى الإجابة، وأصبحت نظرته إلى أحمد إعجابًا خالصًا، وازداد تحديقًا فيه، وطالعته معارف سهير من وجه أحمد، فانتفض جازعًا وقال: طيب اركب … اركب الآن يا أحمد.
– ولكن يا عمي أتعدني؟
– يا أخي أمك مريضة جدًّا، أسرع.
واضطرب أحمد لهذا النبأ، وأسرع يركب السيارة، ولم ينتبه أنه سبق عمه في الركوب، وركب وصفي، وأمر السائق أن يسرع إلى القصر، وفي الطريق راح أحمد يسأل عن تفاصيل مرض أمه، ووصفي يجيبه ذاهلًا، حتى إذا لم يجد أحمد أسئلة أخرى، غاص إلى نفسه … أتموت أمي؟ أأكون أنا قاتلها؟ أي حياة سألقاها من بعد؟ حذار … حذار أن أجر على نفسي الخسران في دوامة هذه الأفكار، إن الموت والحياة بيد الله، الرحمة يا رب … نجِّها يا رب! أأطلب منه نجاتها لأني أريدها؟ أم لأني لا أريد أن أكون أنا قاتلها؟ إني على الحالين أناني، فأنا هي الباعث في هذا الدعاء على أية حال، أهذه هي الإنسانية التي أريد أن أبلغ فيها شأوًا؟ وماذا بيدي؟ كيف أسيطر على هذه الأفكار التي تمور برأسي؟ نعم إني أستطيع، ونظر إلى وصفي وقال: أنا لن أذكرك بفوزي ثانية يا عمي.
ودهش وصفي هنيهة، ثم بدا وكأنه قدَّر ما يعتمل بنفس الشاب، فقال له في ثقة: لن تحتاج إلى ذلك.
وبلغت السيارة باب القصر، وجرى أحمد ملهوفًا إلى حجرة أمه، وفتحها ودخل، فوجد أمه تلقف أنفاسها من كمامة متصلة بأنبوبة موضوعة إلى جانبها، وما إن رأته حتى أزاحت الكمامة عن فمها وهتفت: أحمد … ابني.
وارتمى أحمد على صدرها يُقبِّلها في كل مكان، وراحت الأم تجذب أنفاسها، وتُقبِّل ولدها لحظات، ثم لم تستطع، وأحس أحمد ضعفها، فسارع يبتعد عن وجهها ويعيد الكمامة إليها، وهو راكع لا يزال بجانب سريرها، وأحسَّ أحمد يدًا رقيقة تربت ظهره، وسمع صوت أبيه يقول: الحمد لله على السلامة يا أحمد.
ونظر أحمد فوجد أباه جالسًا على طرف سرير أمه، ينظر إليه في حدب، فوضع رأسه على ركبته، وانطلق في بكاء صامت، تنسكب دموعه من فؤاد جازع حزين، ورأت سهير ما فعل ابنها، واستروَحَتِ المنظر، وهدأت أنفاسها قليلًا، وراحت في سبات عميق.