الفصل السابع
أصبح الصباح على الباشا، فإذا بوعكة الأمس تصبح مرضًا، فهو لا يطيق أن يبرح فراشه، وجاء الأطباء واجتمعوا حول سرير الباشا وقرَّروا ألا يبرحه لمدة شهر على الأقل، ووصفوا له العلاج وخرجوا، وانشغل المنزل جميعه بمرض الباشا، ونسيت السيدة تفيدة في غمرة علاج الباشا ما كان بالأمس من خطبة وصفي، وانشغلت سميحة بأبيها أيضًا، أما سهير فقد راحت تنفِّذ أوامر الأطباء في صرامة قاسية، باذلة أقصى جهدها في خدمة أبيها، ولكن دون أن تنسى، وكيف لها أن تنسى؟!
ومرَّت أيام والدار مقصد زوار لا ينقطع لهم سيل، فأما في الدور الأعلى فسيدات الأسرة حزنهنَّ حزنان، حزن لمرض الباشا، وحزن يُظهِرنه — وإن لم يتمكن في نفوسهنَّ — لخطبة وصفي لغير سهير.
وكانت بنات الباشا الكبيرات مع الزائرات، وإن كُنَّ يُطِلن من أمد الزيارة، وقد يطيب لإحداهنَّ أن تغيظ زوج أبيها، فتبيت ليلة أو أكثر من ليلة في قصر أبيها، وكنَّ إذا جلسنَ إلى زوج أبيهنَّ أبدينَ أسفًا لمرض أبيهنَّ، وأسفًا آخَر مستترًا بالحديث الملفوف لخطبة وصفي، مبديات انشغالهنَّ على مصير أختَيهنَّ، حتى إذا خلَتْ بهنَّ حجرة، راحت كلٌّ منهنَّ تبدي سخريتها المرحة لما أصاب القصر من مصائب، مُردِّدات أن هذه المصائب إنما هي ذنب أمهنَّ المسكينة التي تزوَّج أبوهنَّ عليها دون ذنب أو جريرة، ولكن هذا لم يمنعهنَّ أن يُشفِقن على أبيهنَّ، وأن يتمنينَ له الشفاء.
وأما الدور الأسفل فقد كان يحفل بالرجال، لا يصعد أحد منهم إلى الدور الأعلى، فإن الباشا كان لا يلقى أحدًا، وأحدٌ لا يستطيع أن يصعد إلى الدور الأعلى ما دام الباشا لا يلقاه، فما تلقى السيدة إلا إخوتها هي دون إخوة الباشا، فهم لا يصعدون، وإنما يمكثون بالدور الأول يتعرفون الأخبار من الأطباء حين نزولهم، ويلقون الزوار ويشكرون زيارتهم، كان رجال الأسرة جميعهم يلتقون بالدور الأول ويظلون به الساعات، لا فارق ثمة بين إخوة الباشا وأبناء إخوته وبين غيرهم من أفراد الأسرة، فالجميع له إخوة وأبناء إخوة.
وكان وصفي وسليمان على حالهما من المواظبة، يظلان بالقصر ما اتسع لهما الوقت، وكانت خطبة وصفي قد عُرفت في مجال الأسرة، فراحت التَّهْنِئات تترى إليه، ولكنها تَهْنِئات ذاهلة، أذهلها إخلاف الخطبة لظنونهم، وأذهلها انتظام وصفي في المجيء إلى دار عمه رغم خطبته، وكانت تَهْنِئات واجمة أيضًا؛ فقد كان مرض الباشا يخيفهم جميعًا.
لم يكن سليمان يعلم ما جرَتْ به الأمور بعد خطبة وصفي، ومن أين له أن يعلم؟! ولكن آماله كانت قد تضخَّمَت، فهو أكثر رفعًا للكلفة في القصر، وهو مَن يجلس في الشرفة الخارجية ليكون أول مستقبل للزوار، وهو مَن يودِّع الزائر حتى عربته أو سيارته.
وتحسَّنت صحة الباشا، واستطاع أن ينتقل من السرير إلى الأريكة دون أن يبرح الغرفة، واستطاع أن يلقى إخوته بين حين وحين، على أن يتباعد ما بين الحين والحين، واستطاع أيضًا أن يذكر آخَر حديث له مع سهير قبيل مرضه، وأن يذكر أنَّ الحديث قد مرَّت عليه أسابيع، فهو ينتهز فرصة تخلو به الغرفة وبابنته فيسألها: هيه يا سهير، أمصمِّمة أنتِ على قبولك لسليمان؟
– نعم يا أبي.
– أواثقة أن هذه رغبتك بلا أي تأثير؟
– نعم يا أبي.
– شأنك يا ابنتي، ولكن اذكري حياتك كلها أنكِ أنتِ مَن اخترتِ، فإذا متُّ فاذكري أني سألتكِ رأيكِ، وألححتُ في السؤال، أنتِ وحدك المسئولة عن حياتك منذ هذه اللحظة.
– أطال الله عمرك يا أبي!
– على بركة الله!
وعلم الباشا أن سليمان بالقصر، فأمر أن يُخلى الطريق إلى حجرته من الحريم، وأن يصعد سليمان إليه.
وقصد سليمان إلى عمه الذي استقبله في محاولة هزيلة للبِشْر، وقال له: مبروك يا سليمان، مبروك عليك سهير يا ابني.
وهوى سليمان على يد عمه يُقبِّلها، فتركها له الباشا، فهي قُبلة ابنٍ اختار يد أبيه موضعًا لها، وقال الباشا لسليمان وهو لا يزال مكبًّا على يده: يا ابني الشكر يكون بمعاملتها هي معاملةً تُرضيني، ترضيني وأنا في قبري، إنها ابنتي، قطعة مني، وهي أحَبُّ بناتي إليَّ، أحبها هي، أحبها هي يا سليمان، فهي — بغير كل ما حولها من مال وجاه — جديرة بالحب، والله على ما أقول شهيد، أكرِمها يا سليمان تُكرِم أباك وعمك.
ولم يقُل سليمان شيئًا في غمرة فرحته إلا جملة واحدة ظلَّتْ تتردَّد على لسانه، دون أن يفكِّر فيها، ودون أن يجد لها في نفسه صدى: أطال الله عمرك يا عمي! أطال الله عمرك يا عمي!
لم يكن تفكيره في الثروة التي انهملت عليه ليسمح له أن يفكِّر في شيء آخَر، ولم يكن ليسمح له أيضًا أن يستمع إلى كلام عمه حتى يفهمه، وإنما هي جملة تعلَّقت بلسانه، فراح لسانه يردِّدها وكأنها أسطوانة وضعت على حاكٍ خَرِب.