الفصل الخامس
كانت حجرة المكتب في بيت الباشا خالية لا يشغلها إلا كاتب زراعته عبد البديع أفندي الدكر، شاب يفتتح الحلقة الثالثة من عمره، صورة قوية المعالم للفلاح المصري، مغلَّفًا بعادات الريف، لم ينزع من غلافه شيء، لن تخطئ عيناك حقيقته، ولن تخدعك منه هذه الحُلَّة التي يضعها على نفسه كلما اقتضَتِ الأعمال أن يزور الباشا في المدينة؛ فقد شبَّ في القرية، وفي مكتب الباشا، يتلقَّى عن أبيه أحمد الدكر فنون حساب الدوبيا، ومحاسبة الأنفار، وصرف التقاوي والسماد، وظلَّ بالقرية وبمكتب الباشا عمره جميعه حتى مات أبوه، فتولى هو عمله.
ولم يكن مجيئه هذه المرة في عمل، وإنما جاء ليستأذن الباشا أن يكمل نصف دينه بالزواج من خطيبته التي خطبها له أبوه منذ هو طفل، ومنذ عروسه وليدة، إنها ابنة عمه «محبوبة»، محبوبة العمر كله، كم يشتاق إليها، إلى الزواج بها، وإلى أن تخلو بهما حجرة، ويُقفل عليهما رتاج، إنه يحبها، ويخفق قلبه لرؤيتها، وتمور الدماء في عروقه حين يلتقي بها وقد ألقَتْ على رأسها خمارها الأسود، وهو منذ يومَين لا يطيق صبرًا، فقد رآها في صحن دارها، وقد لبسَتْ جلبابها الأحمر الهفهاف الذي لم يكن قد رأى منه إلا طرفه الأقصى حين كان يتدلَّى تحت جلبابها الأسود، رأى الثوب جميعه، رأى ظهره، ورأى أكمامه وقد انشمرَتْ عن ذراعَيها، ذراعيها هي، بل لقد رأى أيضًا ساقَيها تحيطان بالطست، رأى ذلك جميعه حين ولجَ بيت عمه الذي كان مفتوحًا، رأى «محبوبة» فتملَّاها مليًّا، حتى إذا أحسَّ أنها توشك أن تلتفت خلفها سارع عائدًا بظهره إلى باب الدار، ومن هناك قال: يا ساتر.
وقامت محبوبة عن الغسيل، ومن وراء باب حجرتها قالت (وهي تُدرك مَن المنادي): مَن؟
– أنا عبد البديع يا محبوبة، عمي هنا؟
– لا، خرج، اتفضَّل.
– لا، أستأذن أنا؛ سأعود إليه في العشية.
هو منذ تلك اللحظة لا يطيق صبرًا، ولولا أن الأعمال كانت متراكمة لركبَ القطار إلى الباشا لحظة ترك محبوبة، ولكنه صبَّر نفسه يومَين بغير نوم، لقد كانت ساقا محبوبة وذراعاها تطارده في النوم والصحو على السواء، حتى لقد خشي أن يخطئ في الحساب؛ فجاء، جاء منذ الأمس، ولكنه لم يستطع أن يحادث الباشا؛ فقد كان جالسًا طوال الوقت إلى ولدَي أخوَيه، فلم يرَهُ إلا وهو في طريقه إلى السيارة، ولم يتَّسع الوقت إلا لأنْ يسأله الباشا سؤالًا عامًّا عن حال الزراعة، ثم طلب إليه أن يبيت إلى الغد، وبات ليلته في بيت الباشا، وخرج في الفجر ليصليه حاضرًا في سيدنا الحسين، وحين عاد كان الباشا قد خرج، ثم ها هو ذا ينتظره وقد اقتربت الساعة من السادسة، وإنه يخشى أن يبيت هذه الليلة أيضًا دون عودة إلى القرية، إلى محبوبة.
هكذا كان يفكِّر عبد البديع حين فتح الباب ودلف إلى الحجرة سليمان، وقام عبد البديع في أدب بالغ، وقد اشتعل في نفسه كُره عنيف لسليمان، فقد كان يريد أن يحادث الباشا على انفراد، والآن لم يصبح هذا الانفراد ميسورًا، ولكن هذا لم يمنع عبد البديع أن يقول: مرحبًا سعادة البك.
– أهلًا عبد البديع أفندي، لي زمان لم أرَك، كيف حالك؟
– الحمد لله يا سعادة البك، أطال الله عمرك!
– كيف حال الزراعة عندكم؟
– ماشية يا سعادة البك، بركة الباشا كبيرة.
– كم يرمي الفدان؟
– من القطن يا بك؟
– نعم.
– خمسة.
– فقط؟
– نعمة.
– والقمح؟
– من خمسة إلى ستة أرادب.
– فقط؟
– نعمة يا سعادة البك، طيب، والله إن أرضنا تنتج أحسن محصول في الجهة.
– لا، لا يا عبد البديع أفندي، لا بد أنكم لا تُحسِنون الخدمة.
– يا سعادة البك الحال عندنا لا يُقاس بالحال في أوروبا.
– ولمَ لا؟
– لا حول ولا قوة إلا بالله، هناك أوروبا، وهل أوروبا يا بك مثل العواسجة؟ شتَّان يا سعادة البك! شتَّان.
– المسألة خدمة أرض فقط، لو خدمتَ الأرض أعطَتْك.
– إنها أرضُ عمك وأرضك بجانبها، اوصل لنا في مرة وأرشِدْنا، ونحن ننفذ أوامرك.
وقبل أن يجيب سليمان، يفتح عم دهب الباب قائلًا في لهجته الحازمة: سعادة الباشا.
ويدخل الباشا إلى الحجرة ويسلِّم على سليمان وعبد البديع أفندي ويقعد، ويقعد سليمان، وينظر الباشا إلى عبد البديع منتظرًا أن يخرج، ولكن عبد البديع يقول: سعادة الباشا يسمح لي.
– ماذا؟
– كلمة صغيرة، فإني أريد أن أسافر الليلة إن أذِنَ سعادة الباشا.
ويتململ الباشا في كرسيه، وينظر إلى سليمان راجيًا أن يفهم ويترك الحجرة، ولكن سليمان لم يتحرك من مكانه، فلم يجد الباشا مفرًّا آخِر الأمر من أن يقول لابن أخيه: اتركنا دقيقة يا سليمان.
– أمرك يا عمي.
ويقوم سليمان خارجًا حاقِدًا على عبد البديع أن يُخفي عنه سرًّا، فقد كان يحسب أنه يريد محادثة الباشا في شأن من شئون الزراعة، وقد كان يحب أن يعرف كلَّ شئون الزراعة، زراعة عمه الباشا بالذات.
قال عبد البديع في لجلجة: أطال الله عمرك يا سعادة الباشا وأبقاك! سعادة الباشا يعرف أنني خاطب لابنة عمي محبوبة منذ زمن بعيد.
وقاطعة الباشا: عظيم، عظيم، وتريد أن تتزوج؟
– أطال الله عمرك يا سعادة الباشا.
– طيِّب اكتب أمرًا إلى نفسك أن تصرف خمسين جنيهًا تتزوَّج بها.
وسمع عبد البديع الرقم فتحجَّرَتْ عيناه هنيهة، ثم فاض منهما دمع فرحان، فما كان يطمع في غير عشرين، وانكبَّ عبد البديع على يد الباشا متشبِّثًا بها، مُلقيًا عليه بفمه، ولكن الباشا يختطفها منه في حزم: ماذا جرى يا عبد البديع، متى رأيتني أسمح لأحد أن يُقبِّل يدي؟ أستغفر الله يا ابني، واستغفِره أنت أيضًا! اذهب يا ابني، أنت ابني، اذهب بارك الله لك في زوجتك وبارك لها فيك!
وقال عبد البديع والدموع تجري على خدَّيه: وبارك لنا فيك يا سعادة الباشا، وأطال عمرك، ولا أرانا فيك سوءًا أبدًا يا سعادة الباشا!
وخرج عبد البديع ونادى الباشا: يا سليمان، يا سليمان.
ودخل سليمان الحجرة، وتبعه وصفي الذي كان قد وصل لتوِّه، وجلس كلاهما إلى الباشا وقد غشيهم الصمت، أما الباشا فمفكِّر في عبد البديع وفي زواجه، مقارنًا بينه وبين ابنتَيه اللَّتَين تُعقِّدان الزواج تعقيدًا يوشك أن ينتهي بهما إلى بوار، ومُفكِّر أيضًا في سليمان هذا وفي وصفي، فقد كان يتمنى أن يخطب وصفي إحدى ابنتَيه، ولكنه صامت لا يُبين عن رغبة، ولا تبدو منه بادرة تفكير، ولو كان يطيق أن يرفض سليمان دون الرجوع إلى ابنته لفعل حتى يضمن بُعده عنها، ولكن لا يستطيع، فهو ابن أخيه وإن كان فقيرًا، ويخشى أن يرفضه فتغضب الأسرة جميعها، فقد استقرَّ العرف بينهم ألا يكون المال سببًا في قبول أحدهم أو رفضه، فكلهم أسرة، وكلهم سواسية، لا يرفع المال واحدًا منهم ولا يخفض آخَر، ولكن الحمد لله، فإن سهير ترفض وتتمسَّك بالرفض وما يظنها تقبله أبدًا، فإن وجهه هذا — وهو يعلم أنها رأته من وراء الشباك — كفيل بأن يجعلها تزداد تمسُّكًا برفضها له كلما عرض عليها.
وأما سليمان فقد كان يفكِّر فيما قال عبد البديع أفندي لعمه، وفي الثروة الضخمة التي يشرف عليها هذا العبد عبد البديع، ويتوق في أعماق نفسه أن يُشرف هو عليها، آه لو تقبله سهير!
وأما وصفي فقد كان يفكِّر في الوسيلة التي سيلقي بها إلى عمه خبر خطبته، فقد كان يحب عمه ويقدِّره، ولا يريده أن يسمع خبر الخطبة من غيره، وكان يعرف أن عمه يريده، لإحدى ابنتَيه، جاهلًا ما بينه وبين سهير، جاهلًا أيضًا أن هذا الذي بينه وبين سهير هو نفسه الذي منعه من التقدُّم للخطبة.
وهكذا صمت ثلاثتهم حتى فتح عبد البديع أفندي الباب وتقدَّم إلى الباشا في انحناء، مُقدِّمًا إليه إذن الصرف، ووقَّع الباشا الإذن بين دعوات عبد البديع أفندي المتلاحقة، والتفتَ الباشا إلى ولدَي أخوَيه: بارِكا لعبد البديع أفندي، فإنه سيتزوَّج.
وهنَّأ الشابان عبد البديع أفندي الذي شكرَ لهما تهنئتهما وخرج، ولحق به وصفي إلى خارج الغرفة، وفي البهو انتحى وصفي بعبد البديع ناحية، وأخرج من حافظته عشرة جنيهات أعطاها له، وتأبَّى عبد البديع هنيهة، ثم قبل الهدية وهو يشكر وصفي ويدعو له!
وعاد وصفي إلى الحجرة، فوجد الصمت لا يزال يأخذ مكانه بين عمه وسليمان، وكان الباشا قد أدرك ما دعا وصفي إلى الخروج، وأراد أن يغمز سليمان فقد كان يريده هو أيضًا أن يُهدي كاتبه شيئًا، أي شيء مهما يكن تافهًا ليُمكِّن لنفسه احترامها عند الخدم، قال الباشا لوصفي: ما كان لك أن تفعل، فقد أعطيتُه أنا خمسين جنيهًا.
وتردَّد وصفي ثم قال: يا عمي أنا أعرف ذكاءك الخارق، ولكني ما كنت أحسب أنك تعرف الغيب أيضًا.
– لا غيب ولا حاضر، لم يكن هناك ما يدعو لخروجك إلا هذا، وأنا أعرف عنك أيضًا أنك كثير العطاء، وسَّع الله عليك يا ابني!
ولم يشعر سليمان بغمزة عمه، وإنما شعر بحقده يزداد على عبد البديع لزواجه، ولنيله هذه الأموال فوق ما ينهبه من الزراعة، وشعر بحقده على وصفي يزداد أيضًا لغناه، ولأنه استطاع بهذا الغني أن ينال هذا الدعاء الجميل من عمه، كما استطاع من قبلُ بغناه ومركزه أن يكون المرشَّح الأول في إشاعات الأسرة للزواج من سهير.
وانتهز وصفي الفرصة السانحة من الحديث عن الزواج وقال لعمه: وأنا يا عمي سأتزوَّج عن قريب.
ودهش الباشا، وتسارعت الدقات بين ضلوع سليمان.
ليس هذا أسلوبًا يخطب به الفتى الفتاة إلى أبيها، ولم يكن الباشا يُقدِّر أن وصفي سيخطب غير واحدة من ابنتَيه، وانتفض قلب سليمان ذعرًا متخيِّلًا أن وصفي سيخطب سهير، ولم يُتِح وصفي لهذه المشاعر أن تبلغ مداها، بل سارع قائلًا: لقد خطبت اليوم هند بنت إسماعيل باشا مصطفى.
وتمالك الباشا نفسه في سرعة قادرة مرن عليها في مجالات السياسة والحياة، وقال: مبروك.
ولم يستطع أن يزيد، بل لم يستطع أن يشفع التهنئة بابتسامة، أي ابتسامة مهما تكن باهتة، قالها مبروك، بريئة من كل فرح، مجرَّدة من كل معنى للتهنئة، أما سليمان فقد جاهد نفسه أن يُخفي فرحته وأطلق: مبروك.
تحمل سرورًا عاتيًا راقصًا، ولكنها مع ذلك لم تكن تحمل كلَّ ما في نفسه من سرور.
وأحسَّ وصفي راحة إلى إلقاء هذا النبأ، راحة الحيران التائه يصل إلى مستقر، مهما يكن هذا المستقر مخالفًا لما كان يتمنى، ولكنه مستقر على أية حال! أحسَّ أنه أتمَّ عزمه، وتغلَّب على قلبه، وأطمأن إلى مستقبله في ظلال بيت هادئ لا تدور فيه أعاصير الهوى، وإن كان يتمنى أن تترقرق فيه نسمات من الحب الناعم، تنمو ولا تذوي، وتكبر مع الزمن، ولكن في هدوء ووقار وإيناس.
ولم يلبث وصفي كثيرًا، فقد أحسَّ بالصدمة التي يعانيها عمه من خيبة الأمل، وبالفرح الذي يعاني سليمان في كتمانه أن أمله قد يتحقَّق.
وما إن بلغ وصفي الباب الكبير، حتى التقى هناك مرة ثانية في يومه هذا بأم وديدة ذاهلة حائرة، تتخفى منه في بقجتها، وتميل عن طريقه في ازورار، وأحسَّ وصفي في أعماق نفسه كرهًا لأم وديدة، كرهًا شديدًا لم يعرفه لأحد من قبل، إنها هي، هي وحدها التي فرَّقَت بينه وبين هواه، إنها هي التي وضعت هذا الحائل بينه وبين سهير.
وأدرك وصفي أن النبأ في طريقه إلى سهير مع بقجة أم وديدة، وأحسَّ حينئذٍ أن سهير ستحس هذا البغض نفسه نحو أم وديدة، وأحسَّ فؤاده يختلج في صدره خلجة الطير الجريح، إنه سيجتمع هو وسهير على كره أم وديدة في وقت معًا، كما اجتمع هو وسهير على حب أم وديدة في وقت معًا.